الاثنين، 6 سبتمبر 2021

وقفة مع اللواميم المكية

ماهي اللواميم الأربعة المكية؟
هي : العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة ، وهنا الحديث عن اللواميم المكية فقط  - السور المكية - 
هذه السور كلها بدأت بـ (الم) فسميت بـ اللواميم ، وجاءت هذه السور الأربعة متتابعة ، نزلت في أواخر العهد المكي ، في فترة كان فيها الضيق قد بلغ منتهاه ، التعذيب والألم قد زاد ، العناد والاستكبار والاضطهاد من قِبل الكفار زاد ، والمسلمون ځوصروا وبعضهم هاجر إلى الحبشة، توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها ، توفي أبوطالب ولم يعد هناك أحد يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم  وأصحابه.
فالذي ينظر إلى الوضع بصورة عامة سيجد أن الوضع خانق جدا ، يرى أنه لم يعد هناك أمل ولم يعد هناك مخرج أو حل ، والأوضاع تضيق أكثر فأكثر وتُطبق على المسلمين أكثر وأكثر. 
فكان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في هذا الوضع الحرج وفي هذه الفترة الصعبة يحتاجون لشيء يخفف عنهم ، يحتاجون لزاد إيماني لمعاني قلبية تثبتهم تصبرهم تهون عليهم الأمر تربط على قلوبهم ، فنزلت هذه السور الأربعة لكي تعطيهم هذا الزاد الإيماني الذي سيسندهم ..
إذا نحن نستطيع القول بأن اللوامیم توصل للقارئ ماذا يحتاج المؤمن في لحظات البلاء الخانقة ، ماذا يحتاج المؤمن في لحظات البلاء الشديدة ، كل سورة من هذه السور الأربعة تعطي نوعا معينا من الزاد الإيماني الذي يحتاجه المؤمن في وقت الشدة ..
هذا بإجمال الرابط الذي يربط اللواميم الأربعة .. نأخذ هذه السور سورة سورة ..
أولا: سورة العنكبوت :
هذه السورة تعطينا الزاد الإيماني الأول وهو: أنها كانت تربيهم على معنى المجاهدة .
أتت المجاهدة في أولها (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) وخُتمت السورة أيضا بالمجاهدة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ).
ذكّرتهم السورة بنوح عليه السلام ، لفتت انتباههم إلى شيء مهم جدا في قصة نوح وهو (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)  بمعنى أنكم أنتم الآن في البلاء لكم ثلاث عشرة سنة.. نوح عليه السلام بقي ألف عام .. ألف سنة ، وفي الأخير (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) .
ذكّرتهم بإبراهيم عليه السلام وحرقه بالنار..
 ذكّرتهم بالكرب الشديد الذي لاقاه لوط عليه السلام من قومه المنكوسين في فطرتهم ، الذين ابتلوا بفاحشة ما ابتلي بها أحد من الخلق والبشر قبلهم ، حتى أنه قال لهم (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) ، ولك أن تتخيل كيف يعيش إنسان هو في قمة الطُهر وموصول بالوحي في بيئة موبوءة وقذرة وشاذة مثل هذه البيئة ، مثل هذه البيئة بلاء عظيم. 
فسورة العنكبوت عرضت لهم كل هذه النماذج حتى ترسخ في قلوبهم هذا المعنى الكبير أن ابقوا في طريق المجاهدة أكملوا طريقكم ، مهما زادت درجة البلاء لا تتزعزعوا ، لا تضطربوا ، لا تنسحبوا ، لا تنهزموا ، لا تيأسوا ، لا تضعفوا ، سينظر الله لأعمالكم سينظر الله لمجاهدتكم ، سينظر الله لصبركم ومصابرتكم ، لن يضيع عند الله شئ من هذه المجاهدة.
و كما قلت لكم السورة حسمت القضية في الأخير وأعطت لنا النتيجة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) أي العاقبة ستكون لكم بالتأكيد ، حتى إذا كنتم في تعب .. في أزمة.. في ظروف صعبة .. في ظروف حرجة ، إلا أن العاقبة ستكون لكم ولكل مجتهد نصيب طال الزمان أو قصر. فالسورة تُربي فيهم نفسية صلبة وعزيمة ثابتة وإرادة قوية. 
أنا تصورت سورة العنكبوت مثل عبارة "أُثبت أُحد" العبارة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد هو وأبو بكر وعمر على جبل أحد فاهتز الجبل ، جبل صخور وحجارة وكذا .. واهتز واضطرب ورجف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُثبت أُحد" فسورة العنكبوت تٰثبّت .. سورة العنكبوت تُرسِّخ اثبتوا .. جاهدوا .. استمروا لا تضطربوا ، سورة تربيهم على هذا المعنى الكبير وهو معنى المجاهدة. هذه السورة الأولى.
تأتي سورة الروم بعدها تربيهم على معنى إيماني آخر وهو اليقين ، اليقين بماذا ؟
اليقين بقدرة الله على تغيير الأوضاع مهما كانت هذه الأوضاع سيئة أو خانقة أو إنها صعبة ومستحيلة ، ولم تحدثهم السورة عن الظروف التي يعيشونها وعن أزمتهم وعن معاناتهم أو الحصار أو التعذيب أو القتل أو الاضطهاد لم تمسح عليهم من هذه الناحية لا أبدا .. السورة نقلتهم نقلة مختلفة تماما. عرضت لهم آيات في الكون ، فسورة الروم تحدثت عن خلق السماء ، خلق الأرض ، خلق الليل والنهار ، تحدثت عن البدء ، عن الإعادة عن الحياة عن الموت ، عن النوم عن اليقظة ، تحدثت عن البرق عن الرياح عن الأمطار عن الأرزاق ، عن القبض عن البسط. لماذا وهم في وسط هذه المعاناة كلها ، في وسط هذا الألم ، في وسط التعب هذا كله والظروف والضغوطات تأتي سورة تحدثنا عن الخلق عن الآيات عن الليل والنهار ؟ 
يا ترى ماهي الرسالة التي تريد أن توصلها لهم هذه السورة ؟
الرسالة هي : تيقنوا أن هذا الكون كله هو مُلك لله ، تحت هيمنته وتحت سيطرته وأن الله هو القاهر فوق عباده إذا أراد الله لأمر أن يكون سوف يكون ، إذا أذن الله لعذاب أو لضر أو لسوء أو لأذى أن ينتهي ويتوقف سينتهي ويتوقف ، وإذا أذن الله لأمر أن يتم سيتم ، وإذا أراد الله أن ينصركم سينصركم ، وبدأت السورة تعطيهم وعود وتؤكد لهم حقائق :
( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ) ، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) ، أعطتهم هذه الحقائق كلها فالإنسان عندما يعيش الأزمة ، يعيش الظروف الصعبة أو يعيش المشكلة التي تمر به بطبيعته البشرية كإنسان بشري طيني كما يرى الأوضاع أمامه لابد أن يصيبه إحباط ويصيبه يأس وتصبح الدنيا سوداء في وجهه لأن كل المؤشرات تقول له مستحيل وتقول له لا يوجد أمل ولا يوجد حل ، البشر والأطباء والإشاعات والواسطات والإدارات وفلان ، والنظام الذي هنا ، والنظام الذي هناك ، كلهم يقولون له لا يوجد ،
بمعطيات الدنيا مستحيل ، بأسباب الدنيا مستحيل. لكن عندما يعيش الأزمة ويعيش المشكلة بنظرة ربانية وبنظرة المؤمن الذي عنده يقين بقدرة الله المطلقة ، التي لا حد لها ولا منتهی ، التي لا يقف أمامها شيء ، يقين بهيمنة الله المطلقة ، يقين بقوة الله المطلقة ، يفهم ما معنى أن الله هو المهيمن !!!
يفهم ما معنى أن الله هو القوي وليس مع الله قوي آخر، الله هو القوي وحده ، يفهم أن الله هو الأول والآخر ، الأول هو الذي يخلق الأسباب ويأتي بالأسباب والناس ليس لهم حول ولا قوة ، ويعرف أن الله هو الآخر بمعنی لو انعدمت كل الأسباب وتوقفت كل الأسباب وانقطعت كل الأسباب فالله من وراء الأسباب كلها ، الله هو الآخر، الله هو المعطي على الحقيقة ، يعطي من غير أسباب .
عندما يستقر هذا اليقين بداخل العبد ، وبداخل هذا الإنسان المؤمن سوف يرى مشكلته صغيرة ، صغيرة جدا وبسيطة وتافهة ، ويبدأ يعيشها بنفسية أخرى ، وينظر لها بنفسية مختلفة تماما عن الشخصية الأولى التي كان يعيشها ويرى المشكلة بأسباب الدنيا ، مختلف هذا عن هذا ، لماذا ؟ لأنه لم يعد يرى مع الله أحدا ، لم يعد يرى إلا يد الله فقط ، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يعجب ربنا من قنوط عباده ، ينظر إليكم أزلين قنطين ، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ... الله أكبر.
الناس إذا تأخر عليهم الفرج ، وتأخر عليهم الغيث ، وتأخر عليهم المطر، استولى عليهم اليأس ، وأصبحت نظرتهم قاصرة فقط على الأسباب التي يعرفونها ، فيعجب الله منهم !! بمعنى هل تعتقدون أن من خلف هذه الأسباب سيكون الفرج من القريب المجيب جل جلاله؟! 
انظر إلى سورة الروم كيف وضحت لك المعنى بآيتين تتكلم عن الغيث من أجمل المشاهد لو وقعت في قلبك كما ينبغي ، يقول الله عزوجل : (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) 
سورة الروم تغرس هذا اليقين .. سورة الروم تحمل المؤمنين للأعلى في السماء كما قال شيخ الإسلام" وقد جرت عادته سبحانه في خلقه أن الفرج مع الكرب وأن اليسر مع العسر وأن الشدة لا تدوم"
اليقين من أهم العبوديات القلبية ومن أوثق منازل الإيمان ومن أحب الأعمال إلى الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" أحب الأعمال إلى الله إيمان لا ريب فيه ولا شك". سبق وأن تكلمنا بتوسع لمن أحب عن منزلة اليقين في سورة الرعد .. إذن هذا كان الزاد الإيماني الثاني وهو: اليقين. 
الزاد الإيماني الثالث الذي عرضته لنا سورة لقمان هو : الحكمة
بمعنى وأنت في وسط هذه الأحداث ووسط هذه الأزمات والمعاناة والتعذيب والألم والضغوطات بحاجة إلى حكمة ..
عندما تتحكم بكم الأهواء لا تصح ردود الأفعال السريعة أو المتهورة أو الغضب أو حظوظ النفس أو الشخصنة أو العواطف أوكلام الناس تحتاجون إلى حكمة تحكم تصرفاتكم .. لأن الحكمة تمنع الإنسان من الطيش ، تمنع الإنسان من التهور ، تمنعه من السفه ، من الظلم ، تمنعه أن يأخذ قرارات سريعة سوف يندم عليها بعد ذلك ، ممكن أن يأخذ قرارات يخسر فيها أكثر مما يريح ، فعالجوا أموركم بالحكمة وخذوا أموركم بالحكمة. والحكمة تعني حسن التصرف ، التعقل ، التأني ، التريث ، التؤدة ، النظرة البعيدة ، رجاحة العقل .. كل هذه حكمة. 
عرضت لنا سورة لقمان نموذجا لشخص حكيم ، وكان معروفا عند العرب ، والعرب تتناقل أخباره بأنه لقمان الحكيم. السورة عرضت لنا شخصية مثل هذه وهي تتكلم عن أشخاص في وسط البلاء وفي عز البلاء والمعاناة وفي هذا رسالة أنه في وقت الشدة ، في وقت الأزمات ابحثوا عن الحكماء ، اقتربوا من الصالحين فإن أفواههم تنطق بالحكمة. لذلك من توفيق الله للعبد أن يحيطه بالعقلاء ، أنه يحيطه بالحكماء فينتفع من صحبتهم ، عندما تجد صحبة مباركة.. جربتهم في المشورة جربتهم في القرارات جربتهم في الأزمات ورأيت فيهم شيئا من الكياسة والعقل والفطنة ، هذا من توفيق الله للعبد تمسك بهم وعض عليهم بالنواجذ وكل شيء لماذا ؟ لأنه قلّ الحكماء في هذا الزمان. 
تأتي سورة السجدة بعد ذلك تعطيهم الزاد الإيماني الرابع وهو الخضوع التام لله ، هذا الخضوع متمثل في السجود.. 
س: لماذا قلنا أن السجود هو خضوع تام لله؟
لأنك لو تأملت هيئة السجود نفسها ستجد أن هذا الإنسان الساجد هو إنسان منحني مثل القوس: لو أردت أن تكملين هذا القوس على شكل دائرة، تخيل معي هذا الإنسان الساجد أمامك وتخيلي القوس وأنت تريدين أن تغلقيه من تحت.. مالذي سيلتقي؟ القدم بالأنف؛ قدمك برأسك ويصبح القوس الذي أغلقتيه على شكل دائرة تشبه الصفر.. فقالوا : أنت حين تدرك أنك صفر .. تصل ، وأنك حين تدرك أنك صفر .. تقترب ، والله عزوجل يقول : (واسجد واقترب)
نعم قد تنحني تعظيما .. قد تركع تعظيما .. تجثو تعظيما على ركبتيك ولكن حين تضع أعلاك إلى أدناك وتضع وجهك وهو أعلى ما فيك على الأرض ، ويلتقي قدمك برأسك وتتلاشى أنت أمام عظمة الله ، فهذا حال خضوع ليس وراءه خضوع ، لأجل ذلك قلنا هل الساجد أو السجود هوخضوع تام لله ؟ خضوع الظاهر مع خضوع الباطن ، خضوع القالب مع خضوع القلب ، هذا السجود يكون مفتاحا للفرج  ، وكأنه باب للفرج .. للتيسير ، باب لفتح كل الإغلاقات والأزمات والمشاكل.
بهذه المعاني القلبية الأربعة ، أو بهذا الزاد الإيماني :
[ المجاهدة ، اليقين ، الحكمة ، الخضوع المتمثل بالسجود] 
إن حققتموها ، إن أُعنتم عليها ، سينتهي بكم الأمر إلى ماذا ؟ مثل ما جاء في سورة السجدة ، ستكونون أئمة بعد ذلك (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [ السجدة - ٢٤ ]
إذا هذا الزاد الإيماني، هذه المعاني القلبية الأربعة ستستطيعون بها أن تواجهوا الأحزاب، الأعداء، تواجهوا الأزمات والظروف ، تواجهوها بثبات وعزيمة وإرادة، وتخرجون منها وأنتم أقوياء لم تُكسر لكم شوكة ولا إرادة كانوا يقولون كان عمر رضي الله عنه لا يأذن بالهزيمة أن تقع. 
لما تصل هذه المعاني لقلب قارئ سورة السجدة ستتغير علاقته بالسورة، ستتغير صلته بالقرآن كله. سيفهم معنى "القرآن ينبت معاني جديدة في قلب الإنسان" وما قاله أهل العلم الذين أمضوا حياتهم في طلبه في آخر حياتهم منهم من قال : "يا ليتني أعطيت القرآن عمري كله".
إي والله يا ليتنا أعطينا القرآن عمرنا كله. 
هذا باختصار الموضوع العام والرابط العام لهذه السور أو اللواميم الأربعة.
----------------------------------
* أ. نجلاء السبيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق