بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد .. أيها الأخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما زلنا مع سورة يوسف عليه السلام، ما زال الكلام متصلاً عن هذه القصة العظيمة وصلنا إلى قوله تعالى :{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي }
قبل هذا المقطع -أيها الأخوة الكرام- قال الملك هذه العبارة ولكن بصيغة مختلفه فقد قال : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } إذاً الملك قال هذه العبارة مرتين المرة الأولى في قوله : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } وذلك قبل ظهور شأن يوسف عليه السلام وقبل ظهور البراءة فلما قال هذه العبارة في المرة الأولى قال الله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أما في المرة الثانية فقد قال الملك : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } فنجد في العبارة الثانية زيادة وهي قوله : { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } والسبب: أن مكانة يوسف عليه السلام قد ظهرت هذه المرة وأصبح الآن مطلوباْ وأصبح شأنه مرفوعاً وأصبح الملك يريده لخاصّة نفسه كأن يكون مستشاراً عنده أو مُقرّباً عنده، وأما المرة الأولى فإنه يطلبه كطلب أي شخص ولذلك ما قال أستخلصه لنفسي قال هاتوه ائتوني به جيئوني به مثل أي إنسان يُذكَر للملك إن عنده شيء فيقول ايتوني به فلم يكن في الذِكر الأول دلالة على أي تكريم ولا أي مكانة ولكن لما فسّر الرؤيا، وأيضاً لما بقي في مكانه ولم يخرج حتى يُسأل عن سبب تقطيع النساء لأيديهن وحتى تظهر براءته كاملة -هذا في المرحلة الأولى- بعد ذلك لما ظهر ذلك كله ظهرت مكانة يوسف عليه السلام .
إذاً مكانة يوسف عليه السلام ظهرت بسببين رئيسين أو رئيسين:
السبب الأول : هو تعبيره للرؤيا التي عجِز الناس وكبراء القوم عنها، وهذا عِلم يعطيه الله عز وجل من يشاء.
السبب الثاني : حرصه على أن تظهر براءته فلا يكفي أن يظهر عِلمه وبراعته في تأويل الرؤيا والعِلم الذي آتاه الله إياه بل لا بد أيضاً من صفاء سيرته من كل ما عكرها ولذلك لم يخرج في المرة الأولى، ما خرج رغم أن الفرصة قد جاءت ما خرج { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } فحصل السؤال وحصل الاعتراف من امرأة العزيز وقالت : {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِه} وإلى غير ذلك من الأمور التي اتضحت للملك في تلك اللحظة فاجتمع عند الملك أكثر من أمر:
الأمر الأول : العِلم الذي آتاه الله تعالى يوسف عليه السلام ولم يؤتِه أحد من حاشيته ومن يعتمد عليه من وزرائه وغيره.
الأمر الثاني : ما رآه من سُمُو خُلُق يوسف عليه السلام حيث أصر على البقاء حتى تظهر البراءة.
عند ذلك تحوَّل حال يوسف عليه السلام من السجن -يعني ما بينهما إلا فترة وجيزة- من السجن إلى القصر مباشرةً من إنسان مسجون وربما مُؤذى ولا أحد يسأل عنه إلى رجل له مكانة وله منزلة ومن خاصّة الملك هذا يعطينا ماذا يا جماعة ؟
أن الأمر لله يُعِزّ من يشاء ويُذِل من يشاء والإنسان قد يُصبِح عزيزاً ويُمسي ذليلاً، وقد يُمسي ذليلاً ويُصبح عزيزاً، وقد يمسي مملوكاً ويصبح ملكاً، الله أعلم هذا الأمر لله ماهو للناس.
فلاحظ هذا التغيّرُ الفجائي السريع وربما في لحظات وفي يعني ساعات قليلة من العبارات والمحاورات وإلى غيره تغير كل شيء {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } لما الآن أصبحت منزلة يوسف عليه السلام عالية ما قال ائتوني به مثل أي أحد قال : { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } فقيّد الإتيان به حتى لا يُظَن أنه إتيان كأي إتيان وإنما هو من أجل تكريمه وتعظيم شأنه { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي أجعله خالصاً لي أستشيره أعتمد عليه أفوض إليه بعض ما عندي من صلاحيات { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أتخيل أن الملِك يتحدث بمثل هذه الطريقة لا شك أن حاشيته الذين حوله سيعرفون المكانة التي تبوأها يوسف عليه السلام عند هذا الملك.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ }أي فلما كلّم يوسف عليه السلام الملِك فالتكليم هنا من يوسف عليه السلام للملِك بدليل ما بعده { قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين } هذا قطعاً من كلام الملك، إذاً يوسف عليه السلام كلّمه وهو ردّ بهذا الردّ.
لماذا أظهر الله عز وجل قضية التكليم هذه ؟ فقال لنا : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } وطبيعي أن الإنسان لما يأتي لإنسان يصير بينهم حديث لماذا أظهر الله قضية الكلام هذه ؟ قال: لأن الإنسان قد تدل فِعاله على شيء، ما هي فِعاله ؟ قضية أنه فسّر الرؤيا، قضية أنه امتنع عن الخروج من السجن وهذا يدل يعني على صفاء سريرته ووثوقه بحاله لكن يبقى الكلام والمنطِق له أثر كبير في تحديد شخصية الإنسان ومكانته، فكثير من الناس وهو غائب عنك له مكانة ومنزلة في نفسك -وضيعة أو رفيعة- لكن بمجرد أن تُصادفه وتُقابله وتسمع كلامه تعرِف قدره ومنزلته، فالمُكالمة والكلام إحدى دلائل الشخصية ولذلك بعض الناس لو جلس بهيتئه الجميلة والفخمة الناس يهابونه وما يدرون ما وراءه بمجرد ما يتكلم ويتكلم في موضوع تافه ما أحد يلقي له بال بعد ذلك.
وهذه القصة المشهورة في السيرة أو في التاريخ <آن لأبي حنيفة أن يمُدّ رجله>
هاب رجلا قد دخل وإذا هو بعمامته وهيئته وهو يشرح في قضية صوم الصائم ومتى يُفطِر وإذا غربت الشمس أفطر الصائم والرجل موجود وكان أبو حنيفة تُؤلمه رجله وكان يستأذن طلابه فيمُدها ناحيتهم فلما رأى هذا الرجل المهيب الكبير وقد دخل في حلقته قدّره فكفّ رجله على الألم الذي يشعر به وفي نهاية الجلسة قال أبو حنيفة هذا الحُكم أنه إذا غربت الشمس أفطر الصائم، فقال الرجل : وإذا لم تغرب الشمس؟ طيب إذا لم تغرب الشمس فقال أبو حنيفة : آن لأبي حنيفة أن يمُدّ رجله. إن صدقت هذه القصة .
المقصود: أن المنطق يُعلي من الإنسان أو يخفِض منه ولذلك الله عز وجل قال : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ }
إذاً نستشف من ذلك ونستنتج من ذلك أن يوسف عليه السلام كما كان بارعاً في تأويل الرؤى وكما كان عظيماً في أخلاقه كان عظيماً أيضاً في منطقه وكلامه لأنه بمجرد ما كلّمه وحدثه مباشرةً أطلق الملك الحكم { قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِين } خلاص يعني أجتمعت لديه كل الأدلة التي يريدها في مثل هذا الإنسان من أخلاق حسنة وعِلم وأيضاً حسن منطق.
اخواني الكرام: يجب أن لا نتساهل في المنطق ولا بالكلام فإن جُلّ علاقاتنا مبنية على الكلام والإنسان الذي لا يؤتى حُسن المنطِق ينفر الناس منه ولذلك لو تأملت أحوال الناس وجدت أن أسباب النُفرة بينهم وأسباب محبتهم لإنسان دون إنسان -في كثير من الأحوال- مرجعها إلى أخلاق اللسان لا إلى أخلاق الفِعال، نعم هذه لها دور لكن هذا أهمّ ولذلك بعض الناس يتحاشاه الناس من سُوء لسانه حتى لو كان في أخلاقه الأخرى حُسن لكن الناس يحبون صاحب المنطق الطيب اللين، وهذا أمر سهل يا جماعة كل ما علينا أن نُراجع ماذا نقول، كيف نتكلم، وبماذا نُعبِّر، على سبيل المثال أضرب لكم: لو أن زميل لك أو صاحب لك وبينك وبينه محبة أخطأ عليك بخطأ ما لنفرض -مثلاً- أنه قال عنك كلاماً أو أخلفك في موعد أو طلبت منه عوناً فتأخر عليك وأنت يعني بينك وبينه صداقة قديمة أحياناً تجد في نفسك عليه وربما تعاتبه كيف تعاتبه؟ طريقة عتابنا أيضاً هي منطِق ماذ نقول له ؟ هي كلام بماذا نتكلم معه ؟ هل نقول له أنت ضيعت الصداقة، أنت ما فيك خير، أنا كنت أظن أنك لن تفعل هذا، وكلام كثير من هذا هذا يمكن أن يقال ويمكن أن يقال شيء آخر، لو قلت يا فلان غيرك يفعل هذا مثلك لا يفعل هذا الفعل، أنا أنتظر منك أفضل. من هذا كلمات أدّت الغرض وأبقت الصداقة.
إذاً العملية نستطيع نحن أن نُعبِّر بتعبيرات مُعينة وبكلام معين، وهذا -يا إخوان- ما يخفى عن الناس، الناس يسمعون ويفهمون الكلام الطيب ويعرفون الكلام السيء <ورب قول أنفذ من صول> أحياناً يكون الكلام أشد من السيف.
إذا هنا { فَلَمَّا كَلَّمَه ُ} دلالة على أن المنطق له دلالة لذلك ترون الآن دائماً في الوظائف وفي غيرها في شيء اسمه المقابلة ليش يقابلون الإنسان ؟ لأسمع منطقه، كيف يتحدث، ماذا يقول، كيف يُعبِّر عن أموره، هذا مهم جداً، أحياناً مجرد الأعمال العامة لا تُنبئ عن شخصية الإنسان بالشكل المطلوب إذاً فهي مُكملة تكميلاً مهماً لشخصية الإنسان.
{ فَلَمَّا كَلَّمَه ُ} أي يوسف عليه السلام كلّم الملِك قال له الملِك : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين }
{ إِنَّكَ } بدأت الجملة بالتوكيد وهذه دلالة على أن القرار نهائي ونافذ ما فيها مجال خلاص صدر القرار الآن { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين }.
{ إِنَّكَ الْيَوْمَ } لا يعني اليوم أن هذا ظرف، أن هذا التكريم أو هذه المكانة { مَكِينٌ أَمِين } هذه الأوصاف مظروفة -أي محصورة- في ذلك اليوم هذا لا يعني أن قوله : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين } أنك غداً لست كذلك لا ، يعني إنك من اللحظة هذه، من الساعة هذه، من اليوم هذا لدينا مكين أمين فليس المقصود تحديد الزمن بهذا الوقت بل المقصود تحديد بداية هذا الحكم من هذه اللحظة أنت مكين أمين ولا يُفهم منها { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين } أنك غداً لست كذلك لا، لأن السياق سياق تكريم .
{ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا } "لدى" أقرب من "عند" لما أقول "عندي" و"لديّ" [لديّ- لدُن- لد- لدينا] أقرب من "عندنا" فهي أكثر دلالة على القُرب والخصوصية ولذلك قال : { لَدَيْنَا }.
{مَكِينٌ أَمِين} إما أن تكون من المكانة مكين يعني صاحب مكانة فأنت من اليوم لك مكانة عالية، أو مكين مُوثّق لا تبرح هذا المكان سواء كانت هذه أو هذه كلاهما يدل على القيمة والمكانة ليوسف عليه السلام وإن كانت مخايل دلالة المكانة والتكريم أوضح هنا.
{ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } أمين أيضاً إما أن تكون من الأمانة أو من التأمين يعني من الأمن أمين يعني مُؤمّن لا تخاف، أو أمين يعني مُؤتمن ومُصدَّق وهذا الذي يظهر من السياق وهذا ما يدل عليه ما بعده، لأنه ليس هناك دلالات على التخوّف هنا يعني ليس هناك أشياء تدل على أنه خائف حتى يُأمَّن { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين } لما سمع يوسف عليه السلام هذه العبارة منه ردّ عليه بعبارة { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } طبعاً نلحظ هنا -يا اخواني الكرام- أن الكلام الذي ظهر والذي ذُكر في القرآن من هذا الملك ومن حوار يوسف عليه السلام معه هو هذه العبارات، لا شك أن هناك كلام كثير يُقال لكن هذه الكلمات هي الُمهمة وهي التي تدور عليها أصل القصة فهنا هو ذكر له الشعور الذي يشعر به هذا الملِك تجاه يوسف عليه السلام وهو أنه لك مكانة عندنا أنت مُؤتمن مُصدّق ، بما أنه قال له هذا الكلام فجاءت فرصة ليوسف عليه السلام الذي جبله الله على حُبّ نفع الناس وتقديم الخير لهم في أي مكان كان فليست هذه الصفة في يوسف عليه السلام طارئة حصلت الآن لما حصل على المكانة والمنزلة لا ، فقد فعلها من قبل لما كان في أصعب الظروف أين ياجماعة ؟ في السجن فإنه لما دخل السجن وطُلب منه العون قدّمه مباشرةً { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } هذا حُكم من دخل معه في السجن وفعلاً طلبوه تفسير الرؤيا ففسرها، وأيضاً داعاهم إلى الله سبحانه وتعالى ونصحهم هذا هو الإنسان الطيب الخيّر الصالح الذي يكون نافعاً أينما كان في بيته، في الشارع، في عمله، في أي موقع نافع (واجعلني مباركاً أينما كنت) ولا يقول هذا الأمر ماله علاقة بي، المطلوب أنك تقدم الخير للناس سواء كان في صورة كلمة سواء في صورة تصرف أو سلوك تقوم به المهم أن تعمل هذا، يوسف عليه السلام عُرِف عنه تقديم النفع للناس فبمجرد ما رأى الفرصة سانحة وأن الملك وثِق به ووصفه بهذه الأوصاف قال : { اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضٌِ } إذا كنت أنا أمين ولي مكانة عندك اجعلني على خزائن الأرض فلماذا إذاً بادره بهذا العرض؟ قالوا : حتى لا يُكلِّفه بعمل آخر لا يتناسب مع ما يريد فقد يجعله في شيء آخر، على الجيش وإلا على شيء آخر وإلا على عمل آخر مختلف عن ما يريده هو فاقترح عليه مباشرةً الشيء الذي يتناسب مع قدراته هو ومع إهتماماته هو وهو الذي فسَّر الرؤيا ويعرف أحوال الناس المستقبلية في قضية الاقتصاد وقضية الجانب المالي عندهم والقُوت فهو يعرف هذا فناسب أن يطلب ما يتناسب مع ما يفهم ويعرف وهذا يا جماعة قد يكون إشارة إلى أن الإنسان يلتحق من الأعمال بما يتناسب مع علمه فهنا لو تلاحظ ليس علماً شرعياً مباشرا إنما هو علم في الاقتصاد والإدارة هذا الذي طلبه يوسف عليه السلام فهو في تقسيم الأرزاق وولاية ما يُعرَف عندنا الآن بوزارة المالية طلب هذه الحقيبة الوزارية أو هذا المكان لأن له عِلم به وله معرفة به، فما يصلح دائماً يا جماعة بأن يكون الإنسان لأنه مثلاً شيخ أو عنده توجّه معين أن يصلح بالمكان هذا، ليس بالضرورة يصلح بالمكان من عنده علم به وليس بالضرورة أن يتولى الإنسان كل شيء فالله عز وجل أوجد في كل إنسان منا خصيصة، بعضنا عنده خصائص في القيادة والإدارة، وبعضنا عنده خصائص في العلم الشرعي لكنه لا يفهم في الإدارة كثيراً ولذلك لو وُضِع هذا مكان هذا ما صلُح الأمر ولذلك انظر للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يوزع الأدوار بين الصحابة يجعل أسامة بن زيد وهو شاب صغير على قيادة جيش فيه كبار الصحابة لأنه عنده قيادة، عنده ملامح القيادة، يجعل عمرو بن العاص قائد في سرية وهو لم يُسلم إلا من توِه وهناك بعض الصحابة الذين قد سبقوه في الإسلام ومن ضمنهم كبار الصحابة لأنه يعرف قوة عمرو بن العاص في هذا الجانب وهكذا، لكنه يأتي لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه ويقول : ( يا عبد الرحمن لا تطلب الإمارة ) لا تصلح لك الإمارة أنت بشخصيتك وبما أنت فيه لا تصلُح لك الإمارة ( فإنك إن تطلبها توكل إليها وإذا جاءتك من غير طلب ) يمكن الإنسان أحياناً يُلزم بالشيء ( أعانك الله عليها ) ولذلك بعضهم قال : كيف نجمع بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي ينهى عن طلب الإمارة - والإمارة أي شيء فيه منصب وفيه مكانة - كيف هذا وكيف يوسف عليه السلام وهو نبي يطلب الإمارة ؟ نقول لهم : لا بأس إذا كان الإنسان فيه الصفات المُؤهلة له إلى هذا العمل ثم رأى أن هذا العمل لا يقوم به غيره ولو أُسنِد إلى غيره لفسد قد يصل الأمر إلى الوجوب، يجب عليه أن يتولى هذا الأمر. ولذلك بعض الناس الآن وهو من أهل الخير والصلاح ويُعرض عليه شيء أو يكون أمامه ويقول لا ، تركه لهذا المكان قد يتسبب في إيجاد آخرين يتسلمون هذا المنصب وهم ليسوا أهلاً له وبالتالي يعظُم الفساد فهذا ليس من الوَرع، بعض الناس يظن أنه وَرَع، هذا ليس من الورع بل هذا من عدم الفِقه ولا الفهم، فيوسف عليه السلام وهو نبي مباشرة لما رأى أن هناك فرصة لخدمة الناس والقيام على مصالحهم وإنقاذهم وإنقاذ أرواحهم من جوائح اقتصادية كبيرة قادمة مباشرةً عرض نفسه عليه الصلاة والسلام وقال : { اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ } أما أن يكون الإنسان ليس عنده قدرة -يا اخواني الكرام- ولا عِلم ثم يعرِض نفسه على منصب أو مكانة فلا، فهنا قد يوكل إليها وتجده لا يستطيع أن يفعل شيئاً بل يتولى وِزرها وليس له من ثمرتها شيء .
{ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ } قالوا خزائن الأرض هي: الأهرامات هذه كانوا يخزنون فيها الأطعمة والحبوب وما يقتاتون به، وقيل خزائن الأرض المقصود بالأرض الأرض التي يملكها هذا الملك فإن لكل ملك خزائن -تسمعون خزينة الدولة- خزائن هذه تُجمع فيها النقود والأموال والأقوات حتى تُوزّع على السنوات القادمة ولكل سنة نصيبها. فهو قال اجعلني على هذا الأمر، اللي هو الآن وزارات المالية في الدول الآن في التقسيم هذا الحضاري الجديد.
{ َاجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّيٌ } "إنَّ" هنا تفسيرية ما قال له فقط ضعني في هذا المكان، قال ضعني في هذا المكان وفسَّر له وعلّل له، دائماً وأبداً -يا اخواني الكرام- الأوامر والنواهي حتى تكون مقبولة سواء كانت من الأب أو من غير الأب أو من أي شخص إذا في الأوامر والنواهي حبذا أن تكون مُعلّلة إذا كان الأمر أو النهي مُعللاً -يعني معه سببه- كان ذلك سبباً للقبول قبل أن تُسأل فهو قال : { اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِن الْأَرْضِ } يأتي سؤال لماذا ؟ فقال : { إِنِّي } أي لأني { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فأنا لدي صفتان:
الصفة الأولى : الحفظ
والصفة الثانية : الحفظ فيما يتعلق بهذه الوظيفة التي أطلبها
أما الحفظ -يا اخواني الكرام- { حَفِيظٌ } أي أنني أحفظ ما أُولَّى من هذه الأموال أو الأقوات، والحفظ شيء زائد على الأمانة فقد قال عنه قبل قليل : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } فاغنى ذلك عن ذكر الأمانة فدل على أن صفة الأمانة موجودة في يوسف عليه السلام، وصفة الأمانة من أهم مقومات العامل -يعني الإنسان الذي يتولى عملاً- من أهم الصفات، والرسالة والنبوة من أهم الأعمال والوظائف ومع هذا دائماً تُقرن بالأمانة (إني رسول أمين) الرسول الثاني يأتي يقول (إني رسول أمين) والثالث يأتي يقول (إني رسول أمين) وكذلك جميع المُهمات الأخرى ، موسى عليه السلام لما جاء عند الرجل الصالح الذي عرض عليه إحدى ابنتيه أيضاً ذكر الأمانة، وكذلك أيضاً لما طلب نصارى نجران من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرسل أحداً ماذا قالوا ؟ قالوا : أرسل إلينا أميناً جد أمين فأرسل إليهم أبو عبيدة فلُقِب من ذلك الموقف بأمين هذه الأمة. إذاً الأمانة صفة أساسية في الإنسان العامل وإذا فُقدت ظهر الفساد ولذلك إذا أردت أين مكامن الفساد إعرف إنها مع غياب الأمانة، إذا الإنسان ليس أميناً في تصرفاته، في أعماله فهنا يكون الفساد، والأمانة صفة نادرة وقليلة وكلّما تقدم الزمن كلّما ضعُفت الأمانة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فيبقى أثرها مثل النفْط) النفط: عندما واحد يشتغل بعمل أو يأتي حرق على يده هذا النفط الذي يخرج في اليد هذا عبارة عن شكل بس ما تحته شيء (فتراه منتبراً ) يعني مُنتفخاً لكين ليس فيه شيء ثم يقول : ( فيتسامع الناس ويقولون في بني فلان بن فلان رجل أمين ) يقولون يوجد في المكان الفلاني في أمين، في موظف أمين في المكان الفلاني، في مقاول أمين في المكان الفلاني، فتصبج الأمانة معدودة وهذا ترون بوادره اليوم تسمعون، أحياناً تبحث لك عن عمل معين تعرف لي واحد أمين، تجد الناس يتحدثون بهذا، تعرف لي ميكانيكي أمين، تعرف لي مقاول أمين، يبحثون عن الأمانة قبل جودة الصناعة قبل جودة العمل فقال يوسف عليه السلام : { حَفِيظٌ } الحِفظ زائد عن الأمانة، أحياناً يكون الإنسان أميناً بمعنى أنه لا يأكل يعني الآن المال عنده لا يأكل منه شيئاً ولا يأخذ لنفسه شيء ولا يزوِّر ولا يُغير لكنه ليس عنده معرفة بطرائق حفظ الأشياء والفهم في إدارتها الإدارة الجيدة فقد يُضيّع من أموال المسلمين أكثر مما يُضيّع الذي يأكل هذا فقد يُفوِّت عليه من المصالح أكثر من هذا لذلك لا بد أن يكون حفيظ يفهم يعرف كيف يحفظ الأموال هذه، كيف يُنميِها، كيف يحفظها من القِلة والفساد، لا يكفي أن يكون أميناً فقط بل لا بد أن تكون معه هذه الصفة.
تجي الصفة الثالثة وهي : { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم ٌ} عليم هنا عليمٌ بهذا الأمر، عليمٌ بهذا النوع من العمل وهو الذي يمكن أن نُسمِّيه اليوم الإدارة إنسان يفهم في الاقتصاد، يفهم في التجارة -يفهم- هذا ينفع المسلمين في تخصصه وهذا يجب أن ننظر إليه نظرتنا لأي أحد آخر، بعضنا يرى أن هؤلاء الناس ليس لهم قيمة من قال لك؟ فنحن محتاجون إلى الاقتصادي الناجح وللتاجر الناجح وللطبيب الناجح وللطبيب المسلم وللمهندس كلهم هؤلاء يخدمون دينهم ولذلك إذا كان ولدك نابِه وجيد في التجارة دعه يستمر في التجارة ليس لازما يذهب كلية شريعة ليس صحيحاً هذا، نحن نريد التاجر العظيم في هذا الجانب، عبد الرحمن بن عوف أول ما جاء قال : دلوني على السوق . لما مات كان الذهبُ الذي له يُقسّم بالفؤوس، نفع المسلمين في التبرعات وفي تجهيز الجيوش وغير ذلك، إذاً الله عز وجل أعطى كل واحد منا خصيصة معينة فلا تُلزِم أولادك أو بناتك أو غيره بتخصص معين إنما انظر في ماذا ينفعون ماهو الشيء الذي يجيدون فيه والشيء المشترك بين هؤلاء كلهم أنهم يعرفون ربهم وأنهم يخافونه ويُعظِمونه هذا المهم.
إذاً { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } إذاً لابد حقيقة من المعرفة بهذه التخصصات ولا بد أن الإنسان يكون لما يتولى مكانة أو منصب أو حتى وظيفة وهو ما يعرف فيها شيء لازم يتعلم حتى لو كان ما يعرف يتعلم، يأخذ دورات يُنمي من نفسه .
{ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ }
{ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } هذا دليل على أن هذا الكلام الذي حصل من الملك هو بتوفيق الله وبتقديره سبحانه وتعالى فالذي قدَّر كل هذه الأشياء وقدّر وجود الرؤيا وقدّر عدم وجود أحد يُعبِّرها وقدّر أن ينتبه هذا الساقي الذي نسي يوسف عليه السلام سنوات أن ينتبه بهذه اللحظة وأن يذهب إلى يوسف في السجن وأن يعرِض عليه العرض وأن يكلِّمه الملك وأن يرفض أن يخرج المرة الأولى وأن يكلمه المرة الثانية وأن ينطق بالعبارات التي أعجبت الملك وأن يعرض عليه ذلك، الله عز وجل يقول بعد هذا كله : { وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } يعني نحن الذين وضعناه في هذا المكان، نحن الذين هيأنا له كل هذه الأسباب ليكون في هذه المكانة العالية هل يعني هذا أن الإنسان لا يقوم بالأسباب ؟ ويقول خلاص مادام الله عز وجل هو الذي يُمكّني وهو الذي يخذلني وهو الذي يعطيني خلاص أنا لا أعمل الأسباب. أبداً بل الذي أمَرك بهذا وأعلمك بهذا هو الذي يأمرك بفعل الأسباب فالله عز وجل يُعلمنا أن نفعل الأسباب ولكن المهم شيء واحد أن لا نتكل على الأسباب فأنت تعمل السبب والاتكال الكامل على الله عز وجل فالسبب ليس بالضرورة أن يحصل معه المُسبب، ممكن تقدم السبب بس ما يحصل المسبب فأنت تذهب إلى الطبيب بس يمكن ما تُشفى، تذهب إلى الطبيب لأنه سبب وتطلب من الله سبحانه وتعالى أن يشفيك لأنه هو الذي قدّر وهو الذي بيده الأمر سبحانه وتعالى .
{ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } إظهار اسم يوسف عليه السلام في هذا الموقع دون أن يقول "وكذلك مكنا له في الأرض" حتى لا يُتوهم عودة الضمير على غير يوسف عليه السلام، لأن يمكن أن يُتوهّم أن المقصود الملِك فحتى يُعلم أن التمكين ليوسف عليه السلام أُظهر اسمه وإلا في العادة إذا سبق ذكر اسم من الأسماء وتم التحدث عنه العادة أن يُختصر ذلك ويُعبّر عنه بالضمير هذا الأصل لكن إذا ذكر الاسم مرة أخرى ويُسمى الإظهار في موقع الإضمار فله أسباب من ضمنها أن يتوجه الحُكم لذلك الاسم المذكور حتى لا يُتوهم نسبته إلى غيره.
{ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْض } والمقصود بالأرض -والله أعلم- هي الأرض التي يملكها الملك { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } سبحان الله يوسف عليه السلام الذي ضاقت عليه الأرض يوماً ولم يحوِه منها إلا بئر كم سيكون حجمه وكم ستكون مساحته، الآن يختار من هذه الأرض أي مكان يشاء أي مكان { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } أي موقع يريده يذهب إليه، من قبل كان محصوراً في بئر كم حجمه كم مساحته والآن { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } صحيح قد يطول الزمن قد يتأخر لكن اِعلم أن الله عز وجل لا يضيع عمل عامل.
{ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ } أي يختار المبوأ والمرجع والمآل، والتبوء بالعادة تذكر إذا أريد الدلالة على الإقامة والتملّك يتبوأ، وأيضاً فيها معنى الإختيار { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } حيث يختار.
{ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فهذا فضل الله سبحانه وتعالى يصيب به من يشاء يُعطيه من يشاء، كان يمكن أن يكون في هذا الموقع رجل آخر يتولاه و يُختار غير يوسف عليه السلام لكن الله سبحانه وتعالى يختار من يشاء، ولذلك لو أننا فكرنا قليلاً وعدنا هل المرحلة التي قبل أن تُعرض الرؤيا فيها على يوسف عليه السلام هل كان هناك ذكر لاختيار يوسف عليه السلام ليكون أحد الوزراء الموجودين عند هذا الملك ؟ أنا أجزم أنه لم يكن هناك أي ذكر ليوسف عليه السلام أصلاً، ولذلك يقول أحيان الواحد الوزراء وغير الوزراء والحاشية أنت لا تعرف الله سبحانه وتعالى قد يُظهِر شخصاً لا يعرفه حتى الملك مثل ما دخل يوسف عليه السلام ما يعرفه ولا يدري عنه من هو إنسان مرمي في السجن لا يعرف من هو ولكن في لحظات وربما في أيام يسيرة يتغير كل شيء ويقع الاختيار عليه ليكون هو في هذا المكان المهم أن يكون عندنا ثقة بربنا بعض الناس تهتز ثقته بربه عند المصائب والحُروب والمشاكل ويبدأ يقنط هذا خطأ.. خطأ، لازم نعرف أن الله أغيرُ منا على دينه وأن الله أرحم بعباده منا وإذا أراد النصر وجاء موعده جاء النصر لكن لا نستعجل، لو أراد الله أن ينصر أحداً لنصر نبيه صلى الله عليه وسلم من أول لحظة لماذا يُؤذى ويُخرج وتُكسر رُباعيته ويخرج من بيته وقومه لماذا ؟ هذا أمر أرداه الله سبحانه وتعالى فله الحكم سبحانه وتعالى وقال عن أصحابه : (ولكنكم قوم تستعجلون ) رُغم أنهم كانوا في العذاب والرسول صلى الله عليه وسلم موجود اصبروا ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) وغير ذلك هذه حقائق لازم تكون في النفوس حتى لما نرى المشاكل هذه يقوم الإنسان بعمله المطلوب منه ولا يقنط ولا يكون سبباً في قنوط الناس نشوف بعض العبارات وبعض العبارات تدل على القنوط وكأنه يقول ليش تأخر النصر ونحن ما عملنا، قم بما أنت تستطيعه ولكن أعلم الأمر في النهاية لله سبحانه وتعالى فهو يختار وهو الحُكم له سبحانه وتعالى هذا يوسف عليه السلام لم يكن معروفاً وفي فترة وجيزة أصبح المختار الأول للمنصب الخطير هذا وهو تقسيم الأرزاق وهو وزارات المالية الآن.
ثم قال سبحانه وتعالى : { وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فيها إشارة إلى أن الإحسان أحد الأسباب التي تقود الإنسان إلى معالي الأمور ورفيعها الإحسان إلى الناس ، الإحسان إلى الناس -يا اخواني الكرام- بشكل عام المحسنين، لكن هنا نحن نلحظ من خلال سيرة يوسف عليه السلام السابقة وحتى اللاحقة أن يوسف عليه السلام من المحسنين ولذلك حتى الذين دخلوا معه السجن قالوا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } لا شك أنهم ما أطلقوا هذا الحكم من فراغ ربما يكون الإحسان في منطِقه وقد يكون أخلاقه وقد يكون في بشاشة وجهه وقد يكون في سُلوكه -الله أعلم- لكن صور الإحسان كثيرة والإحسان عاقبته عظيمة من أهم مافيه أن الله معك، الله مع المحسنين حتى لما ذكر الله صفات الناس ودرجاتهم قال : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس } فلما جاء إلى مرتبة الإحسان ميّزهم قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وإلا السياق أن يكون والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والمحسنين سياق واحد لكن لأن الإحسان درجة عالية قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وأنتم تدركون -يا اخواني الكرام- في المعتقد أعلى درجات المعتقد الإحسان بعد ذلك الدائرة التي بعد الإيمان بعد ذلك الإسلام هذه دوائر أوسع دائرة ثم بعد ذلك هناك خصوصية الإيمان، هناك خصوصية الإحسان وكذلك مع الناس فأعلى العلاقات مع الله الإحسان وأعلى العلاقات مع الخلق الإحسان.
إذاً هنا قال : { وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فيها لمحة أنه كان مُحسناً لذلك لا نُضيع أجره، فجرب هذا، جرب أن تُحسن إلى الناس ستجد أن الله تعالى عوّضك في مكان آخر ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) بعض الناس قد يكون عنده ضائقة أو قد يكون محتاج إلى شيء فلا يفكر أبداً أنه هو ينفع الناس، غير الطريقة أنت ابحث عن نفع الناس حتى لو ما انتفعت أنت وستجد أن الله ييسر لك أمراً ما كان يخطر لك على بال، أنتم الآن تسمعون القصة هل كان يخطر على يوسف عليه السلام وهو في السجن أن يكون بهذه المكانة والمنزلة أبداً، ما يدري عن شيء لكن الله عز وجل هيأ له هذه الاسباب لأنه كان مُحسناً في كل أحواله عليه الصلاة والسلام وأنا لا أريد أن أذكر صور الإحسان كلها أريد أن نحاول ونحن نقرأ سورة يوسف مرة ثانية أن نبحث عن صور الإحسان فيه تذكروها في قصر العزيز، تذكروها يوم اتهمته امرأة العزيز كيف كان خلقه معها، كيف كان سلوكه معها، ماذا كان يقول، تذكروها يوم طلب من النسوة أن يتحدثن عن قصة تقطيع الأيدي ولماذا لم يذكر امرأة العزيز بأي لفظ ولم يتحدث عنها بأي كلمة، لماذا الآن لما وصل المرحلة هذه وأصبح العزيز وأصبح بيده الأمر والنهي لا نجد أي حديث أنه سجنهم أو آذاهم أو فعل بهم، هذ كله إحسان يا جماعة كله إحسان، وكذلك الأنبياء جميعاً تجد الإحسان ظاهر في كل تصرفاتهم ونحن أحياناً ننسى موضوع الإحسان هذا، ما يخطر لنا على بال هذا آذانا هذا فعل فينا بالعكس جُلّ الإحسان تجده للذين آذوه ماهو للذين أعطوه، ولذلك الله عز وجل ذكرها في قضية أن الإنسان يُغضبك فتكتم الغيظ فتعفو وبعد ذلك تُحسِن، درجات كل وحدة أعلى وأفضل من الثانية
{ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ } وهذا دليل على -لما ذكر الآخرة- دليل على أن الأجر الأول أجر دنيوي وهو المكانة التي تسنمها والمنصب الذي أُوكِل إليه { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ } يعني أفضل وأحسن { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْر } أي من هذا الدنيوي وهذا دليل على أن الله عز وجل يُعطي المؤمن في الدنيا وفي الآخرة وأما الكافر إذا أحسن فإن الله يُقدِّم له ويُعجِّل له ما أحسن في الدنيا، الآن الكفار بعضهم يُقيموا أماكن خاصة بالأيتام ويقيم جمعيات هائلة لمعالجة المرضى هذا خير هذا عمل خير لا أحد يقول لا فيُعجِّل الله لهم في الحياة الدنيا ما لهم شيء في الآخرة لكن الله عادل سبحانه وتعالى، أما المؤمن فيعجل الله له في الدنيا ويعطيه أيضاً في الأخرى فمهما أُعطي فالدنيا سيكون وضعه في الأخرى أفضل وأحسن.
{ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون } { آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون } ما قال الله سبحانه وتعالى آمنوا واتقوا قال { آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون } فـ (آمنوا) جاءت بالفعل الماضي ذلك لأن الإيمان يأتي دفعة واحدة لا يأتي مُقسّماً الإنسان يؤمن بكلمة، وقد يخرج بكلمة أو بفعل فهو دفعة واحدة، أما التقوى فجاءت بالفعل المضارع لأن التقوى لها أشياء تُوجِدها من أعمال وتصرفات وسلوكيات وقد تقِلّ هذه الأشياء أو قد تختفي أحياناً فهي تختلف عن الإيمان فالإيمان هو الأصل، نعم الإيمان يضعُف ويقوى لكن ذهابه ووجوده يكون دفعة واحدة ولذلك جاء التعبير عنه بالفعل آمنوا ما قال وكانوا يؤمنون بينما التقوى تختلف.
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهَِ } هذه العبارة الآن تدلنا على أن الأحداث انتقلت نقلة هائلة، متى قيل هذا الكلام ؟ قيل هذا الكلام عند تفسير الرؤيا أو قريب من أحداثها تولى يوسف عليه السلام مناصب هذه الوزارة ونحن نعلم في الرؤيا أن المراحل ثلاثة. المرحلة الأولى ستكون هناك سبع سنوات مُخصِبة فيها خير كثير وأمطار وزوع -خير كثير- ثم تأتي من بعد السنوات السبع الأولى سبع عجاف ما فيها مطر { ٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } ثم يأتي بعد هذه وهذه العام الذي يأتي فيه الخير والغيث فقوله تعالى : { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } عرفنا أن مجيئهم كان من أجل المِيرة مجيئهم كان من أجل الطعام وهذا لن يكون في السبع الأولى لأنهم ليسوا محتاجين إلى ذلك فهم جاؤا لما جاء الناس، متى بدأ الناس يأتون يطلبون الطعام ؟ بعد السبع الأولى ، إذاً الأحداث توقفت سبع سنوات الآن، سبع سنوات لا ندري ما الذي تم فيها في القصة لم يذكر فيها شيء قالوا : لأنه لا يتعلق بها أمر مُهم طيب، توقف الكلام أيضا عن مصير امرأة العزيز والعزيز نفسه أيضاً لأنه ليس هناك تعلّق كبير بالقصة ذُكِر من قصتهم ما يتعلق بيوسف عليه السلام وانتهى الأمر، إنما الهدف الأساس من القصة ما هو ؟ هو بيان علاقة يوسف عليه السلام بإخوته هذه هي القصة الرئيسة، هذا الحدث المُهم علاقة يوسف عليه السلام بإخوته ***
{ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } إذاً هو حدّثهم ما الذي أعرفه أو كيف يدخل معهم هكذا يقول لهم : هاتوا لي أخ من أبيكم، أكيد أنهم سيسألوه ما عرّفك، من عرّفك أن لنا أخ، قالوا إذاً هذا لابد أن يكون سبقه شيء، تحدث معهم في شيء ويقال أنه قال لهم و قد رأى لهم شارة حسنة وأجسام عظيمه -بنيتهم طيبة- وهم عدد عشرة عددهم كان عشرة بقي بنيامين ويوسف عليه السلام وهم عشرة فهؤلاء بهذا العدد يعني يُتهمون أحياناً بشيء فاستثمر هذه القضية وقال لهم : لعلكم جتئم لهدف أو لعلكم عيون وجواسيس وأراد من ذلك أن يستنطقهم ليعبِّروا عن مكانهم ومن أين جاؤا، هو عرفهم لكن يريد أن يستنطقهم بحيث يبني على كلامهم شيء لا يشكُّون بسببه فيما يسألون عنه، لما تجي إنسان وتسأل عن خصوصيات في حياته ولا يعرِفك ولا تعرفه أول سؤال يسألك وما أدراك ؟ من قال لك لكنه لما تسأله وهو يسولف معك يقول أنا لي أخ وفي المكان الفلاني ونسكن في الموقع الفلاني تقدر تسأل أسئلة أخرى مبنية على هذا الكلام، فقالوا له: لا أبداً نحن لم نأتي عيونا ولا جواسيس نحن أبناء نبي ، من هو ؟ فلان ونسكن في الموقع الفلاني وضاقت بنا الحيل والسبل فجئنا ، بنى على هذا وكم عددكم؟ لأن العدد مشروع عنه السؤال والسبب أن الميرة على عدد الناس، يعني الحمل الذي يحمل به البعير على عدد الناس فإن كانوا عشرة كان عشرة فلما يسألهم عن العدد أمر عادي فقالوا نحن عددنا كذا وبقي واحد منا ، قال : وأين الحادي عشر ؟ قالوا : أحدنا مات وهلك، والآخر عند أبينا يتسلى به عن الهالك -يعني عن يوسف عليه السلام- هم لا يدرون فلما عرف ذلك بنى عليه كلاماً ولكنه بناه بطريقة ذكية فقال لهم : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } بعد هذه المحاورة وبعد هذا الكلام
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } أنا أريد تأتوني بواحد هذا الواحد هذه صفته أخ لكم لكن من أبيكم هذا الوصف لا ينطبق إلا على بنيامين فقط، هذا مفصّل هذا الوصف لا ينطبق إلا على واحد وهو أخوه الشقيق بنيامين لأنه لو قال ائتوني بأخ لكم كان أي واحد من هؤلاء العشرة يصلح أن يؤتى به وهنا يقع في حرج لكن هو حدد لهم تحديد دقيق وقال : { ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } وهم لم يذكروا له في تفاصيل الكلام أن هذا من أبينا أو ليس من أبينا ما ذكروا لكن هو يعرف هذا.
طيب لماذا قال لهم : { بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } ولم يقل بأخيكم من أبيكم ؟
هناك فرق بين العبارتين ما قال بأخيكم من أبيكم قال : { بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } لأنه لو قال بأخيكم من أبيكم لأشعر ذلك بأنه عالم بأن لهم أخ من أبيهم أما عندما يقول بأخ لكم يعني أي أخ يمكن لكم ثلاثة أربعة من أبيكم، هو لا يعرفون عنه شيء فلما يقول بأخ لكم من أبيكم يمكن عندهم أربعة أخوان من أبيهم لكن هو يعرف أنه مافي إلا واحد لكن العبارة التي تلقى له لا تشعر أنه يعرف فقالوا : هذا تظاهر بالتغافل وعدم المعرفة يعني هو تظاهر أمامهم من خلال عبارته أنه لا يعرف كم عدد الأخوة من الأب وكم عدد الأخوة من الأم وكم الأشقاء لا يعرف لكن يقول أنا شرطي أن تأتوني بأخ لكم من أبيكم أي أخ لكن يكون من أبيكم لكنه لو قال بأخيكم من أبيكم معناه أن ما معكم إلا واحد وأبغاه يجي، وهذا دليل الى أنه يعرف هذه خصوصية في العائلة لا أحد يعرفها.
إذاً عرفنا الآن الفرق بين الإضافة المباشرة وبين هذا الأسلوب الآخر بأخ لكم بحيث يكون الوصف جار ومجرور { بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} وعلّل ذلك -طبعا هذا الوصف قلنا لا ينطبق إلا واحد- وحدد من هو الواحد ثم علّل لهم ذلك قال : { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ } قالوا : لكم ولغيركم يعني وفاء الكيل ليس لكم، لكم ولغيركم.
{ أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } قالوا : ربما هذه تكون لهم هم بالذات لأنه أكرمهم وأنزلهم مكاناً طيباً واحتفى بهم فقال : ألا ترون أني أفعل ذلك { وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } خير المُكرِمين إذاً أريد منكم أن تؤتون بأخ لكم من أبيكم. هذا يسمى ترغيب وقد لا يكفي فاستخدم أسلوباً اخر معهم ثم قال : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِه ِ} إذا كان الخيار -هذا ياجماعه أحياناً من أساليب الإقناع وأساليب استدراج الإنسان إلي قرار محدد- إذا سألت إنسان عن شيء رأي وخفت أنه يقول لك رأي مخالف لا تجعل له مجالاً اطرح عليه خياراً آخر، وقد فعلت ذلك امرأة العزيز لما خرجت هي ويوسف عليه السلام عند الباب ماذا قالت له ؟ { قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } ؟ هذا سؤال بس سؤال تسأله يعني تطلب رأيه لكنها خافت أن يقول شيئاً يضرها فأجابت مباشرة { إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فوضعت أمامه خيارين، دائماً لما تضع خيارين أمام الإنسان أو ثلاثة أنت تحكم المُخاطَب الذي أمامك أن لا يخرج عنهم هذا طبعاً فلسفة يستخدمها المُدراء الكبار مع من حولهم فيستخدمون هذا الأسلوب والله عندنا الثلاثة الخيارات هذه فيختارون واحد وهو أي خيار من الثلاثة بالنسبة له نافع.
إذاً قلنا في قوله تعالى :{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُم ْ} اذاً هو قد عرض عليهم أن يأتوا باخ لهم من أبيهم بقصد أن يُقابل أخاه الشقيق بنيامين وهذا هو العرض الأول ومداره التكريم { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } فبعض الناس يؤثر فيه فعل الخير وفعل المعروف ففي مقابل هذا يأتون بأخيهم، ولكن أحياناً بعض الناس لا يؤثر فيها هذا فقبل أن يجيبوا جوابهم أو يُبدوا اختيارهم أو يُظهِروا اعتراضهم ذكر لهم شيئا آخر مبني على الترهيب ومنوط بالقضية الأساسية وهي الطعام والمِيرة فإن لم يكن ذلك منهم كان ذلك من أهلهم الذين وراءهم وهو يعلم أن الخوف من أبيه ألاّ يسمح له بذلك لكن إذا تعلق الأمر بالطعام ومصلحة الناس فإنه سيجيب إلى ذلك ولذلك قال : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ }هذا الخيار الثاني : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } اختلف الوضع، كان أول { أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } لكن إذا لم تأتوا بهذا الشرط الذي أنا شرطته { فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } حتى لا تدخلوا المدينة ولا تقابلوني هذا أمر صعب معناه أنهم سيُحرمون من المِيرة وهذا الطعام الذي معهم كم سيكفيهم ؟ سيكفيهم فترة وجيزة من الزمن وبعد ذلك يحتاجون غيرها، إذاً الآن هو ضمن الطريقة التي سيأتي بها أخوه ماذا قالوا ؟ لاحظ الجواب الآن قالوا جوابا لا موافقة تامة ولا رفضاً كاملاً وهذا يدل على أنه وصل معهم الى حل فقالوا : { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} المراودة تعني المحاولة المرة بعد المرة مأخوذة من رودان الإبل للماء -الذهاب والإياب- مع وجود صعوبة وهي التي وردت أيضاً { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } فالشيء الذي يأتي بصعوبة وبتكرار دائم يُعبّر عنه بهذا التعبير قالوا : { سَنُرَاوِدُ } يعني سنعمل على ذلك { عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } قولهم : { سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاه ُ} دليل على صعوبة المهمة وقد أظهروا ذلك ليوسف عليه السلام يعني الأمر ليس سهلاً ولكنهم في الجملة الثانية أكدوا له إنهم سيفعلون ذلك { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } فأكدوها بـ [إنَّ- واللام وإسمية الجملة ]{ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } يعني سنفعل ذلك لكن نحن ندرك صعوبة هذا الأمر.
لما أخذ منهم هذا الوعد وهذا القبول المبدئي قال لفتيانه وهم لا يسمعون : { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } يوسف عليه السلام قال لفتيانه -سبحان الله يوسف عليه السلام الآن أصبح له فتيان يأمرهم وينهاهم وفي يوم من الأيام كان هو فتى يُؤمر ويُنهى كان يوم من الأيام فتى صغير ليس له مُعين ولا مُعيل والآن في هذا المقام عنده ناس يأمرهم وينهاهم- { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ } إذاً أمر من عنده ممن يعمل في هذه المهنة افعلوا كذا وافعلوا كذا ومن ضمن ما أمرهم به { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ } والمقصود ببضاعتهم ما يأتون به ليُعطَوا في مقابله الطعام فإن من التنظيم الذي نظّمه يوسف عليه السلام أن يأتي من يريد الطعام بشيء في مُقابله فلا يأخذه هكذا بدون مقابل يأخذه بمقابل ولو كان يسيراً المهم مقابل، وهذا المقابل قد يكون شيئا من المصنوعات مثل أن يُصنع شيء من الصوف أو من الجلود أو من الشجر المُهم يكون فيه شيء يُعطى ويُعطى مقابله وهذا أيضاً من تدريب الأمة على عدم الاتكالية حتى لو كنت تريد تساعد يكون في مقابل المساعدة شيء من الإنجاز والعمل هذا أفضل ممن يُعوَّد الناس على الكسل وعدم العمل، فكان الناس يأتون بأشياء معهم وفي مقابلها يأخذون طعاماً مقايضة، أنت تعرف في البادية ممكن الإنسان أن يأتي بحطب، يمكن يأتي بمصنوعات يمكن يصنعها من الأشجار، يمكن من الصوف، من الجلود، فيستطيع أنه يعمل شيء في مقابله يأخذ طعاماً من الحبوب وغيرها .
قال : { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } هذا دليل على أنهم دفعوا بضاعتهم أي الشيء الذي اشتروا به وأخذوها الفتيان معاهم بعد ذلك قال رجعوها لهم وهم لا يعلمون.
{ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِم } الرحل : هو ما يُوضع على البعير وتُوضع فيه الأطعمة وغير ذلك، أي ما يُحمل على البعير يُسمى رحل فقال : رجعوها وضعوها فيه طبعاً الأصل أن الطعام الذي طلبوه وُضِع أولاً وبعد ذلك هذه الأشياء الذي أتوا بها وضعت فوق بحيث لما يعودوا ويفتحوا أول ما يجدوا بضاعتهم قبل ما يجدوا الأقوات وهذا الذي تكشف عنه الآيات بعد قليل.
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ } إذا رجعوا إلى أهلهم،عادوا إلى أهلهم لعلهم يعرفونها لماذا هو يريد أن يعرفوها ؟ ليُدركوا أنها ليست بالخطأ وُضِعت هنا فإنها لو وُضع لهم شيئاً آخر غير الذي أتوا به لربما وقع في أذهانهم أن هذا ليس لهم وهذا دليل على أنه عليه الصلاة والسلام يُعوِّل على أخلاقهم وهم وإن أخطؤا في حق يوسف في قضية الأخوّة فهم أولاد نبي وقد رُبوا على كثير من الأخلاق فهم لا يأخذون مال غيرهم ولا حق غيرهم فعوّل على هذه الأخلاق فيهم ولذلك قال : { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أغراضهم نفسها أعيدوها لهم فإنهم يعرفونها حتى قال بعضهم : وإن كانت نقوداً سيعرفون أيضاً نقودهم كيف يعرفون النقود ؟ قالوا : يعرفونها إما من الصُرر التي هم فيها أو من الأكياس التي أتوا بها إذا كانت نقوداً، أما إذا كانت بالشكل الذي قلناه قبل قليل فإنهم يعرفون ماذا أتوا به { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وهذا هو المهم فإنهم إذا وصلوا إلى هناك وعرفوا أن هذه الأموال أموالهم وهذه البضاعة بضاعتهم وأنها وُضعت قصداً لهم هنا ولم تكن عن طريق الخطأ هذا سبب أن يعودوا مرة أخرى، لماذا يا اخواني الكرام سبب أن يعودوا مرة أخرى ؟ لماذا لما يجدوا بضاعتهم هذا يكون سبب في أن يعودوا مرة أخرى ؟ لأن عندهم الآن فرصة ثانية عندهم بضاعة هذا كل الذي عندهم أتوا به والآن الحمد لله موجودة هذه نرجع مرة ثانية في مقابلها طعام فهذا سبب ثالث على السببين السابقين ما هو السبب الأول إلذي يجعلهم يأتوا مرة ثانية ومعهم اخوهم ؟
تكريم يوسف عليه السلام لهم وإيفاء الكيل.
السبب الثاني : أنه سيُمنع الكيل منهم إذا لم يأتوا به.
السبب الثالث : الآن أن عندهم شيء لأنه لو لم يعطهم هذا المال أو هذه البضاعة لم يكن هناك سبب أن يأتوا فقد يقولون نحن ما عندنا شيء صحيح سنجلُب معنا بنيامين لكن ما معنا بضاعة.
والأمر الرابع : أنه يريدهم أن يعودوا في أقرب وقت ممكن لا أن ينتظروا حتى يجمعوا بضاعة جديدة فيعودوا فهو يرديهم أن يعودوا في أقرب وقت ومعهم أخوه بنيامين الذي هو شقيقه.
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فلما رجعوا -القصة والوقت والرجوع والعودة في الطريق هذه ليس لها قيمة لذلك تُحذف- { فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ } وصلوا إلى أبيهم ولم يقل سبحانه وتعالى فرجعوا لأبيهم لأن المقصود هنا الغاية المقصود هنا الوصول وليس التعليل لأجله فالمقصود أنهم وصلوا الموقع "إلى" لانتهاء الغاية.
فوصلوا إلى أبيهم { قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } واضح أنهم لما وصلوا إلى أبيهم لم يفتحوا المتاع وإنما اهتموا بالقضية الأساسية والخطيرة التي أكيد أنها أشغلتهم طوال الطريق كيف نقنع أبانا ؟ كيف سنرجع مرة ثانية ؟ نحن قد مُنعنا من الكيل هذه مصيبة هذه كارثة، طبعاً هذا قوت الناس يعني نحن نتحدث الآن عن حياة الناس أمر مُشغِل بالنسبة لهم فأول ما وصلوا مباشرة تكلّموا مع والدهم في هذا الموضوع الخطير، هذه طبيعة الإنسان أن أول ما يتكلّم به هو أكثر شيء يُهمّه فكان أهم شي ليس هو الطعام الذي جلبوه أهم شيء أنهم يطلعُوه على المشكلة الجديدة التي حصلت { يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } من الذي منعه ؟ لا يُهِم لأن يوسف عليه السلام غير معروف الآن وإلا لفُسِّر وقيل "ولما منع يوسف عليه السلام " لكن هنا المانع غير معروف وليس هناك فائدة في ذِكره ولا تعلّق للحكم به المهم أنه حصل الفعل، وأيضاً قد لا يكون من المُناسب أن يُنسب له صلى الله عليه وسلم مثل هذا.
{ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } العبارة لا تدل على أنهم قالوا، يعني ليس فيها شيء يدل على ما قاله يوسف عليه السلام بالنصّ يعني كان متوقع ان يقولوا { يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } حتى تُرسل معنا فقد اشترط علينا أن تُرسل معنا أخاً من أبينا، لكن هذا يفهم من فحوى الكلام فإنهم قالوا : قد مُنع منا الكيل، كيف منع منكم الكيل، ماذا قيل لكم، ماذا قلتم، وصلوا إلى شيء من التفاهم ثم قال الحل، ما الحل ؟ قال: الحل أرسل معنا أخانا هذا هو الحل، بعد هذا الحوار، بعد هذا الكلام { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} لماذا هنا لم يُحددوا من هو الأخ ؟ ولماذا لم يُعرِّفوه باسمه حتى يكون أكثر تحديداً قالوا : أخانا؟
لم يبقَ في التحديد إلا هو، هم يتحدثون لأنهم كانوا في المِيرة وفي جمع الطعام { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا } لم يُرسَل، لا يوجد أحد لم يُتَّصف بصفة الإرسال الآن والذهاب إلى المدينة إلا هو ما بقى أحد، هم أُرسِلوا إلى المدينة لكن الوحيد الذي لم يخرج الآن والذي الكلام عنه هو بنيامين { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا } أي بنيامين { نَكْتَلْ } أي حتى نكتال ولذلك جاء الفعل مجزوماً في جواب الطلب فدل أن الكيل مُشتَرط فيه إرسال الأخ مافي مجال غير كذا ولذلك قالوا : إذا أردت ربط شيء بشيء بحيث يكون هذا مترتب على هذا تستخدم أدوات الشرط كما في قوله تعالى : { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } هذا مترتب على هذا { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } ما ترسله مافي كيل، مافي مجال، لايوجد حل ثاني. ثم قالوا له شيئا آخر : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } هذا الذي نقدر عليه الآن صحيح نعرف إنك تخاف عليه ولكن المسألة مرتبطة بالطعام وبالأكل وبالمعيشة مافي سبب ولا طريقة للكيل إلا إنك ترسله معنا والشيء الذي تخاف منه ونحن نعرفه وهو أنك تخاف عليه من الضياع ومن الفقدان { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }.
طبعاً هذه العبارة { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } قد قيلت سابقاً أم لا ؟ قيلت عن يوسف عليه السلام نصاً { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } والمرة الأولى قبلها منهم وحصل ما حصل المرة الثانية لاحظوا { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فيها توكيد بـ"إن" والتوكيد باللام وتقديم الجار والمجرور قبل { لَحَافِظُونَ } ما قال لحافظون له قال له خصوصاً و"اللام" يُسموها اللام المُزَحلقة وهي المؤكدة تدخل على الخبر { لَحَافِظُونَ }.
كل هذه مؤكدات يحاولون أن يؤكدوا لأبيهم بكل ما يستطيعون -لكن دائماً -يا اخواني الكرام- الإنسان لما يَعِدْ أول مرة وعد ويخطئ فيه ولا يصدُق فيه يصعُب على الناس أن يصدقوه بعد ذلك- ماذا قال أبوهم في مثل هذه الحالة ؟ لاحظوا معي يا اخواني الكرام هنا يمكن لو أي أب الآن يتخيل نفسه في هذا الموقف وهذا المقام أمر ليس بسيط في شيء اسمه مصلحة ناس من الطعام والشراب لا تتعلق بواحد بل تتعلق بأنفُس وفيه خطر كبير على الابن الثاني أن يذهب ولا يعود { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } "هل" هنا فيها نوع من التلطف وصحيح إنها سؤال للإنكار لكن هنا مافي مجال للتعنيف الشديد سِنهُ قد كبرت إخوته قد تغيروا حاجة الناس الآن تتطلب هذا { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } على الأقل في هذه العبارة فيها تذكير لهم بأنني قد كُويت من قبل بنار فقدان أخيه فكيف الحال معه هو { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } بمعنى إنني إذا وكلت حفظه إليكم فقد جربت ذلك من قبل وضاع ولذلك قال بعدها مباشرة : { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا } لن تحفظوه أنتم ولا وعودكم ولا أعمالكم الذي سيحفظه هو الله قال : { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا } وفي رواية أخرى { فَاللَّهُ خَيْرٌ حِفْظَاً }.
{ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا } ماذا نفهم من هذا ؟
بعضنا الآن ولده يريد أن يسافر إلى مكان ما، هو كأب يتخيل أن هناك مخاطر ومشاكل ومصائب، صحيح، لكن لو أن كل إنسان بنى قراراته على المخاوف ما سافر أحد ولا تعلّم أحد ولا عمل أحد، ابن لك كبِر في السن ويعني ممكن أن يقود السيارة -ليس صغيراً- ومعه رخصة تجد الأب ما يزال خائف يقول : أخاف أعطيه سيارة يصير له حادث، هذا الأب طبيعي لكن لو بنى قراراته دائماً على هذا ما تمكن ولده من قيادة السيارة ولا غيره، ولا أنت حتى أنت يا أب كنت يوماً من الأيام بهذه الصورة، لكن المطلوب يا اخواني الكرام أن الإنسان يعمل بالأسباب ثم بعد ذلك يُقرر القرار الصحيح ولو كان بخلاف مخاوفه ويكِل الأمر إلى الله في قضية الحفظ
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } يعني من قضاء الله، فتجد الرضيع الآن تنقلب السيارة ويموت كل من فيها وهو رضيع تجده بعضهم والله حتى ما يبكي تجده خارج السيارة ويضحك يمكن وهو طفل رضيع، من اللي حفظه من السيارة ومن الحديد ومن الزجاج ومن الانقلاب والارتطامات ؟ الله سبحانه وتعالى ، إذاً لا يعني يا اخواني الكرام خوفنا على أبناءنا والا خوفنا من قرارات قادمة أن هذا صحيح إني دائماً أمنع أمنع هذا غير صحيح إنما أبحث عن الحق وأين هو والمُناسب أين هو والخطر حاصل حاصل هنا وهنا ثم أكِل الحفظ إلى الله سبحانه وتعالى وهذا الذي فعله { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } هنا يا اخواني الكرام وَكِل الحفظ إلى الله سبحانه وتعالى وذكّرهم وذكّر نفسه برحمة الله سبحانه وتعالى وضعفِه هو وأن رحمة الله سبحانه وتعالى فوق هذا كله وواضح يا اخواني الكرام من كلامه أنه نوعاً ما استجاب لهم تفصيل تلك الإستجابة وماذا طلب منهم هو موضوع حديثنا في اللقاء القادم إن شاء الله هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق