الاثنين، 26 ديسمبر 2011

الدرة القرآنية الرابعة عشر مع قوله تعالى (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ...) (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)


الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى نبيا عن أمته ، صلى الله وملائكته والصالحين من خلقه كما وحّد الله وعرّف به ودعا إليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها المباركون والمباركات : سلام الله عليكم ورحمته وبركاته :
الدرة القرآنية اليوم هي حول قوله - جلّ ذكره - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) [الإنسان]هذه الآيات - كما هو ظاهر- من سورة الإنسان ، وسورة الإنسان ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرؤها مقرونة مع سور (الم تنزيل ) السجدة يقرأ بهما عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر من يوم الجمعة .نحن معنيون هنا بالحديث عن قول الله - جل وعلا - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) الحديث عن أهل الجنة وما يكون في نعيمها ومناسبة هذه الآية لما سلف من الآيات كالتالي :ذكر الله - جل وعلا - في صدر السورة كيف ان الناس خُلقوا هذا شاكر وهذا كفور (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ثم بيّن - جل وعلا - في هذه الآيات المباركات بعد ذلك - أي بعد آية (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ذكر شراب أهل الجنة فقال - جل ذكره (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) ثم بيّن - جل وعلا - الآنية التي يشرب بها أهل الجنة قال ربنا ( قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) وهنا تعجب كيف أنها قوارير من فضة لأن الفضة غليظة ، سميكة لايُرى باطنها وظاهرها لكن كونها معدنها من فضة ثم تؤول إلى قوارير هذا يدلك على عظيم النعيم وجليل الصنعة .
ذكر ربنا هنا الشراب ثم ذكر الآنية (قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ) بعد أن ذكر الشراب والآنية ذكر السُقاة فالحديث عن قوله (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي على أهل الجنة (وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) حديث عن السُقاة الذين يقومون بخدمة أهل الجنة وهم الأبرار الذي سلف الذكر عنهم في قوله - جل ذكره - (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) ، " يطوف عليهم " أي يكونون قريبين منهم بين أعينهم غير بعيدين عنهم ، ما إن يهمّ أحدهم بالإشارة إلا وذلك الوليد واقف على رأسه ، فقول الله - جل وعلا - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) هذا من إكرام الله لأوليائه المتقين وعباده الصالحين في جنة النعيم .
" ولدان " جمع وليد وهي في الأصل تُطلق على ما قرُب سنه من ولادته لكن هنا قد يكون في الغالب دون البلوغ وهذا حتى لا يقع في النفوس شيء وإن كانوا في الجنة أن يلحق من تبعتهم شيء فأهل الجنة مطمئنين على دخول هؤلاء الولدان عليهم ذكرانا وإناثا ، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) والعرب تقول للذكر وليد وللأنثى وليدة وما جاء القرآن بقريب من هذا في قول الله - جل وعلا - في سورة النبأ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا*حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا*وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) أي متقاربات السن ، وكونهن متقاربات السن هذا يجعلهن أقدر على العشرة والتآلف بينهن وهذا ذكره في متاع الحور العين ، لكن هنا الكلام عن الولدان المخلدين قال - جل ذكره - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) إلا أن المشهور الظاهر من قوله سبحانه (مخلدون) ليس المقصود هو ذكر الخلود في الجنة فهذا مستفيض معلوم دلت عليه آيات أُخر ، وإنما هؤلاء الولدان لا يتقدم بهم السن ، أي لا يكبرون سنا ويبقون على تلكم النضارة ، وعلى القدرة على الخدمة وعلى القدرة على العطاء فهم خالدون في نضارتهم ، خالدون في سنهم لا يهرمون ، لا يكبرون ، وإن الإنسان قد يؤتى في الدنيا هذه بخادم يخدمه فيرى منه حُسن المنظر والقوة والقدرة على القيام بالمطلوب لكن هذا الخادم مع الأيام لا يزال يكبر فتذهب قوته ، ونضارته ، تذهب قدرته ويحتاج إلى تبديله ، فالآية هنا تُخبر أن الولدان الذين أعدهم الله خدما لأهل الجنان لا ينالهم شيء من هذا قال ربنا (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ) أي هؤلاء الولدان (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) اللؤلؤ وهو منثور أكمل في العين ولاحظ هنا كيف أن الله - جل وعلا - لما ذكر الحور العين أخبر بقربهن وأخبر بانتظامهن لأنهن لا يمتهن للخدمة ، أما هؤلاء الولدان فإنما جعلوا في الجنة لخدمة أولياء الله المتقين وعباده المقربين ولهذا كان نثرهم أمرا محمودا يحسن في النظر ويحسُن في الأثر ، في النظر فرؤيتهم منثورين تملأ العين ، وفي الأثر أنه متى ما احتاج إليهم فهم قائمون على خدمتهم غير متوانين عن أداء واجبهم قال ربنا (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) ثم قال "وَإِذَا" وهي هنا شرطية كما هو معلوم (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ) بمعنى هناك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) سنتحدث عن الإثنين : أما النعيم فلا أظنه إلا من جنس الأول مما لا يخطر على بال أحد وفي الحديث (مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فهو نعيم من عطاء الله - جل وعلا - لأوليائه وعباده الصالحين من جنس ما أخبر الله عنه قبل ذلك ، لكن يبقى محاولة العلماء في فهم قول الله - جل وعلا - (وَمُلْكًا كَبِيرًا) وقد فُسر هذا الملك الكبير بتفسيرات عدة ، وأظهرها عندي - والعلم عند الله - أن معنى الملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم ، وكونه ملك كبير فإن للملائكة مقاما عظيما عند ربهم ، الله يقول عنهم (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ثم هؤلاء الملائكة مع تلك المكانة وجليل المنزلة التي حظوا بها يستأذنون على عباد الله الصالحين وعلى عباد الله المقربين ممن كتب الله لهم الجنة وهذا يدلك على أن أولئك المتقين في مُلك عظيم ، وهذا أعظم ما يُناسب في التفسير كلمة مُلك لأن المُلك يُشعر بالعزة ، بالمنعة ، بالقوة ، بالأمر والنهي ، هذا ما تدل عليه مفردة مُلك فهذا أجمل شيء مناسب أن يُقال أن استئذان الملائكة عليهم هو الملك الكبير والمقصود بالآية ، لكن لا نصل في قولنا هذا إلى حد الجزم لغياب النقل الصحيح ومتى غاب النقل الصحيح فإن الجزم يصبح ضربا من الخبال .
نعود فنقول قال ربنا (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) نحن ينبغي أن نتساءل بم نال أولئك المتقون هذا الملك الكبير؟ ، نالوه بالليل الذي كانوا يقومونه ، وبالنهار الذي كانوا يصومونه ، وبالمال الذي كانوا ينفقونه ، وبالجار الذي كانوا يبرونه ، وبالقرآن الذي كانوا يتلونه ، فأعمالهم الصالحات أورثتهم روضات الجنات ، وفي روضات الجنات أدركوا هذا الملك الكبير حتى بلغوا من المنزلة والمكانة أن ملائكة الرحمن يستأذنون في الدخول عليهم ، هذا يدفع المؤمن إذا أدرك هذا حق اليقين أن يعلم أن ما يجده أحيانا من مغالبة النفس والهوى على طاعة من الطاعات يريدها أو معصية من المعاصي تدفعه نفسه إليها أن يتوق إلى ذلك المُلك الكبير وأن يعلم أن كل بلاء دون النار عافية ، وأن كل نعيم دون الجنة فانية فهذا هو الذي تشتاق إليه الأنفس ولا ريب أن مهره الأغلى قيام الليل بين يدي الله ، ومن الأدلة على أن مهره الأغلى والأعلى القيام بين يدي الله : أن الله لما ذكر المقام المحمود لنبيه قال
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) .تأمل كيف أن الله هنا ذكر الشراب وذكر الآنية وذكر السُقاة ، بعد أن ذكر هؤلاء الثلاثة جاء ذكر الثياب التي يتحلون بها (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) ليس كل ما يُعطى في الجنة مباح في الدنيا ، وليس كل ما حُرِّم في الدنيا ممنوع عن أهل الجنة ولا فصل في هذا إلا بالكتاب والسنة الصحيحة ولا دخل للعقل هنا أن يوازن ، أن يقول هذا أقرب ، هذا أمثل فالأساور من زينة النساء في الدنيا ، ومن زينة بعض الملوك فيما مضى من أيام العرب ، فنحن ممنوعون عنها لكنها في الجنة مباحة ، وأقرب من هذا مثالا وظهورا الخمر فهي محرمة في الدنيا مع أن الله ذكر أن في الجنة أنهارا من خمر كما أن الأمر يتضح بحلاء في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر رحلة الإسراء والمعراج أخبر أن قلبه الشريف الطاهر غُسل في طشت من ذهب مع أن شريعتنا بلسانه - عليه الصلاة والسلام - حرمت علينا استعمال آنية الذهب والفضة لكن هذا استعمال من قبيل الملائكة لا من فعله - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا يبين لك كما قال بعض الأصوليين أن بعض المسائل لها مشارب خاصة وجادة تليق بها فلا يصح أن تقول أشباه ونظائر في كل شيء وإنما يُحتاط في هذا الأمر ولا يؤخذ على إطلاقه ولا على سعته - والعلم عند الله - لكننا قبل أن نطوي الدرة القرآنية نقول :
هذا بعض النعيم الذي أخبر الله عنه لأهل طاعته وساكني جنته فهو يبين إكرام الله - جل وعلا - لعباده ، وهنا نقتبس كلمة جليلة للعلامة بن سعدي التي قالها - رحمه الله - عند تفسيره لهذه السورة المباركة ، قال " فكما أن الله - جل وعلا - لا نهاية لأوصافه فكذلك لا نهاية لبره وإحسانه " . جعلني الله وإياكم ممن يرفل في الدنيا والآخرة ببر الله - جل وعلا - وإحسانه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق