الأحد، 20 ديسمبر 2015

تفسير الأمثال في سورة الرعد

د.محمد بن عبد العزيز الخضيري

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه..
نستكمل ما بدأناه قبل الصلاة وقد تبقى معنا المثل الذي في سورة الرعد ، يقول الله عز وجل :

{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}
هذا المثل ضربه الله عزوجل للحق والباطل وبيان أن الحقّ مُتمكِّن وباقي ومستمر ودائم، وأما الباطل فإنه مُضمحِل، نعم ينتفش ويكبر ويُظهِر نفسه فوق الحقّ لكنه لا يبقى قال الله عزوجل {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا} هذا المثل الأول وهو المثل المائي شبّه الله عزوجل الوحي الذي ينزل من السماء بالمطر الذي ينزل على الأرض فإذا نزل فإنه يجري في الأودية وكل وادٍ يأخذ من الماء بقدرِ ما يحتمل، كذلك الناس لهم قلوب وعندهم أفهام وقدرات وقوة إيمان فهم يأخذون من الوحي بقدر ما تتسِع له قلوبهم، فإذا نزل الوحي على قلوب الناس فإنه يحدث لهذه القلوب مثلُ الذي يحدث للأرض إذا نزل عليها المطر، ما الذي يحدث للأرض إذا نزل عليها المطر؟ نلاحظ شيئا واضحا نراه بأعيننا ونُدرِكه تمام الإدراك وهو أنه إذا نزل المطر من السماء فإنه ينزل معه الماء فإذا جاء في الأودية حمل معه الأعواد والأشواك والأوراق والأوساخ وأشياء كثيرة حتى يصبح فوقه مثل الرغوة من الزبد والوسخ والأوراق والأشجار والأعواد والنفايات وغيرها (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا) هذا الزبد نراه نحن في مجرى الأودية عندما يأتي السيل (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا) وهذا هو مثل الحقّ والوحي عندما ينزل من السماء سواء في قلوب الناس أو في الواقع أول ما ينزِل ينزِل بالحقّ يُقابل شبهات وشهوات كثيرة جداً يجرِفها هذا السيل فتبدوا أمام الناس وتظهر لماذا قال الله كذا.. هذا كيف .. هذا لا يُعقل.. هذا يُخالف أهواءنا .. هذا يخالف ما نرغبُه، تبدأ النفوس تتحرك  والأهواء تغلي، هنا لا يبقى إلا الحقّ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) فالباطل له صولة ينتفِش ويعلو أحياناً فوق الحقّ لكن لا يلبث أن يذهب ويزول وينقضي لأنه لا أساس له (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[سورة إبراهيم ٢٤-٢٥] فكذلك الحقّ أول ما ينزل يُصادف شهوات وشُبهات، وشكوكا وأمراض يقتلع هذه من جذورها فتثور وتبدأ التساؤلات وتبدأ عملية مواجهة الحقّ ببعض هذه الشهوات أو ببعض تلك الشبهات. هذا مثل مائي.
/ ولنأتي بعد ذلك إلى المثل الناري:
يقول الله عز وجل (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ) كذلك يحدث عندما يريد الناس أن يستخرجوا المعادن الثمينة فإنهم يصهرونها بالنار ، إذا صهروها بالنار ماذا يحدث ؟ يحدث أن يكون فوق هذا المعدن النفيس يطفو فوق القدر أو فوق الإناء يطفو فوقه زبد مثل الزبد الذي يطفو فوق الماء قال (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ) أي لطلب (حِلْيَةٍ) كالذهب أو الفضة (أَوْ مَتَاعٍ ) كالحديد والفوسفور والصوديوم وغيرها من المعادن التي يطلبها الناس لا بد أن يظهر عند غليها لابد وأن يظهر فوقها شيء من الزبد، هذا الزبد لا يبقى، يذهب.. يزول، الذي يمكث في أسفل الإناء أو القِدر هو الذي ينتفِع به الناس كالذي يمكث في أسفل الوادي من الماء هو الذي ينتفع به الناس،وهكذا الوحي عندما ينزل من السماء يفعل بالناس هذا الفعل، تُقابله شكوك شبهات شهوات اعتراضات شُبه يُلقيها الأعداء، كل ذلك يزول -بإذن الله- ثم لا يبقى بعد ذلك إلا الحقّ.
هذا يُحِسّ به الإنسان في نفسه عندما يأتيه شيء من الحقّ، يُحِسّ به المجتمع عندما يعلن أحد العلماء شيئا من الحقّ يتسلّق الرويبضات ويكتبون في الصُحف والمجلات يُندِدون بهذه الفتوى أو بتلك المقالة لأحد من أهل العلم ويحاولون النيل منه أو منها ثم يذهب هؤلاء جميعاً ولا يبقى منهم أحد ويبقى الحقّ وحده.
اليوم -يا إخواني- مرّ على نزول هذا القرآن أ كثر من ألف وأربعمائة وخمسة وثلاثون عاما ، كم هي الفِرق؟ كم هي القُوى الظالمة .. الباغية.. الطاغية.. الزائغة، المُزيغة المُضِلة التي اعترضت على الحقّ ونددت به وألقت في طريقه الشبهات والشهوات وصدت عن سبيل الله، ذهبت كلها بقي الحقّ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) وانظروا كيف خُتمت الآية قال (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أي يُرمى به بعيدا، ولا يبقى منه شيء (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ولذلك على أهل الحقّ أن يقولوا بالحقّ ولا يُبالوا بصولات أهل الباطل فإن صولة الباطل ساعة وصولة الحق إلى قيام الساعة، نعم قد يكون لأولئك زئير ونُباح ونهيق وأصوات عالية وإرجاف لكن كل ذلك لا يغير من الحق شيئا وعليك أيها المسلم ألا تنخدع بمقالات هؤلاء وشُبهاتهم وزخارف أقوالهم، استمسك بالحق، اتْبَع العلماء الراسخين، عليك بالهدى النازل من الله ، اعتصم بحبل الله ولو كثّروا وقالوا ما قالوا، زيّنوا باطلهم بأنواع من الزينة والزخارف كل ذلك لا يُغير من وجه الباطل شيئا ، كله زبد سيذهب عما قريب (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ) أي مثل هذا الذي فعلناه وضربناه لكم من الأمثال يضرب الأمثال ، مثلما فعلنا في بيان هذه الحقيقة التي تخفى على كثير من الناس يضرب الله عز وجل الأمثال للناس.
تأملوا معي -يا عباد الله- كيف جاء هذا المثل العجيب في بيان الصراع بين الحق والباطل وأثر الوحي عندما ينزل في عالم الناس ، لابد أن تتحرك أمامه الشهوات والشبهات والزيغ والصد عن سبيل الله، ويُلقي الكفار والطُغاة والظالمون بكل ما عندهم من قوة في مواجهة هذا الحق فيذهب كل ذلك الباطل ويبقى الحق وحده هو الذي ينفع الناس. فإيّاك إيّاك أن تزيغ عن الحق لأنك ترى انتفاشت الباطل وزبده فهذا كله يذهب جفاء ويبقى الذي ينتفع به الخلق.
يا إخواني: أعداء الإسلام عبر قرون طويلة حاربوا الإسلام بكل ما يستطيعون ، فعلوا معه ما لم يُفعل مع دين آخر، ماذا حصل؟ ذهبوا جميعاً بقي الإسلام، أين هم التتار الذين اجتاحوا بلاد المسلمين وأرادوا أن يجتثوا الإسلام من أعزّ بقاعه ومن دار الخلافة، ذهب التتار وبقي الإسلام. الحروب الصليبية كم استمرت من قرن؟ وكم كانت من حملة؟ ماذا حصل؟ حصل أن الحروب الصليبية رجعت خاسئة خاسرة وبقي الإسلام صامدا أمام كل هذه العوامل وكل هذه الضربات (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ).
هذا هو مثل عظيم من الأمثال التي نحتاجها لمعرفة حقيقة الوحي ماذا يفعل في قلوب الناس وفي عالم الأحياء وماذا علينا تجاهه أن نستمسِك به وألاّ ننخدع بالباطل.
وكما ترون أمثال القرآن من مزاياها العظيمة أنها لا تضرب لنا الأمثال إلا بشيء نشاهده ونراه بل هذه المعاني المعقولة المعنوية تُضرب لنا بأشياء حسية واقعية نراها..نلمسها.. نُحِس بها..نشاهدها لكي يتضح لنا الحقّ لأن من أعظم مزايا الأمثال هو بيان الحق وإظهاره وهذا مما تميّز به القرآن، الله عز وجل بيّن لنا الحق عبر القصص، بيّن لنا الحق عبر الأدلة العقلية، بيّن لنا الحق عبر الأدلة النقلية، بيّن لنا الحق عبر قضايا التاريخ، بيّن لنا الحق عبر الآيات الكونية، بيّن لنا عبر الأمثال القرآنية، فهي من أعظم ما يُبين الحق ويُظهِره ويوضحه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق