د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
حياكم الله أيها اﻹخوة واﻷخوات في هذا المجلس الثاني من مجالس أمثال القرآن، وقد تحدثنا في المجلس اﻷول عن مقدمة أرجو أن تكون نافعة لنا جميعا بإذن الله تعالى وتحدثنا عن المثلين اﻷولين في سورة البقرة حديثا مختصرا مقتضبا والحديث عن هذه اﻷمثال في كتب التفسير لاسيما كتب التفسير التي عنيت بالبلاغة حديث موسع طويل. وقد ذكر اﻹمام ابن القيم -رحمه الله- طريقتين في تناول اﻷمثال فقال: إن للعلماء في تناول اﻷمثال وشرحها وبيانها طريقتين :
- طريقة السلف وهي: البيان العام للمثل مع بيان وجه التمثيل ووجه الشبه ووجه العِبرة في المثل. وعلى هذا سِرنا في هذه المجالس.
- والمنهج اﻵخر فهو منهج أهل البلاغة الذين يتوقفون في التنظير بين أركان المثل وأنواع الشبه والُمشبه به ووجه الشبه وغير ذلك. وعلماء البلاغة في كتب البلاغة يُفصلون في مسألة اﻷمثال والتشابيه فيذكرون فيها تفاصيلا ومن طريف ما يذكرونه أنهم يقولون أن بعض الشعراء يُشبّه شيئين بشيئين في بيت واحد وأن أول من فعل ذلك ومن حُفظ عنه هو امرؤ القيس في قصيدته اللامية المشهورة التي يقول في مطلعها :
ألا عِمّ صباحا أيها الطَلل البالي ** وهل يعي من كان في العُصرِ الخالي
وهل يعي إلا من سعيد مُخلدٌ ** قليل الهموم ما يبيت بأوجال
ثم قال :
كأن قلوب الطير رَطبا ويابسا ** لدى وَكرِه العُنّاب والحَشَفُ البالي
يصف هذا الصقر أو هذا النسر فيقول:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ** لدى وكره العناب والحشف البالي
يقول قلوب الطير عند هذا النسر لأنه يأكل الطير فتبقى القلوب يقول : كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
يعني فيه القلوب الرطبة حديثة الصيد والقلوب اليابسة قديمة الصيد.
لدى وَكرِه العُنّاب للقلوب الحديثة اللينة مثل العنب يعني
والحَشَفُ البالي التمر القديم الرديء اليابس.
ويذكرون أيضا تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء في بيت واحد وأربعة بأربعة وتشبيه خمسة بخمسة وهذا كله من توسعات أهل البلاغة والبيان في حديثهم عن اﻷمثال والتشبيهات في كتب البلاغة.
اﻵن ننتقل -أيها الإخوة- للمثل الثالث -الذي معكم في المذكرة- وإن كان ليس مثلا وإنما يذكره المصنفون في أمثال القرآن ويشرحونه وهو قول الله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة بعد أن ضرب اﻷمثال التي مرّت معنا
قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)
[سورة البقرة :٢٦ ]
يذكر المفسرون أن المشركين عندما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالعنكبوت عندما قال (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا)
[سورة العنكبوت ٤١] قالوا ما هذا الكلام كيف يُمثِّل بهذه الحشرات الصغيرة عنكبوت..ذباب، فالمشركون قالوا هذا على وجه الاستهزاء والسخرية يعني كيف يضرب الله اﻷمثال بهذه الحيوانات الصغيرة فقال الله سبحانه وتعالى هذه اﻵية، أنزل الله سبحانه وتعالى هذه اﻵية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) أي مثل (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) يضرب المثل بالبعوضة بالنملة بالذباب بالعنكبوت مادام هذا المثل يُحقِق الهدف والمُراد ويُبين المقصود فإن الله سبحانه وتعالى لا يمنعه شيء من أن يضرب المثل به. هذا هو معنى اﻵية.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن الناس أمام هذه اﻷمثال ينقسمون إلى قسمين وكذلك -أيها اﻹخوة- سائر آيات القرآن الكريم، فمن أراد الله به خيرا اهتدى بهذه اﻷمثال وبهذه اﻵيات ومن أراد الله ضلاله وإضلاله فإنه لا يزيد بهذه اﻷمثال وبهذه اﻵيات إلا ضلالا والدليل على ذلك في سورة التوبة في آخرها (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا) قال الله (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)
[سورة التوبة ١٢٤- ١٢٥] وهي نفس اﻵيات نفس المثل نفس اﻵيات يزداد به المؤمنون إيمانا -نسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم- ويزداد به المنافقون والمُعرِضون والكفار ضلالا وزيغا -والعياذ بالله- وهذا من الابتلاء -أيها الإخوة- الله سبحانه وتعالى ما أنزل هذه اﻷمثال ولا ضربها إلا ابتلاء ولذلك قال هنا قال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فموقفهم واضح .. معروف (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ولذلك مبنى اﻹيمان دائما -أيها الإخوة- على التسليم والانقياد والتصديق والخضوع وبذلك نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأمثاله مكانتهم العالية ﻷنهم اطمأنت قلوبهم باﻹيمان وتصديق النبي ﷺ وبالتالي صدّقوا كل ما جاء به حتى لو خالف عقولهم، أحيانا بعض اﻵيات أو بعض اﻷحاديث قد يكون ظاهرها مُخالفا للعقل أحيانا أو ربما لا يُدرك العقل معناه -على سبيل المثال- عندما قال النبيﷺ (إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي اﻵخر دواء ) بعض الناس يسخر من هذا الحديث ويقول كيف هذا، أصلا الذباب بنفسه هو قذارة فكيف يغمسه كاملا!! وكم من أحد شكّك في هذا الحديث ثم اﻵن لما اكتشفوا بعد اﻷبحاث الطبية أنه حقيقة علمية فعلا سكت هؤلاء المكذبون، لكن المؤمن مادام صدّق النبيﷺ وآمن به فكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام صدِق وحق، ولذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما جاء النبيﷺ أُسرِي به إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء ثم رجع إلى مكة من ليلته، فالنبيﷺ أخبر بعض من حوله بهذا الخبر فبلغ المشركين قبل أن يبلُغ الخبر أبا بكر الصديق رضي الله عنه فاستنكر المشركون هذا الخبر، هذا شيء غير معقول أن يسافر اﻹنسان إلى من مكة إلى فلسطين -إلى القدس- ويعود من ليلته!! هذا شيء غير معقول ﻷنهم كانوا يضربون إليه أكباد اﻹبل شهرا ذهابا وشهرا إيابا، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه ﻷنه اطمأن قلبه بتصديق النبي ﷺ فقالوا له هل سمعت ما يقول صاحبك -يبحثون عن أي مطعن في سيرة النبي ﷺ- فقال: وماذا قال؟ قالوا يزعُم أنه قد أُسرِي به إلى بيت المقدس وعاد من ليلته ونحن نضرب أكباد اﻹبل شهرا!! فقال كلمة جميلة قال: "إن كان قال ذلك فقد صدق" -أهم شيء قال ذلك أم لا- إن كان قال ذلك فقد صدق.
قالوا: فإنه يزعم أنه قد عُرج به -أو كذا- قال: قد صدّقناه بما هو أبعد من ذلك نحن نصدقه في خبر السماء -الوحي الذي يأتي به من السماء- نحن نُصدِّقه به فكيف لا نُصدِّقه بأنه قد أسري به إلى بيت المقدس؟! فاﻹيمان إذا استقر في قلب المؤمن فإن هذه اﻷمثال التي يسمعها في القرآن الكريم أو التي يسمعها في الحديث النبوي لا تزيده إلا إيمانا وثباتا ورسوخا، ومن أراد الله إضلاله فإنه لا ينتفع بهذه اﻷمثال. فمعنى هذه اﻵية أن الله سبحانه وتعالى لا يمنعه شيء أن يضرب المثل بأي شيء سواء بعوضة أو ما فوقها بالذباب أو بالعنكبوت أو بالبقرة أو بغيرها فإن هذه اﻷمثال مليئة بالحكمة.
ثم أمر آخر: أن هذا أمر مما تعرفه العرب من قبل نزول القرآن الكريم فمجيئه ليس غريبا، وأذكر من أمثال العرب المشهورة وقد ذكرها النابغة الذبياني -الشاعر الجاهلي- في قصائده أنه يقال في اﻷساطير عند العرب أن حية جاورت رجلا في مزرعة فكان هذا الرجل يتربص بهذه الحية يخاف منها ويريد أن يتخلص منها وهما -هو والحية- قد تعاهدا على (اﻷرض مقابل السلام) وذات يوم حدثته نفسه بأن يقتل هذه الحية فأخذ فأسا وباغت الحية وضربها ولكنها نجت وأصابت الفأس جانبا من جسمها ولكنها لم تقتل، فندم ﻷنه استثارها اﻵن واستثار عداوتها وهو لا يأمنها. ثم عاد لكي يبرم معها اتفاقية سلام جديدة فقالت له هذه الحية: كيف آمنك وهذا أثر فأسك؟ فأصبح مثلا من أمثال العرب 《كيف آمنك وهذا أثر فأسك》يقال للإنسان الذي قد وقعت منه غدْرة ثم يريد أن يعقد صفقة سلام جديدة فيقال له 《كيف آمنك وهذا أثر فأسك》وهذه موجودة في قصائد النابغة الذبياني في أكثر من موضع، يعني يذكر قصة الحية ولعلكم ترجعون إليها في ديوانه.
فعندما نزل القرآن الكريم وذكر البقرة وذكر النملة وذكر العنكبوت هذا شيء يعرفه العرب فعلى ماذا السخرية!! فدل هذا على أنهم إنما يسخرون ويستهزؤن تكذيبا بهذا القرآن. إذا هذا هو معنى قوله (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).
/ المثل الذي بعده: في اﻵية رقم (١٧٤) في سورة البقرة وهي في سياق الحديث عن المنافقين -كما يذكر كثير من المفسرين وبعضهم يذكر عن الكفار ولكنه يقصد بالكفار المنافقين.
يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)
[سورة البقرة ١٧٠ - ١٧١].
هذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المكذبين الكفار. يقول اﻹمام الطبري -رحمه الله- في تفسيره لهذه اﻵية قال: "اختلف أهل التأويل في ذلك فقال بعضهم: معنى ذلك مثلُ الكافر في قِلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه وسوء قبولِه لما يُدعى إليه من توحيد الله ويُوعظ به مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها ولا تعقِل ما يُقال لها".
وعن عكرمة مولى ابن عباس -وهو من أئمة التفسير من التابعين قال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) قال: مثل البعير أو مثل الحمار تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
وعن ابن عباس : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ) قال: هو كمثل الشاة ونحو ذلك.
تلاحظون أنهم ذكروا الشاة وذكروا الحمار وذكروا البعير وكلها من الحيوانات التي لا تعقِل.
فاﻵية تقول كأن الله سبحانه وتعالى يقول: ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم لما جئت به من الوحي يا محمد وعدم استجابتهم لك كمثل الراعي الذي ينعِق، و (ينعِق ) معناها يصيح..ينادي، (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ) يُنادي بما لا يمكن هو أن يسمعه ويفهم ما يعقِل عنه، ينادي البعير صحيح، ينادي الحمار صحيح، ينادي الشاة صحيح، فشبّه هؤلاء الكفار المعرضين بهذه البهائم ووجه الشبه هو: عدم الفهم. هذه الغنم والحيوانات لا تفهم ما يقول اﻹنسان فكذلك الكفار، إذا نادى الكفار لا يعقلون ولا يستجيبون لما جئت به يا محمد عليه الصلاة والسلام ما جئت به من الخير.
وهذا تشبيه في غاية القبح لهؤلاء الذين أعرضوا عن دعوة النبي ﷺ ولذلك يقول ابن عطية قال: "وقوله تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) اﻵية قال: المراد تشبيه واعِظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعِق بالغنم أو اﻹبل لا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقَه ما يقول" هكذا فسّر ابن عباس وقد مرّ معنا.
وتشبيه الكافرين بهذه الحيوانات التي لا تفهم كثير في القرآن الكريم وفي السنة النبوية.
وقد ذكر الطاهر بن عاشور -رحمه الله- مناسبة هذا المثل للسياق الذي الذي وردت فيه فقال: "لما ذكر الله سبحانه وتعالى تلقي هؤلاء الكفار لدعوة النبي ﷺ باﻹعراض وعدم المبالاة في قوله سبحانه وتعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)
[سورة البقرة ١٧٠] كيف إذا كان هؤلاء اﻵباء لا يعقِلون هذا الوحي الذي جئتكم به وقد يُعذرون فما بالكم أنتم وقد جاءكم الهدى وجاءكم الوحي وجاءكم الحق وجاءتكم الدلائل والحُجج والبينات!!
وهذا القرآن هو حجة الله الكبرى العظمى هو الآية العظمى، المعجزة الكبرى للنبي ﷺ هو هذا القرآن ولذلك النبي ﷺ رجا أن يكون هو عليه الصلاة والسلام أكثر اﻷنبياء أتباعا يوم القيامة لماذا؟ ﻷنه عليه الصلاة والسلام يملِك معجزة عقلية متجددة بخلاف اﻷنبياء الذين سبقوه -عليهم الصلاة والسلام- فقد كانوا يأتون بمعجزات حسية ينتهي مفعولها بانتهاء وقتها، فلما جاء موسى -عليه الصلاة والسلام- بالعصا وهي آية عظيمة والبعض يظن أن عصا موسى عصا ظهرت فقط في موقف السحرة مع فرعون في حين أنها تعددت استعمالات تلك العصا في مواقف كثيرة فقد كان أولا يُلقيها فإذا هي حية تسعى، فلما جاء السحرة وألقوا حبالهم ألقاها موسى عليه الصلاة والسلام فإذا هي تلقف ما يأفكون، فكان أول من استجاب وعرف حقيقة هذه العصا هم السحرة ﻷنهم محترفون في السحر ويعرفون الفرق بين السحر وبين الحقيقة فلما رأوا ما تصنع هذه العصا أو ما تصنع هذه الحية قال الله سبحانه وتعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)
[سورة الشعراء ٤٦] يعني كأنهم لم يتمالكوا أنفسهم من قوة الحُجّة إلا أن ألقوا بأنفسهم ساجدين مذعنين لله سبحانه وتعالى.
الموقف الثاني: لما أراد بنو إسرائيل أن يشربوا في التيه (وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) [سورة البقرة ٦٠] .
أيضا عندما وصل موسى البحر وفرعون وراءه ضرب البحر بالعصا (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)
[سورة الشعراء: ٦٣] فهي آية عظيمة لكن أين هي عصا موسى اليوم؟ أحد منكم رأى عصا موسى أو صورة عصا موسى؟ لا أحد منا رأى عصا موسى ولا هي موجودة حتى في المتاحف بالرغم من أنها احتفظت -المتاحف- بأشياء أقل منها قيمة -جثث الفراعنة وتماثيل من أيام اﻹغريق وغيرها- لكن عصا موسى غير موجودة مع أنها آية عظيمة.
وكذلك عيسى عليه الصلاة والسلام كان يُحيي الموتى بإذن الله وكان يُبرئ اﻷكمه واﻷبرص لكن كل هذه المعجزات الحسية تقوم الحُجّة بها بالدرجة الأولى على الذين حضروا الموقف فقط، ونحن نؤمن بمعجزة موسى عليه السلام تصديقا لكتاب الله ولخبر النبي ﷺ وإلا نحن ما شاهدناها ولا رأيناها، بينما مُعجزة النبي ﷺ هي بين أيدينا -ولله الحمد- كما أنزلت على النبي ﷺ كما قرأها عمر وعثمان وعلي واستجابوا للنبي ﷺ نحن نقرأها اليوم ونستجيب للنبي ﷺ ويقرؤها أناس جُدد ويستجيبون ولذلك قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح (ما من نبيّ من اﻷنبياء قبلي إلا وقد أوتي من اﻵيات ما مثله آمن عليه البشر وكان الذي أُوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) يعني يقول أن المعجزة والحُجّة التي أوتيتها معجزة عقلية -القرآن الكريم- ولذلك اﻵن أي واحد يسلم نُعطيه نسخة مترجمة. البعض قد يقول: لكن كيف تقوم الحُجّة بالنسخة المُترجمة وأنتم تقولون أن البلاغة والبيان والمعجزة في القرآن الكريم؟ نقول : صحيح الوجه الذي وقع به التحدي للمشركين والعرب هي فصاحته وبلاغته ولكن مضمون القرآن مُعجِز أيضا حتى لو نزل باﻹنجليزي أو بالفرنسي أو باﻷوردوا أو بأي لغة ﻷنه تحدث عن أمور من الغيب لا يعلمها أحد من الغيب الماضي ومن الغيب المستقبل، القرآن الكريم يغطي الغيب من قبل خلق آدم وحتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، فهو يعرضها لك كأنك تشاهد فلما وثائقيا، لا يخفى على المسلم العاقل منها شيء فقد أخبرنا سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..)
[سورة البقرة ٣٠] وأخبرنا بالحوار الذي دار بينه وبين الملائكة قبل خلق آدم.
وأيضا في القرآن الكريم تجدون حوار أهل النار في النار (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ)
[سورة غافر ٤٧]
(وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)
[سورة اﻷعراف 50] (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)
[سورة اﻷعراف ٤٤] هذه أشياء ما يمكن أن يدركها أحد أبدا لا بشر ولا ملك، هذه أمور من الغيب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن الذي يقرأها وقد أراد الله به خيرا فإنه يطمئن قلبه باﻹيمان أن هذا الذي يتحدث بهذا الكلام ليس بشرا.
وهناك لفتة مهمة جدا وهي من القضايا البلاغية واللسانية التي تُدرَس اليوم وهو ما يسمونه باستراتيجيات الخطاب وهو أن العرب تعودوا على البلاغة والفصاحة ويعرفون الشعر وكانوا يتحاكمون في سوق عكاظ وفي سوق مجاز وفي غيرها ويُفاضِلون بين الشعراء، يأتي النابغة الذبياني والخنساء وحسّان بن ثابت ومن قبلهم لكن الموجود في كتب اﻷدب وفي تاريخ اﻷدب لا تستطيع أن تصل إلى أقدم من الأفوه الأودي والشعراء الجاهليين الذين لا يبتعدون عن اﻹسلام أكثر من 250 سنة لكن هم يعرفون يُفاضِلون بين الكلام، المُلوك يُخاطَبون بأسلوب والشعراء البلغاء يعرفون كيف يُخاطِبون الملوك ويخاطبون السادة ويخاطبون عامة الناس، فالعرب تُدرك أنواع الخطاب ولذلك نحن لو استعرضنا الشعر الجاهلي من أوله إلى آخره تجد الموضوعات التي يتناولها الشعر الجاهلي موضوعات معروفة في وصف الطللْ ووصف اﻵثار ووصف الجمل ووصف الرحلة ووصف الحصان ووصف الحبيبة، انتهى الشعر الجاهلي، هذا هو الشعر الجاهلي، وتجد عندهم حِكما وأمثالا، ولكن عندما جاء القرآن تحدث في قضايا لم يتحدّث عنها العرب أبدا، تحدث عن الجنّة وعن النّار وعن خلق آدم وعن حديث أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وعن قصص اﻷنبياء عليهم السلام وما دار بينهم وبين أُممهم، هذه القضايا لو نزلت بأي لغة من اللغات لكانت معجزة لكنها نزلت باللغة العربية التي هي أعلى الألسِنة، ونحن لا نقول ذلك تعصبا، وإنما نقول ذلك استنتاجا من أن الله سبحانه وتعالى لم يختر هذه اللغة لهذه الرسالة الخاتَمة التي هي الرسالة الوحيدة من رسالات الأنبياء هي الرسالة الوحيدة العامّة وأما رسالات اﻷمم السابقة فهي خاصة، موسى في بني إسرائيل فقط، داود في بني إسرائيل ،سليمان في بني إسرائيل عيسى في بني إسرائيل، رسل بني إسرائيل كثيرون لكثرة تكذيبهم، أما محمد عليه الصلاة والسلام فهو للثقلين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) [سبأ:٢٨] ولذلك قال النبي ﷺ (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من اﻷنبياء قبلي وذكر منها قال (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت للناس كافّة ) فاختيار اللغة العربية لهذه الرسالة العامة دلالة على أنها لغة مميزة.
ابن عاشور -رحمه الله- يقول: " وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى إعراضهم وتكذيبهم للنبي ﷺ وكلما نزل عليه سورة أو وحي أعرضوا عنها فشبههم الله بالبهائم وهذه مناسبة تشبيههم فقال (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هؤلاء المكذبين (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) يعني كالذي ينادي البهيمة فلا تفهم من كلامه شيئا إلا دعاء ونداء.
/ ومن فوائد هذا المثل:
تحقير شأن الك الكافر المُعرِض وأنه قد شبّهه الله. قد يقول قائل: لماذا تتنزلون في الخطاب وتشبهون بالبهائم أو تشبِّهون بالشاة أو بالغنم أو بالبعير؟ نقول: الله سبحانه وتعالى هو الذي شبّههم بذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة اﻷعراف ولقد ذكرت لكم هذه اﻵية في المجلس السابق (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ) يعني خلقنا لجهنم أمم، ما صفتهم يارب؟ قال (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا) ثم قال (أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف:١٧٩] فالله سبحانه وتعالى هو الذي وصفهم بذلك.
/ ومن فوائد هذا المثل :
تحذير المؤمن من سبيل هؤلاء المكذبين المعرضين وأنه ينبغي على المؤمن إذا سمع آية أن يتوقف عندها وإذا سمع مثلا أن يتوقف عنده وأن يبحث كيف يستجيب ﻷمر الله سبحانه وتعالى كما قال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:٢٤] وهذا هو الذي ميّز السلف من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وهو سرعة استجابتهم وانقيادهم ﻷمر الله سبحانه وتعالى. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
/ المثل الذي يليه أيها الإخوة في سورة البقرة وهو في اﻵية (٢٦١ ) ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه اﻵيات فضل اﻹنفاق في سبيل الله واﻵيات التي في سورة البقرة -أيها الإخوة- هي أكثر اﻵيات التي وردت في فضل اﻹنفاق في سبيل الله، فحثّ على اﻹنفاق مباشرة وضرب اﻷمثال بأكثر من مثل.
فقال الله سبحانه وتعالى في أول هذه اﻷمثال (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فيضرب المثل للمُنفق في سبيل الله سبحانه وتعالى صادقا خالصا لوجه الله تعالى بأن نفقته مثلها كمثل حبة زُرعت في اﻷرض قال (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) حبة واحدة أنبتت سبع سنابل، ولاحظوا أن هذا المثل -كما ذكر ابن عاشور- حبة واحدة وتحولت إلى سبع سنابل دون أي جهود أو تدخلات خارجية وإنما بركة من الله سبحانه وتعالى.
قال (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) والسنبلة هي: سنبلة البر أو الشعير -وكلكم تعرفونها- ولاحظوا أن هذا المثل الذي ضربه الله يعرفه جميع الناس (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) [سورة النور:٣٥] اﻷمثال التي يضربها لنا الله في القرآن كلنا نعرفها بسيطة وسهلة، لا يضرب الله لنا أمثالا معقدة لا يُدركها إلا المتخصصون النادرون وإنما يضرب أمثال يدركها عامة الناس ﻷن هذا القرآن كتاب هداية للناس جميعا والناس كلهم مُخاطبون به ولم يُخصص الله سبحانه وتعالى بخطابه في القرآن طبقة دون طبقة وإنما للناس جميعا، فضرب الله المثل بهذه الحبّة التي يعرفها الناس، والمجتمع في المدينة النبوية -والنبي ﷺ نزلت عليه هذه اﻵيات في المدينة المنورة- فالمجتمع في المدينة المنورة مجتمع زراعي واﻷنصار أهل زراعة وهذه -بالمناسبة- مهمة جدا لمن يريد يدرس تفسير القرآن الكريم وهو معرفة عادات العرب في الوقت الذي نزل فيه القرآن الكريم عندما نزل القرآن الكريم على النبي ﷺ مكة ومكة ليسوا أهل زراعة ﻷنه ليس عندهم مصادر الري ولا مياه إنما كانوا أ هل تجارة بل سُمّيت قريش قريشا لذلك، لكن عندما انتقل النبي ﷺ إلى المدينة هناك إضافات كثيرة في الخطاب القرآني تتناسب مع البيئة الجديدة التي كان يعيش فيها النبيﷺ منها هذه فضرب الله مثلا بالحبة وبالزرع وبالنخيل -وسوف تأتي معنا- ﻷنهم كانوا أهل زرع وأهل نخيل فهذا المثل المضروب يدركه كل أحد، هذه الحبة التي تُوضع في اﻷرض فتُخرج سبع سنابل كل سنبلة فيها مئة حبة يعني سبعمائة ضعف، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يحث المؤمنين على اﻹنفاق فيبين لهم فضل النفقة ويقول لهم أن أحدكم قد يُنفق الدرهم فيُضاعفه له الله سبحانه وتعالى أضعافا كثيرة، واﻹنسان -أيها الإخوة- يطمع دائما في الربح والناس ما يتاجرون دائما إلا من أجل الربح ولولا الربح ما تاجر الناس، فهذا المثال يُغري بالمتاجرة ولذلك لما فهِم الصحابة الكرام هذا المعنى تاجروا مع الله، بل إن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حث على اﻹنفاق في سبيله بأكثر من طريق فقال (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) اﻵن لو يأتيك الملك ويستقرض منك مبلغ لو ما كان عندك المبلغ تبحث عنه حتى تُسلِّف الملك ﻷنك تعلم أن قضاؤه سيكون أكثر مما أخذ وإن لم يكن ماديا فهو معنويا فكيف الله سبحانه وتعالى بنفسه يستقرضنا ويقول (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ) والله سبحانه وتعالى غني عنا وعن قرضنا ولكنه من باب التحضيض والتشجيع، فهنا يقول لك سوف أعطيك على الدرهم الواحد سبعمائة درهم ربح، وهذا لا يعطيه أحد من البشر ولذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما جاءته قافلة -كما يذكر في كتب السيرة- وكان في زمن مجاعة، فلما جاءت قافلته تسابق التجار عليها وأعطوا عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أضعاف ويشترونها منه قال: هناك من أعطاني أكثر من ذلك، قالوا: أربعة أضعاف. . خمسة أضعاف. . عشرة أضعاف، قالوا: يا ابن عوف نحن تجار المدينة من أعطاك أكثر من هذا؟ قال: الله، الله أعطاني سبعمائة ضعف، وفرَّقها على فقراء المدينة. هذا تطبيق عملي -أيها الإخوة- لمثل هذه اﻵيات كانوا يصنعونه رضي الله عنهم، ولذلك أبو طلحة اﻷنصاري رضي الله عنه لما نزل قول الله تعالى -وهذا أيها الإخوة حتى نخرج من رتابة التفسير- نحن لما نشرح التفسير وإلا الحديث ترى في النهاية المقصود هو العمل والاستجابة، ومهما بالغنا في التفصيلات والتشقيقات فهذا هدفه علمي بحت لكن الثمرة الحقيقية هي العمل والاستجابة فإذا وُفق اﻹنسان للاستجابة فقد تحقق المقصود. فأبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه نزل قول الله تعالى (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) واضحة اﻵية لا تحتاج إلى تفسير أليس كذلك؟ أنه لا يمكن أبدا أن تنالوا البر بمعنى اﻷجر العظيم الواسع الغير محدود ﻷن البِر هو: اﻷجر العظيم الواسع الغير محدود، مثل البر اﻵن نقول البَر المكان المفتوح الواسع فكذلك البر (حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أنه لا يمكن أن تنال هذه المنازل العظيمة حتى تُنفق من أحب اﻷموال لديك، هذا اختبار وليس كما أفعل أنا وأمثالي اليوم عندما يتصدق الواحد منا فيستخرج النقود من جيبه ويبحث، يُعرض عن الخمسمائة وعن المئتين وعن المائة وعن الخمسين وعن العشرة وعن الخمسة ويبحث عن الريالات ثم يسأل الله الفردوس الأعلى من الجنة، الله سبحانه وتعالى يقول (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
فأبو طلحة اﻷنصاري رضي الله عنه فهِم هذه اﻵية مباشرة وكان عنده مزرعة مُقابل مسجد النبيﷺ مباشرة -أظنها اليوم تُمثِّل جزء كبير من المسجد النبوي- قال فيها ستمائة نخلة وكانت من أجمل المزارع في المدينة وكان النبي ﷺ ربما توضأ فيها أحيانا وصلى وربما أكل منها، فجاء إلى النبي ﷺ قال: يارسول الله لقد نزلت (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وإن أحب مالي إلي بيروحاء -هذه المزرعة اسمها بيروحاء- وإني قد جعلتها يا رسول الله في سبيل الله فضعها يا رسول الله حيث شئت.
- تطبيق عملي فعلا- فتصدّق بها رضي الله عنه فلما مات قال النبيﷺ هنيئا ﻷبي الدحداح أو كلمة نحوها (رب عذق رحراح في الجنة ﻷبي الدحداح).
فالفكرة هنا في مثل هذه اﻵية في قوله سبحانه وتعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ) هل اكتفى بذلك؟ لا، قال (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) هذا الوعد يُشجع البخيل أن يجود في سبيل الله، لذلك كان الصحابة يتسابقون رضوان الله عليهم -على قلة أيديهم- ويجودون ببن يدي النبيﷺ ويتصدقون. وينبغي أن نكون كذلك جميعا -أيها الإخوة- فإن فرص اﻹنفاق كثيرة، الدرهم الذي تنفقه فأنت تحتفظ به أما الدرهم الذي تمسكه في رصيدك فهو الذي تفقده. وتعرفون قصة عائشة رضي الله عنها قال النبي ﷺ : ما بقي منها؟ فقالت عائشة: ذهبت كلّها وبقي كتفها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل بقيت كلّها إلا كتفها. فالذي أنفقناه وتصدقنا به هو الذي يبقى.
وقد ذكر ابن عاشور -رحمه الله- كلمة جميلة في تفسيره لهذه اﻵية، طبعا المفسرون يقولون هل يوجد حبة تُخرِج سبع سنابل وكل سنبلة تُخرج مئة حبة؟ فبينهم خلاف في هذا يعني هل هناك فعلا حبة يخرج منها مثل هذا؟ وبعض المزارعين ممن رأيتهم في كتب الزراعة وكذا يذكرون هذا ويذكرون أكثر منه ويقولون أن الحبة أحيانا تُخرج أكثر من سبع سنابل فبركة الله سبحانه وتعالى لا حدود لها، وإن لم يكن هذا فهو مثال مضروب ضربه الله سبحانه وتعالى فهو يتحقق للمُنفق في سبيل الله سواء تحقق هذا في واقع الناس أو لم يتحقق.
يقول ابن عاشور -رحمه الله- "هذه اﻵية عودا على التحريض على اﻹنفاق في سبيل الله فالله سبحانه وتعالى قد قال في السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) هذا تحذير ودعوة أنك أنفق اﻵن قبل أن تُسحب اﻷوراق ﻷن اﻹنسان إذا خرجت روحه انتهى وقت العمل ويأتي يوم القيامة فينظر إلى هذه اﻷجور العظيمة التي لو كان فعلها لكانت ارتفعت به في درجات الجنان، زادت من موازينه فيندم ندما عظيما فلذلك قيل أن كل الناس يوم القيامة يندمون المؤمن والكافر" فالمؤمن يندم أنه لم يكن استزاد من العمل الصالح، والكافر يندم على أنه لم يستجب ﻷمر الله سبحانه وتعالى. قال: "فاﻵية تثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المُنفِق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقبها سبحانه وتعالى بدلائل ومواعظ وعِبر وقد تهيأت النفوس لاستقبال هذا المثل ". وهذه اﻵية دليل عظيم على فضل اﻹنفاق في سبيل الله وصريحة في هذا ولذلك ينبغي على المسلم العاقل ألاّ يحرم نفسه من هذا ولو بالقليل.
/ ومن فوائد اﻵية: أن جزاء المُنفِق في سبيل الله عليه وحده، أن الله سبحانه وتعالى قد تكفّل بمُجازاة المُنفِق في سبيل الله فإنه قال (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ) ولذلك ذكر النبي ﷺ في الحديث القدسي أن الله سبحانه وتعالى يقول في الصيام قال (كل عمل ابن آدم له إلا الصِيام فإنه لي وأنا أجزي به ) فمعنى الحديث (فإنه لي وأنا أجزي به) أنه لا حدّ لجزاء لهؤلاء الصائمين بمعنى أن الله في بعض اﻷعمال قد حدد الحسنة بعشر أمثالها قال (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) ولاشك أيها الإخوة أن هذا كاف للمسارعة للإنفاق في سبيل الله.
/ المثل الذي يليه مرتبط به، مرتبط بمسألة اﻹنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى
يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا النداء نداء عظيم بوصف اﻹيمان وهذا الوصف هو أعزّ اﻷوصاف التي يفتخر اﻹنسان المُسلم بأنه يتصف به، وهو عندما ينادي سبحانه يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كأنه يُحرِّضنا على الاستجابة، بمعنى يا من ادّعيت أنك مؤمن، يا من تزعم أنك مؤمن افعل كذا وكذا وهذا يُسمّونه الحثّ وفيه شيء من الاستفزاز للعمل كما يقول أحدنا للرجل عندما يريد أن ينازل رجلا أو يُضارِب رجلا فيقول له إذا كنت رجلا فافعل كذا وكذا، يعني يستفزه إن كنت تقول أنك رجل افعل كذا وكذا، فالله يقول هنا إن كنتم صادقين في إيمانكم فافعلوا كذا وكذا وهذا أسلوب في غاية البلاغة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ) ذكر الله سبحانه وتعالى هنا اﻹنفاق في سبيل الله -اﻵية التي قبلها- والآية السابقة عندما يُنفق اﻹنسان في سبيل الله يعني افرض أنك -على سبيل المثال- تصدقت على جيش فأنفقت مئة ألف أو مئة مليون لهذا الجيش، هذه نفقة عامة لا تستطيع أن تمتنّ بها على أفراد فتقول ﻷحدهم أنا والله دفعت وأنا الذي فعلت وأنا الذي دفعت لكم وأنتم لا تساوون شيئا من دوني، لا، هذا نفقة عامة لكن في النفقة الخاصة يمكن المن واﻷذى فجاء في اﻵية التي معنا اﻵن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ) وهذا نهي لكل مؤمن ألاّ يتصدّق ثم يمُنّ على المُتصدَق عليه -الفقير- إذا رأى مثلا الفقير في حالة حسنة أو رأه قد استغنى فيقول له أنت شايف نفسك اﻵن وأنا المُتصدِق عليك باﻷمس وأنا من أعطيتك ... الخ أليس كذلك؟ هذه مِنّة تُبطِل العمل وتُفسِده وتُحبِطه كأنك لم تفعل شيئا، نعم إبطال له (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ) المَنّ هو: المَنّ بالكلام، قالوا واﻷذى هو: اﻷذى بالفعل، وأعجبتني كلمة هنا للزمخشري يقول في كتابه [الكلِمُ النوابغ] يقول :
طعم اﻵﻵء أحلى من المَنِّ ** وهو أمرُ من اﻵﻵء عند المَنِّ
الآلآء يعني النِعم، والمَنّ هنا هو: العسل، الذي ذكره الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل ( وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) قالوا المَنّ هو طعام يشبه العسل يأتي إليهم دون تعب. فيقول: طعم الآلآء أحلى من المنّ، اﻹنسان إذا أسدى إليك معروفا فإنه أحلى من العسل
قال : وهو أمرُّ من اﻵﻵء عند المنِّ
واﻵﻵء الثانية قالوا هو شجر مُرّ الورق اسمه آﻵء، ولا أدري هل مفردته اﻷُلُوّة التي ذكرها النبيﷺ في الحديث أو لا.
قال: وهو أمرُّ من اﻵﻵء عند المَنِّ ، يعني عند المنِّ به وذِكره والتنغيص عليه بالمن به.
/ ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلا بمن يُنفق ماله في سبيل الله ولكنه ليس لوجه الله وإنما رياء، سمعة، وهذه تصِح في المنافقين وفيمن فعل بفعلهم. والنيات -أيها الإخوة- أمرها إلى الله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يأتي يطعن في نيات اﻵخرين أبدا ولا ينبغي وإنما هذه النيات أمرها إلى الله سبحانه وتعالى فهو الوحيد الذي يعلم مافي الصدور. فالله سبحانه وتعالى يقول هنا (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) هذا الذي يُنفِق ثم يمُنّ على اﻵخرين بعطيته فيُفسِدها مثله قال (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) انظروا اﻵن هذا مثل مُركب، يُمثِّل الذي يُنفِق من المسلمين ثم يمُنّ بعطيته أو يؤذي الفقير بأنه مثل المنافق الذي ينفق في سبيل الله رياء وسمعة، تجد أنه هذا المنافق لا ينفق إلا إذا كان أمام الكاميرات وأمام وسائل الإعلام وأمام الوجهاء فيتبرع ليس لوجه الله وإنما رياء وسمعة، فهذا أيضا صدقته باطلة ونفقته مردودة ﻷن الله سبحانه وتعالى قال في الحديث القدسي (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه) .
/ ثم ضرب الله سبحانه وتعالى هذا ونظّره بمثَل معروف محسوس، قبل قليل تكلم عن السنبلة والحبة وهذه معروفة، في مثل آخر أيضا معروف لنا جميعا قال (كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) انظروا اﻵن إذا هطل المطر -اﻷسبوع هذا باﻷمس وقبله كان فيه مطر ولاحظتم كان فيه غبار- الصفوان هو: الصفا الملساء -الحجر اﻷملس- صفوان، والصفوان مُفرد وجمعها صُفيّ ونحن في اللهجة العامية نقول صوفيان. وبعض العلماء يقول هي جمع ومفردها صفا، فهذه الصفا الملساء يأتي عليها الغبار والتراب حتى أنك عندما تنظر إليها تظن أنها تراب وليست صفا ملساء فإذا نزل عليها المطر الغزير غسل هذه الطبقة الرقيقة من التراب فأصبحت ملساء نظيفة صلدا -حجر أملس- هذه القشرة الرقيقة من التراب الذي كانت على الصفا هو مثَل العمل الظاهري للمنافق لكن عندما ينزل عليه المطر بقوة فيُمحِّص الحقيقة فإذا بها ليست تراب وإذا بها صفا صلداء فإن في اﻵخرة يُبطِل الله سبحانه وتعالى نفقة هؤلاء المنافقين الكذابين المرائين كما يفعل الماء بهذا التراب الرقيق كما قال أيضا في آية أخرى (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) يعني هم عندهم أعمال صالحة يُنفِقون ويتصدقون ﻷن اﻵن المرائي والمنافق عندما يتصدق يتبرع -مثلا- بمليون دينار أو مليون دولار لمشروع من المشروعات، هذا ينتفع به هؤلاء أصحاب المشروع لكنه لا ينتفع به هو ﻷنه لا ينفق لوجه الله سبحانه وتعالى ولذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتساءلون عن أعمال هؤلاء المنافقين أو حتى أعمال الكفار الصالحة كيف يُجازون عليها في اﻵخرة؟ ولذلك لما سألوا عن عبدالله بن جدعان، عبدالله بن جدعان كان من أكرم قريش قبل نبوة النبي ﷺ، كان يُضرب به المثل في الكرم حتى ذكر بعض علماء التاريخ أنه كان أكرم من حاتم الطائي فسُئل النبي ﷺ قالوا يا رسول الله عبدالله بن جدعان كان يحب مكارم الأخلاق -كان كريما- فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: (إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
انظروا -سبحان الله العظيم- المسألة هي مسألة عقيدة وكلمة ولذلك أبو طالب كان مُحبا للنبي ﷺ ويدعمه دعم قوي ولكنه لم يُسلم فهو من أهل النار، وأيضا حاتم الطائي عندما جاء الأسرى من طيء فكانت فيهم سفّانة بنت حاتم الطائي وكانت مع اﻷسيرات فلما مرّ النبي ﷺ قالت أريد أن أكلم رسول الله، فقالت: يا رسول الله أنا سفّانة بنت حاتم الطائي، فقال النبي ﷺ أطلقوها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وأطلق بإطلاقها أسرى طيء كلهم لكنه عليه الصلاة والسلام قال كلمة أخرى قال: أطلقوها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وقال: لو كان أباك مُسلما لترحمنا عليه.
أرأيتم، فكذلك هذه اﻷعمال التي يعملها المنافق لا تنفعه عند الله كما يصنع هذا المطر وهذا الوابل الشديد بالتراب على هذه الصفا. فمعنى اﻵية (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ)
والوابل هو: المطر الشديد (فَتَرَكَهُ صَلْدًا) يعني أملسا لا تراب عليه (لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا) يعني يوم القيامة يأتون ويرون أعمالهم قد أُحبطت لا يقدرون على شيء منها أن ينتفعوا به. ولاشك أن هذا جزاء لهم من جنس عملهم ﻷنهم كانوا في الدنيا يتظاهرون باﻹيمان ويُبطنون الكفر ويظنون أنهم بذلك يضحكون على النبي ﷺ وعلى المؤمنين، فالله سبحانه وتعالى استهزاء بهم فأراهم أعمالهم يوم القيامة ثم أبطلها ولذلك قال النبي ﷺ -والعياذ بالله- (يأتي أناس يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثورا) قالوا : لماذا يا رسول الله؟ قال: (إنهم كانوا إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ) (١) -والعياذ بالله- وهذا المثل لاشك أنه في غاية التحذير من المنّ واﻷذى من المُنفق، إذا أنفقت شيئا فأمسك لسانك وأمسك يدك -خلاص انسى الموضوع تماما- لماذا؟ ﻷن الفضل ليس لك، الفضل أولا وأخيرا لله سبحانه وتعالى ولذلك قال الله في مواضع في القرآن الكريم في مدح المؤمنين المُنفقين (ومما رزقناهم ينفقون ) (وانفقوا مما رزقناهم ) فأنت مجرد مُستأمن على هذا المال، المال مال الله والحقّ الذي الذي وجب فيه هو حق الله والفقير مُستحِق فأنت عندما تمُنّ أو تؤذي فأنت قد ارتكبت إثما عظيما، وهذا ابتلاء للطرفين، المال هو ابتلاء للغني وابتلاء للفقير والموعد عند الله سبحانه وتعالى ولذلك تذكرون الحديث العجيب الذي ذكره النبي ﷺ عن ثلاثة من بني إسرائيل كان أحدهم أعمى والثاني كان أبرص والثالث كان أجذم فشفاهم الله سبحانه وتعالى الثلاثة -في القصة المعروفة- فلما جاء الملَك في هيئة فقير إليهم لم ينجح منهم إلا واحد -صاحب الغنم- جاءه الفقير وقال أنا منقطع وكذا فقال: انظر هذا الغنم كنت فقيرا وكنت مريضا -نسيت هل كان مجذوما أو أبرصا أو أعمى فمنّ الله علي بهذا المال وشفاني وأعطاني فخذ ما شئت ودع ما شئت. فقال: امسك عليك مالك بارك الله لك في مالك فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك) فهذا الابتلاء أيها الإخوة، هذا المال والراتب الذي تأخذه هذه كلها ابتلاء (من أين اكتسبه وفيم أنفقه ) ولذلك قال النبيﷺ (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) سؤالان منها عن المال (من أين اكتسبه وفيم أنفقه ) وهذه مسؤولية عظيمة أيها اﻹخوة ينبغي للإنسان أن يُحاسب نفسه ولا يفرح بكثرة المال الذي يجري في يديه فإنه ابتلاء سوف يُسأل عنه.
/ ومن فوائد هذا المثل: مراعاة اﻹسلام لنفس الفقير فإنه كما أمرك بأن تتصدق وتُعطي نهاك أن تجرح كرامة هذا المسلم بكلمة أو بعبارة أو بحركة أو بإشارة ﻷن الفقر ليس عيبا وقد يغتني الفقير وإنما هي كلها مدرسة، ابتلاء يختبرنا الله سبحانه وتعالى.
/ ومن فوائد هذه اﻵية: أن الذي يمُنّ بصدقته فإنما ذلك لضعف إيمانه، لضعف اﻹيمان في النفوس تظهر مثل هذه الأخلاقيات.
--------------------------------------------
(١) جاء في مسند أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ َلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق