د. عويض العطوي
قال تعالى (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة:١٨٤]
(فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) إنَّ هذه الآية أو هذا الجزء من الآية يدل على كُل خير ومن ذلك أنَّ الإنسان يُمكن أن يجمع بين الصِّيام والإطعام وهذا ما رجَّحه الطبري رحِمه الله فيمكن للإنسان أن يصوم رمضان وأيضاً يُكثر من إطعام المُحتاجين.
كذلِك لو كان على الإنسان إطعام ثلاثة مساكين -على سبيل المِثال- فيُمكن لهُ أن يزيد ويجعلها ستة أو سبعة أو غير ذلك من صور الخير الكثيرة الذي يشملُها هذا العموم الوارد في هذه الجُملة.
ثُم قال الله سبحانه وتعالى (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ) وهذا تفضيلٌ للصيام لمن أطاقهُ واستطاعه وفي هذه الآية شيءٌ يُسمى الالتِفات فإنَّ الحديث في السابقِ كان بضمير الغَيْبَة في قولهِ تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وفي قولِه ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وهُنا قال سُبحانه وتعالى (وَأَن تَصُومُو) بأسلوب الخِطاب حتَّى لا يُظنَّ أنَّ هذه الخيرية في الصيام خاصة بأصحاب الأعذار بل بِكُل من كان في حقِّه الصيام.
كما أنَّ في الالتِفاتِ إلى الخِطاب -يا إخوان- تكريم وقد ذكر الزركشي رحِمه الله في البُرهان أنَّ جُل مافي القُرآن من مُخاطبات المؤمنين كانت بإسلوب الخِطاب وكُل ما كان في خصوص الكُفَّار والمُنافقين أو جُلُّهم كان بأسلوبِ الغَيْبَةِ إعراضاً عنهم، فدائماً إذا أردت إكرام إنسانٍ تُخاطبه وتُحدِّثه وأحياناً تُعرض عنه ولا تذكُره إعراضاً عنه لأي سبب من الأسباب.
/ ثُمَّ قال الله سُبحانه وتعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)
لِماذا ذُكِرت كلمة شهر مع رمضان مع أنَّ رمضان معروف أنَّه شهر ورمضان إذا أُطلِق فهو معلومٌ وعَلَمٌ على هذا الشهر الذي نحنُ فيه الآن فلِمَ ذُكر معهُ كلمة الشهر ؟
قالوا لأنَّه سبحانه وتعالى ذكر في أول الآيات تعريف لهذا الشهر بقوله تعالى (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) فحتَّى لا ينصرِف الذِهن إلى أنَّ الإنسان يصوم أيَّاماً معدودات من الشهر، بمعنى أنَّه إذا رمضان ثلاثين يوم أو كان تسعة وعشرين يوماً فقد يفهمُ الإنسان من قوله تعالى(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) أنَّه يصوم عدَّة أيام ستة أو سبعة أو عشرة وهكذا يكون قد صام أياماً معدودات، لكِن لمَّا ذُكِرت كلِمة شهر رمضان عُلِم أن الصيام يجب أن ينطبق عليه ما يُسمَّى شهراً وهو المعدودُ بثلاثين أو تسعةٍ وعشرين يوماً .
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) تعريف هذا الشهر -أيُّها الإخوة الكِرام- بصِفة إنزال القُرآن هذا للدلالة على بركتِه فإنَّ القرآن كُلُّه بركة ولذلك الله سبحانه وتعالى قال ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) فنزوله في هذا الشهر دليلٌ على أنَّ هذا الشهر شهر بركة وتنزِل فيه البركة وأعظم البركة هو كلام الله سبحانه وتعالى.
طبيعي جداً أنَّنا نعلم أنَّ القرآن لم يُنزّل في رمضان على النبي صلى الله عليه وسلم فقد نزَل مُنجَّماً في سنواتٍ عديدة تصِل إلى ثلاثة وعشرين سنة فكيف أُنزل هذا القرآن في رمضان ؟
أُنزل من اللوح المحفوظ إلى السَّماء الدنيا في ليلة القدر، وليلة القدر من رمضان وبعد ذلك نزلَ على مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنَجَّماً أي مُوزعاً حسب الحوادث والأسباب والقضايا والأوامر والأحكام، فكانت تنزِل الآية والآيتين والسورة والسورتين إلى أن اكتمل نزول القرآن كامِلاً.
/ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ) واذا كان ذلك كذلك فإذاً رمضان هو شهر القرآن وإذا لم ننشط مع القرآن في رمضان فمتى ننشط ؟! والذي لا ينبغي أن يكون فقط تلاوة وقِراءة بمعنى أنَّ بعض الناس يقول أختم مرة أو مرَّتين وإلا ثلاثة، لابُد أن نُفكر في فهمِه والعمل به فإنَّ القرآن أُنزل لهذا ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) لِماذا ؟ ( لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) فذكر الله التدبُّر كغاية من غايات إنزال القُرآن ورتَّب سبحانه وتعالى على التدبُّر التذكُر الذي هو فِعل وتصرف يحصل بسبب التدبر القرآن. نزلَ أيُّها الإخوة الكِرام لنعمل به فاقتراح بما أنَّ معظمنا أيُّها الإخوة الكرام يُحدد جزءً يومياً لما لا نأخذ هذه الأجزاء ونركز على خُلق من الأخلاق خُلق واحد في كُل يوم خُلق أمر الله به فنأخذه ونطبِّقه فإن كان عندي أزيد فيه وأنظر إلى خُلق آخر ذكره الله عن المُنافقين أو عن المُشركين أو نهى الله عنه وأجِد شيئاً منه في نفسي فأتركه وابتعد عنه بهذا اجعل القرآن هو مُحركي الأول، بهذا أجعل القرآن هو المُغير الحقيقي لي، لأنَّنا للأسف أيُّها الإخوة الكِرام أصبح القرآن ليس له أثر رُبما نتأثر بالقصة بالموعظة بالخطبة ربما بالشِعر ربما بالفتوى لكِن قليلٌ منَّا من يتغير بالقرآن الصحابة كان الذي يُغيرهم القرآن يسمعون الآية فيفعلون يسمعون الآية فيتركون فلِم تغير هذا الأمر؟ لأننا أصبحنا نأخذ القرآن تِلاوة فقط أو حِفظ فقط دون أن نُفكر في العمل، فهذا شهر رمضان هو الذي أُنزل فيه القرآن هُدى للناس بشكلٍ عام فهو هُدى للناس مُسلمهم وكافرهم هُدى بمعنى أنَّه يحتوي على أدوات الهُدى ولاشك أنَّه أكثر هداية للمتَّقين ولذلك جاء في أول القرآن هدى للمتقين ( هدى للمتقين).
/ (وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ) أي وآيات بيِّنات من الهدى (وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) "شهِد" هُنا إما أن تكون بمعنى علِم أو بمعنى حضر (شهِدَ) حضرَ من الشهادة وهي الحضور فإذا كان الإنسان قد حضر رمضان أي لم يكُن مسافراً أو مريضاً أي ليس هناك عُذرٌ يمنعه من الصيام فليصُم، أو علِمَ بمعنى علِمَ بدخول الشهر ولا مانع من حمل الآية على المعنيين لأنَّهُما يتكاملان ولا يتضادان.
/ (فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد يسأل سائل لماذا تكررت هذه الآية مع أنَّه سبق أن جاءت فيما قبله؟ السبب أنَّ السياق جاء هُنا بأسلوب الجزم (فَلْيَصُمْهُ) لا على أسلوب الخيار الذي سبق فإنَّه قد قيل إنَّ الآيات السابقة كانت في أول ذِكر أحكام الصيام وكانت على سبيل التخيير بين أن يصوم الإنسان وبين أن يُفطر ويدفع الفدية أما هذه التي بعدها فإن كانت الأولى على الحال الذي ذكرناه فهي ناسِخة لها، فحتَّى لا يُظن أنَّ الحُكم ناسِخٌ لِكل ما سبق التخير وحال المرض وحال السفر جاء التنصيص على حال السفر والمرض للإعلام بأنَّه باقي التخير انتهى لكن حُكم المرض وحُكم السفر باقي فإذا كان الإنسان مُسافراً أو مريضاً فإنَّه يمكن له أن يُفطر.
/ (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) استدلَّ بعضُهم بهذا أنَّه إذا كان كُل أحكام الصيام مبنية على اليسر فإذا كان الصيام يضُر الإنسان فإنَّه يحرُم عليه وإذا كام يشُق عليه فالأولى له أن يأخُذ باليُسر لأن الله قال ذلك (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) فلا يشُق الإنسان على نفسه.
( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) أي بصيام رمضان كامِلاً .
(وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ) أي من صيام رمضان، تُكبِّروه أي في العيد وهو التكبيرات التي نسمعها عند دُخول الشهر الذي يلي رمضان أي بدخول العيد.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي على كُل هذه الفضائل والخيرات والنِعم التي أعطاكم الله إياها في رمضان.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق هذا وصلى الله وسلم على نبينا مُحمد .
________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق