بسم الله الرحمن الرحيم
/ (إن المتقين فى ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون)
قال الطبري: "إن الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه في الدنيا، واجتناب معاصيه (في ظلال) ظليلة، وكن كنين، لا يصيبهم أذى حر ولا قر، إذ كان الكافرون بالله في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، (وعيون) أنهار تجري خلال أشجار جناتهم، وفواكه مما يشتهون يأكلون منها كلما اشتهوا، لا يخافون ضررها، ولا عاقبة مكروهها». [تفسير الطبري] (٢٤ / ١٤٣).
وقال ابن القيم: "قد أخبر سبحانه أن في الجنة ظلالا، والظلال لابد أن تفيء مما يقابلها فقال: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون)، وقال تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون)، وقال تعالى: (وندخلهم ظلا ظليلا) [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح] (١/ ٤٠٨).
/ (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون)
قال الطبري: "أي يقال لهم: كلوا أيها القوم من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون كلما اشتهيتم، (هنيئا): يقول: لا تكدير عليكم ولا تنغيص فيما تأكلونه وتشربون منه، ولكنه لكم دائم لا يزول، ومريء لا يورثكم أذى في أبدانكم" [تفسير الطبري] (٢٤/ ١٤٣).
وقال ابن القيم: «في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الجنة مئة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها، وإنما تُعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الأعمال، كما قال غير واحد من السلف: "ينجون من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلون الجنة بفضله ونعمته، ويتقاسمون المنازل بأعمالهم" وعلى هذا حمل غير واحد ما جاء من إثبات دخول الجنة بالأعمال، كقوله تعالى : (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون)، وقوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}.
قالوا: وأما نفي دخولها بالأعمال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) فالمراد به نفي أصل الدخول.
وأحسن من هذا أن يقال: الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نُفي معها الدخول؛ فالمقتضية هي باء السببية الدالة على أن الأعمال سبب للدخول مقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، - ويعني بالباء المقتضية لدخول الجنة ما جاء في قوله تعالى: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) ونحوها من الآيات -
قال رحمه الله: "والباء التي نُفي بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم: اشتريت هذا بهذا.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابل عمل أحد، وأنه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة، فليس عمل العبد - وإن تناهى - موجبا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضا لها، فإن أعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا، ولا تعادلها، بل لو حاسبه لوقعت أعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له ، ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله؛ كما في "السنن" من حديث زيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وغيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم». [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة]
وقال السعدي رحمه الله : " (هنيئا) أي: من غير مُنغِّص ولا مُكدٍّر، ولا يتم هناؤه حتى يسلم الطعام والشراب من كل آفة ونقص، وحتى يجزموا أنه غير منقطع ولا زائل" [تفسير السعدي (ص ٩٠٥)]
/ (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون)
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره تهديدا ووعيدا منه للمكذبين بالبعث كلوا في بقية أجالكم، وتمتعوا ببقية أعماركم (إنكم مجرمون) مسنون بكم سنة من قبلكم من مجرمي الأمم الخالية التي متعت بأعمارها إلى بلوغ كتبها آجالها ، ثم انتقم الله منها بكفرها، وتكذيبها رسلها». [تفسير الطبري/ (٢٤ / ١٤٤)].
وقال ابن كثير: (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون) خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمرهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى: (كلوا وتمتعوا قليلا) أي مدة قليلة قريبة قصيرة، (إنكم مجرمون) أي: ثم تُساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، (ويل يومئذ للمكذبين) كما قال تعالى: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)، وقال تعالى: (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون*متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون)". [تفسير ابن كثير/ (۳۰۱/۸)].
/ (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)
قال القرطبي رحمه الله: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: (اركعوا) أي صلوا (لا يركعون) أي لا يصلون، قاله مجاهد.
وقال مقاتل: نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة، فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلموا) وأمرهم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود).
ويُذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر - أي لا يرى أن تُصلى تحية المسجد بعد صلاة العصر لأنه وقت نهي - فجلس ولم يركع، فقال له صبي يا شيخ قم فاركع، فقام فركع ولم يُحاجّه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
وقال ابن عباس : "إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون"
قال ابن العربي: "هذه الآية حجة على وجوب الركوع، وإنزاله ركنا في الصلاة، وقد انعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف، فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان الله يسجد يمكن من السجود - أي يوم القيامة - ومن كان يسجد رياء لغيره صار ظهره طبقا واحدا.
وقيل في معنى الآية : "أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها، وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد". [الجامع لأحكام القرآن/ (١٩/ ١٦٨)].
وقال ابن تيمية: إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون)، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما في الحديث الطويل حديث التجلي: أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون، وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود، فإذا كان هذا حال من سجد رياء فكيف حال من لم يسجد قط ؟!
وثبت أيضا في الصحيح: (أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود فإن الله حرم على النار أن تأكله) فعُلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله.
وكذلك ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)، فدل ذلك على أن من لم يكن غُرا محجلا لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أمته.
●وقوله تعالى: (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون* ويل يومئذ للمكذبين* وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون* ويل يومئذ للمكذبين). ●وقوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون*وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون* بل الذين كفروا يكذبون* والله أعلم بما يوعون)
●وكذلك قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى* ولكن كذب وتولى) ●وكذلك قوله تعالى: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين*ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين) ...."
إلى أن قال رحمه الله: "وأيضا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فإذا انتفى ذلك انتفت الأخوة. وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). وفي المسند: (من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة)، وأيضا فإن شعار المسلمين (الصلاة) ولهذا يُعبر عنهم بها فيقال: اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
وفي الصحيح: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا؛ وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم له ما لنا وعليه ما علينا). وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة". [مجموع الفتاوى/ (٧/ ٦١١-٦١٣)].
وقال السعدي رحمه الله : "ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وقيل لهم: {اركعوا} امتنعوا من ذلك. فأي إجرام فوق هذا؟ وأي تكذيب يزيد على هذا ؟" [تفسير السعدي/ (ص ٩٠٥)].
/ (ويل يومئذ للمكذبين)
قال القرطبي رحمه الله: كرر: (ويل يومئذ للمكذبين لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر، كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم كذلك إلى آخرها.. والله أعلم». [الجامع لأحكام القرآن/ (١٩/ ١٦٩)].
/ (فبأي حديث بعده يؤمنون)
أخرج الإمان أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ منكم بـ (والتين والزيتون) فانتهى إلى آخرها (أليس الله بأحكم الحاكمين) فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ (لا أقسم بيوم القيامة) فانتهى إلى (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل: بلى، ومن قرأ (والمرسلات) فبلغ (فبأي حديث بعده يؤمنون) فليقل: آمنا بالله". [مسند أحمد/ (١٢/ ٣٥٣)، سنن أبي داود/ (٢/ ١٦٣)].
قال الطبري رحمه الله : «إنما أعلمهم -تعالى ذكره- أنهم إن لم يصدقوا بهذه الأخبار التي أخبرهم بها في هذا القرآن مع صحة حُججه على حقيقته لم يمكنهم الإقرار بحقيقة شيء من الأخبار التي لم يشاهدوا المُخبر عنه ولم يُعاينوه، وأنهم إن صدقوا بشيء مما غاب عنهم لدليل قام عليه لزمهم مثل ذلك في أخبار هذا القرآن، والله أعلم». [تفسير الطبري/ (٢٤/ ١٤٥)].
وقال السعدي رحمه الله: "(ويل يومئذ للمكذبين) ومن الويل عليهم أنهم تنسد عليهم أبواب التوفيق، ويُحرمون كل خير، فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن الكريم الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على الإطلاق (فبأي حديث بعده يؤمنون) أبالباطل الذي هو كاسمه لا يقوم عليه شبهة فضلا عن الدليل؟! أم بكلام كل مشرك كذاب أفاك مبين؟! فليس بعد النور المبين إلا دياجي الظلمات، ولا بعد الصدق الذي قامت الأدلة والبراهين على صدقه إلا الكذب الصراح والإفك المبين، الذي لا يليق إلا بمن يناسبه. فتبا لهم ما أعماهم وويحا لهم ما أخسرهم وأشقاهم" [تفسير السعدي/ (ص ٩٠٥)].
_________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق