د. محمد بن عبد الله الربيعة
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) )
هذه الآيات ، انظروا إلى تتابع هذه الآيات في سياقها وغرضها وموضوعها ، الله ـ عز وجل ـ هنا بعد أن حول المسلمين إلى القبلة وأكدها عليهم ورسخ في قلوبهم أنها الحق ، هذا دافع للمؤمنين لأن يستمسكوا بهذا الحق وألا يفرطوا فيه ، وهو دافع أيضا للكافرين - المنافقين واليهود - إلى أن يشنوا هجومهم بقدر استطاعتهم على المسلمين يوم أن أكرمهم الله حسدًا وبغيًا لاشك كما هي طبيعة البشر، يوم أن رأى اليهود أن أمة الإسلام شُرِّفت لا شك أن ذلك سيوجههم إلى النيل منها ومحاولة مواجهتها بكل ما أؤتوه من قوة ، فالله بعد أن رسّخ في قلوب المؤمنين هنا أمرهم قال (اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) فإنكم ستواجهون حربا بعد اليوم ، انتبهوا لأنكم أنتم الآن واجهتم الناس وخالفتموهم فلا شك أن هذا داعي إلى المواجهة فهنا من إعداد الله وتهيئة الله وتربية الله للأمة ، أن الله تعالى ينبهها بأن عدوًا أمامكم يتربص بكم ، فهل هناك رعاية أعظم من هذه الرعاية؟! لا والله ، هذه الرعاية الربانية التي أشرنا إليها أكثر من مرة في هذه السورة .
قال الله (إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وهذا يفيد أن الله مع هذه الأمة ما دامت مستمسكة بدين الله سبحانه .
وخصّ الصبر والصلاة هنا: لأن الصبر في مواجهة المكاره والمشاق والصلاة هي في التحلية هي تخلية وتحلية ، تحلية بالإيمان والقوة الإيمانية والصلة بالله ، فانظروا إلى السر في الجمع بينهما ، كأن الصبر فيه حصول ما لا ينبغي، تأثيره في حصول ما لا ينبغي والصلاة في حصول ما ينبغي.
ثم قال الله عز وجل (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) ما مناسبتها؟
مناسبتها أن هذه إشارة إلى وقعة بدر انظروا بعد أن أمرهم الله بالصبر هاهو العدو قادم، من هو؟ هم المشركون، فقال الله عز وجل هنا (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ) ويؤكد هذا سبب النزول وهو ما ذكره الواحدي قال: نزلت في قتلى بدر من المسلمين كانوا بضعة رجل من المسلمين وذلك أن الناس كانوا يقولون للرجل يُقتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ) أي لا تقولوا من قُتل في المعركة قد ذهبت حياته ونعيمه وسبق أجله (بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) وفي سورة آل عمران ( أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:١٦٩] فلاحظوا أنه قال (أموات) ولم يقل (ماتوا) ما الفرق؟
هنا تعبير دقيق، الفرق: أموات: يعني مات ذكرهم وحظهم من الدنيا، وأما ماتوا: هم ماتوا بأشخاصهم. فدلّ قوله (أموات) على المعنيين جميعا موتهم وموت ذكرهم وأنهم انقطعوا عن النعيم في الدنيا، فقال الله ( بَلْ أَحْيَاءٌ) هنا سؤال: ما وجه تخصيص الذين قُتلوا في سبيل الله مع أن كل من مات فهو حيّ في قبره، فهو حي في حياة البرزخ، فما الفرق بينهم؟
الفرق بين من قُتل في سبيل الله ومن لم يُقتل في سبيل الله تعالى هو : الذين يُقتلون في سبيل الله لهم حياة خاصة ورزق خاص في الجنة فخصّهم الله بالحياة يعني أنهم في قبورهم أحياء ويُرزقون من الجنة، فهذا دليل على فضل الشهداء إذا ماتوا في سبيل الله تعالى ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أرواح الشهداء في جوف طير خُضر لها قناديل معلّقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديلها) هذا الفرق بين حياة الشهداء في قبورهم وبين حياة غيرهم أن هؤلاء يُرزقون من الجنة وأن أرواحهم في الجنة.
/ ثم قال الله عز وجل (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
ما مناسبة هذه الآية؟
مناسبتها إلى أن الله تعالى يقول يا أمة الإسلام يوم أن أكرمكم الله بالدين فلا تحسبوه حياة رفاهية وراحة لابد من المشقة فيه ولابد من الصعوبة ولابد من أن يواجهكم أعداء الله وستجدون في ذلك قتالا وفقرا وجوعا ونقصا لأنكم ستحملون هذا الدِّين ربما يُشغلكم عن أمر دنياكم. الله تعالى قال (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ) لاحظ كلمة (شيء) تفيد أن هذا الذي سيُصيبكم ليس بشيء أو هو شيء يسير في مقابل ما أنتم فيه من نعمة هذا الدين. أرأيتم أن الدنيا كلها ونعيمها لا تساوي شيء مقابل هذا الدين العظيم الذي نحن فيه ونحن عليه، مهما كانوا عليه من جوع وخوف ونقص فإن حمله لهذا الدِّين هو والله الخير كله. قال الله عزوجل ذلك تهيئة لهم حتى تتهيأ نفوسهم لما سيُلاقون بسبب حملهم لهذا الدين من مواجهات وتضييق وقتال وفقر وغير ذلك.
هنا سؤال: لماذا خصّ هذه الأمور الأربعة [الخوف والجوع ونقص الأموال والأولاد]؟
هذه كلها مُتعلِّقة بالجهاد وتبليغ الدين، لاحظوا: الخوف متعلِّق بخوف العدو وما يقع بعده. يعني لاشك أن الذي يذهب للجهاد يكون في قلبه خوف -وهذا خوف طبعي بشري لا تثريب فيه-، ثم الجوع لأن الخروج للجهاد والهجرة سبب لترك الأموال والفقر مسبب للجوع كما هو حال كثير من المهاجرين الذين تركوا أموالهم، أما نقص الأموال فلما ينشأ من قلة العناية بها بسبب الخروج للغزو، إذا خرجوا للغزو والقتال تركوا مزارعهم وثمارهم وأموالهم فضعُف إنتاجها والعناية بها فكان ذلك ضعفا فالله عزوجل يقول لنبلونكم بشيء من ذلك فاصبروا واحتسبوا، (وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ) بسبب القتال (وَالثَّمَرَاتِ) بسبب تركهم لرعايتها والعناية بها ومعاهدتها.
هل وقعت هذه الأمور على الصحابة؟
نعم، يقول هنا الرازي كلاما يقول: " قال القفّال: أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدين فقد كان الخوف في وقعة الأحزاب، وأما الجوع فقد أصابهم في أول مُهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقلة أموالهم حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان يشدّ الحجر على بطنه ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج التقى مع أبي بكر قال: ما أخرجك؟ قال: الجوع، قال أخرجني ما أخرجك. وأما نقص الأموال والأنفس قد يحصل ذلك عند محاربة العدو بأن يُنفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يُقتل، وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للانشغال بجهاد الأعداء.
/ ثم قال الله عزوجل (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) انظر إلى أن الله عزوجل يُهيؤهم لذلك ويبشرهم بمقابل ما يصيبهم من البلاء قال (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) .
/ثم ذكر صفات الصابرين الخُلّص (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ما مناسبة هذه الجملة للصبر؟
مناسبتها: أن قوله "إنا لله وإنا إليه راجعون" متضمنة إقرارهم بالعبودية وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى والرضا بقضائه وقدره فيما يبتليهم به فهم قالوا نحن لله فله سبحانه وتعالى أن يدبرنا على ما يريد. هذا هو الإيمان إقرار بعبودية الله وتفويض الأمور إليه (إِنَّا لِلّهِ) نحن لله عزوجل فما يكتبه لنا فهو خير لنا لأن الله عزوجل لا يريد بنا إلا الخير.
/ ثم قوله (وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) متضمنة كمال اليقين والجزاء عنده، يعني نحن لله تعالى وإنا إليه راجعون فيُجازينا على هذه المصائب وهذا الابتلاء يقينا بهذا الجزاء. فانظروا كيف اجتمعت في هذه الجملة كمال الصبر أنهم لله يصرفهم بما يشاء وهذا استسلام لله وتفويض الأمر إليه، (وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) في إيمانهم ويقينهم بأن جزاءهم الأوفر والأوفى والأكمل عند ربهم يوم يلقونه سبحانه وتعالى يوم القيامة.
ولاحظوا هنا فائدة نفيسة في التعبير، فالتعبير القرآني له دلالة عظيمة وذلك من المنهجية التي يمكن لطالب العلم أن يتلقّاها أو يأخذها كمنهج للتفسير أنه يعتني بالتعبير -التعبير القرآني- لماذا قال الله كذا؟ وماذا نستفيد من التعبير بهذه الجملة -كما قلت لكم- (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فالتعبير بقوله (فلنولينك) لاشك أنه دالٌ على معنى زائد على (فلنوجهنّك) فيه ولاية وقوة و(ترضاها) فيه معنى الرضا وكمال القناعة بذلك فهنا نأخذ فائدة نفيسة معينة للإنسان على الصبر في أي مصيبة تُصيب الإنسان أن الله تعالى قال (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ) ما قال آمنوا، قال (قالوا) وهذا يُفيد أن الاعتقاد يقوى بالتصريح والقول، يعني قولك "إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على ما أصابنا" كلامك هذا يقوي قلبك بالإيمان، لاحظ التصريح بالشيء يقوي ولذلك إظهار الأمر وإعلانه يكون في القلب فيه إعزاز وثبات ورسوخ دائما الإنسان إذا أعلن شيء معناه أنه مُستقِر في قلبه وإذا أخفاه بلسانه معناه أنه عنده شك فيه فكونك تلفظ وتتلفظ بالإيمان والصبر ذلك دالٌ على مافي قلبك من اليقين الراسخ فالتصريح بالأمر -بالصبر- بهذه الكلمة يُقوي الاعتقاد.
/ قال الله عزوجل في جزائهم (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ) مِمن؟ (مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) لاحظوا أن الإشارة هنا للبعيد (أولئك) دلالة على ماذا؟ دلالة على بُعد منزلتهم هنا في الكمال مثلما قلنا في أول سورة البقرة (أولئك على هدى) فهم هنا حينما قالوا ذلك واعتقدوه وأيقنوا به فقد اعتلوا في إيمانهم وارتفعوا فهم في مرتبة عُليا (أولئك) .
ثم قال الله تعالى (عَلَيْهِمْ) ما قال (لهم) يعني متوجه الأمر لهم (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ) ولماذا عبّر بالصلوات هنا؟
للدلالة على معنيين: للدلالة على الثناء عليهم والمغفرة لهم، لاحظوا (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ) يعني ثناء من الله عزوجل لهم ومغفرة لهم، فما أعظم هذا التعبير القرآني الذي جمع هذين المعنيين.
وأيضا مالفائدة من جمع الصلوات دون إفرادها ما قال أولئك عليهم صلاة؟ تنبيها على كثرتها منه سبحانه وتعالى ليس صلاة واحدة وليس ثناء واحدا بل هو ثناء مُتكرر متعدد، وهذا الثناء يشمل في الدنيا توفيقا وإرشادا ومحبة منه سبحانه وتعالى لعبده وقذف في قلوب الناس لمحبته وتيسيرا لأموره، كل ذلك من الله وفي الآخرة ثوابا ومغفرة فما أعظم هذا التعبير القرآني العظيم، وأيضا التعبير بهذا اللفظ مبالغة في كمال الرضا منه سبحانه وتعالى لأنهم كمُل رضاهم بربهم قالوا (إِنَّا لِلّهِ) فكان جزاؤهم من الله كمال رضاه سبحانه وتعالى، فانظروا كان الجزاء هنا من جنس العمل، كذلك هذا الجزاء مقابل قولهم (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ،(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) مقابل (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) كيف ذلك؟ فإن قولهم (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) أو (إِنَّا لِلّهِ) يقابله (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ) رضا وثناء ومغفرة، وقولهم (وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) في الجزاء يوم القيامة يُقابله (وَرَحْمَةٌ) فالله تعالى يو القيامة يقابلهم بذلك برحمته سبحانه وتعالى ومغفرته فما أعظم هذا الجزاء. ولهذا قال عمر، انظر إلى تأمل عمر، عمر رضي الله عنه مِمن تدبر هذه الآية فقال: نِعم العدلان وهما (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ونِعمة العلاوة وهي قوله (وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) فالله تعالى زادهم جزاء .
/ ثم قال الله عزوجل (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)
ما علاقة هذه الآية بما قبلها؟
هذه الآية اختلف فيها المفسرون، أشكلت على بعض المفسرين لأن علاقتها بالصبر بعيدة لكن هي متعلّقة بآيات القبلة، يعني بعد أن تبّت الله آيات القِبلة ورسّخها في نفوسهم وقلوبهم توجّه إلى شأن ما تعلّق بها وهو الصفا والمروة الشعائر الباقية التي فيها خِلاف وإشكال فأراد الله تعالى أن يُبيّن حكمها وحكم السعي بينها، وإنما ورد فيها إشكال لأن الصفا والمروة كان فيهما صنمان فكان الأنصار لا يسعون بينهما لأن فيهما صنمان لقريش كانوا لا يريدون أن يُتابعوا قريشا على ذلك فلما جاء الإسلام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة -كما قالت عائشة- فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله الآية ولهذا قال (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ) وقال أنس رضي الله تعالى عنه لما سُئل عن الصفا والمروة قال كانتا من مشاعِر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما خشية أن يتبعوا المشركين فأنزل الله (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ) وليست من مشاعر الجاهلية فلهذا وقع الإشكال ولهذا قال الله عز وجل (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) الأصل في السياق الأصلي أن يقول فمن حجّ البيت أو اعتمر فليسعى بينهما لكن لما كان هناك حرج وخلاف وإشكال الله عزوجل هنا رفع الحرج فقال (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وفي هذه الآية فائدة مهمة وهي: أن الصفا والمروة لا يُشرع السعي بينهما إلا في نُسُك، من يأتي لنا بهذا من الآية؟ لا يُشرع التطوع بين الصفا والمروة إلا بنُسُك -بإحرام بعمرة أو حجّ- فما هو؟
قال الله (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) ولم يقل (إن الصفا والمروة من شعائر الله فاطّوفوا بهما) قال (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) وهذا يجهله بعض الناس خصوصا الذين يأتون من خارج المملكة ليس عندهم عِلم فتجدهم يطوفون ويسعون، السعي لا يُشرع إلا مع النّسُك بخلاف الطواف فهو مرتبط بالنُّسُك وغيره، وهذه فائدة نأخذها من هذه الآية.
/ ثم قال الله تعالى (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)
هنا تساؤل: ما معنى قوله (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً) ؟ تطوع يعني بالصفا والمروة؟ لا، تطوّع بالحجّ والعمرة لأن الله قال (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) فقال (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً) ما قال (ومن تطوّع خيرا بالطواف بهما) قال (خَيْراً) لاحظوا كلمة (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً) وهذا يدل على كل خير وأَخصُّه ما تعلّق بالحجّ والعمرة لأن السياق فيهما، أرأيتم الأصل هنا العموم لكن الأخصّ هو ما تعلّق بالحجّ والعمرة ولذلك الحجّ والعمرة يُشرع كثرة الخير، كثرة الطواف، كثرة الأعمال الصالحة، الذِكر، إقامة ذِكر الله عزوجل فهذا من كمال الحجّ والعمرة.
/ ثم قال الله عزوجل في آيات بعد ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ ..)
ما مناسبة هذه الآيات؟
مناسبتها: أنه بعد أن بيّن حال القبلة، حال الصفا والمروة وحال ما تعلّق بهما توجّه إلى الذين يكتمون البيّنات من عندهم من أهل الكتاب تهديدا لهم وتوعدا وإيقافا لسيل هجومهم على المسلمين، كل ذلك مدافعة عن المؤمنين من هؤلاء المعارضين، ولهذا قال هنا فصل معهم انتهى الأمر قال (أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ) اللعن هو: الطرد، كأن الله تعالى طردهم من رحمته بعد أن منح الله هذه الأمة الرحمة الكاملة طرد الكافرين المكذبين من أهل الكتاب عنها قال (أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) لماذا قال (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)؟ لأنهم أخفوا الحقّ عن الناس فكان حقهم اللعنة من الناس، لما أخفوا الحق كان حقهم اللعنة من الله لأنهم أخفوا أمر الله وكان حقّهم اللعنة من الناس لأنهم أخفوا عن الناس الحقّ الذي أمرهم الله سبحانه وتعالى به. الخ الآيات كلها ثم قال (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ) ترغيبا لهم في التوبة لأن الله عزوجل ما قطع عنهم أمر الرجوع وإنما قطع عنهم الرحمة ماداموا على الكفر.
/ ثم قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) يعني إذا استمروا على هذا فسيجدون عند الله في الآخرة بعد لعنتهم في الدنيا لعنة أخرى -عياذا بالله- اللعنة الأولى لعنة الدنيا بسبب كتمانهم واللعنة الثانية بعد موتهم وهي (لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لعنات متتالية متتابعة على من كفر وكذّب بعد هذا البيان (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ) .
/ ثم انتقل الحديث إلى مقطع آخر، انتهى الأمر مع الكافرين وأهل الكتاب، قطع أمرهم، توجّه إلى المؤمنين في بيان خاص لتشريعهم كأن الله تعالى قال يا أيها المؤمنون إن أصل تشريعكم -التشريع الكامل الذي سيأتيكم وسيمنحكم الله- التوحيد، كل عبادة لله عز وجل مرتبطة بالتوحيد وكلما خرجت هذه العبادة عن التوحيد فهي غير مقبولة، لماذا؟ أن الإنسان إذا جاء يُصلي وصلّى لغير الله عزوجل -يعني راءا في صلاته- فلا تُُقبل صلاته، أي إنسان يقوم بعمل ليس من دين الله عزوجل فهو مردود عليه لأن من التوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فانظروا كيف أراد أن يجعل هذه قاعدة للتشريع الذي سيبدأ في بيانه وتفصيله.
فهذه الآية (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ) واردة في تقرير أصل التشريع وهو التوحيد وبيان أدلته الكونية والشرعية إعلاما به وتجديدا له لأنه بدأ به في بداية الحديث ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ثم فصّل في الحديث في مواجهة ومخاطبة ومحاجّة بني إسرائيل وأطال الحديث عنهم فكأن الله تعالى هنا ردّ الحديث إلى الحديث الأول -إلى النداء الأول- ردّ الكلام في العقيدة والتوحيد إلى الكلام الأول ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) فقال (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ) ولاحظوا وتأملوا كيف جمعت الآية بين الترغيب والترهيب (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ) فكأن الله تعالى أراد أن يُبيّن أن هذه القاعدة ستنطلقون منها إلى الرحمة في هذا التشريع الذي هو رحمة الله عزوجل ولهذا نقول أن أعظم تشريع فيه رحمة للناس هو ما يُشرِّعه الله سبحانه وتعالى.
/ ثم قال الله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ما فائدة ذِكر هذه الآيات؟
لترسيخ التوحيد في قلوبهم، هو الآن أراد أن يُرسِّخ التوحيد مرة أخرى، انظروا إلى هذه العناية الربانية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف أن الله أراد أن يُرسِّخ ويُرسِّخ ويُرسِّخ هذه القاعدة حتى لا يكون هناك مجال لزعزعتها، فما أعظم عناية الله ولهذا قال شيخ الإسلام في كلام فصل :" ذكرت في مواضع كثيرة" يعني مستقر عنده الأمر "في مواضع كثيرة ما اشتملت عليه سورة البقرة من أصول العِلم -التوحيد- وقواعد الدين -الشريعة-" فهذه السورة قد رسّخت ورسّت وثبتت جميع الثوابت في بناء التوحيد في نفوس الصحابة لأنها تعني بترسيخها. قال الرازي في تخصيص هذه الأمور الثمانية قال : "خصّ هذه الأمور الثمانية بالذِّكر في قوله(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) وما جاء بعدها قال: " لأنها جامعة بين كونها دلائل -أدلة وبراهين- وبين كونها نِعما على المكلفين على أوفر حظ ونصيب" هي دلائل تدلك على الحقّ وهي نِعم تنعّمت بها من نِعم الله عزوجل دالة على رعاية الله وتمام رحمته بخلقه وقيامه بشؤونهم.
/ ثم قال الله ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)
هذه الآية واردة في بيان حال المخالفين للتوحيد، يعني بعد أن ذكر التوحيد ذكر الطائفة المخالفة لهذا التوحيد تحذيرا للمؤمنين من أن يتشبهوا بهم أو يتأثروا بهم لأنهم كانوا مُخالطين لهم فكما قال حذيفة :" كان الناس يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر حذرا أن أقع فيه" فالله تعالى هنا أن من الناس طائفة من التي انحرفت عن التوحيد وهي الطائفة المُشركة قال الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) هذا في بيان المخالفين من أهل الكتاب والمشركين وضلال عقولهم وقُبح فِعالهم في اتخاذهم أندادا لله عزوجل بل ومحبتهم معه بعد ظهور الحق أنه الإله الحقّ. أرأيتم كيف هؤلاء وضلالهم وسفاهتهم وقُبح فعالهم.
ثم قال الله عزوجل ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) ماالمقصود هنا؟
اختلف المفسرون في المقصود بالأنداد هنا:
/ فقيل في الأنداد هي الآلهة
/ وقيل في الأنداد هم أربابهم ، رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأمرونهم وينهونهم، فأيهما أولى؟ كلاهما
لأن هذه الآلهة يعبدونها من دون الله وهؤلاء الرؤساء يطيعونهم من دون الله، -تأملوا- فجمعوا بما هو لله خاصّة بين الشرك في التوحيد والشِرك في الطاعة، فأشركوا بالله في التوحيد وفي العبادة فكأن الله تعالى يُحذِّر هؤلاء الذين يُطيعون رؤءساءهم وزعماءهم وساسلتهم في الطاعة في الأوامر لأن الآيات التي ستأتي بعد ذلك في الأوامر والتشريعات فذكر الله هنا طاعتهم.
والمراد بمحبتهم -أندادهم- ماهي؟ التعظيم والطاعة والتقرُّب والانقياد.
(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) أي أنهم أسرفوا في محبتهم لهؤلاء فأثبت لهم محبة الله لكنهم أشركوا مع هذه المحبة هؤلاء وتعالى الله تعالى عمّا يشركون.
قال الله عزوجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) لاحظ هنا ترغيب وتشويق وثناء من الله عزوجل للذين آمنوا قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) لكن هذه الآية لا تدلّ دلالة لا قريبة ولا بعيدة على أن المؤمنين يحبون ولو شيئا يسيرا غير الله لأن المقصود المقارنة في محبة المؤمنين لله ومحبة هؤلاء لله، ليست المقارنة بين الاشتراك بين حب الله والأنداد -لاحظوا- المسألة دقيقة قال(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) طيب هل المؤمنون يحبون غير الله لكن محبة الله هي أشدّ؟ كلا، حاشا، وإنما المقصود أن هؤلاء الكافرين يحبون الله محبة مشتركة أما المؤمنون يحبون الله محبة خالصة. هذا معنى التعبير بقوله (أَشَدُّ) يدل على أنهم يحبون الله حبا تاما فالتعبير (أَشَدُّ) هنا أبلغ من التعبير بـ (أحبّ) يعني لم يقل الذين آمنوا (أكثر) لو قال (أكثر) ربما دلّ، قال (أَشَدُّ) مما يدلّ على قوة محبتهم لله عزوجل، فالمؤمنون قد خلُصت محبتهم لله سبحانه وتعالى والمؤمنون محبتهم صادقة لله دائمة في الرخاء وفي الشِّدة، أما هؤلاء فهم يحبون الله في الشِّدة ويتركونه في الرخاء.
/ قال الله (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) ما غرض هذه الجملة؟
غرضها بيان شناعة حالهم في الآخرة بعد بيان شناعة حالهم في الدنيا كأنه أراد أن يقول هؤلاء الذين يُشرِكون سيرون أن هؤلاء الأصنام والرؤساء هم الذين يتبرأون منهم يوم القيامة -عياذا بالله- والله إن هذا لفي ضلال مبين، تجده يُقدِّسه ويعبده ويطيعه في الدنيا ثم يوم القيامة هذا الرئيس وهذا الزعيم وهذا الذي يعبده هو الذي يتبرأ من هؤلاء. أليس هذا دليل على خسرانهم التامّ في الدنيا والآخرة؟ بلى والله ولهذا قال (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) تهديد لهم وتخويف لهم يوم القيامة.
/ ثم قال (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) من هم الذين اتُّبِعُوا؟ الرؤساء، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وهم التابعين (وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ).
/ ثم قال الله عزوجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) هذه الآية يمكن أن يُقال بداية التشريع بماذ؟ المقصود بهذه الآية: بيان الأصل في التشريع وهو الحِل وأن التشريع قائم على أصلين عظيمين: أنه الحلال الطيّب الذي أمر الله تعالى به (حَلَالًا طَيِّبًا) فكل طيّب الشرع يأمر به وكل حلال فهو داخل في الشرع، فهذه الآية أصل في بيان ما اشتملت عليه الشريعة أنها في الحلال الطيّب وأنه مُنتفي عنها القبيح النجس الغير طاهر.
ولهذا قال بعد ذلك (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) تحذيرا لهم من أن يتبعوا خطوات الشيطان التي هي الخبيث، الحرام الخبيث، كل حرام خبيث فهو طريق الشيطان، كل حلالا طيب فهو طريق الله وشريعة الله عزوجل.
لماذا بدأ بذِكر المطاعِم والمكاسب قبل غيرها؟ في هذه الآية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) .
هنا فائدة مهمة : لأن المآكل والمشارِب والمطاعِم متعلِّقة بالعقيدة وذلك أن أول باب فُتِح في الجاهلية في التحليل والتحريم باب المطاعِم والمكاسب فحرّموا ما أحلّ الله من المطاعِم ومن المكاسِب. رأيتم كيف ابتدأ بما قدّ أخلّ به أهل الكتاب وأخلّ به الكفار، أما المكاسب فقد أخلّ بها اليهود وأما المطاعِم فقد أخلّ بها المشركون، المكاسب اليهود أحلُّوا الربا وهو حرام وأكلوا أموال الناس وأدلوا للحكام بأموالهم، والمشركون حرموا مالم يُحرِّمه الله عزوجل من بهيمة الأنعام. فابتدأ الله عزوجل بذلك ليُصحح التوحيد ويُمحِّصه مما وقع فيه من مخالفات من المشركين أو أهل الكتاب.
/ قال (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هذه الأعمال المذكورة ثلاث:
السوء وهو : كل شرٍ عاقبته سيئة مما قد يكون ظاهره حسن لكن عاقبته سيئة عند الله.
والفحشاء هي: الكبائر وهي كل ما ظاهره القُبح والسوء، ما ظاهره القُبح فهو فاحشة.
والقول على الله عزوجل بغير عِلم مثل: الشِرك والكفر وتحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ الله.
فأتى هنا بأن الشيطان يأمر بكل المعاصي، السئة الصغيرة والفاحشة والكفر والشِرك وهو القول على الله عزوجل بغير علم.
في هذه الآية نأخذ قواعد مهمة:
- أن التشريع مبني على التوحيد -مُتفرِّع عنه- وأن التوحيد مُستلّزمٌ لاتباع التشريع.
- أن مصدر الحلال ومنشأه هو الشريعة، ومصدر الحرام ومنشأه هو الشيطان وما يأمر به.
- أن أصل الشريعة الإسلامية الحِلّ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) يعني هو الأصل، مالم يأتِ تحريم فالأصل الحِلّ. لو يُخرج مُنتج لا نعرف أحلال هو أم حرام فالأصل فيه الحِل مالم نعلم طريقا لحُرمتِه. فهذه قاعدة عظيمة في الدِّين تُريح الإنسان المُحرمات معدودة والمباحات مُوسّعة وهذا دليل على كرم الله وفضله على هذه الأمة.
- أن شرع الله مبنيٌّ على موافقة الطبائع البشرية والفِطر السليمة. من أين نأخذها من الآية شريعة الله موافقة للطبائع البشرية والفِطر السليمة؟ نأخذها من قوله ( طَيِّبًا) بخلاف ما يأمر به الشيطان فهو مخالف للطبائع البشرية والفِطر السليمة.
- أن كل ما أمر الله به وشَرَعه فهو حلال طيّب وكل ما أمر به الشيطان فهو حرام خبيث.
- أن كل حلال فهو طيب وكل طيّب فهو حلال، وكل ما أمر به الشيطان فهو حرام خبيث وكل مُحرم خبيث وكل خبيث مُحرّم.
/ ثم ذكر الله آية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ )
هذه الآية في بيان موقف المكذبين من التشريع كأنهم قالوا(بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) لن نتّبع هذه الشريعة فكأنهم أعلنوا كفرهم وإشراكهم.
/ ثم بعد ذلك قال الله ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)
ماذا تفيد هذه الآية؟ تفيد أن هؤلاء الكافرين الذين يتبعون أربابهم ورؤساءهم مثل الأنعام تناديها فتأتي، تسوقها فتذهب فكذلك هؤلاء يسوقونهم هؤلاء أربابهم حيث يشاؤون فيُحِلّون لهم ما يريدون ويُحرِّمون فقال الله (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هؤلاء المُتَّبِعون لأربابهم (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) كمثل البهائم هم يتَّبعون أهواء رؤسائهم.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) حكم الله تعالى عليهم كأن الله تعالى يحكم عليهم بذلك.
- أن شرع الله مبنيٌّ على موافقة الطبائع البشرية والفِطر السليمة. من أين نأخذها من الآية شريعة الله موافقة للطبائع البشرية والفِطر السليمة؟ نأخذها من قوله ( طَيِّبًا) بخلاف ما يأمر به الشيطان فهو مخالف للطبائع البشرية والفِطر السليمة.
- أن كل ما أمر الله به وشَرَعه فهو حلال طيّب وكل ما أمر به الشيطان فهو حرام خبيث.
- أن كل حلال فهو طيب وكل طيّب فهو حلال، وكل ما أمر به الشيطان فهو حرام خبيث وكل مُحرم خبيث وكل خبيث مُحرّم.
/ ثم ذكر الله آية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ )
هذه الآية في بيان موقف المكذبين من التشريع كأنهم قالوا(بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) لن نتّبع هذه الشريعة فكأنهم أعلنوا كفرهم وإشراكهم.
/ ثم بعد ذلك قال الله ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)
ماذا تفيد هذه الآية؟ تفيد أن هؤلاء الكافرين الذين يتبعون أربابهم ورؤساءهم مثل الأنعام تناديها فتأتي، تسوقها فتذهب فكذلك هؤلاء يسوقونهم هؤلاء أربابهم حيث يشاؤون فيُحِلّون لهم ما يريدون ويُحرِّمون فقال الله (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هؤلاء المُتَّبِعون لأربابهم (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) كمثل البهائم هم يتَّبعون أهواء رؤسائهم.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) حكم الله تعالى عليهم كأن الله تعالى يحكم عليهم بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق