الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ..
نبدأ -إن شاء الله- درس التفسير لسورة المجادلة في هذا اليوم الخامس والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام ألف وأربعمائة وستة وثلاثين لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وهذه السورة سورة مدنية .. قراءة الآيات:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين وبعد ..
فهذه فاتحة سور هذا الجزء التي تتحدث عن الحياة المدنية في غالبها بعد استقرار الإسلام واستقرار مُعتقد جماعة من المسلمين تقطُن بأكثريتها هذا البلد المبارك مع النبي ﷺ ، وهذه السورة تُمثِّل -تقريبا- جانبا من جوانب حياة النبي ﷺ مع أصحابه، لا الحياة التي يعيشها مأكل ومشرب وأحداث عابرة، ولكنها أحداث وضع الأحكام وتمكين الإسلام لا في جماعة أو عصرٍ أو مِصر وإنما في تاريخ هذه البشرية، لكن كان لابد لتتهيأ هذه الجماعة المسلمة لحمل هذه الرسالة ولتتهيأ لهذه الأحكام التي ربما لم يألفها الناس في تلك الحِقبة وفي تلك البِقاع، وكذلك أيضا تحتاج إلى تهيئة قلوب ونفوس لتعرِف ما هو حدّ حُكم الله من الأحكام التي توارثتها القبائل أو توارثها الآباء عن الأجداد والأبناء عن آبائهم . ففي هذه السورة وفي السُور التي بعدها في هذا الجزء بالذات نجد أن السورة واضحة لبدء النبي ﷺ في تغيير كثير من مفاهيم هذه الجماعة لا نحو العقيدة فحسب -وإن كان هذا يوجد- ولكنه لم يكن بالكثرة التي كانت في الزمن المكي فهي تنصب -في الغالب- على تغيير المفاهيم والقِيم بل والنُّظُم التي كانت تعيشها تلك الجماعة. هذه المفاهيم وهذه النّظُم لم تكن نُظُما في الاقتصاد فحسب أو تكون نُظُما في -مثلا- الأحوال الشخصية فيما ينكحون ويدعون ولكنها كانت في أخصّ الأمور وأدقِها حتى دخلت في أسلوب التعايش مع بعضهم، الجماعة حين تجلس مع بعضها، الإثنان حينما يجلسون ومعهم ثالث هل يتناجون أو لا يتناجون، وبماذا يتناجون وهكذا، بل إنها أيضا تتحدث حتى عن المجالس كيف يجلسون، كيف يتحركون، كيف يوسعون لبعضهم، يعني دقائق يسيرة.
الحقيقة أن الإنسان حينما يقرأ هذه الآيات مُجردة عمّن أنزلها، يعني مُجردٌ إحساسه عمّن أنزلها.. عن من أمر بها يعيش كأنه يقرأ في كتاب من الكُتب التي يدرسها فإنه لا تصِل إليه مشاعر تلك الاستجابة التي كانت تقع من أصحاب رسول الله ﷺ حينما كان يتنزل على رسول الله ﷺ القرآن فإنهم كانوا يتلقون هذه السور أو هذه الآيات أو هذه الأحكام بنفوس مُرهفة، كانوا يتلقون هذا القرآن بقلوب مُتطلِعة لمن يُنظِّم لها حياتها وما كانت أبدا تعترض على أي حُكم من أحكام الله جلّ وعلا وإنما تبحث عن هذه الأحكام وقد تصِل إلى ذِروة التعلّق بالله سبحانه وتعالى حينما تطلُب الحُكم منه إلى أن تتجاوز أن يحكمها النبي ﷺ إذا كانت تتطلع إلى حُكم الله جل وعلا ، صحيح أن حكم النبي ﷺ لا يكون إلا من حُكم الله ولكنها أحيانا تتطلّع إلى حكم الله جل وعلا فيما لم يقضِ الله فيه، تتطلّع إلى حُكم الله فيما لم يقضِ الله جل وعلا فيه وترجو ذلك الحُكم ولا أدلّ على هذا من هذه السورة وكذلك مرّ بنا أمثال هذه الحادثة أو هذه السورة أو هذه الحالة المنتظرة لحكم الله جل وعلا كما في سورة النور حينما تكلمنا عن الإفك وحادثة الإفك وكيف كانت عائشة رضي الله عنها تتطلّع إلى خبر يأتي من الله جل وعلا لأنها رأت أن النبي ﷺ لم يكن ليعلم شيئا لم يُعلِمه الله إياه. فهذه الحالة قد تتكرر في بعض المواطن أو في بعض الحوادث وتُظهرك على أن النبيّ ﷺ لم يكن ليقول هذا القرآن من نفسه وإلا لكان أعطانا منه ما يُوافق ما أراد ولم يتلو علينا ما يوافِق ما أنزل الله عليه إما نقدا أو تصويبا أو تعليما أو تهذيبا أو تقريرا لحُكم قاله أو إظهارا (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) أو إظهارا لشيء كان في نفسه ولم يُظهِره (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ). فهنا تجدين هذه الصورة تتمثّل في بداية هذه السورة ليدلك على أن النبيّ ﷺ كان يقول القرآن كما أُحي من هنا إلى (عبس وتولى) إلى (وما كان لنبيّ أن يغُلّ) وأضراب ذلك كثير في كتاب الله جل وعلا .
هؤلاء الجماعة المسلمة، الثُلّة المؤمنة التي نزل عليها القرآن يعلمها أحكامها ويربيها ويقول لها لا تفعل هذا وافعل هذا قد يُخالف أحيانا منطِقه -يعني منطِق الإنسان ذاك- أو يُخالف قُدراته أو يُخالف رغباته أو يُخالِف شهواته فيأتيه الأمر الإلهي ليختبر تسليمه، فمن ساّم لله جل وعلا فإن الله سبحانه وتعالى يُثني عليه ويمتدحه بالإيمان، ومن لم يُسلِّم لله جل وعلا أو امتنع عن الطواعية لنبينا ﷺ أو كان في طواعيته شيء من الكراهة أو كان يقول شيئا بلسانه ويُبطِن في قلبه ما لم يكن على لسانه فإن الله سبحانه وتعالى يُظهِر سريرته وباطنه أو على الأقل يُظهِر لحن لسانه ويصِفُه بأوصافٍ قد لا يعنيه هو بعينه ولم نرَ مُنافقا ذُكر اسمه في كتاب الله ولا واحد بقدر ما هو مذكور أسماء كافرين كفرعون وأبو لهب وغير هؤلاء ولكن المنافقين لم يُذكروا لأن المعركة مع أمثال هؤلاء خفية وصعبة وعسيرة ولذلك فإن الأوصاف هي أهمّ من الأشخاص ولذلك فإنه كان التركيز في السور المدنية على أوصاف المنافقين التي تأتي وتُبلِغ أو تُعلِم الجماعة المسلمة في أي عصر كانت أن هذه أوصاف المنافقين، لا يعني ذلك أن لهذه الجماعة أن تُنزِل هذه الأوصاف على أشخاص بأعيانهم وتتهمهم وتحجزهم عن المجتمع المسلم أو تُنزِل عليهم التكفير وتؤخرهم وتُبعدهم لأن هذا ليس لها ولابد أن يكون بين هذه الجماعة وبين هؤلاء الناس شيء من الامتداد والتواصل لعلهم يرجعون عما كانوا عليه ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فهنا دائما يأتي الانتهاء وطلب الانتهاء وهذا قد مرّ بنا وتكلّمنا عنه في سورة الأحزاب . ولكننا هنا في هذه السورة نجد أن صورة الشكاية لله جل وعلا تتمثّل في الحادثة والواقعة التي وقعت لتلك المرأة التي ذكر الله جل وعلا حوارها .
قال الله سبحانه (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) الأسماء لا تعني كثير شيء لأن الله جل وعلا يُشرِّع للناس دينا وليست قِصصا عابرة وإنما هي تشريع. حينما يكون الكلام عن الأنبياء يأتي الكلام بالأسماء وذلك لتعلّق هذه الأسماء بعقائد من جانب وبتاريخ يمرّ مع أقوامهم ليتكرر أمثاله، ولأن في ذلك مع تسلية النبي ﷺ والترويح عنه، فيه أيضا ضرب للمثل بأمثال هؤلاء الأقوام من أقوام تأتي أو يُحدِثهم النبيّ ﷺ ويُخاطبهم فتأتي السورة هنا بقول الله جل وعلا (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ) و (قَدْ سَمِعَ) هذا أسلوب تحقيق ابتدأ بـ "قد" ليبين ويدلك على أن الله سبحانه وتعالى مُطّلِع على كل خفايانا وعلى كل أحوالنا، حينما تتخيلين وأنتِ قائمة بين يدي الله جل وعلا تتلين كتاب الله جل وعلا وتتخيلين أن الله سبحانه وتعالى يُنزِل في كتابه شيئا من الحوادث العادية التي تمرّ في حياة الناس، والله سبحانه وتعالى الخالق..البارئ..المُصوِّر..العظيم..الجبار سبحانه وتعالى جلّ في عُلاه وهو الغني عن خلقِه ثم وإذا به سبحانه وتعالى يذكر لكِ حادثة يتلوها جبريل على -عظمة خلقِه- يتلوها جبريا وتتلقاها الملائكة وينزل بها على نبينا محمد ﷺ ليُحدِثك بحادثة بينك وبين أحد من الناس، تخيلي إنسان تحدث له هذه الحادِثة ويستمِع الوحي من رسول الله ﷺ في شأنه كيف يكون حاله؟ لاشك أنها عظمة لذلك عائشة رضي الله عنها كانت تقول "ولشأني في نفسي أحقر من أن ينزِّل فيّ قرآنا يُتلى " وهي زوج النبي ﷺ تقول شأني أحقر في نفسي، كنت أتوقع أنه يرى رؤيا ﷺ، كذلك هذه المرأة يقول الله جل وعلا (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) فالموضوع كان جدال وأخذ ورد فما هي تلك القِصّة يا ترى التي أخبر عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه مُذ تلك القرون آيات تُتلى نقرأها ونحفظها ونتلوها ونقرأُها في صلاتنا ؟
تقول عائشة رضي الله عنها (الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادِلة إلى النبي ﷺ تُكلِّمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول) تعرفون كم كان بيت عائشة رضي الله عنها؟ حُجرة إذا نامت إذا كان النبي ﷺ يصلي واضطجعت على سريرها ما وجد النبي ﷺ لسجوده مكانا -من حجم تلك الحُجرة من صِغرها- ومع ذلك المرأة جاءت وتجلس عند النبي ﷺ وتُجادله لا ترفع صوتها وتُناقِش بصوت عالٍ، لا.. لكنها صاحبة حاجة، عائشة رضي الله عنها تُخبِر عنها تقول (وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول) وعلى فكرة بيت عائشة رضي الله عنها أدنى البيوت إلى المسجد، أقرب بيت إلى مسجد رسول الله ﷺ هو بيت عائشة رضي الله عنها.
تقول (فأنزل الله عز وجل (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)) الخ الآية. وفي رواية عنها أنها قالت: "تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة -المجادِلة- ويخفى عليّ بعضه -وما بينهم شيء جالسة في نفس الحجرة- وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ وهي تقول : يا رسول الله: أكل مالي، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني ، وانقطع ولدي ظاهر مني" لم أعد أحمِل وأُنجب بحيث يتزوجني أحد آخر. قالت "حتى إذا كبرت سني ، وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك". هذا الذي أخبرت به عائشة رضي الله تعالى عنها خفي منه شيء وهي أنها قالت كلاما آخر غير هذا ربما أن عائشة رضي الله تعالى عنها لم تسمعه وطلبت من رسول الله ﷺ يُخبرها به فأخبرها أو أنها طلبت من خولة بنت ثعلبة أن تقول لها ماذا قلتي فقالت لها فاستكملت واستتمت حديثها فجاء في رواية أخرى قول خولة بنت ثعلبة نفسها لأنها هي أعرف بحديثها فلذلك انظري إلى قول عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ وهي تقول يا رسول الله أكل مالي، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني ، وانقطع ولدي ظاهر مني، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)) وزوجها أوس بن الصامت .
أما رواية خولة -وهي أدرى بحديثها وبما قالت- فإنه أوفى، قالت خولة -كما روى الإمام أحمد- "فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت: كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وضجر ، قالت : فدخل عليّ يوما" تعرفون الشاب ليس كالرجل الكبير، فالرجل الكبير خُلُقُه ضيّق فيزجر وينهر، يدخل أحيانا يطفئ الأنوار بدون سبب ..الخ يعني الشايب لا حلّ له.
فهكذا شكته وهذه الأحوال تقع من أصحاب رسول الله ﷺ، يعني واقع الناس هو نفس واقِع صحابيات النبي ﷺ وصحابته .
قالت "وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، قالت: فدخل عليّ يوما فراجعته بشيء ، فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي -يعني حرّمها على نفسه- قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل علي فإذا هو يريدني على نفسي -نسي- قالت : فقلت : كلا والذي نفسي خويلة بيده لا تخلُص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا" الحقيقة أنها كانت أعقل من زوجها وأفقَه. .
قالت : فواثبني وامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف -هذا دليل على أنها كانت أشبّ منه- قالت: فألقيته عني.
قالت : ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها -تقصد حجابا وبيوتهم كانت بجانب بعضها تخرج من هنا وتدخل هنا حتى لا يحتجّ محتجّ أن المرأة تخرج بدون ثياب-.
قالت : ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت رسول الله ﷺ فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. وجدتها فرصة الآن وأتت بالأول والأخير فالمرأة إذا شكت شكت ، كانت صابرة وصابرة ولكن حتى عند الشكاية تريد أن تشكو لكن لو قلتي لها فارقيه فإنها ترفض، تشكو ولكن لا تقل لها فارقيه. فهي شكته قالت: فشكوت، جعلت أشكو إليه ما ألقى من سؤ خُلُقه، قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا خويلة ، ابن عمك شيخ كبير فاتقِ الله فيه ". قالت : فوالله ما برحت حتى نزل في القرآن ، فتغشى رسول الله ﷺ وما كان يتغشّاه ، ثم سُرّي عنه فقال لي : " يا خويلة ، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا"، ثم قرأ علّي: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) إلى قوله تعالى (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أنزل عليه هذه الآيات فقرأها.
قالت: فقال رسول الله ﷺ مُرِيه فليُعتق رقبة، قالت: فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يُعتِق، قال: فليصُم شهرين متتابعين، قالت: فقلت والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: فليُطعِم ستين مسكينا وسْقا من تمر، قالت: فقلت والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله ﷺ فإنا سنُعينه بفرَقٍ من تمر، قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأُعينه بفرَقٍ آخر.
انظري رحمته حتى أنها ستعطيه الذي عندها لتُكفِّر عنه حتى يرجع إليها زوجها، لا تريد أن يُطلِّقها أو ينفصِل عنها أو تنفصل عنه.
قالت: قال قد أصبتِ -أحسنتِ- فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا، قالت: ففعلت). قال ابن كثير هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة.
وفي ذلك ما رواه ابن عباس -أيضا- نحو هذا الحديث قال: (أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك) وقال بعض أهل التفسير: إنها خولة بنت حكيم. وهذا غير صحيح لأن خولة بنت حكيم لم تتزوج.
قال ابن عباس: (فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقا فأتت إلى رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله إن أوسا ظاهر مني وإنا إن افترقنا هلكنا وقد نثرت بطني منه) يعني لا مصلحة في الافتراق لا له ولا لها (وقد نثرت بطني منه وقدّمتُ صُحبته وهي تشكو ذلك وتبكي) يعني هي تُقدِّم صحبته على أن يُفارقها (ولم يكن جاء في ذلك شيء) يعني ما كان نزل في الظِّهار شيء لكن الظِّهار كان على عهد الجاهلية تحريم أبدي -مؤبد- (فأنزل الله تعالى (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) إلى قوله (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فدعاه رسول الله ﷺ فقال اتقدِر على رقبة تُعتقها؟ قال: لا والله يا رسول الله ﷺ ما أقدِر عليها، فجمع له رسول الله ﷺ حتى أعتق عِتقهُ ثم راجع أهله) هذه رواية ابن عباس قال أعتقهامع أنه جاء في رواية خولة أنها تصدّقت. ويُمكن أن يُغلّب قول خولة لأنها أعلم من ابن عباس بحادثتها. وهذا حينما تتعارض الأحاديث يُقدّم صاحِب القصّة على الراوي، ووجوه الترجيح كثيرة لكن إن أمكن أن يُجمع بينهما فيمكن أن يكون النبي ﷺ أمرها بالصدقة فتصدّقت فلما تمكّن من عِتقٍ عنهم أعتق. وهذا يحدُث فاختار لهم النبي ﷺ الأعلى وتجاوز عنهم في حِل الحكم بالأدنى.
وهذه المرأة -خولة بنت ثعلبة- تُنسب أحيانا خولة بنت خويلد فهي تُنسب مرة إلى أبيها ومرة إلى جدها والمرأة واحدة لكن خولة بنت حكيم هذا كلام غير صحيح لأنها -قلنا- خولة بنت حكيم لم تتزوج وهذا قد يكون من الوهم من بعض الرواة.
روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد قال: (لقيت امرأة عمرا يُقال لها خولة بنت ثعلبة وهو يسير مع الناس -طبع وهو خليفة- فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها) قد يقول قائل: كيف وضع يديه على كتفيها؟ امرأة عجوز كبيرة صارت من القواعد من النساء اللاتي ما عليهن في ذلك. (حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز!! قال: ويحك وتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمِع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرِف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلا أن تحضُر صلاة فأصليها ثم أرجِع إليها حتى تقضي حاجتها) وهذه المرأة هي امرأة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت.
/ قال الله جل وعلا (وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) وجاء في بعض روايات أن النبي ﷺ كانت تقول له ما فيّ حكم، ما في شأني شيء، ما نزل فيّ شيء فلم أكون على حكم الجاهلية؟ والنبي ﷺ لا يجد لها منفذا فيقول لها أنتِ حرام عليه، وتراجعه مرة ويقول حرام عليه، وتراجعه المرة الثانية حتى أنزل الله عليه المخرج من ظِهار زوجها لها وكان ذلك (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
وفي هذا من الفوائد:
- أنه إذا اشتكت امرأة أو إذا تكلمت امرأة إلى رجل في محضر من آخرين ولم يُسمع كلامهما أو سُمع بعضه أن ذلك لا يُعدّ من الخلوة إذا عُلِم ثقة الرجل والمرأة.
- وفيه من الفوائد -أيضا- ألا تقع التهمة من الزوجة في حق زوجها إذا كان من أهل العلِم إذا كان في شأن إصلاح الناس أو النساء ما لم ترَ من ذلك شيئا تنكره. أما الريبة فالريبة نوعان: ريبة في حق وهي ريبة يحبها الله، وريبة في باطل فهي التي يُبغضها الله. التي هي الوسوسة والتتبع من غير برهان.
عقّب الله جل وعلا على ذلك بقوله (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) والله سبحانه وتعالى سميع يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء ، وبصير يُبصِر ما خفي وما غاب ويعلم السِّر وأخفى سبحانه وتعالى ، له سمع وبصر يليق بجلاله وليس كمثله شيء.
/ قال الله سبحانه وتعالى (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) ثم جاء تصحيح هذا المفهوم الموجود عند العرب من موروث الجاهلية، ومواريث الجاهلية في مسائل المجتمعات -خاصّة النُظم الاجتماعية- يصعُب تغييرها، الآن تجدين عندنا من النُظم الاجتماعية -على سبيل المثال- <الخضيري والقبيلي> تجدين الإنسان مهما كان عالِما متدينا وكذا ما يستطيع أن يُغيرها..يصعُب تغييرها رُغم أنه مُبغض لها، مُبطل لها، رافض لها لكن لا يستطيع أن يغيرها لأنه يتعلّق بها علاقات متنوعة ومتشعبة ومتشابكة، فلذلك هذه المسألة من المسائل التي اعتاد الناس عليها في مسائل التنظيم الاجتماعي لا يكون تغييرها بالأمر السهل. وقد تحدثنا عن هذا الموضوع -إن كان تذكرون- في أول سورة الأحزاب حين الكلام على إبطال التبني وأن الابن المنسوب إلى غير أبيه لا يُمنع من نُسِب إليه من الزواج من مطلقته -مثلا- فالحاصل أن هذه القضية لابد من بيان وضوح تام فيها ولذلك نزل فيها القرآن مُفصّلا واضحا بيّنا.
/ قال الله جل وعلا (مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ) من حيث الأحكام ماهي بأمّ. قد يُقال -مثلا- يا أُمّه..يا أمّي فهذا لا يُمنع من باب الأدب -أحيانا- إن كان ذلك من باب الأدب -أحيانا- كما قال بعض الصحابة لعائشة رضي الله تعالى عنها يا أُمّاه. فمن نادى بهذه الكلمة وقد ورد في ذلك أقوال السلف وبعضهم يتحرّج منه ولكن المقصود بذلك لا اللفظ وإنما المقصود بذلك الأحكام ولو أوقعها ولو قال لها يا أمي فلا تكون له أم حقيقة إلا إن كانت أمّا من نسب أو رِضاع أما غير ذلك فلا يكون لها حكم الأم التي ولدته أو أرضعته .قال الله جل وعلا (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ).
الآن هذه الآية قال الله جل وعلا فيها (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ) طيب واللائي أرضعنهم هل هن أمهاتهم؟ نعم.
طيب ليست مذكورة هنا في النصّ؟ في نصّ آخر فيُجمع هذا مع هذا، يعني الحكم إذا لم يأتِ في موطن وأتى في موطن آخر فإنه ينضم إليه ولا يكون مُبطلا له ما لم يتدافعا -أي يدفع الواحد الثاني- .
/ قال الله جل وعلا (مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) المنكر هو: حينما يقولون أنتِ عليّ كظهر أمي أو أنتِ كأمي ولو قالوا ذلك فليس بمعروف وإنما هو منكر من القول. وفي هذه الآية نهي عن أن يُظاهر الإنسان من زوجته بعد ذلك. ولو ظاهر ففيه الكفارة ، فهو لا يجوز له أن يُظاهِر لكن لو وقع ذلك منه فعليه الكفارة التي جاءت في هذا الموطن.
قال الله جل وعلا (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعني الله سبحانه وتعالى يعفو ويغفر الذنوب جميعا، يعفو عما كان ويغفر ما اكتُسِب، والعفو -في الغالب- يأتي على ما يُفعل من غير علم به، والمغفرة يكون عالما بها ثم يتوب منها فيكون ذلك مغفرة له، فالله سبحانه وتعالى عفو غفور .
/ قال (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) فما حالهم؟
اختلف السلف في المراد بقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) :
قال بعض الناس: هو أن يعود إلى لفظ الظِهار (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) يعني يعودون يُظاهرون. هذا قول بعض السلف قالوا يعني يعودون يظاهرون مرة أخرى . قال ابن كثير: وهذا القول باطل. وهو اختيار ابن حزم.
وقال الشافعي: هو أن يُمسكها بعد المُظاهرة زمانا يُمكنه أن يُطلِّق فيه فلا يُطلِّق.
وقال أحمد بن حنبل -وهذا الأرجح- هو أن يعود إلى الجماع أو يعزِم عليه يعني يعود لما قال، يُظاهر..يُحرِّم ثم يعود عن قوله بالتحريم إلى استرجاعها كزوجة له فهذا هو الذي فيه الكفارة -كفارة الظِهار- وهذا الذي دلّلت عليه السّنة وسبب النزول.
قال الله جل وعلا (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يعني فكفارة ذلك تحرير رقبة. قال أحمد بن حنبل هو أن يعود إلى الجماع أو يعزِم عليه فلا تحِل له حتى يُكفِّر بهذه الكفارة المنصوصة في الآية.
وقد حُكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع. وقال ابو حنيفة هو أن يعود إلى الظِهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية -هذا أبو حنيفة على القول الأول الذي أبطله ابن كثير- قال: فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرّمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة .
وعن سعيد بن جبير (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) يعني يريدون أن يعودوا في الجِماع الذي حرّموه على أنفسهم.
وقال الحسن البصري وكان لا يرى بأسا في أن يغشى فيما دون ذلك قبل أن يُكفّر. يعني فيما دون الفرج.
قال فما جزاؤه؟ قال (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) والمقصود بالمساس الجِماع أو النِكاح قاله ابن عباس.
وقال الزُهريّ ليس له أن يُقبِّلها ولا يمسها حتى يُكفِّر . وقد روى أهل السُنن من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليه قبل أن أكفِّر، قال: ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر ..) رأى خلخالها في ضوء القمر فوقع عليها، (قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) .
انظري..الرجل جاء وفعل فعلة خالف فيها كتاب الله جل وعلا لكن لما جاء سائلا وجاء مُستفتيا قال له النبي ﷺ ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ انظري إلى لُطف النبي ﷺ ، سماحته قال ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ لا زجره ولا نهره ولا قبّحه.
(قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل) وقد جاء في حديث أطول من هذا أنه أمره بما أمر به المُظاهر تحرير رقبة، قال: ما أجد حتى ضرب على صفحة عنُقه وقال ما عندي غير هذه، لا أملك رقبة إلا رقبتي فقط ، قال: فصُم شهرين متتابعين، حتى قال ما أصابني ما أصابني إلا وأنا صائم -إلا من الصيام-، قال: فأطعِم، قال: ما عندي حتى ما آكله، فقال له النبي ﷺ : اذهب إلى قومك ومُرهم أن يُعطوك كذا وكذا، فذهب إلى قومه وقال لهم أعطوني، قال (وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله السَعة وحُسن الرأي) فلذلك الإنسان ينبغي له إذا أراد أن يسأل في قضاياه ألا يسأل العوام فالعوامّ ميّالون إلى التضييق والتشديد، والعلماء أكثر سعة، بعض الناس ما يريد العلماء -يخاف منهم- العلماء هم الذين عندهم العِلم وعندهم السَعة وعندهم حُسن الرأي، والعوام عندهم ضيق الرأي وعندهم التشديد، يُشددون على الناس ولكن لو وقعوا فيها ما استطاعوا أن يفعلوا شيئا ذهبوا يبحثون عن أحد يسألونه. ولذلك فإنه لابد أن يؤخذ العِلم من أهله، كذلك يؤخذ الخبر من أهله، بعض الناس إذا سمعوا خبرا طاروا به وما سمِعوه من أهله كما قال جل وعلا (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُم) [النساء:٨٣] فلابد الإنسان يرجع إلى أصحاب العلم. (قال: ما حملك على ذلك يرحمك الله) أخبره..علّمه وبيّن له.
أذكر واحدة -شابّة- زنت فاتصلت على واحدة من النساء قالت لها: إني وقع مني وأنا تائبة، فقالت لها: اذهبي واعترفي حتى تكوني مثل تلك المرأة التي طُهِّرت، فتصلت على أحد العلماء وقالت إني وقع مني كيت وكيت وإني سألت واحدة وقالت لي اذهبي للمحكمة واعترفي وأنا خائفة، فقال لها الشيخ: استري على نفسِك وتوبي إلى الله توبة نصوحا والله سبحانه وتعالى ... لابد من التوبة النصوح.
فانظري إلى كيف الناس -سبحان الله العظيم- ما يفيدون إذا أفتوا بغير عِلم.
كذلك الرجل -ماعز- الذي لما أصاب حُكما حراما كان مُحصن، ذهب إلى قومه وقال لهم إني زنيت قالوا اذهب إلى رسول الله ﷺ وأخبره والنبي ﷺ كان القاضي، فإذا وصلت إلى القاضي فإنه يُقيم الحدّ فكان يأتي للنبي ﷺ من اليمين ينصرف عنه إلى اليسار، يأتي من اليسار ينصرف عنه .. أتاه أربع مرات ويحاول يتصدد عنه، يقول يمك أنك ما فعلت كذا يمكن أنك فعلت كذا (١) حتى إذا أقرّ مرارا أمر به فرُجِم فلما أحسّ حرّ الحصى هرب فتبعوه -قومه- تبعوه يرجمونه حتى قتلوه، فالنبي ﷺ قال: (لو تركتموه ) هرب كان تركتموه لعله يتوب فالله غفور رحيم. فالعامّة لا ينصحون بخير لأنه لا عِلم عندهم فلابد أن يسأل الإنسان أهل العِلم ولذلك قال الله جل وعلا (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) وقال النبي ﷺ حينما بلغه أن رجلا أصابته جنابة وهو في الحرب وقد شُجّ رأسه أو كان به شجّة، الرجل كان به شجة فأصابته الجنابة وهو في سرية فسأل أصحابه هل تجدون لي من سبيل غير الغُسل؟ قالوا: ما نجد لك إلا الغُسل. فاغتسل فمات. فلما بلغ خبره رسول الله ﷺ قال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما دواء العي أو شفاء العي السؤال (٢) فالسؤال ليس لأي أحد. أنا أعجب من بعض الناس -مثلا - يكون عندها حكم شرعي عندما تسأل -أحيانا- في الحرم ترى واحد ملتحي تذهب وتسأله لأنه مُلتحٍ، قد يكون هذا ملتحي لكنه جاهل ليس على علم.
فالمُحصِّله: أنه لابد من العِلم لأجل الوصول إلى الحكم الشرعي الذي أراده الله جل وعلا .
/ قال الله جل وعلا (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
(تُوعَظُونَ بِهِ) أي تزجرون به لأن هذه الكفارات إنما هي زواجر حتى لا يستسهل الناس في المعاصي ولا يستسهل الناس في الأحكام ولا يستسهل الناس -مثلا- في الطلاق..في الظِهار.. في كذا لابد، الرجل لماذا بعد الثالثة يُفرّق بينه وبين زوجته ولا يستطيع أن يُراجعها إلا بعد رجل آخر؟ حت يؤدب.. يُزجر (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) فتأتي الموعظة ويأتي الزجر من باب الصيانة لمن يقعوا تحت طائلة المتساهلين والمتهاونين في التعامل مع الآخرين.
قال (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعني خبير بما يُصلِحكم وما يكون به شأنكم وعِزكم وصلاح حالكم.
/ قال الله سبحانه وتعالى (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) والتتابع هنا المقصود به ألا يقطعه أمر لا يجوز أن يقطع صيام الفرض أما إن كان يقطع صيام الفرض فلا بأس به ولا يُعدّ قطعا كالمرض، مثلا من كان عليها صيام شهرين متتابعين كالتي تُجامع في نهار رمضان، عليها شهرين متتابعين إن لم تجد تحرير رقبة صيام شهرين متتابعين فماذا تفعل إذا جاءتها الحيضة؟ تُفطِر وتستأنف على المباشرة، على الفور. كذلك -مثلا- إذا ظاهر من أربع نسوة بكلمة واحدة كقوله أنتن عليّ كظهر أمي كان مُظاهرا من كل واحدة منهن ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. والشافعي عنده أنه يلزمه أربع كفارات. وإن قال أنتِ عليّ كظهر أمي وأنتِ طالق يلزمه الاثنان صار عليه الظهار وعليه الطلاق معا.
/ قال الله جل وعلا (فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) كما بيّن الحديث الذي ذكرناه يُطعم المسكين ويكون لكل مسكين نصف صاع.
/ قال الله جل وعلا (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (ذَلِكَ) تلك الكفارة من أجل أن تؤمنوا بالله ورسوله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) هذه الحدود أنزلها الله جل وعلا عليكم تلك حدود الله أنزلها عليكم تلك حدود الله جل وعلا ليس لكم أن تتعدوها ولا أن تتجاوزوها ولا أن تُفرطوا فيها (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فهذه حُرمات الله وحدوده أمركم أن تؤدوها وأن تفعلوها وألا تنتهكوها.
قال (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الذين لم يؤمنوا بأحكام الله وحدوده أو لم يلتزموها على وجه الجحود والنكران أو أن يعتقدوا أن حكم غيره أفضل من حكمه فإنهم لا يسلمون من العذاب الأليم الذي توعدهم به الله سبحانه وتعالى.
/ ولما كان بغض أحكام الله جل وعلا أو النفرة منها أو عدم تطبيقها مع القدرة على تطبيقها، لما كان ذلك من المُحادّة لله اعقبها الله هذه الآية بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) فالذين يُحادّون الله ورسوله ولا يُطبِقون أحكامه ولا شرعه ويُنشئون القوانين ويضعونها ويبتغون قوانين الغرب <القانون الفرنسي والقانون البريطاني والقانون الألماني> وما شابه ذلك وما شاكله ويُعرضون عن آيات الله جل وعلا وأحكامه الشرعية التي أنزلها في كتابه على رسوله ﷺ فإنهم أُهينوا ولُعِنوا وأُخزوا كما هو حال من كان قبلهم من أهل الضلال والظلمات الذين أخزاهم الله جل وعلا على يد أنبيائه وأوليائه.
قال الله جل وعلا (وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) يعني قد أنزلنا بهذه الأحكام الظاهرات آيات بيّنات لا تحتمل التأويل فعليكم أن تطبقوها وأن تُنفذوها، فهذه أحكام سواء كانت في الطلاق أو كانت في الظِهار أو كانت في الإرث أو كانت في القصاص أو كذا، هذه أحكام نزلت بآيات بيّنات مُفصّلات ليس لكم أن تختلفوا فيها أو أن تردوها لأنها جاءت ظاهرة واضحة على نبينا محمد ﷺ.
قال (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) يهينهم في الدنيا ويُهينهم في الآخرة في مقابل ما استكبروا عن شرع الله والانقياد له والخضوع له سبحانه وتعالى.
/ قال سبحانه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ) مُذكِّرا لهم باليوم الآخر حين توعّدهم بالعذاب الدنيوي كذلك توعّدهم بالعذاب الأخروي فهم مع الخِزيّ والذّل أيضا توعّدهم بالعذاب الأليم يوم القيامة. وقد ذكر بعض أهل التفسير أن العذاب ذاك الذي تُوّعِدوا به هو العذاب الذي وقع عليهم في بدر والذي وقع عليهم في الخندق.
وأقول: إن هذا تحجير في هذه الآية والعموم أرجح وأنسب وأولى ولا يمنع أن يكون الذي نزل بهم من الخِزيّ والعار والذل في بدر وأحد وفي المعارك التي لقوها أن يكون ذلك من هذا الباب ولكن لا يُقصر عليه.
قال الله جل وعلا (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) وكان ذلك البيان منه سبحانه وتعالى فيما عمله الناس أو ما يعملونه ويُحصيه الله سبحانه وتعالى وينسونه ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك أنه سيأتي يوم القيامة، أما الكافرين فإنهم يُقررون بما فعلوا وأما المؤمنون فإنهم يُستر عليهم كما جاء في الحديث (يدني الله كنفه من عبده المؤمن ويُذكِّره بأعماله فيقول ألم تذكر تفعل كذا في يوم كذا في وقت كذا في مكان كذا فيقول بلى يارب فيقول سترتك في الدنيا وأنا استرها لك وأغفرها لك اليوم) (٣) فهذا مما يستره الله سبحانه وتعالى ويغفره يوم القيامة. اللهم استر عوراتنا يارب العالمين يوم القيامة واغفر ذنوبنا وزلاتنا.
قال الله جل وعلا (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) والإحصاء هو: أنه ضبطه سبحانه وتعالى وحفظه عليهم وقد نسوه، ياما فعلنا وفعلنا ونسينا لكنه مكتوب ويأتي يوم القيامة في دواوين ويُبسط ويقول الله جل وعلا (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء:١٤] نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز عنا.
ولو لم يكن للإنسان من ذنبه وخطيئته إلا أنه يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ويُقرِّره بها ويقرؤها والله يستمع إليه فيها وينظر إليه، لو لم يكن للإنسان من ألم حين يعلم ذلك لو لم يكن إلا هذا الألم لكفاه فكيف إذا كان ذلك على الناس جميعا من رسل ومن صحابة ومن علماء ومن أحباب ومِمن يستحي منهم!! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يستر عوراتنا وأن يأمِن روعاتنا وأن يستر عيوبنا ويغفر ذنوبنا أجمعين .
قال الله جل وعلا (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يعني سبحانه وتعالى يشهد ما يظن الناس أنه غائب عنه فلا يغيب عنه شيء ولا يخفى ولا ينسى والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن إحاطته وإحاطة علمه بخلقه واطّلاعه عليهم وسماعه كلامهم ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا حتى قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) وكان هذه مناسبة بين ما كان من القصة والحادثة التي ابتدأت بها السورة وهي حادثة خولة بنت ثعلبة وما يكون بعد ذلك، يعني لا تظنوا أنكم تُخفون عن الله شيئا حين تخلون مع بعضكم البعض وتتحدثون بغيبة بعضكم و -مثلا- التآمر على بعضكم والمكيدة لبعضكم وكذا فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه ويُحصيه ويُثبته عليكم ويأتي به فلا تتهاونوا في ذلك، وبيّن الله سبحانه وتعالى اطّلاعه عليهم وقال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فالله سبحانه وتعالى أخبر عن ذلك في هذه السورة وأخبر أيضا في سورة التوبة بقوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والله سبحانه وتعالى قال (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه:٧] وقال سبحانه وتعالى (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:٨٠] يعني الله سبحانه وتعالى عليم والرُّسل يكتبون أيضا ولذلك حينما تصعد الرُّسُل بكتاباتها إلى رب العالمين يقوا: ما فعل عبادي؟ فيقولون: فعلوا كذا وأنت أعلم. والله أعلم. فالله سبحانه وتعالى يسأل وهو يعلم سبحانه وتعالى ليُثبت ذلك عليهم.
قال ابن كثير: "حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه سبحانه وتعالى ولاشك في إرادة ذلك وكذلك أيضا سمعه محيط بهم مع عِلمِه وبصره، وبصرُه نافذ فيهم فهو سبحانه وتعالى مُطّلِع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء وإلا فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه عالٍ على عرشه، مُستوٍ على عرشه سبحانه وتعالى" فالله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ في سماه بائن من خلقه جل وعلا وهو السميع البصير .
قال سبحانه (وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ينبئهم بكل ما عملوه يوم القيامة إن شرا فشر وإن خيرا فخير كما جاء في سورة الزلزلة وكما جاء في سورة آل عمران وكما جاء في سورة النساء وكما جاء في سورة البقرة وكما جاء في مواطن تدل على أن الله سبحانه وتعالى يأتي بالصغيرة والكبيرة.
قال الإمام أحمد: "افتتح الله الآية بالعلم واختتمها بالعِلم" (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) وفي آخرها (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
/ ثم قال الله سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) وانتقل الخطاب إلى أمر آخر وهو مُشابه إلى ذلك وقد يكون وجه آخر من وجوه النجوى المكروهة المبغضة، كما أن تلك النجوى التي ناجت فيها المرأة رسول الله ﷺ لم تكن مُنكرة بل كانت محمودة أثنى الله جل وعلا عليها إذ لم ينهى عنها وأخبر أن الله يسمع التحاور ذاك. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى صِنفا آخر من أصناف النجوى.
إذا عندنا الآن ثلاث حالات من النجوى ذُكِرت:
النجوى الأولى: نجوى المرأة للنبي ﷺ وعِلم الله جل وعلا بها.
النجوى الثانية: النجوى التي بين الناس ما يكون منهم إلا والله يعلمه فذكر علم الله جل وعلا لمن يتناجى بكل شيء بخير أو بشر.
النجوى الثالثة : التناجي بالسوء والتناجي بالشر حيث قال جل وعلا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) .
يقول ابن كثير : "كان بين النبي ﷺ وبين اليهود موادعة وكانوا إذا مرّ بهم الرجل من أصحاب النبي ﷺ جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم فنهاهم النبي ﷺ عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النحوى فأنزل الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ)" والمقصود بذلك اليهود ، اليهود الذين كانوا تحت حكم رسول الله ﷺ أو كانوا اِدّعوا الإسلام ولم يُسلِموا وكانوا من المنافقين وكانوا على ما كان عليه أهل النِّفاق من أن تكون وجوههم إلى اليهود، المنافقون كانت وجوههم إلى اليهود وإن كانوا يُظهِرون الإسلام من باب التُقية حتى لا يؤاخذوا بالأحكام التي نزلت في اليهود وإلا فوجههم إلى اليهود. وهذا قاله ابن عباس في هذه الآية أنها في المنافقين أيضا.
قال ابن كثير: " فأنزل الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) وقوله (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ)" أي يتحدثون فيما بينهم بالإثم وهو ما يختصّ بهم، والعُدوان وهو ما يتعلق بغيرهم . الإثم: ما يكون فيهم، يتعاونون عليه. والعدوان: ما يكون على غيرهم، و(وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) يعني يأمرون بمعصية الرسول ومخالفة أمره، وإذا دُعوا إلى الله وإلى الرسول قالوا سمعنا وعصينا ولا يأتون إلى ما يأمرهم به النبي ﷺ بل يُخافون أمره كما جاء في آخر سورة النور.
/ قال الله جل وعلا (وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) وهذه كانت من أفعال اليهود وأيضا كانت من أفعال المنافقين فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل على رسول الله ﷺ يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة رضي الله عنها وعليكم السام، فقال رسول الله ﷺ :يا عائشة إن الله لا يُحب الفُحش ولا التفحّش ، قلت: ألا تسمعهم يقولون السام عليك؟ فقال رسول الله ﷺ أوما سمِعتي ما أقول؟ وعليكم -قلت لهم وعليكم يعني مثل ما قلتم - فأنزل الله تعالى (وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) )
وفي رواية في الصحيح (أنها قالت عليكم السام والذام واللعنة) -لم تستطع أن تحتمِل- وأن رسول الله ﷺ قال: (يُستجاب لنا فيهم ولا يُستجاب لهم فينا) إذا دعونا عليهم يُستجاب لنا وإذا دعوا علينا ما يُستجاب لهم فلا يهُمنا إذا دعوا علينا.
إذا هل ندعوا عليهم؟
آخر مآل النبي ﷺ أنه لم يكن يدعو عليهم، آخر مآله أنه لم يدعُ عليهم وكما جاء في مسلم أنه قنت شهرا يدعو عليهم ثم نُهي فقال : إني لم أُبعث لعانا إنما بُعِثت رحمة وهذا في قوله جل وعلا (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] فالدعاء عليهم ولعنهم بالمباشرة والمواجهة ينفرهم من الدين والإسلام فحتى لو كانوا يرغبون في السؤال عنه ووجدوك تلعنينهم تركوا هذا الدين وحتى السؤال عنه. فلذلك ينبغي للمسلم ألا يدعو عليهم -خاصّة في وجوههم- حتى لا يُنفِرهم من دخولهم في الدين أو دخول بعضهم في الدِّين.
نتوقف عند هذه الآية ذكرونا أننا ما أنهيناها.
------------------------
(١) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (لما أتى ماعز بن مالك النبي ﷺ قال له لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال لا يا رسول الله قال أنكتها لا يكني قال فعند ذلك أمر برجمه) [ صحيح البخاري » كتاب الحدود » باب هل يقول الإمام للمُقِر لعلك لمست أو غمزت]
(٢) عن جابر قال خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب -شك موسى- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسد. [ سنن أبي داود » كتاب الطهارة » باب في المجروح يتيمم.]
(٣) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ المَازِنِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي، مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ، إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: { هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [ هود: 18] " [صحيح البخاري/ كتاب المظالم والغصب / باب قوله تعالى {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [ هود: 18] ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق