(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
/ د.عبد الرحمن :
طبعا كنا تكلمنا في المجلس الماضي عن آية السرقة وناقشنا علاقتها بمحتوى السورة وكون أخذ أموال الناس وسرقة أموال الناس هو من اﻹخلال بالعهود والمواثيق.
وهذه الآية بدأت بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) والذي يتأمل في نداءات للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم يجد أنه نُودي في القرآن الكريم ( يا أيها النبي ) في كل المواضع إلا في هذا الموضع وفي الموضع الثاني وهو (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وكلاهما في هذه السورة وهذان موضعان استثنيا من نداء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك يقول الرازي -رحمه الله- يقول: "إن النداء بـ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) فيه مزيد تشريف ﻷن الرسالة أخصّ من النّبوة فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول. ولذلك تناسب النداء هنا في اﻵية مضمونه ﻷن فيه بلاغ كما في قوله (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وهنا (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ﻷنه كان فيه نوع من البلاغ خاصة اليهود والمنافقين واليهود بالذات أصحاب كتاب كان لديهم في حادثة ذكرت في التفسير في هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه اليهود يحتكمون إليه -وأيضا سوف تأتي في اﻵيات التي بعدها- فاليهود كانوا إذا أرادوا أن يتهربوا من اﻷحكام الموجودة في التوراة يلجؤن إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعله يحكم بينهم بحكم أخفّ من الحكم الموجود عندهم في التوراة ومنه -كما ذكر مرارا- آية الرجم عندما كانوا يريدون أن يخففوا الحكم على أحدهم وقد ارتكب فاحشة قالوا نذهب إلى محمد لعله يحكم بحكم أخفّ من حكم التوراة فحكم التوراة الرجم فلما جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخفوا هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا مدخل للحديث عن هذه الآية. ولعلنا نواصل فيها.
/ د. مساعد: كما ذكرت المفسرون ذكروا عدة أسباب في النزول منها ما ذكر أنها نزلت في أبي لُبابة وكان حليفا لبني قريظة فلما جاء إليهم سألوه ماذا سيفعل بنا محمد صلى الله عليه وسلم فأشار بالذبح. هذا قول.
قول آخر: نزلت في رجل -كما ذكرت- من اليهود أنه قتل رجلا فسأل أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم القتل لعله يجده أخفّ فيحتكم إليه ، فلما رأى أن القتل بالقتل تركه .
وقيل: إنها نزلت في المنافقين أيضا.
هذه الأقوال بالنسبة لطالب العلم حينما يطلع عليها قد يقع عنده إشكال في كيفية التعامل معها. ودائما نوجِّه في مثل هذه اللقاءات إلى دقائق علمية ليستفيد من يقرأ في التفسير.
واﻹمام الطبري من أدق المفسرين في رسم هذه المنهجيات ولهذا الطبري -رحمه الله- في هذه اﻵية رأى أن هذه اﻵية معنيّ بها أهل النفاق أولا ولهذا يقول -رحمه الله تعالى- وهو يناقش هذه المسألة، يقول -رحمه الله تعالى- فيها بعدما قرر أنها في قوم منافقون "وجائز أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية" لاحظ عبارة "مِمن دخل" أنه عُني بها أوﻻ المنافقون لكن يجوز أن يدخل فيها ابن صوريا وجائز أن يكون أبو لبابة وجائز أن يكون غيرهما ويرى أن أثبت شيء رُوي في ذلك ما ذكرناه من رواية عن أبي هريرة وعن البراء بن عازب لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هنا اﻵن يضع منهجية أخرى وهي: أن إذا اتفق أكثر من شخص من الصحابة في سبب النزول. سبب النزول الصريح إذا رُوي عن صحابي فهو مقدم . قال "وإذا كان ذلك كذلك كان الصحيح من قوله بأن يُقال عني به عبدالله بن صوريا" فرجع إلى قول ابن صوريا. فمعنى ذلك أنه اﻵن يصحح أن كل ما قيل مُحتمل أن يدخل في اﻵية. وذكر بعد ذلك ما يتعلق بقصة عبدالله بن صوريا في هذا الخبر الذي ذكره لكن المقصود في هذا أننا حينما نأتي نعالج مثل هذه القضايا أن ننظر إلى صحة دخول السبب المذكور في معنى اﻵية. فعندنا هذا نظر .
والنظر اﻵخر : من عُني باﻵية أولا.
فعندنا نظران: السبب المباشر وما يدخل بعد ذلك في هذا السبب. فالطبري -رحمه الله تعالى- بيّن هذا وهذا، قال أن السبب كذا للعلة الفلانية وهذا يدخل معه ﻷنه مُوافق له في الحُكم.
/ د. محمد الخضيري:
في قوله (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ) نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يصيبه شيء من الحزن في مواطن كثيرة وذلك ﻷن هذا الذي يجري بقدر الله سبحانه وتعالى وأنت من حّرصك قد تحزن ولكن اعلم أن هذا كله هو من تقدير الله جل وعلا وأن الله يريد بهم غاية معينة فلا يصيبنك الحزن ﻷنك قد أديت ما عليك. وهذا النهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن هو نهي له عن شيء يُغالبه عليه الصلاة والسلام فهو من باب الرفق به، فهو من شدة حِرصه عليه الصلاة والسلام يحزن ويُصيبه الضيق الشديد من عدم إيمان الناس وﻻ يلُام اﻹنسان على هذا لكن الله عزوجل يقول له ﻻ تقلق ولا تحزن وﻻ يصيبك شيء من الهمّ ﻷن اﻷمر بيد الله وأنت قد أديت ما عليك.اﻹنسان إنما يحزن على شيء قد قصّر فيه أما شيء من أمر الله وقدرِه فينبغي له أﻻ يصيبه الحزن عليه.
/ د. عبدالرحمن الشهري:
ولعله قوله هنا (لاَ يَحْزُنكَ) فيه إشارة إلى أن اﻹنسان يستطيع أن يدفع الحزن عن نفسه ﻷنه هنا نهي عن شيء له فيه إرادة فدل على أنه نهي عن الاستسلام لهذا الشعور السلبي وهو شعور الحزن حتى ﻻ يقضي عليك كما قال (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف:٦] من الحزن ولذلك النهي هنا (لاَ يَحْزُنكَ) تضمن أمرين:
أوﻻ: توقع أسوأ اﻻحتماﻻت. يعني ماذا تتوقع يا محمد من هؤﻻء المنافقين ومن هؤلاء اليهود وأنت تعلم أنهم ينابذونك ويناصبونك العداء . فتوقع أسوأ اﻻحتماﻻت يخففها إذا وقعت. هذه مسألة.
المسألة الثانية: مدافعة هذا الشعور بعد وقوعه. فأنت إذا وجدت منهم تكذيبا أو مُناصبة للعداء فلا يحزنك ذلك فإنه ﻻ يتوقع من أمثال هؤلاء غير هذا. ثم إذا وقع منهم هذا التكذيب وهذا العداء فلا تستسلم لهذا الشعور وهو شعور الحزن.
فهذا هو معنى قوله (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ).
/ د.محمد الخضيري:
هنا وقفة: الحُزن إذا وقع بأسباب قدرية هو شيء غير إرادي لكن -كما ذكرت أو أسلفت- وهو أن اﻹنسان ينبغي له مدافعة أسباب الحزن والخروج والنأي بالنفس عن أن تبقى في دائرة هذا الحزن ولذلك يُشرع لنا إذا وقع إنسان في حزن بسبب فقد حبيب أو نحوه يُشرع للمسلمين أن يذهبوا إليه ليعزوه ويواسوه ويدفعون عنه هذا الحزن وﻻ ينبغي لمن يأتي لتعزية إنسان أن يثير مُكامن الحزن عنده، بل يفتح له باب اﻷمل والرجاء ويشير إلى.. يقول "ما شاء الله والدك كان كذا وكذا وما عند الله خير وأبقى..خرج من دار الهموم واﻷكدار واﻷحزان..رجل كان يصلي ويصوم..كان موحدا لله عز وجل" فيفرح أنه قد انتقل من شيء إلى شيء أطيب وأخير منه.
أذكر بهذه المناسبة: أن أبا الوفاء عقيل الحنبلي الشهير صاحب كتاب الفنون وهو من أكبر كتب الإسلام كانوا في جنازة ﻷبي الوفاء نفسه فقال رجل والناس يمشون في هذه الجنازة : يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ) يريد بذلك التهييج على أنك قد أخذت شيئا عظيما وكذا. خذ أحدنا مكانه. فقال له أبو الوفاء -وهذا فائدة العلم- قال: "اسكت يا هذا إنما نزل القرآن لدرء اﻷحزان" القرآن نزل لدرء اﻷحزان ﻻ اجتلابها وإثارتها فأنت استعملت القرآن في غير مقصوده.
والله لفتة في غاية الجمال. مما يدل على أن الإسلام جاء لدرء هذا الحزن كون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص أشد الحرص على الدعاء بإذهابه يقول ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) مدار آﻻم الناس النفسية ومشاكلهم في هذه الحياة على هذه الثمانية كما قال ابن القيم في زاد المعاد وحررها تحريرا بالغا يقول: إن الشقاء يدرك الإنسان من واحد من هذه الوجوه الثمانية: إما الهم والحزن، وإما العجز الكسل -وكلاهما متقابل بالمناسبة- وإما الجبن والبخل، وإما غلبة الدين وقهر الرجال. مثلا -على سبيل المثال- غلبة الدين يعني بشيء باختياره، وقهر الرجال شيء بغير اختياره. يعني أن يُقهر اﻹنسان من طرف خارجي إما أن يكون ذلك باختياره لأنه استدان منه أو بغير اختياره كأن يقهروه قهرا -والعياذ بالله- بأن يؤذوه في بلده أو في عِرضه أو في غير ذلك -نسأل الله السلامة والعافية.
/ د. مساعد الطيار:
أيضا ﻻحظ في قوله (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ذكر المُسارعة في الكفر وكأنهم يطلبون الكفر طلبا ثم بيّن صفة هؤﻻء قال (مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) وهذه صفة المنافقين ولهذا ابن صوريا هو يُعدّ مثلا من أمثال المنافقين اليهود.وكذلك من قال نزلت في المنافقين ﻻ يبعُد ﻷن هذا المنافق ﻻ يمنع أن يكون من هذه الطائفة ﻷنه قال بعدها..
/ د. عبد الرحمن الشهري:
يعني يكون ممن تظاهر باﻹسلام وكان من اليهود فيكون منافق .. مرتدا.
/ د. محمد الخضيري:
(يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) هذا يُبين لنا في الحقيقة أن الكفار ليسوا على وجه واحد، منهم من يكفر ومنهم -والعياذ بالله- من يسارع في الكفر بمعنى أنه يستبق إلى أسبابه <يتنقل في دركاته بسرعة> يعني في مقابل ما طلبه الله من عباده ومسارعة إلى رضوانه ومغفرته (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:١٣٣] ثم ذكر أوصافهم، هنا فيه أقوام على العكس من ذلك، ما يجد مجاﻻ فيه -والعياذ بالله- إضرار بدين الله وصدّ عن سبيل الله وإضرار بأهل اﻹسلام وإِبعاد لهم عن هذه القيم العظيمة والشرائع الكريمة التي أنزلها الله على عباده إلا فعله، أي مكان فيه سوء تجد هذا الرجل من أوائل الحاضرين والقائمين فيه، ﻻ يُذكر بخير أبدا. وأنا أرى اﻵن بعض المنافقين في المجتمع -ممن يسمون الليبراليين وغيرهم- ﻻ ترى له خيرا أبدا، يعني ﻻ تعرفه في قضية من قضايا المجتمع أو حقوق من حقوق الناس أو نحو ذلك، أو وقوفه مع الضعفاء والمساكين أو في أي فضيلة من الفضائل، كل ما يدور عليه هو دركات هذا الشر والبلاء الذي يجلبه للمجتمع، يعني لو تصفحت مقالاته..مواقفه..اﻷحداث التي مرت به تجده دائما في هذه الدوائر كأنما يتنقل من درك إلى درك نسأل الله العافية والسلامة.
/ د.عبد الرحمن الشهري:
أيضا في قوله (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) التعدية هنا بـ "في" فيها إشارة إلى أنهم أصلا لم يخرجوا منه وإنما هم في داخله يتنقلون في دركاته من دركة إلى دركة.
ما قال يسارعون إلى الكفر ﻷن "إلى" تدل على اﻻنتقال إلى الشيء بعد أن لم يكن -فيه انفصال- لكن "في" هنا تدل على الظرفية ما خرجوا أصلا من الكفر ولكن يتنقلون من سِفل إلى سُفل ومن دركة إلى دركة.
/ د. محمد الخضيري :
والعجيب أن التعبير بـ "في" أجدها كثيرا في قضية الكفر من جهة أن اﻹنسان كأنما أحاط به الكفر من جميع جوانبه فصار وعاء له فهو لا يفكر إلا في هذا الدرك ولذلك قال ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) [البروج:١٩] يعني داخل هذا التكذيب ﻻ يزيدون عليه أو ﻻ ينتقلون منه أصلا والتكذيب صار وعاء لهم (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) [المائدة:٦١] يعني أيضا لم يخرجوا منه صار ظرفا لهم ملازما لهم.
قال (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ) "من" هنا بيانية تُبين مَن هم هؤلاء الذين يسارعون في الكفر.
(مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) في القرآن لا يكاد يُذكر أن اﻹيمان يقوله إنسان إلا وهو ليس متلبساً به <ﻻ يدعيه> (يقولون آمنا بألسنتهم ) وإلا المؤمن يُوصف باﻹيمان وﻻ يقال عنه ( يقولون آمنا) معناه يقوله بلسانه ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) ما نُسب اﻹيمان إلى القول إلا كان ذلك دليل على أن صاحبه عرِيٌ عنه وأنه ليس مُتلبسا به في الحقيقة وإنما هو يقوله بلسانه، دعوى مجردة ﻻ حقيقة لها. وبهذا نعرف أن كثيرا من هؤلاء المنافقين إنما صلتهم باﻹسلام بمجرد اﻷلسنة ولذلك هم يفعلون أفعال الكفر ويقولون كل شيء وفي النهاية يقول لك يا أخي نحن مسلمون وأنا جدي الشيخ الفلاني والعالم الفلاني وأنا الحمد لله أفعل كذا وﻻ أفعل كذا، يحاول أن يثبت دعوى إسلامه بلسانه. طيب أين أفعالك؟! أو تجد اﻵن كثير من الشنشنة التي نراها من كثير منهم وهي قضية الضوابط الشرعية، والله -استغفر الله- ما بقي إلا أن يقولوا زنا بالضوابط الشرعية، من جهة أنهم يستعملون هذه الكلمات استعمالا ممجوجا ﻻ يقبله عقل.
/ د.عبد الرحمن الشهري:
ﻻحظ هنا في اﻵية أنه لم يقل ( من الذين قالوا آمنا بألسنتهم وإنما قال (قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ) والفرق -والله أعلم - كأنهم لسِعة دعواهم وأنها دعوى عريضة يعني كأنها تملأ الفم وهي كلها كذب وزور فهم لم يقولوا بألسنتهم فقط بأطراف ألسنتهم بل من سِعة دعواهم وعُرضها ملأت الفم كما نقول اﻵن في التعبير الدارج - بأقولها بالفم المليان- إشارة إلى الثقة المطلقة فيها مع أنها لا حقيقة لها.
/د. محمد بن عبد العزيز الخضيري :
وبالمناسبة: المتأمل للمنافقين أنهم لا يمكن يُعرفون إلا من جهة لحن القول فإن الله عز وجل قد خيبهم في هذا الجانب بمعنى أنهم يتكلمون ومن لحن كلامهم .. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) قال قبلها (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) [سورة محمد 30] لكن الله ما شاء ذلك لعموم اﻷمة ولم يشأه لرسوله عند نزول اﻵية ثم شاءه بعد ذلك فأَعلمه إياهم بأسمائهم قال (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) وهو أن تعرف أن هذا منافق أو غير منافق قال بعدها (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أنت تعرفهم في لحن القول وأمتك أيضا ستعرفهم في لحن القول، يعني فيا أهل اﻹسلام إذا أردتم معرفة المنافقين فاجتهدوا في سماع أقوالهم وقراءة كلامهم وتتبعهم ستعرفون من لحن كلامهم أنهم على هذه الشاكلة.
<وهم لا يستطيعون إخفاء حقيقتهم>
/ د. مساعد الطيار: ولهذا ميزة القرآن أنه اعتمد اﻷوصاف لا اﻷسماء في هذا المقام ﻷن الوصف باقٍ بخلاف اﻷسماء.
/ د. عبد الرحمن الشهري: فعلا ولذلك لا يوجد في القرآن الكريم -على كثرة ذكر المنافقين - اسم منافق واحد لا يوجد أبدا.
/ د. محمد الخضيري: نعم ليس هذا من منهج القرآن -تعليق الحكم باﻷشخاص- وإنما تعليق الحكم باﻷوصاف حتى يبقى صالحا لكل زمان ولكل مجتمع.
/ د. مساعد الطيار : ذُكر فقط زيد في قضية خاصة وهي تعتبر قضية خاصة، من اﻷمور الخاصة فقط وهي قضية التبني.
/ د. عبد الرحمن الشهري:
هنا في قوله (مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ) فقدّم ذِكر إﻹيمان على الوسيلة وفي هذا إشارة -والله أعلم- إلى أنهم لا يُبالون بكثرة الدعاوى، المنافقون هم أكثر الناس ادعاء للإيمان، وهم أكثر الناس ادعاء للوطنية، وأكثر الناس إدعاء على مصلحة البلد وهم أكذب الناس وأفجر الناس فليس لديهم حرص على دين ولا حرص على وطن ولا حرص على أعراض بل هم بخلاف ذلك ولذلك قال (مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا) كأنهم من سهولة الدعوى يُقدمونها ويسارعون ويقولونها بكل سهولة وهم أكذب الناس في الالتزام بها.
/ د. محمد الخضيري:
والثانية: في قوله (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) <وهذا تأكيد لهذا> ونسب اﻹيمان إلى القلب دليل على أن أصل اﻹيمان في القلب وأنه ينبغي للمؤمن وينبغي للصادق مع نفسه أن يعتني بأمر قلبه ﻷن منبع اﻷعمال والمكان الذي تقرّ فيه هذه الحقائق والعقائد هو القلب وإذا استقرت في القلب ظهرت ظهورا تاما على الجوارح قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) فليعتني الموفق الصادق مع نفسه بقلبه ﻷنه إذا فعل ذلك سهُل عليه قيادة جوارحه، كثير من الناس اﻵن يشتكي يقول أنا قليل الصلاة وإلا جوارحي ما تطيعني -مثلا- لقيام الليل أو صلاة النهار أو.. أو.. إلخ فيقال له ارجع إلى قلبك لو كان قلبك حيا وكان طاهرا نقيا سهُلت عليك هذه اﻷعمال لكنك عكست القضية فأنت تريد أن تجُر بدنك إلى شيء لا يواتيك عليه قلبك والعبرة بالقلب.
/ د. عبد الرحمن الشهري: نعم وهنا أيضا إشارة إلى أن اﻹيمان الحقيقي ليس هو المعرفة فقط والقول باللسان فقط وإنما هو اﻹذعان والانقياد ولذلك قال (مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) والمقصود بـ (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) أي لم تَنقَدْ ولم تُذعِن ﻷمر الله سبحانه وتعالى.
/ د. مساعد: يعني ليس هناك مواطأة بين ما يقوله اللسان وبين ماهو في القلب. طبعا هذا الصنف اﻷول، الصنف الثاني قال (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ)
/ د. عبد الرحمن: يعني اﻵية تشير إلى صنفين وهم المنافقون واليهود.
/ د. مساعد : طبعا (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ) معطوف عليها، لا الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ولا الذين يسارعون في الكفر من الذين هادوا.
/ د. عبد الرحمن: لذلك يوجد هنا في المصحف تعانق وقف لو تشرحها لنا .
/ د. مساعد : عندنا في قوله سبحانه وتعالى (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ) هذه هي جملة التعانق، إذا قلنا (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) ثم نقف ثم نقول (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ) استئناف جديد، أو (لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ) ثم نقف ثم نقول كلاهما (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) فهذا وجه التعانق فمقطع التعانق قوله (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ)
/ د. عبد الرحمن : المقصود بالتعانق أنك إذا وقفت في أحد الموضعين لا تقف في اﻵخر حتى لا يقع اختلال في الكلام.
/ د. مساعد: نعم. وكل موضع يكون له معنى. والمسألة اﻵن السمّاعون هؤلاء هل هم اليهود فقط أو اليهود والمنافقون الذين ذكروا قبل؟ هذا وجه التنوع في معنى اﻵية.
/ د. عبد الرحمن : بحكم أنك يا د. كتبت في هذا الموضوع [وقوف القرآن وأثرها في التفسير ] ما وُصف بوقف التعانق كم موضع في القرآن الكريم تقريبا؟
/ د. مساعد: طبعا يختلف باختلاف المصاحف.
/ د. عبد الرحمن : على أكثر إحصاء مثلا.
/ د. مساعد: قرابة المئة، من السبعين فما فوق. يوجد كتاب لمحمد الصادق الهندي طبع كتابه طبعة حجرية عام 1290هـ اسمه [كنوز أوقاف البرهان في رموز أوقاف القرآن] وذكر هذه اﻷوقاف التي هي أوقاف السجاوندي ومنها وقف التعانق هذا -طبعا ليس من أوقاف السجاوندي- لكنه ذكره وذكر خلافا بين المتقدمين والمتأخرين لكن لا أعرف مقصوده بالمتقدمين والمتأخرين وسرد جميع أوقاف التعانق فيها.
/ د. عبد الرحمن : وبعض المؤلفين يُسميه وقف التجاذب أو تجاذب الوقف، يعني كأنه كل واحد يجذبك إليه إما أن تقف هنا وإما أن تقف هنا.
/ د. مساعد: أو المراقبة سُمي وقف المراقبة.
/ د. عبدالرحمن : بمعنى وأنت تقف تُراقب الموضع الثاني.
/ د. محمد الخضيري: طبعا الذي يظهر لي -والله أعلم - أننا إذا وقفنا على قوله (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ) يعني (قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ) ثم ابتدأنا بقوله (سَمَّاعُونَ) أن هذا يكون المعنى فيه أعم ﻷن قوله (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) صنفان : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا ثم (سَمَّاعُونَ) كلاهما فيكون هذا أعمّ من القول الثاني، هل هذا مُرجِح له؟
/ د. مساعد : هولاشك وأيضا تفسير السلف مضى على هذا أن السماع من اليهود ومن المنافقين.
/ د. عبد الرحمن : هذه اﻵية فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ﻷن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرتم - كان عليه الصلاة والسلام ربما يحزن لهذا التكذيب الذي يجده إما من المنافقين وإما من اليهود ومن أهل الكتاب عموما، ولذلك هذه اﻵية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ﻷن اﻹيمان يحتاج إلى قلوب ويحتاج إلى أوعية صافية من هذا الكدر -كدر النفاق والتكذيب والمكر- الذي يمارسه هؤلاء. وهذه أيضا إشارة إلى أنه ينبغي على المسلم أن يعتني بقلبه وأن يجنبه الوقوع في مثل هذه الشبهات وهذه الشهوات فإنها تفسد على اﻹنسان التصور وتحول بينه وبين وصول الحق إليه ولذلك تذكرون في قصة عمرو بن طفيل الدوسي رضي الله عنه أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو جاء إلى مكة حاولت قريش أن تحول بينه وبين الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشوّهت سمعة النبي صلى الله عليه وسلم قالت هذا ساحر وهذا سيشوه فكرك -خائفون عليه من اﻻنحراف الفكري- حتى أنهم مازالوا به حتى وضع القطن في أذنيه. وهذا هو دور هؤلاء المنافقين ودور هؤلاء الذين هم قطاع الطرق إلى الله سبحانه وتعالى، وما أكثرهم اليوم -لصوص القلوب- هؤلاء اليوم يحاولون أن يحولوا بين اﻷمة بين الدعاة وبين العلماء وبين المصلحين بتشويه سمعتهم وإلصاق
مختلف التُّهم، بأن هؤلاء إرهابيين .. هؤلاء طلاب سلطة .. هؤلاء كذا والتُّهم كثيرة وقديمة وأحيانا تتكرر ولكن بمصطلحات جديدة، فتسلية النبي صلى الله عليه وسلم هي تسلية لكل أتباعه وهي درس لكل داعية ولكل مصلح لئلا يحزن من هؤلاء الذين يسارعون في الكفر.
/ د. محمد الخضيري:
قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) هذه تحذير للمؤمن بألا يكون سمّاعا للكذب ﻷن هذه صفة المنافقين وصفة لهؤلاء الذين لما طمس الله قلوبهم ابتلاهم بألا يستمعوا إلا إلى الكذب ويُصدِّقون هذا الكذب الذي يختلقه بعضهم، وهذا بلاء من الله سبحانه وتعالى أنه كذب محض وافتراء بيّن ومع ذلك يستمع إليه اﻹنسان ويبني عليه تصرفاته ومواقفه. أيضا أنت أيها المؤمن إياك أن تستمع إلى الكذب.
اﻵن أنا ألاحظ أن بعض الناس في حياته لا مانع لديه أن يقرأ لكل من يكتب ولا يتفحص من هذا الذي يكتب، يا أخي هذا إنسان مشكوك في دينه ومشكوك في أمانته ولا يُعرف بفضيلة واحدة كيف تُعيره عقلك حتى لو على سبيل النظر المجرد حتى لو كنت مقتنعا وأنت لست ممن يُعنى بالرد عليهم ومقارعتهم ومدافعتهم لماذا تُعرِّض قلبك وسمعك لهذا الكذب،؟! ﻷن هذا الكذب -كما ذكرت أبا عبد الله - يفسد تصوراتك. يعني اليوم أنت تقول أنا ما أصدقه وغدا ما أصدقه وبعد غد ما أصدقه لكن إذا جاؤا عشرة وكذبوا وكرروا هذا الكذب عدة مرات ما تشعر إلا وأنت بدأت تنساق لا إراديا إلى ما يقولونه لك. يقولون عندنا مثلا بالعامي <العيار اللي ما يصيب يدوش> يعني قد يصيبك بنوع من الربكة قد يقول قد يكون ما يقوله هؤلاء جميعا حقا.
أنا يا إخواني ما أخفيكم قبل يمكن قرابة شهرين زرت إنسان وهو قارئ من الدرجة الأولى صُحف اليوم هذه يمكن يمر عليها كلها، الكُتّاب -أعمدة المقالات- ما يترك أحدا منهم يحصيهم لك باﻷسماء ويأخذ قصاصات اﻷوراق -هو ليس تقنيا أي لا يقرأ تويتر ولا غيره- فتجد القصاصات عنده. لما ناقشته في بعض القضايا الحاضرة وإذا به يتبنى وجهة النظر اﻷخرى التي لا تمُت إلى الحق ولا إلى القِيم بصلة. استغربت .. الرجل من الصالحين ومن أهل المساجد وأعُدّه من الناس المميزين -حقيقة- استغربت لكني نظرت إلى اﻷمر فوجدته صحيحا، الرجل يستمع إلى الكذب بدرجة عالية جدا، يتعرض للشّبه وتشويه الحقائق يوميا فما يزال به هؤلاء حتى يجرونه وهم أصحاب تلبيس لا يمكن أن يقول لك الحق هذا والباطل هذا ويقلبها هكذا قلبا مُجردا بل لابد أن يقدم لها بمقدمات ويُسوِقها ويُزوقها حتى يصل بك إلى هذه النتائج الكاذبة.
/ د. مساعد: وهذا يدل على تأثير المسموع.
/ د. عبد الرحمن : وأيضا فيه إشارة هنا إلى أن هؤلاء الذين وقعوا في النفاق وفي التكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم هم كانوا واقعون تحت تأثير هذه اﻹشاعات ﻷنه يقول أنهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم لماذا؟ قال (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) يا محمد، فكثرت استماعهم للكذب واستماعهم لهؤلاء اليهود المغرضين الذين يحاولون تسميم اﻷفكار الذين يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كانوا هم لا يأتون إليه- تأثروا وأصبحوا منافقين والعياذ بالله.
/ د. محمد الخضيري:
لاحظ .. هذه القضية ليست في عصرنا وحدنا بل في كل العصور. انظر لما جاءت قضية الفلاسفة وأهل الكلام وبدؤا يتكلمون في العقائد وجاءا بأدلتهم وسفسطاتهم و مناقشاتهم وشبهاتهم ومجادلاتهم ومناظرات الكلامية الطويلة أثرت هذه على كبار علماء اﻹسلام حتى تلك العجوز النيسابورية لما مرّ بها فلان من العلماء فقيل لها إن هذا يثبت وجود الله سبحانه وتعالى بألف دليل ودليل.
/ د. مساعد: قالوا لها: افسحي الطريق قالت: ولمن؟ قالوا: هذا -ذكروا رجلا من أعلام المسلمين- قالوا هذا فلان الذي أثبت وجود الله بألف دليل ودليل.
/ د. محمد الخضيري :
قالت: والله لولا أن في قلبه ألف شك وشك ما احتاج إلى ألف دليل ودليل وهل يحتاج وجود الله إلى دليل؟!
انظر بصفاء فطرتها ونقاء قلبها وصدق إيمانها رأت أن اﻷمر فوق اﻷدلة. هو المسكين كلما تأتي شبهة يبحث عن دليل يدرأ به تلك الشبهة فهو في صراع مستمر. يا جماعة هونوا على أنفسكم الحق بين أيديكم، أأنتم تشكون في الله أو في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما كذباكم ولقد محضاكم النُّصح والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) فلِمَ نتتبع بُنيات الطريق ونسمع من فلان وفلان (أفي شك منها يا بن الخطاب والله لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي).
/ د. عبد الرحمن : لاحظ هنا في وصف الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المُحرِّفين للكلام بقوله سبحانه وتعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) في مواضع أخرى يقول (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ...) [سورة النساء 46] وهنا يقول (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) وهنا إشارة إلى أنه بعد وضوح الحق واستقراره أنهم يُحرِّفونه واليهود معروفون بأنهم ارتكبوا كل أنواع التحريف،حرفوا في التوراة بالزيادة فيها وحرَّفوها بالنقص منها وحرَّفوها بتغيير معانيها وتأويلها على غير ظاهرها وتحميلها مالا تحتمل.
/ د. مساعد: وآية الرجم بالذات والتي كررها المفسرون لهذه اﻵيات التي مرّت قبل واﻵن يكررونها ويُنبهون عليها -آية الرجم- مشهورة عند المفسرين حتى أنهم يقولون زنت امرأة من أشرافهم اسمها بُسرى فقال أحدهم اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن جاءكم بالجلد فخذوه وإن جاءكم بالرجم فاتركوه.
/ د. محمد الخضيري: في قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) هم يستمعون الكذب بكثرة وهذا السماع الكثير يُؤثر، ثم قال (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) لتقوم عليهم الحجة.
ما معنى قوله (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) ؟
يحتمل أن يكون معناها أنهم هم يستمعون، ويحتمل أن يكون معناها سمّاعون ليُوصلوا الكلام إلى قوم آخرين لم يأتوك، يعني كأنما مهمتهم نقل الكذب إلى قوم آخرين لم يأتوك يصدونهم به عن الحق، فيكون اﻹنسان عنده مهمتان، ولا مانع من حمل اﻵية على المعنيين : أنه هو يستمع الكذب ثم يقوم بدور التوصيل، وهذا ما يحصل بالفعل، يسمع الكذب حتى يتشرّبه ثم يذهب إلى الناس ويبلغهم إياه وهو كذب فباء بإثمين: اﻷول أنه سمع الكذب والثاني أنه نقل هذا الكذب إلى قوم آخرين لم يأتوك فصدّهم به عن اتباع الحق. ولذلك نقول: احذر يا عبد الله يا مسلم إذا كنت لست معنيا بالرد على هؤلاء المنافقين .. هؤلاء المغرضين الصّادين عن دين الله عز وجل فإياك أن تستمع أصلا ، وإذا كنت معنِيا بالرد عليهم ومجاهدتهم فليكن دورك في أن تسمع لترد وتقوم بهذا اﻷمر لا من أجل أن تنقله إلى أهل اﻹسلام فتُلبِّس به عليهم أو تنقله إلى غيرهم فيلتبِس عليهم الحق بالباطل.
/ د. عبد الرحمن : لكن هل يمكن أن ينسجم هذا عندما تقول (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) هذا وصف لهم وليس لغيرهم فهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم أراد الله أن يُبين سبب اتصافهم بهذه الصفة وهي النفاق وعدم استقرار اﻹيمان في القلب ﻷنهم يسمعون للكذب ويستمعون لقوم آخرين لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك يذكر المفسرون أن المقصود بهم أناس من -إن صح التعبير- من مثقفي اليهود المُغرضين الذين يُسمِمون أفكار هؤلاء، الذين يرتادون مجلس النبي من المنافقين وغيرهم.
/ د. مساعد : وبعضهم قالوا يهود فدك. وهذا يبدو أقرب ﻷن المعنى الثاني فيه بُعد.
/ د. عبد الرحمن : وإن كان المعنى الذي ذكره الد. محمد هو معنى صحيح في نفسه لكن هل اﻵية تدل عليه أو لا؟
/ د. مساعد :
فيه بُعد. قال (سَمَّاعُونَ) وصف لهؤلاء القوم أنهم سمّاعون للكذب وهؤلاء القوم أيضا (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) والقوم الذين لم يأتوك هم من اليهود يقولون لهم إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بنبي. ولهذا هي دائرة في الخبر عن اليهود وعن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعما جاء به من الشريعة.
/ د. عبد الرحمن :
لا وهذا فيه إشارة إلى كثرة الاحتشاد -إن صح التعبير- من اليهود ومن أهل الكتاب والمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ﻹطفاء هذه الدعوة. فكانوا يحاولون أن يجاهدوها جهادا فكريا ويبذلون جهدا كبيرا، وأنا أعتقد كانوا يعقدون اجتماعات ونقاشات طويلة كيف يردون على محمد صلى الله عليه وسلم، ويحاولوا أن يشوهوا أفكار الذين من حوله الذين يرتادون وربما يتلقّونهم يقولون ها ماذا قال لكم اليوم؟ لا تصدقونه، لا .. هذه كذا .. هذه كذب .. ردوا عليه بكذا .. قولوا له كذا حتى يحاولوا يضربوا .. ولذلك الله سبحانه وتعالى ما قال (لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إلا بعد أن وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حزن من الحرب الفكرية التي تُمارس عليه فأراد الله سبحانه وتعالى أن يُبيّن له أن هذه الجهود التي تُبذل في تشويه صورة الإسلام وصورتك فكريا كلها ستبؤ بالإثم ولذلك -والله أعلم- في قوله (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) فيها كشف لهذه الخلايا النائمة التي تتآمر عليك يا محمد فيه ناس من مُثقفي اليهود جالسين يُشوهون الصورة -صورتك- وأنت ما تدري، يخرجون هؤلاء من عندك مساكين ما يفهمون فيذهبون يجلسون معهم يأخذون بعض التوجيهات ويأتون يجلسون عندك. وهذه تراها تتكرر في كل زمان ومكان دائما يعقد أهل الباطل الخلايا والاجتماعات والجهود والمؤتمرات كيف يردوا على اﻹسلام كيف يبطلوا مفعوله.
/ د. محمد الخضيري : كلامكما -الحقيقة- يدل على أن هؤلاء يأتيهم الباطل من جهتين:
الجهة اﻷولى: سماعُهم للكذب ، كونه أصلا يقبل الكذب -جاهز لتلقي الكذب- هذا واحد.
الثاني: جاهز لتلقي ما يؤكده أو ليس عندهم يقين (لم يأتوك ). وهنا نسأل : الآن أحيانا تحدث حادثة فيوظفها أهل الباطل توظيفا سلبيا سيئا تذهب إلى واحد منهم : تعرف هذه الحادثة؟ لا ما أعرفها ، طيب كيف كتبت عنها؟ قال: شاع وانتشر وكذا. سبحان الله !! ألا تبرعت عندما أردت أن تكتب بأن تتثبت أنت بنفسك من الشيء الذي وقع.
لعلي أذكر هنا بواقعة وقعت في المدينة اتهمت فيها قضية هيئة وكتب فيها كثير من الكتاب ثم خرجت براءة الهئية تماما -هيئة اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بعد سنتين من التحاكم والتثبت وتبين أنه لا صلة لها بالقضية.
هؤلاء الذين كتبوا وألصقوا التهمة هل تثبتوا؟ لم يتثبتوا وإنما أخذوها من أناس مغرضين أشاعوها وبدأوا يكتبون، وبعضهم -بالمناسبة- ليس ضالا في نفسه وإنما ﻷن فلان وفلان .. عشرة من الكتاب كتبوا كتب هو معهم وأضاف رقما والثاني عشر أضاف رقما حتى وصلت إلى ثلاثين مقالا في خمسة أو ستة أيام، تقول لهؤلاء العشرين من أين كتبتم؟ قالوا من العشرة، طيب هؤلاء العشرة فيهم أحد ذهب -سافر- وتتبع أطراف الموضوع حتى يصل إلى الحقيقة؟ لا .. ليس فيهم أحد، إذا كيف تفعل ذلك؟! يا أخي لا تكن سمّاعا للكذب، هذا واحد.
ثانيا : لا تكن سماعا لقوم لم يتحققوا من اﻷمر من وجوهه ومن مواقعه، بل خذ اﻷمر بجد بنفسك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا.
/ د. مساعد: لعلي أختم أبا عبدالله بخبرين:
- عندنا السُدّي قال: "(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدا" ﻷن الرجم كان شديدا عليهم.
والرواية الأخرى : الشعبي عن جابر -والشعبي روى كثيرا عن جابر خاصة في التفسير- قال هنا: "(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) يهود فدك يقولون ليهود المدينة إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا الرجم" ثم أورد رواية عن ابن عباس بنفس المعنى قال: "هم اليهود زنت منهم امرأة وكان الله قد حكم في التوراة في الزنا بالرجم فنفِسوا أن يرجموها وقالوا انطلقوا إلى محمد فعسى أن يكون عنده رخصة، فإن كان عنده رخصة فاقبلوها، فأتوا فقالوا: يا أبا القاسم إن امرأة منا زنت فما تقول فيها؟ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حكم الله في التوراة في الزنا؟ فقالوا: دعنا من التوراة نقول لك ما عندك في ذلك؟ قال: ايئتوني بأعلمكم في التوراة التي أُنزلت على موسى فقال له: بالذي نجاكم من آل فرعون أو بالذي فلق البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون إلا أخبرتموني ما حكم التوراة في الزنا؟ قالوا : حكمه الرجم" يعني هم جاؤا يريدون التخفف .
المقصود من هذا: أنه تتوارد روايات الصحابة والتابعين على مسألة الرجم هنا وأيضا إشارة إلى فدك ﻷن يهود المدينة استعانوا بيهود فدك -وطبعا بين المدينة وفدك مسافة- وهذا يُشعِر بتواصل اليهود بعضهم ببعض وتواصيهم مع بعض، وﻷن يهود المدينة مُباشرون فيهود فدك الذين لم يأتوك يوصونهم بأن ينتبهوا إلى هذا ولذلك قال (لَمْ يَأْتُوكَ)، فهو في قوله (لَمْ يَأْتُوكَ) واضح جدا أنهم قوم لم يكن بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم صِلة مباشرة وأما الذين عندهم صلة مباشرة وهم يهود المدينة هم الذين كانوا يُباشرون هذا الحدث. ولعنا نختم بهذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ويوفقنا لما يحبه ويرضاه.
--------------------------------------------
بينات 1435هـ [10] سورة المائدة الآية (41)
بينات 1435هـ [10] سورة المائدة الآية (41)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق