د. محمد بن عبدالله الربيعة
المجلس الأول
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿١﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿٢﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿٣﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً وأُصلّي وأُسلّم على نبينا الرحمة المهداة وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
نحطُّ رحالنا في هذا المجلس القرآني المبارك ضمن مجالس هذه الدورة المباركة دورة الأترجة في سورة من أعظم سور كتاب الله عز وجل تربية للمؤمنين وتكميلاً لأخلاقهم، هذه السورة المدينة سورة الحجرات. وقبل أن ندخل في بيان هذه السورة وتفسيرها وتدبّرها لعلنا نعيش في أجوائها ومقدماتها وأحوال نزولها فأسأل متى كان نزول هذه السورة؟ قبل أن تجيبوا ألفت أنظار الإخوة إلى أن معرفة الأحوال التي نزلت فيها السورة مهم جداً لفهمها بل هو بوابةٌ لفهمها لأن الظروف التي عاشت فيها والأحداث التي كانت في وقتها السورة تعالج تلك الأحداث فلا بد من معرفة تلك الأحوال وقت النزول لنعرف القضية الأساسية التي تعالجها هذه السورة. فإذا أردت أن تعرف السورة في مضمونها وأهدافها ومقاصدها ثم تفسيرها فإنه لا بد أن تلجأ إلى البحث عن قصة نزول السورة والأحوال التي نزلت فيها ووقت نزولها ستنبئك عن معانٍ عظيمة.
هذه السورة سورة الحجرات سورة مدنية لا شك لكن كثرة السور المدنية نريد أن نعرف الحادثة التي نزلت فيها أو العام الذي نزلت فيه، العام الذي نزلت فيه هو عام الوفود، هذا العام الذي تميّز بكثرة إقبال القبائل وقدومها إلى المدينة والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ودخول الإسلام كان من تلك القبائل قبائل أعراب وقبائل حديثة عهد بالإسلام وقد كثُرت تلك الوفود وتعرفون أن تلك القبائل لها طبائع وعادات وتقاليد وأحوال التبست بأحوال الجاهلية وأخلاق انطبعت بطبائع الجاهلية فكانت تلك القبائل في تلك السنة تموج مع دخولها في الإسلام لكن الإسلام لم يتمكن منها ولم يتحقق الإيمان. فأنزل الله هذه السورة في أحداث متعددة نزلت فيها هذه السورة لتحقق الإيمان في نفوس هؤلاء الوفود وتربّيهم بالأخلاق الاسلامية الحسنة تكملهم بالأخلاق. إذاً نستطيع أن نقول أن هذه السورة غرضها وقضيتها هو: تحقيق وتكميل الإيمان في المؤمنين الجدد وأيضاً تكميلهم بالأخلاق، تحقيق إيمانهم وأخلاقهم وتصفيتهم من رواسب الجاهلية وأخلاقها وعاداتها وما كانوا عليه من طبائع. فهي سورة عظيمة تربي جيلاً وتهيء مجتمعاً اسلامياً صحيحاً صافياً من معالم الجاهلية ومحصّناً بأخلاق الاسلام قد توثقت كلمته وأخوّته باسم الإسلام "إنما المؤمنون إخوة" وزالت عنه رواسب الجاهلية وأخلاقها من التنابذ والسخرية والغيبة والنميمة وسوء الظن والتفاخر بالأنساب والشعائر والقبائل فهذه السورة كلها في تصفية هذا المجتمع وتحقيق الإيمان في نفوس أهله وتكميله بالأخلاق هذا هو مقصد السورة. فما أعظم مناسبة هذه السورة فيما نعيشه اليوم من انفتاح عالمي على المسلمين داخلهم فيها غَبَش أهل الغرب وثقافاتهم وعاداتهم واهتماماتهم فانطبع كثير من شباب الإسلام بثقافات الغرب وبدأت -حقيقة- ملامح ضعف الديانة والأفكار التي وفدت علينا، الأفكار العقلانية والفكرية والثقافية والشبهات والشهوات تموج في أبنائنا. بالأمس القريب كنت مع عدد من الإخوة الزملاء من أهل الحجاز ونحن نتكلم عن قضية هذا الشاب الذي اجترأ على السخرية برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى نفسه أنه في مقامه في الخطاب حقيقة وقد صرّح ذلك الشاب أن أمثاله كثير يقول الواقع أننا نعيش في داخل شبابنا،هذا الفكر بدأ يموج ويظهر الفكر العقلاني الاعتزالي الذي يصل إلى الانحلال والإلحاد -عياذً بالله- كيف يصل إلى ذلك؟ يبدؤن بقضية الشك والاحتمال ويضعون حقائق الايمان في موضع الشك والنقاش والجدال. ومن أنتم حتى تناقشون موضوع العقيدة والتوحيد؟! وأين وصلتم إليه؟! إذا كان المعتزلة الأوائل الذين رسخوا في علم ومعرفة وأدلة لم يصلوا إلى نتيجة فكيف أنتم وأنتم في سطحية وثقافة غربية؟! لكن الله المستعان! نحن الآن بحاجة إلى إبراز ثقافة أهل الاسلام وحقائق الإسلام وتمحيص الإيمان في قلوب أبنائنا وتكميل أخلاقهم واعتصامهم بهذه الحقائق وهذه الآداب حتى يعرفوا قيمتهم وقيمة ما هم فيه. إذاً هذه السورة نحتاجها والله في تكميل إيماننا نحن وأخلاقنا وتمحيصنا مما رسب من ثقافات غيرنا.
ندلف إلى هذه السورة سورة الحجرات يقول الله عز وجل في نداءات فيها، قد وردت فيها نداءات لأهل الايمان خمس مرات مما يؤكد أنها تنادي أهل الايمان لتحقيق الإيمان في نفوسهم هذا واحد، ثم كم ذُكِر فيها من الآداب مما يؤكد لنا أنها تكمّل المؤمنين بالآداب والأخلاق ثم مما يؤكد -أيضاً- لنا أنها تعايش أجواء القبائل والعشائر وتلك الوفود التي وفدت في قول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) لا لتفاخروا وتنازعوا ويستهزئ بعضكم ببعض ويسب بعضكم بعضاً إنما لتعارفوا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) فتعالوا نناقش هذه النداءات الإيمانية آية آية.
النداء الأول: يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) السورة غالبها تدور حول قضية بني تميم والوفد الذي جاء من بين تميم وبني أَسْد وكان منهم ما كان لكن قدّم هذه الآية لأنها متعلقة بتلك الصفوة الخيّرة، الكوكبة المؤمنة من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر فقدّم أمرهم تعظيماً لهم وتكميلاً لأن الله عز وجل يعني بالمهاجرين أعظم من غيرهم قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تتقدموا بين حُكم الله وأمر الله ورسوله وإنما قال (بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ليؤكد أن من تقدم بحُكم على حُكم الله وأمر على أمر الله كأنه تقدم بين يدي الله ورسوله. وقيل: المعنى (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تستبقوا في الحُكم حُكم الله ورسوله في قوم من الأقوام فتحكمون عليهم ورسول الله لم يحكم بهم.
وقيل أن سبب نزول هذه الآية أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خيارا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في استقبال وفد بني تميم وقال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه أمِّر عُيينة بن حصن، فقال أبو بكر رضي الله عنه ما أردتَ إلا خلافي، قال عمر رضي الله والله ما أردتُ خلافك -يقول أبو بكر لعمر- وهما صفوة صحابة رسول الله وهما صفوة المؤمنين والصحابة فابتدأ الله عز وجل بتصفية قلوبهم وأيضاً إزالة ما كان منهم من تقدّم بين يدي رسول الله في الحكم كأنهم تقدّموا في الاقتراح على رسول الله في تأمير هؤلاء على قومهم فأدّبهم الله عز وجل فأحسن تأديبهم. ولذلك أبو بكر رضي الله وعمر، أبو بكر رضي الله عنه كان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية كأخي السِرار، كأنه يُسرّ له وكان عمر رضي الله يخاطبه بخفض صوت حتى يستوضحه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض كلامه، ماذا تقول يا عمر؟ كل ذلك استجابة لأمر الله ورسوله هنا. فالله تعالى قال (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) اتقوا الله في تحقيق ما أمركم الله عز وجل به وفي الحذر من التقدم بين يدي الله عز وجل بأمر أو بحُكم أو غير ذلك. والآية ليست لأبي بكر وعمر إنما للمؤمنين جميعاً.
وقيل: سبب نزول الآية غيرها وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بسريّة إلى قبيلة فوجدت في طريقها شخصين فظنّت أن هؤلاء من تلك القبيلة فأصابوهم ولم يكونوا منهم فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فتبيّن أن هؤلاء من قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ فنهرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن استبقوا في حُكمهم قبل أن يأتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ولكن الأشهَر أنها نازلة في شأن أبي بكر وعمر.
فهذه الآية تبيّن لنا الأدب الأول وهو الأدب مع الله عز وجل، الأدب مع الله في حُكمه وأمره ثم الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا سنجد أن النداءات بعد ذلك تأتي مع رسول الله، ثم الأدب مع المؤمنين ثم الأدب مع غير المؤمنين أو مع من هم حديثو عهد بدين. قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سميع لكلامكم وعليم بما في قلوبكم.
ثم قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) قيل: أن هذه الآية نازلة في قصة ثابت بن قيس كان يرفع صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -صوته جهوري- فنزلت هذه الآية فحزن حزناً شديداً حتى مكث في بيته مما أصابه من الهمّ ففقده النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك والقصة معروفة في هذا. وقيل: أنها نازلة في شأن أبي بكر وعمر حين ارتفع صوتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن بني تميم. وكلا القصتين واردة في مضمون الآية ومحتمل ورودها. (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) لا يظهر من ذلك أن صوت النبي مرتفع وصوتهم ارتفع فوق ذلك لكن يظهر هنا الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبته وعدم رفع الصوت وعلى هذا فإن هذه الآية يدخل فيها الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وسنّته وأنه لا يجوز بحال أن يرتفع رأي أحد على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ينتقد أو غير ذلك. وعلى هذا تأتي قصة ذلك الشاب الكشغري الذي اجترأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام فخاطبه خطاب الندّ للندّ وإنك لتعجب من شابٍ من أهل هذه البلاد التي انطبعت بالتوحيد كيف يجترئ مثل هذا الشاب إلا أن هذا الفكر وراءه أناس يزرعونه ويبثونه في فكر هؤلاء الشباب فيجرؤنهم على مثل تلك الكلمات الإلحادية التي ربما لا تصل إليها عقولهم إنما اجترؤا عليها بسبب ما خالطوا أولئك فكان الأمر عندهم ليس بأمر عظيم ويمس عقيدة ودين وفيه عدم احترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ولغوا فيه وأوصلهم ذلك إلى الإلحاد -عياذاً بالله-. ولهذا في هذه الآية نأخذ درساً عظيماً وقاعدة وهو: أن من اجترأ على رفع صوته على النبي صلى الله عليه وسلم وعدم الأدب، هو قضية عدم الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القضية إذا بدأت بذرتها في قلب الانسان فإنها ستوصله إلى الكفر والإلحاد، كيف؟ كيف أنه إذا اجترأ على عدم الأدب والاحترام والتوقير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك سيوصله إلى الكفر؟
لأنه إذا اجترأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعظمه وأساء الأدب بأي لفظ فإن ذلك سيدعوه إلى عدم احترام هديه وعدم توقيره في شرعه وقوله وأمره وسيجعل كلامه في دائرة النقاش -كما يقولون- يحتمل النقاش والأخذ والعطاء، ثم يصل به الحدّ بعد ذلك إلى أن يُنكر قولاً من قوله أو موقفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول هذه غلظة أو هذه شِدّة ثم يظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أخطأ ولم يُهدى إلى الحق فإذا وصل إلى ذلك وصل إلى الإلحاد لأنه سيجترئ على تكذيب الله عز وجل في تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم وتأييده وأنه ما ينطق عن الهوى.
أرأيتم كيف يتدرج بهم الشيطان ابتداء من أمر بسيط وهو سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا تأتي هذه القضية كيف أن الله عظّم أمر رسول الله والأدب معه لأن الاجتراء عليها والتهاون بها سيجر إلى ما بعدها. وللعلماء كلام نفيس في هذه المسألة أذكر لابن عاشور كلاماً نفيساً أنصح بقراءته، والسعدي -رحمه الله- أيضاً أبدع في تقريره. ففي مثل هذه الأوضاع التي نعيشها والتي نرى بعض الناس يهوّن من هذه القضية يقولون الرجل سبق لسانه في هذا أو لا يفقه أو نحو ذلك نقول: أرأيت كيف جعل نفسه نداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا يكفي ذلك أنه أساء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك كافٍ في أنه سيُنكر شيئاً من قوله وهديه وسيجترئ على بعض سُننه وأحكامه فعلى هذا لا نتهاون في هذه القضية، هذه القضية التي تمس حقائق وتمس مبادئ وإلا لماذا الله عز وجل عظّمها؟ الله تعالى -وهو أحكم الحاكمين- وهو الذي أمرنا بتعظيم نبيه صلى الله عليه وسلم لماذا نهانا في هذه السورة (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)؟ كان شخص يأتي ويقول ماذا فعل أبو بكر؟ إنما اقترح اقتراحاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهذا رفع صوت؟! أو هذا تقدم بين يدي رسول الله؟! أولئك الذين يزِنُون تلك الأحداث بعقولهم التي قد خالطها الشك والريب وعدم الايمان. أما حينما يقرّ الإيمان في قلب الإنسان فلا شك أنه سيكون عنده مقياس حساس في تعظيم الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم لأن هذان مصدران هما مصدرا الوحي لو اهتزا اهتزّ الدين والحقائق.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) وهذه الجملة لعلها هي التي تخصّ ثابت بن قيس ابن شمّاس الذي جهر بصوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه عندما أراد أن يقرُب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وله مكان قريب لضعف سمعه قال له رجل مكانك إن وجدت مجلساً فنهره ورفع صوته عليه. قال الله عز وجل -ولاحظوا- تعظيم الله لقضية جهر الصوت عند رسول الله لنعلم أن سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى حبط الأعمال والكفر. قال الله (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) كيف يكون حبوط الأعمال وهو بطلانها (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) بمعنى أنها تبطل، وكيف تبطل الأعمال كلها بالجهر بالصوت فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رفع الصوت عليه أو التقدم بين يديه؟.
بعض الناس يقول الأمر أهون من ذلك، أقول: أُنظر إلى هذه القضية التي مُسّت وهي عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم الباعث على عدم احترام هديه وسنته الذي سيجرّ في النهاية إلى حبوط الأعمال والكفر والإلحاد هذا معنى هذه الآية (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) أي أن يجركم إلى الجرأة على رسول الله كما تجرأ المنافقون. أليس المنافقون اجترأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسخروا منه وبدأوا في لمزه وذمه (وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ) [التوبة:٦١] كلمة (هُوَ أُذُنٌ) يعني يسمع كلام الناس، أرأيتم أن هذه الكلمة فقط باؤا بها كفرا، إذا هي حطٌ من مكانة رسول الله أو أذيةٌ له فحقّ لمن وقعت منه أن يناله وصف حبوط الأعمال والكفر، ولا شك أن اعتقاد ذلك هو الذي يوصل إلى الكفر لكن الإنسان حينما يبدأ بمثل هذا فسينتهي به الأمر إلى ما نهايته الكفر وحبوط الأعمال.
قال الله (وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) كيف لا تشعرون؟ مثل ما قلت لكم الإنسان يجترئ كلمة ثم كلمة ثم يقول نحن على طاولة الحوار والنقاش حتى أنه والله من أبناء جلدتنا وفلذات أكبادنا وصل بهم الحد أن يضعوا وجود الله على دائرة النقاش هل الله موجود أم لا؟! هم يقولون نحن لا نقول أنه غير موجود لكن نقول كل شيء على دائرة النقاش والحوار، أرأيتم كيف يصل بهم الحد؟! هي القضية التي يُخشى على أبنائنا منها إذ أنها فكر دسيس خبيث اعتزالي يراد به أن يُبثّ في أبنائنا ويهدم عقيدتهم وحقائق الايمان في نفوسهم.
قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ) الله أكبر! هذه الآية الكريمة تصف أصحاب رسول الله خاصة أبو بكر وعمر حينما استجابا مباشرة أبو بكر وعمر، قال أبو بكر والله يا رسول الله لا أناجيك إلا كأخي السِرار، يعني سراً كأني أُسر لك سراً فكان ذلك استجابة مباشرة من أبي بكر رضي الله عنه، وجاء في بعض الروايات أنه بكى بكاء شديداً حينما نزلت هذه الآية وخشيَ أن يحبط عمله وأن يصيبه الله تعالى بعقاب، هذا من قوة الإيمان وحساسية الاحساس الشديد بالخطأ والرجوع السريع لما قد يحصل له من خلل. قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) كأن الله يقول إن الله أراد أن يمتحن قلوب هؤلاء الصحابة، هؤلاء الأخيار، هؤلاء الصفوة للتقوى لتتمحص التقوى في قلوبهم فيكونوا كما قال في السورة السابقة (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) [الفتح:٢٦] كأن قصة أبي بكر وعمر هي نموذج للمسلمين إلى أن يكونوا ذوي حساسية مرهفة ودقة وقياس متين دقيق في قضية احترام الله ورسوله ومقام الله ومقام رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الإنسان ما يسمع بكلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويقشعر جسده تعظيماً وتوقيراً وكذلك مع كتاب الله عز وجل إذا سُمِع كتاب الله فإنه ينبغي أن ننصت تعظيماً وتوقيراً وإذا سمعنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ينبغي أن ننصت توقيراً واستماعاً وانصاتاً.
يحدثني أحد الإخوة يقول زرت الصين فنزلت فندقاً يعمل فيه أحد المسلمين وكان معي مصحفاً فأردت أن أهديه لهذا الشخص تقديراً له وذكرى فدعوته إلى غرفتي وأخرجت المصحف وقلت له هذا هدية لك فما تمالك نفسه إلا أن خرّ على ركبتيه خرّ تعظيماً لهذا القرآن ما يصدق أن كتاب الله بين يديه يقول والله إنه أخذه أخذاً مهيباً يتناوله بصفة مهيبة جداً فلما أخذه ضمّه وأجهش بالبكاء فرحاً عظيماً وتعظيماً في نفسه لهذا الكتاب العظيم كتاب ربه. أرأيتم كيف هو التعظيم لكتاب الله عز وجل؟ وكيف هو التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نسمع ذكره وحينما نقرأ حديثه صلى الله عليه وسلم؟.
قال الله عز وجل (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) إذاً هي امتحان، هذه المواقف امتحان للقلب حتى يصفو ويكمُل، وهذا يؤكد لنا أن السورة فيها امتحان وتكميل وتحقيق للإيمان في نفوس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لهم مغفرة مما كان منهم من هذه الاستجابة ولهم أجر عظيم على هذا التوقير الذي وقّروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال ششالله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) هذه الآية هي التي نزلت فيها قصة السورة وهم وفد بني تميم حينما أتوا من الوفود من ضمنها الأقرع بن حابس وكان زعيماً فيهم ورأساً فيهم فنادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم (مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ) يعني من الخارج فقالوا يا محمد وهم الآن يفعلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفعلون مع الملوك والوفود إذا جاءت لملك أو الملوك والرؤساء ينادونه ليتفاخروا ويظهروا له أنهم أهل شرف وقبيلة وعرب فنادوا يا محمد اخرج إلينا فإن مَدْحَنا زَيْن وذمّنا شَيْن. كيف تنادون رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النداء؟! ألا تنتظرون حتى يخرج إليكم فتوقِروه وتعظموه وتسلموا عليه وتثنوا عليه بما هو أهله عليه الصلاة والسلام ثم تخاطبونه بما هو عندكم؟! لكنهم لم يصبروا فنادوه من وراء بيته وباسمه "يا محمد" وقال قائلهم: "إن مدحي زين وإن ذمي شين" كأنه يقول إن مدحناك مدحناك بقصيدة تذكرك بها العرب تذكرك بها العرب وإن سببناك سببناك بقصيدة تذكرها في تاريخ العرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ذلك هو الله" الذي مدحه زين وذمه شين فأنزل الله هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) لا يعقلون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم عندهم عقل بإيمانهم الذي آمنوا به برسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم لا يعقلون الأدب. قال (أَكْثَرُهُمْ) لأن منهم من لم ينطق بهذه الكلمة أو لم يرضى بها فقال (أَكْثَرُهُمْ) ولم يعمّهم بذلك.
وقوله (مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ) سُميت السورة باسم الحجرات حيث ذُكرت في هذا السورة. والفرق بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحجراته أن الحجرات هي الغُرَف فله عليه الصلاة والسلام تسع غرف في سور واحد، فبيته ذلك البيت، بيت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّه سور في كل جزء منه حجرة، الحجرة طولها قرابة ثمانية أمتار ثلاثة أمتار منها نسميه نحن مدخلاً للبيت ثم البيت بعده وهو غرفة لا يزيد طولها عن خمسة أمتار، هذا بيته خمسة في أربعة هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرفته كيف وهو صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق وأعظمهم منزلة عند ربه كيف هو منزله الدنيوي وكيف نرى واقعنا في بيوتنا والله المستعان فيما كان عليه الصلاة والسلام؟!.
قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) لو أنهم صبروا وانتظروا حتى تخرج إليهم فيحيونك فيقدرونك ويعظّمونك لكان خيراً لهم. معنى (خَيْرًا لَّهُمْ) لوجدوا من ذلك خيراً، نالوا ما عندك من الخير وأيضاً نالوا الأجر والثواب والفضل والمقام "ولو عظّموه في النفوس لعُظّما" لكان لهم شأن أعظم مما هم عليه ولما ذكرهم الله بذمّ في هذه الآية لكن لا شك انظروا كيف فقط نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم نداء فذكرهم الله بذكر في آية إلى قيام الساعة ذمّاً لهم. أرأيتم كيف هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم العظيم الذي من أجله تتلى آيات إلى قيام الساعة. واليوم نجد من الناس من يستهين بمقولةٍ هي أعظم من هذه المقولة، حينما يقول: أناجيك الند بالند أيّ كلمة هذه أن يجعل الانسان نفسه ندًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مناجاته ويقول أنه لا يشرف بالسلام عليه يوم مولده! كلمات ما يجترئ عليها إلا إنسان قد أولغ في الإلحاد ودخيلة النفس وتلك الأفكار العقلانية التي ظهرت في هذا الزمن.
قال الله سبحانه وتعالى (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) كأن الله سبحانه وتعالى يمنحهم فرصة للمغفرة برحمته سبحانه وتعالى غفر لهم برحمته مع أنهم أساؤوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع الصوت فقط فكيف بغير ذلك؟!.
ثم قال الله عز وجل في النداء الثالث (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو انتقال من حق الله وحق رسوله إلى التعامل مع المؤمنين ومع الأقوام الآخرين (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) هذه الآية نازلة في قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق يأخذ صدقاتهم فكان بينه وبينهم شحناء فنمى إليه كلام وأخبره مُخبر بأنهم خرجوا بسيوفهم فخشي أن خروجهم بسيوفهم يريدون قتله ومنع النبي صلى الله عليه وسلم زكاته فرجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن بني المُصطلق أرادوا قتله ومنع زكاته إذ أنه أخذ كلام ذلك المُخبِر الذي أخبره عنهم وهم إنما أرادوا أن يخرجوا بسيوفهم -وقد كان ذلك في كبارهم- أرادوا أن يخرجوا بزكاتهم ليُقابلوه بها أو يدفعوها هُم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا جاؤوا بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا الخبر وبادروا بتسليم صدقاتهم وزكواتهم فلذلك أنزل الله الآية (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) فقيل إن هذه الآية الفاسق هنا -ذكر بعض المفسرين- أنه هو الوليد إذ جاء إلى رسول الله وأخبر عن بين المصطلق أنهم أرادوا أن يقتلوه، والظاهر -والله تعالى أعلم- أن الأمر مُتعلق بذلك المُخبر الذي أخبر الوليد ذلك أن الوليد رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم أو يذمه أو يوبخه أو يعاقبه دلّ على أن اللوم على ذلك الفاسق الذي أخبره أولاً فمن الطبيعي أن ذلك سيبعثه على الرجوع إذ أنه لما علِم بخروجهم بسيوفهم فهذا يكفي قرينة أنهم يريدون شيئاً يسوء فرجع بهذا الظن السيء.
قال (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) أي بخبر يصيب قوماً (فَتَبَيَّنُوا) وفي قراءة (فتثبتوا) أن تصيبوا قوماً بجهالة والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقاتلهم لو منعوا الزكاة فقال (أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) بسبب تلك الجهالة التي جاءتكم من ذلك الفاسق (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) حيث لم تتبينوا ولم تتثبتوا.
وهذه الآية هي قاعدة عظيمة لقضية قبول الخبر والتبيّن في الأخبار والتثبت فيها والحيطة من أن تصيب إنساناً بظنّ أو بسوء أو أذى بسبب خبر، وتعطينا أيضاً درساً عظيماً في أن الإنسان إذا سمع حديثاً عن آخرين لا يستعجل بالحكم عليهم هذا هو ميزان الإيمان. إذا جاءك خبر عن شخص أو طائفة بأمر من الأمور يسوؤك أو يقدح في ديانتهم أو في أدبهم أو يقع في نفسك سوء ظن بهم فالواجب في هذا هو التثبّت والتبين.
ثم قال عز وجل في تربية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربية أولئك الوفود الذين جاؤوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم يظهر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسوهم حقاً قال (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) هم يعلمون أن رسول الله فيهم لكن الغرض منها: الاشارة أن بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد من ربه عز وجل بالوحي الصادق فواجب أن يُعظموه ويُوقروه ويأخذوا برأيه وحكمه فقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) يفيد أن المقصود يجب أن تعتبروا وجوده فيكم فتوقروه وترجعوا إلى رأيه وتنزلوا عند حكمه ولا تتقدموا بين يديه ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ولا تجهروا له بالقول وغير ذلك من الآداب المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) يعني لو أن النبي صلى الله عليه وسلم استجاب للناس في أهوائهم وما يطلبون لشقّ ذلك فيهم والعنت: المشقة، ووقعوا في العنت والمشقة لأن الإنسان قد يهوى في وفرة إيمانه وقوته، في حال قوة إيمانه قد يطلب أموراً في المستقبل لا يُطيقها فيقول الله (لَعَنِتُّمْ) أي لشقّ عليكم ذلك ولم تستطيعوه (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ) الله أكبر! ما أعظم هذه الجملة العظيمة التي ترقق قلوب الصحابة، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين معه، المؤمنين الذين آمنوا من تلك الوفود وتقربهم وتحقق الايمان في قلوبهم.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) ما الفرق بين حبّب إليكم الإيمان وبين زيّنه في قلوبكم؟ المحبة تعني أن يُخالط هذا الايمان القلوب بالرضى والقبول التام، حبب الإيمان أنت تعشق هذا الإيمان وتأنس به وتقرّ عينك به، هذا هو الإيمان الصحيح، المؤمن حقاً يجد في نفسه سروراً وبهجة واشراقاً في قلبه أن الإيمان في قلبه وأنه مستقيم على طاعة الله عز وجل ممتثل أمره. أما زيّنه بما وراء ذلك والزينة هي: أثر من آثار الشيء، زينة الشيء خارجة عنه وتحلّيه فالزينة في (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) زيّنه بأخلاقكم وآدابكم وما يمكن أن يكون من آثار ذلك الإيمان الذي حبّبه وأقره ورسخه في قلوبكم. وعلى هذا نقول أن السورة في تحقيق الإيمان وتكميل الأخلاق، هذه الآية تؤكد ذلك.
قال (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) وهذا الذي يقابل التحبيب والتزيين، الكفر والفسوق والعصيان هي الأخلاق السيئة من معصية الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال عز وجل في وصف أولئك وكفى بهذا وصفاً (أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الرُشد: هو كمال العقل وكمال الديانة، فوصفهم الله وبين أنهم بهذا الوصف الذي جعلهم الله فيه هم راشدون كاملون في إيمانهم وآدابهم وأخلاقهم. ثم قال الله امتناناً عليهم (فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) والله إن ذلك لأعظم الفضل أن يُحبب الله إليك الإيمان وأن يزّينه في قلبك بالتقوى واليقين وغير ذلك من آثاره ويُكرّه لك الكفر والفسوق والعصيان ذلك هو تحقيق الإيمان حقاً وذلك صفو العقيدة وذلك هو الرُشد والكمال ولهذا قال (فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) فضلٌ من الله تفضّل به عليكم (وَنِعْمَةً) زادكم بها وأكرمكم بها (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) حينما علِم صدقكم ورغبتكم في الإيمان فحببه إليكم وحكيم في ذلك. نقف عند هذا ونكمل الدرس.
المجلس الثاني
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٩﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿١٠﴾) قال الله عز وجل في سياق سورة الحجرات (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) لاحظوا أن السياق ما يزال في تحقيق تكامل المؤمينن ومودّتهم وتحقيق الإيمان في نفوسهم وإبعاد دخائل الشيطان ووساوسه ورواسب الجاهلية التي كانوا عليها.
هذه الآيات نازلة في قصة: كان النبي صلى الله عليه وسلم مرّ وهو على حمار على مجلس عبد الله بن أُبيّ بن سلول -رأس المنافقين- ومعه أصحابه فلَمَز عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم وقال لقد آذانا نتن حمارك، هذه الكلمة ماذا يعني بها؟ يعني بها استقذار مرور النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة النيل للتنقيص منه عند أصحابه الذين وافقوه في النفاق. فأحد من كان معهم من أصحابه وقد كان أصحابه الخزرج منهم المؤمنين أوس والخزرج كانوا يجتمعون ومنهم مؤمنون ومنهم منافقون قال: والله لَنَتَنُ حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب من رائحة مسكك، فتنازع الرجلان وارتفعت أصواتهما صوت ذلك الرجل مع رجل من أصحاب عبد الله ثم اجتمع الفريقان وهما طائفتان الأوس والخزرج فكادا أن يقتتلا فتنازعا وتقاتلا بالنِعال فجاء النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ليُصلح بينهما فأنزل الله هذه الآية. والطائفتان ليستا طائفة المؤمنين والمنافقين وإنما طائفتا الأوس والخزرج فيها مؤمنين وفيها منافقين ولذلك أنزل الله تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) فيبيّن لنا أن هذا الاقتتال كان بين طائفتين لقبيلتيهما الأوس والخزرج وليس بين المنافقين والمؤمنين فأنزل الله هذه الآية (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
ثم قال الله عز وجل في حُكم الإصلاح بين طائفة المؤمنين بعد ذلك، قاعدة من قواعد لمّ الشمل وقطع الطريق على البُغاة الذين يريدون أن يشقّوا عصا الجماعة واجتماع المؤمنين وتوادّهم وأخوتهم. قال الله عز وجل (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى) ولم تستجيب للإصلاح (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) يعني إذا وصل الأمر إلى أنها تُقاتَل ولم تسجيب فقاتلوها (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع (إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (فَإِن فَاءتْ) أي رجعت (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) هنا سؤال: ما سرّ الأمر بالإصلاح مرة أخرى؟ لم يقل "حتى تفيء إلى أمر الله" فقط بل قال (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) فما السر في الأمر بالإصلاح مرة أخرى بعد اختلافهما؟ المقصود هنا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ربما هذه الفئة الباغية تقف عن بغيها استجابة لسعي المؤمنين الذين أرادوا أن يقاتلونهم لأن الله تعالى قال (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) يعني لم تكفّ عن البغي إلا لما قاتلها جماعة المؤمنين إذا لم تصفِ النفوس بعد والغرض تصفية النفوس. فالله عز وجل قال هنا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) وإنما قال (بالعدل) حتى لا يكون الإصلاح في صالح طائفة دون طائفة فيُقتصّ من الطائفة الباغية لصالح الطائفة المُبغي عليها في مُقاتلتِهم وفي أموالهم التي فقدوها وغير ذلك وإنما أمر بالعدل هنا حتى يكون الأمر يُبعد ما يكون في نفوس المؤمنين من شفاء غليلهم من هذه الطائفة الطاغية ربما ظلموهم، الله أكبر، ما أعظم العدل! وما أعظم حكمة الله عز وجل حينما دقق في الحُكم هنا بالإصلاح بالعدل ولم يصفه ولم يقرنه بالإصلاح في الموضع الأول. ثم قال (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) العدل مقترن بالإصلاح وأما (وَأَقْسِطُوا) فهو زائد عامٌ في حكم ثابت يجب على المسلمين أن يقسطوا دائماً فيما بينهم. والقسط هنا العدل والسلامة من الظلم وتجاوزه. قال الله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) هذه الطائفة التي تُصلح هي جماعة المسلمين وأهل الإيمان هي التي يجب أن تُصلح، من تتولى أمر المؤمنين وجماعتهم هي التي تذهب للإصلاح ولذلك الإصلاح قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من جماعة المسلمين والصحابة، فهذه الطائفة هي التي تُصلح، أما الطائفتان قد تكون إحداهما أو كلاهما من المؤمنين ولكن كان بينهما النزاع فهما اللذين يقع عليهما الإصلاح.
قال الله تعالى تأكيداً لهذا الاصلاح ولمّاً لشمل الجماعة المسلمة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) تكررت كلمة الإصلاح مرة أخرى لأن السورة تؤكد على قضية تحقيق الجماعة المسلمة وتآلفها واجتماعها بعد أن أكرمها الله عز وجل بهذا التمكين وهذا العزّ وهذه الكثرة في عام الوفود، فما أعظم هذه الآيات التي تُربي المسلمين وجماعتهم وتوثق الصلة بينهم!. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) لماذا أصلحتم بينهم؟ لأنهم مؤمنون والمؤمنون إخوة " لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه" " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد" فالسعي للإصلاح لتوثيق عرى الأخوة وهنا لفتة عظيمة مهمة أن قضية الإصلاح أمرها عظيم في الدين لأنها تشد هذه الجماعة وتقطع طريق الشتات بين المسلمين والتفرق والنزاع وإيغال الصدور وغير ذلك، ولذلك رتب الله عليها ثواباً عظيماً قال الله تعالى (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:١١٤] حريٌ بنا أن نجعل هذا مبدأ من مبادئنا وقيمة معتبرة في حياتنا، الإصلاح بين أخوينا. ليس صحيحاً أنك حينما تجد بين أخويك جارك مثلاً أو أخيك أو زميلك حصل بينه وبين أحد خلاف فتقول مالي وشأنه؟ هذه للأسف نسمعها أحياناً كأن يقول ما لي علاقة بهم! ما الذي يجعلني أوقع نفسي في مشكلة معهم؟! لا يا أخي أنت من مبدأ الأخوة في الدين كأن هذا أخوك الشقيق أو ابنك الذي يجب أن تحفظ الأسرة به وتلمه وتُصلحه فكذلك أنت في بيت الاسلام حريٌ بك أن يكون من مبادئك ومبادئنا جميعاً الإصلاح، وإننا والله لنحزن أشد الحزن في هذا الوقت الذي نحن فيه حين كثرت النزاعات والفرقة والشتات حتى بين الأخوين وبين الزوجين وبين الأبناء مع أبيهم وامتلأت المحاكم وقلّ التناصح والإصلاح وما بقي للناس إلا التحاكم -للأسف الشديد-، والله إن هذا لمؤسف! ثم إنك تجد أن هذا النزاع عند أمر يسير عند أمر مادي لا قيمة له بين أخ وأخيه، والله إني لأجد بعض النزاعات ست سنوات قطيعة بين أخوين شقيقين لم ير أحدهما الآخر ولم يسمعه ووالدتهما يكاد يومها يغطيها بالحزن والبكاء من هذه القطيعة ومع ذلك لا يأبه أحدهما بالآخر أعوذ بالله من هذه القطيعة! والله عز وجل يقول في شأن المنافقين وهذه صفة من صفاتهم في سورة محمد التي مرت معنا (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) إن هذا ليقشعر منه الجسد هيبة وتعظيماً في قضية قطع الصلة ثم قضية عدم الرغبة في الإصلاح ثم بعد ذلك في المسلمين السعي بالإصلاح بين الإخوة. قال الله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اتقوا الله بتحقيق ما أمركم الله عز وجل به وهو الإصلاح والسعي لتحقيق الأخوة فإن ذلك سبب من أسباب الرحمة قال (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). فإذا كنا نريد رحمة الله فعلينا أن نُحقق الرحمة في مجتمعنا بالإصلاح وتحقيق الأخوة والبُعد عن الشقاق والنزاع ونحو ذلك.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هذه الآية يذكر لها بعض المفسرين سبب نزول أن بعض الوفود التي أتت لمزت بعض الصحابة بألقابهم أو فيما بينهم، أو بعضهم من سخر من بعض الصحابة كبلال وغيره، لكن يظهر -والله تعالى أعلم- أن الآية كلها بما فيها من آداب تعالج تلك الوفود بما أتت به من رواسب الجاهلية وعاداتها والسخرية وتنابزهم بالألقاب، وكانت الألقاب السيئة عادة بين العرب، السخرية والهجاء وقصائد الهجاء لا تنتهي عندهم، فالله عز وجل أراد أن يُصفيهم بمصفاة الإيمان والآداب الاسلامية. قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهي انتقال، وإعادة هذا النداء له أثر في نفوس المؤمنين تجديد لأدب جديد كأنه يحفزهم مرة بعد مرة ليُحقق الإيمان في نفوسهم ويسترعي أسماعهم ولهذا قال ابن مسعود: "إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا فأرع لها سمعك فإنما هي أمر تؤمر به أو نهيٌ تُنهى عنه". فتكرر وإعادة هذه النداءات الإيمانية في هذه السورة خمس مرات له غرض في تحقيق الايمان وبعثه في نفوس المؤمنين والتأكيد عليه.
قال الله (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ) لا تسخر قبيلة من قبيلة ربما قبيلة سبقت قبيلة في الاسلام، في هذه الآية دليل على أن الانسان لا يرى أن ما هو عليه من قبيلة أو حسب أو نسب تجعل له نصيباً في الإسلام أو له سبق على غيره في الدين، أبداً ليس في الإسلام سَبق لحسب أو نسب أبداً، ولهذا قال بعد ذلك (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وهذا لحكمة الإسلام وكماله أنه قطع بين الأنساب والأحساب وقضية الإيمان وشرف الإيمان جعلهما ضدان، صحيح أنه جعل تلك القبائل والشعوب تحقيقاً لتلك الحقيقة الإيمانية وهي الإيمان لتعارفوا فتتآلف قلوبكم فتقوى شوكتكم لكن العرب استخدموها في عكس ما هي له فتنازعوا وتنابزوا. قال الله سبحانه وتعالى (عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ) صحيح أن الإنسان إذا قدح في شخص آخر غالباً ما يكون هذا القادِح في نفسه دخيلة كِبر، عُجب، أن يرى نفسه فإذا كان ذلك فإن هذا سوءة من سوءاته وهذا يُقلل من شأنه وقدره عند الله فقد يكون الشخص الآخر خيراً منه فعلى هذا ينبغي أن نعي هذه القضية وأن الإنسان لا يظهر في نفسه أي فخر على أحد من الناس وإن قلّ قدره أو قلّ ماله أو لم يُعرف نسبه، هذه الأمور لا علاقة لها بالشرف ولا علاقة لها بالقيمة الحقيقية للإنسان. قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء) لماذا خصّ النساء؟ لأن السخرية والتنابز بينهن أكثر لأنهن في الغالب صاحبات مجالس وحديث فيحصل منهن ما يحصل من ذلك فخصّهنّ الله عز وجل. (عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ) لو جعل الإنسان من هذا مبدأ أنه إذا سخر الإنسان من آخر نهره قال لعله خيرٌ منك في إيمانه وقُربه لربه، هذه جميلة أن نجعلها سبيلاً لإنكار تلك السخرية والتفاخر بالأنساب وغيرها.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) ما هو اللمز؟ والهمز؟ (ويل لكل همزة لمزة)، اللمز هو: الإشارة بتقليل شأنه مثل ما قيل "حسبك من صفية أنها كذا" -أي قصيرة-، أو كما لزمت بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة أنها قصيرة، وصفية أنها يهودية. هذا قوله (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) اللمز هو: العيب يعيب بعضكم بعضاً ولم يقل "ولا يلمز بعضكم بعضا" أنت الآن كأنك تعيب نفسك لأن هذا أخوك في الاسلام، فأنت وإياه روح واحدة " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد" فحينما تعيب أخاك فكأنما تعيب نفسك وهذا كثير في القرآن (ولا تقتلوا أنفسكم) في التنفير من شيء يعبِّر عن الآخر بالنفس تأكيداً على النهي وتحذيراً منه.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) المقصود بالتنابز بالألقاب أن يُعيّره بلقب معين، وغالب ألقاب العرب مشينة -حمار وجحش- وغير ذلك صحيح أن بينها حسب وليس المقصود هنا الألقاب الحسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقب أصحابه ربما يُداعبهم فإذا كانت غير مشينة مثل يا أبا هر، يا أبا نغير، يا أبا تراب هذه الألقاب ليس مقصود بها السوء أو الذم أو التقليل. إنما المقصود الألقاب السيئة، هذه ألقاب لا تنمّ إلا عن ثقافة جاهلية دنيئة، وكلما ارتفعت ثقافة الناس نأت عن تلك الكلمات البذيئة والسيئة الأخلاق، كلما كمُلت قيمة الإنسان وقِيمه ومبادئه لا شك أنه سينهى عن تلك الأوصاف والكلمات السيئة ولهذا الله عز وجل يريد أن يرتقي بأهل الاسلام وأهل الإيمان إلى قِيم عالية وأخلاق سامية.
قال الله تعالى (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) الفسوق هو: الخروج عن الطاعة. والوصف سيء لأن هذا الوصف لا يُرضي الله ورسوله، بئس ما وصفته بوصف سيء لا يرضي الله ورسوله بعد أن اتّصف بوصف الإيمان. هذا رجل مؤمن كيف تصفه بوصف سيء وهو متصف بوصف الإيمان؟! كيف يجتمع الإيمان وهذا الوصف السيء؟ فكأنك أنت تجمع بين نقيضين فلهذا قال الله تعالى (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) كأن الله تعالى يحذّر عن هذا الأمر بأنك لا تجمع مع وصف الإيمان الذي يتّصف به صاحبك بوصف يُضادّ هذا الإيمان. ثم قال الله تعالى (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المتجاوزون الحد وهذا تأكيد وتحقيق على التوبة عما بدر منهم والاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى بعد ذلك في النداء الخامس في تربية المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) ما الحكمة أن الله عز وجل أمر باجتناب كثير من الظن؟ لِم لَم يقل اجتنبوا الظن؟ لأن هناك ظناً حسناً ، وإنما قال (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) لأن الظن غالباً مبدؤه من هواجس نفسية لم تُبْنَ على حقائق ودلائل وقرائن قوية وإنما هي على أحداث ومظاهر فأكثر الظن ينبني على هذه القرائن التي ربما يكون ظاهرها -حقيقتها- غير صحيحة رأيت أخاك -مثلا- في موطن لا يليق هنا لم تبنِ على حقيقة، الحقيقة أنك لم تراه عيناً رأي العين على معصية وإنما رأيته مرة في سوق لا يليق أو مع أناس ربما حضر معهم لينصحهم وربما كان ذلك بدعوة من أحدهم وأراد أن يستفيد منه أو نحو ذلك.
إذاً الظن غالباً ما لا يبنى على حقائق وإنما ينبني على شك وهواجس نفسية وخواطر نفسية قد يكون مبدؤها من موقف بينك وبينه. ولذلك الإنسان الذي ينظر بعين نقد غالب أحواله الظن، إذا كنت دائماً تنقد شخصاً فكثيراً من المواقف التي تحدث منه والكلام الذي يقوله دائماً توجه حولها علامات استفهام ربما يريد كذا أو يحتمل كذا فكما يقال تنظر بعين سوداوية أو بنظارة سوداوية ستجد أن المواقف التي تأتيك كلها تأتي بهذا الجانب. أما الإنسان المؤمن الطاهر في قلبه، الصافي في إيمانه ويقينه، السامي في أخلاقه وآدابه لا ينظر إلا بحسن ظن وتفاؤل وغالباً يأخذ الناس على حسن ظنهم إلا أن يُعرف هذا الأمر بما يسوء، اشتهر عنه أنه صاحب بدعة أو صاحب شهوة وانتشر ذلك عنه، ولذلك قال الله تعالى (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وهذا يفيد أن بعض الظن ليس بإثم مثل الظنّ بأهل البدع، والظنّ بالكفار أنهم يكيدون بالمسلمين والظنّ بأهل الفسق ونحو ذلك، هذا ظنّ في محله، لكن الظنّ بالمؤمن الذي ليس من حاله إلا الخير فهذا ليس بظنّ حسن ولهذا قال بعض السلف: "أن الظنّ في المؤمن الذي ظاهره الصلاح ظنّ باطل وهو إثم" يعني إذا كان أخوك صاحب صلاح وإيمان واستقامة فظنك به في شيء من الأمور والتي طرأت ظنّ ،إثم، يجب أن تتبين فيه وتتحقق منه.
قال تعالى (وَلَا تَجَسَّسُوا) وفي قراءة "ولا تحسسوا" وما الحكمة من الأمر بعدم التحسس بعد الظن؟ لأن الظن سيبعث على تتبع الإنسان والتحسس والتجسس عليه.
وقيل: أن التحسس في الأمر الذي فيه خير، والتجسس في الأمر الذي هو سوء. والتجسس هو التطلع بخفاء على ما يراد منه سوءاً، التطلع على أمر بخفاء.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) وهذه الجملة ختم الله تعالى بها توجيه المؤمنين بالآداب لكنه عقّبها بما ينهر المؤمنين عنها ويحذرهم منها ويجعلها في نفوسهم مستكرهة لماذا؟ لأنها أمر يغلب في الناس وهي الغيبة. قال الله تعالى (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) ثم قال (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) لاحظ أنه مثّل هذه الصفة السيئة بأوصاف بليغة في الكراهية والقُبح مما يجعل الإنسان يتصور ذلك المشهد ينهَ عنه ويستقذره ويتركه، أولاً أكل لحم، من يستطيع أن يأكل لحماً نيئاً؟! ثم يأكل لحم إنسان، ثم يأكل لحم أخيه، ثم يأكل لحم أخيه الميت! من يجرؤ على هذا؟! إلا إنسان متوحش لا رحمة فيه البتة وليس فيه قيمة من قِيم الإنسان. فالله تعالى أراد أن يصور ذلك المشهد والحالة بأسوأ صورة فإذا اقترنت بها حِذرها الإنسان. وهذا منهج من مناهج التربية أنك تقرِن صفة بمشهد سيء يحذر الانسان منه فلهذا الله عز وجل صوّر الغيبة التي هي نهش في أعراض الناس، في أعراض المسلمين بغيبتهم -عدم حضورهم- والمثال متجانس من حيث أنه نهش لأوصاف الناس وعيبهم فيهم، وفي غيبتهم وفي وصف الإيمان أي أنه غيبة لمؤمن، فلذلك -ما أعظم- والغيبة قد انتشرت في مجالس الناس وصارت كما يقال فاكهة المجالس أن يستحضر الانسان دائماً هذا المشهد الذي ذكره الله عز وجل ليحذر منها ولا يكون من أهلها. قال الله عز وجل (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
قبل هذا في بيان حكم الغيبة وهل هي من الكبائر أو من الصغائر:
بعض العلماء قال من الكبائر لأن الله عز وجل نهى عنها وقرنها بتحذير وبوعيد وتصوير بليغ.
وبعضهم قال أنها ليست من الكبائر لكنها لا شك من الأخلاق السيئة والمعاصي التي يأثم بها الإنسان إذ أنها متعلقة بحقوق الناس فإنك إذا اغتبت إنساناً فلا يُمحَ عنه ذنبك إلا بالاستحلال منه فتعلقه بحق الآخرين فينبغي للإنسان أن يستشعر هذا الأمر ليدعوه إلى تركه.
قال الله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) لعلنا نقف هنا ونجدد اللقاء إن شاء الله بعد الصلاة في بقية السورة التي لها علاقة بأولها. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهل الايمان الصادق، أن يجعلنا من أهل الإيمان الذين حققوا ما أمر الله تعالى به في هذه السورة من حب الله ورسوله والأدب مع أمر الله ورسوله ويجعلنا متخلقين بأخلاق الاسلام وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المجلس الأول
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿١٣﴾ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿١٤﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
نعاود الحديث في هذا المجلس المبارك في إتمام سورة عظيمة عَنَت بتربية المؤمنين وتحقيق الإيمان والآداب في نفوسهم وهي سورة الحجرات. ولعلي إلماحة مختصرة حول ما ذكرناه في المجلس السابق.
هذه السورة سورة الحجرات اختلف المفسرون هل هي من المفصّل أم لا؟
والحقيقة أن غالب العلماء يرجِّحون أنها ليست من المفصّل وخاصة الحنابلة.
لكن يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذه السورة داخلةٌ في المفصّل من حيث مقاصد المفصّل. المفصّل -ونحن ندلف بين يديه هذه الليلة في سورة ق- يركز على قضيتين اثنتين:
قضية بناء الايمان وترسيخ قضية الأخلاق.
قضية الإيمان هي الأصل والأخلاق لأنه أثرٌ من آثار الإيمان، فلا أخلاق حقيقة إلا بإيمان صحيح. فعلى هذا إذا قلنا أن هذه السورة هي في تحقيق الايمان في نفوس المؤمنين وتكميله وتكميلهم بالأخلاق كما قال الله تعالى (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي زيّنه بهذه السلوكيات التي كانت ثمرةً لهذا الإيمان، فإننا نقول أن سورة الحجرات من المفصّل من هذا الوجه أي من مقاصد المفصّل وإن كنا نقول أن المفصّل كما ورد في التحزيب عن الصحابة رضي الله عنهم أنه يبدأ من سورة ق لكن إنما جعلنا سورة الحجرات من المفصّل من حيث مقصدها ومقاصد المفصّل يتواكب ويتوافق معها.
وقفنا عند قول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) هنا سؤال: تلحظون أن النداءات السابقة في السورة كلها جاءت بلفظ الإيمان بنداء الإيمانية (يا أيها الذين آمنوا) إلا هذا النداء الذي جعل بعض المفسرين يقول أن هذه الآية مكية وهي ليست مكية فليس كل سورة فيها (يا أيها الناس) فهي مكية وإنما غالب السورة المكية فيها نداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) لأن "الناس" يدخل فيه المشركون لكن السؤال هنا حتى يتحقق لنا أن الآية مدنية ما سر موقعها في السورة بالنظر إلى نزولها؟ ما سرّ النداء بالناس في إطار نزولها؟ هو أننا نعلم أن هذه السورة نزلت في عام الوفود وعام الوفود جاءت قبائل كثيرة بعضها دخل في الاسلام دخولاً ظاهراً كما دلت الآيات التي بعد ذلك (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) إذاً هذه القبائل التي وفدت لم تُحقق الإيمان، ما زالت في دائرة الإسلام الظاهر فقُدمت بين يدي هذه الآيات بقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ليشمل الوفود والقبائل التي جاءت التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها فيها نفاق وبعضها لم يتحقق الإيمان في نفوسها فناداهم الله بلفظ الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، هذا معنى أول.
والمعنى الثاني: هو أننا حينما نركز في السورة نجد أنها تُحقق معنى اجتماع المسلمين في دائرة واحدة وهي دائرة الاسلام ودائرة الأخوة في الدين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فكأن الله عز وجل ناداهم جميعاً ليضمهم ثم يبين لهم الحقيقة الواحدة -حقيقة واحدة- التي تجمعهم وتبين شرفهم وهي حقيقة التقوى والإيمان فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) وهو آدم وحواء (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) انظر ما هذا الأسلوب البديع والبليغ الذي جعل من هذه الدائرة الكبيرة معنى واحد (ليتعارفوا)، هذا التعارف هو المبدأ الذي بُني عليه الاسلام وهو الأخوة فحقق من هذه القبائل المتنازعة والمختلفة والتي بينها -في الجاهلية- من النزاع والشقاق والحرب والخلاف قرّبها وجعلها كلها تحت أساس الاسلام في دائرة التعارف فهذّبها وصحّح مبادئها وتصوراتها. تصورات هذه القبائل هي المفاخرة والنزاع والشقاق لكن تصوراتها الصحيحة -في دائرة الاسلام- هي التعارف فأرجعها إلى هذا الأصل الصحيح الذي أراده الله، ثم أرجع هذا الأصل إلى دائرة الاسلام فقال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). أرأيتم السر البليغ في هذه الآية كيف جمع تلك القبائل كلها لتحقق معنى الأخوة في معنى التقوى والكرامة به وتنبذ عن نفسها قضية المفاخرة والسباب والشقاق والتنابز، فقط هذا المعنى لو حصل في نفوس الناس لأزال كثيرا مما في نفوسهم من رواسب الجاهلية. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) لو حققنا هذا في الأمة لكفى في قضية قطع كثير من الشقاق والنزاع والخلاف والفرقة والجنسيات والأحزاب والتفرقات. فهذه الآية هذا قصدها، مقصدها جمع لفيف هذه القبائل التي جاءت إلى الاسلام ودخلت فيه ولمّا تُحقق دائرة الإيمان الحقيقية فأراد أن يوثقها بالميثاق الذي أراده الله وهو التعارف ويربط هذا برباط الإيمان والتقوى فقال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). فإذا تقرر هذا الأصل في تلك القبائل نسيت ما كان فيها من الرواسب وما بينها من نزاعات والتفتت إلى النظرة الإيجابية أن يكون تنافسنا وتفاخرنا بالإيمان والتقوى لنحققه ونشرُف فيه. ثم قال الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .
هنا قال الله عز وجل (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) ما الفرق بين الشعوب والقبائل؟
هذا معنى أن الشعوب في غير العرب والقبائل في العرب.
وقيل: أن القبائل تحت الشعوب فهي داخلة تحت دائرة الشعوب وإنما قال الشعوب ليدخل دائرة الشعوب غير العرب من العجم وقبائل العرب التي دخلت في الاسلام عام الوفود فشمل ذلك كل من دخل في دين الله عز وجل من العرب والعجم.
قال الله عز وجل (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا) هذه الآية نازلة في بني أَسْدٍ وهم الذين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنّوا عليه بإسلامهم وقالوا إنا أتيناك بذرارينا وأموالنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان يعني جاؤوا مفاخرةً بإسلامهم وممتنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يعطيهم من الغنائم والصدقات ما لا يعطي غيرهم إذ أنهم أتوا بغير قتال وغيرهم من القبائل أتوا بعد قتال. فهذه مفاخرة وهذه منٌّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منٌّ على الله ورسوله في الإسلام فقال (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) هذه القبيلة ومن جاء معها وهي قبيلة كبيرة (آمَنَّا) أتيناك مؤمنين ولنا المنّة أننا أتينا من غير قتال، فقال (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) والدليل على ذلك أنهم إنما قالوا ذلك لقصد طلب الصدقات، والذي يأتي مؤمناً لا يطلب الصدقات أصلاً تأتيه تبعاً فلا يكون هذا همّه في إسلامهم، كأنهم أتوا لمصلحة وهي مصلحة الصدقات. فهذا يُبين أنهم لم يؤمنوا بعد، لم يحققوا الإيمان بعد فقال الله تعالى (وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) دخلنا في دائرة الاسلام بالشهادتين والإقرار بشرائع الاسلام لكن الإيمان في القلب وتحقيق الإيمان الصادق والإتيان طاعة لله ورسوله لم يتحقق ذلك. قال تعالى (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) قوله (يَدْخُلِ) يعني يتحقق في ذلك فإن الدخول في الشيء يعني التلبس به.
قال الله تعالى (وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) حقاً (لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً،من إيمانكم وإسلامكم وما تستحقونه من الأجر والصدقات وغيرها.
(لَا يَلِتْكُم) لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً ولا ينقصكم من إيمانكم وسبقكم إذا كنتم قد سبقتم شيئاً. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهنا نلحظ أن فيه تعريض لهم بأن يحققوا الإيمان وأن يستغفروا مما تبوؤا به من المِنّة على الله ورسوله بزعم الإيمان ولم يحققوه قال الله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
ثم بيّن الله حقيقة المؤمنين إشادة بالمؤمنين السابقين المجاهدين ووصفاً ينبغي أن يتمثل به هؤلاء إن كانوا صادقين فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ولاحظوا أن (إِنَّمَا) أداة حصر تفيد أن ما بعدها داخلٌ في هذا الوصف لازم. قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي المؤمنين الكُمّل الذين حققوا الإيمان بالله ورسوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) لم يقع فيهم شك ولا ريب وتردد إنما التردد والشك ناتج عن الحظوظ التي كانت داعٍ لإسلامهم ودخولهم في الدين. قال الله تعالى (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قوله (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) هذا إشادة بالمجاهدين السابقين الأولين بأنهم قد سبقوا وحققوا الايمان وثانياً هو باعثٌ وداعٍ لهؤلاء أن يبيّن لهم أن دخولكم في الدين يستلزم معه أن تجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم تحققوا الايمان. إذا كنتم أتيتم لأجل مصالح مادية والصدقات ولستم على استعداد وقبول بما يأمركم الله تعالى به ورسوله من الجهاد فأنتم لستم بمؤمنين ولهذا قال بعدها (أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فمن حقق هذه الأوصاف فهو الصادق في إسلامه. إذاً هذه الآية -حقيقة- في علامات صدق الايمان، ما هي علامات صدق الإيمان:
أولاً: الذين آمنوا بالله ورسوله
وثانياً: لم يقع في قلوبهم ريب وشك في طاعة الله ورسوله، وأمر الله ورسوله، وحكم الله ورسوله، ولم يترددوا في ذلك البتّة، ولم يقدّموا بين يدي الله ورسوله في حكم أو أمر، هذا صدق الإيمان
/ ثم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم مما يدل على أنهم مستعدون للتضحية بأنفسهم وأنهم لم يأتوا لمصالح دنيوية. هذا محض الإيمان أنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل فهو يبين لهم هنا علامات صدق الإيمان.
ولكن لا يدل ذلك أن الذي لم يجاهد في سبيل الله في فترة من فترات الإسلام والجهاد أنه لم يحقق صدق الإيمان وإنما يدل على ذلك أن يكون ذلك متقرر في نفسه ومؤمن به ومحدِّثٌ نفسه لهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يغزو ولم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة الجاهلية" أو "على شعبة من النفاق". فيُبين لك أن من علامات صدق الإيمان أن يكون في قلبك رغبة وصادقة في نصرة هذا الدين بالجهاد في سبيل الله إذا تمكنت من ذلك وتيسر أمره وفُتح أمره. قال الله عز وجل (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) في دين الله نصرة له وإعزازاً له.
قال الله (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ) حينما أتوا وقالوا نحن أتينا وآمنا فكأنهم يُعلِّمون الرسول ويُبينون له ويُظهرون له وهذا ليس هو الدين أن تقول أنا آمنت. وفي هذه الآية أدب عظيم ينبغي التنبه له وهو: أن الإنسان ينبغي أن لا يعدد فضائله في الإسلام وأعماله. يقول أنا عملت، فعلنا كذا وأسلم على أيدينا كذا مظاهرة وإلا لو كان الأمر إخباراً حتى يُسرّ المسلمون بذلك أو يدعموا هذا المشروع لا بأس فالأعمال بالنيات، لكن يقول فعلت وفعلت وأنا فتحت كذا وأسلم على يدي كذا هذه مفاخرة ومنّة على الله ورسوله لا تجوز وهذا دليل على عدم تحقيق صدق الايمان وأن هناك دخنٌ في النفوس، كأن الإنسان يريد أن يكون له مقام في هذه الأمة لأجل أنه قدّم في هذه الأعمال، لا، إنما الله عز وجل هو الذي يبعث لك هذا القدر من المقام والفضل والقبول في الأرض بحسب صدقك وإيمانك وبذْلِك لأجل الله عز وجل صدقاً.
قال الله تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) لا حاجة أن تُخبر بما عملته أنت فإن الله حافظه والله عز وجل سيأجرك عليه وسيمنحك عليه فضلاً في الدنيا قبل الآخرة. ثم قال الله تعالى (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد أن ذكر ما في السموات والأرض ذكر عِلمه بكل شيء ليُقِر في نفوس هؤلاء الذين أتوا من أولئك القبائل أن الله يعلم ما في نفوسكم ويعلم أحوالكم ويعلم ما في قلوبكم فلا حاجة إلى أن تُظهروا بألسنتكم ما ليس في قلوبكم فإن الله يعلم ذلك.
قال الله تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) هنا لم يقل "بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإسلام" قال (للإيمان) وما هي منّة الله عز وجل عليهم أن هداهم للإيمان؟ هو توجيههم هذا وتقويمهم وتصحيح ما وقع منهم ودعوتهم إلى الإيمان الصادق، هذه هداية من الله عز وجل لهم بالإيمان. هم منّوا باسلامهم وهو سبحانه وتعالى منّ عليهم أنه سبحانه وتعالى أراد أن يُحقق الايمان في نفوسهم بتوجيههم في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) هذا منّة من الله عز وجل أن الله أراد أن يحقق الإيمان في نفسك ويدعوك لذلك ويحذرك من أن تمنّ عليه فيحبط عملك، منّة وهداية من الله سبحانه وتعالى أن يسوقك إلى ذلك.
قال (ِإِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) إن كنتم صادقين في تحقيق الإيمان وتكميله في نفوسكم ودخولكم في هذا الدين دخول طاعة واستجابة وقبول فإنه ينبغي أن تستشعروا أن المنة لله عز وجل عليكم أن هداكم للإسلام ومنّ عليكم أن هداكم للإيمان بهذا التصحيح لإيمانكم.
قال الله تعالى في ختام السورة (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كأن هذه الآية ظلالة ولباسٌ يلبسه الله تعالى لمن دخل في هذا الدين أن يستشعروا هذا المعنى ليُحقق ذلك في نفوسهم وهو يوقنون أن الله يعلم غيب السماوات والأرض فإذا كان يوقن أن الله يعلم غيب السموات والأرض فإنه يعلم أن الله يعلم ما في نفسه وما في غيبته، وما يدور بين الناس في أنفسهم في تلك القبائل وحقيقة إسلامهم فليتقوا الله في ذلك ويراقبوه في ذلك ويكفوا عما كان في نفوسهم من الدَخن والحظوظ النفسية إذا أيقنوا أن الله يعلم غيب السموات والأرض ولذلك ختم السورة بقوله (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) كما أنه يعلم الغيب يعلم سبحانه وتعالى ويُبصر سبحانه وتعالى ما تفعلونه وما تقومون به من أعمال ومن كلام وتصرفات وأحوال فذلك تحت نظره وبصره سبحانه وتعالى وهذا باعث إلى غرس المراقبة في نفوسهم. أرأيتم كيف أن الله عز وجل في هذه الآيات أراد أن يُقرب هؤلاء في دائرة الايمان ويحقق الإيمان في قلوبهم ويصحح دواخل نفوسهم ويقوّمهم فيما كان فيه من خلل، هذه منّة من لله سبحانه وتعالى وهي منّة من الله علينا إذ أننا الآن نقرأ هذه الآيات ونستظهر فيها تربية الله للمؤمنين ونحن بإذن الله من المؤمنين فندخل في ذلك في قبول أمر الله عز وجل بالإيمان فنُمحِص الإيمان في قلوبنا ونحقق ما أمرنا الله به من الأدب ونتحلى بما ذكره الله عز وجل من الأخلاق والتوجيهات التي تضمنتها هذه السورة.
لحفظ الملف الصوتي:
–––––––––––––––––––––––––––
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
وقوله (مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ) سُميت السورة باسم الحجرات حيث ذُكرت في هذا السورة. والفرق بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحجراته أن الحجرات هي الغُرَف فله عليه الصلاة والسلام تسع غرف في سور واحد، فبيته ذلك البيت، بيت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّه سور في كل جزء منه حجرة، الحجرة طولها قرابة ثمانية أمتار ثلاثة أمتار منها نسميه نحن مدخلاً للبيت ثم البيت بعده وهو غرفة لا يزيد طولها عن خمسة أمتار، هذا بيته خمسة في أربعة هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرفته كيف وهو صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق وأعظمهم منزلة عند ربه كيف هو منزله الدنيوي وكيف نرى واقعنا في بيوتنا والله المستعان فيما كان عليه الصلاة والسلام؟!.
قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) لو أنهم صبروا وانتظروا حتى تخرج إليهم فيحيونك فيقدرونك ويعظّمونك لكان خيراً لهم. معنى (خَيْرًا لَّهُمْ) لوجدوا من ذلك خيراً، نالوا ما عندك من الخير وأيضاً نالوا الأجر والثواب والفضل والمقام "ولو عظّموه في النفوس لعُظّما" لكان لهم شأن أعظم مما هم عليه ولما ذكرهم الله بذمّ في هذه الآية لكن لا شك انظروا كيف فقط نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم نداء فذكرهم الله بذكر في آية إلى قيام الساعة ذمّاً لهم. أرأيتم كيف هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم العظيم الذي من أجله تتلى آيات إلى قيام الساعة. واليوم نجد من الناس من يستهين بمقولةٍ هي أعظم من هذه المقولة، حينما يقول: أناجيك الند بالند أيّ كلمة هذه أن يجعل الانسان نفسه ندًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مناجاته ويقول أنه لا يشرف بالسلام عليه يوم مولده! كلمات ما يجترئ عليها إلا إنسان قد أولغ في الإلحاد ودخيلة النفس وتلك الأفكار العقلانية التي ظهرت في هذا الزمن.
قال الله سبحانه وتعالى (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) كأن الله سبحانه وتعالى يمنحهم فرصة للمغفرة برحمته سبحانه وتعالى غفر لهم برحمته مع أنهم أساؤوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع الصوت فقط فكيف بغير ذلك؟!.
ثم قال الله عز وجل في النداء الثالث (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو انتقال من حق الله وحق رسوله إلى التعامل مع المؤمنين ومع الأقوام الآخرين (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) هذه الآية نازلة في قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق يأخذ صدقاتهم فكان بينه وبينهم شحناء فنمى إليه كلام وأخبره مُخبر بأنهم خرجوا بسيوفهم فخشي أن خروجهم بسيوفهم يريدون قتله ومنع النبي صلى الله عليه وسلم زكاته فرجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن بني المُصطلق أرادوا قتله ومنع زكاته إذ أنه أخذ كلام ذلك المُخبِر الذي أخبره عنهم وهم إنما أرادوا أن يخرجوا بسيوفهم -وقد كان ذلك في كبارهم- أرادوا أن يخرجوا بزكاتهم ليُقابلوه بها أو يدفعوها هُم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا جاؤوا بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا الخبر وبادروا بتسليم صدقاتهم وزكواتهم فلذلك أنزل الله الآية (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) فقيل إن هذه الآية الفاسق هنا -ذكر بعض المفسرين- أنه هو الوليد إذ جاء إلى رسول الله وأخبر عن بين المصطلق أنهم أرادوا أن يقتلوه، والظاهر -والله تعالى أعلم- أن الأمر مُتعلق بذلك المُخبر الذي أخبر الوليد ذلك أن الوليد رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم أو يذمه أو يوبخه أو يعاقبه دلّ على أن اللوم على ذلك الفاسق الذي أخبره أولاً فمن الطبيعي أن ذلك سيبعثه على الرجوع إذ أنه لما علِم بخروجهم بسيوفهم فهذا يكفي قرينة أنهم يريدون شيئاً يسوء فرجع بهذا الظن السيء.
قال (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) أي بخبر يصيب قوماً (فَتَبَيَّنُوا) وفي قراءة (فتثبتوا) أن تصيبوا قوماً بجهالة والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقاتلهم لو منعوا الزكاة فقال (أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) بسبب تلك الجهالة التي جاءتكم من ذلك الفاسق (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) حيث لم تتبينوا ولم تتثبتوا.
وهذه الآية هي قاعدة عظيمة لقضية قبول الخبر والتبيّن في الأخبار والتثبت فيها والحيطة من أن تصيب إنساناً بظنّ أو بسوء أو أذى بسبب خبر، وتعطينا أيضاً درساً عظيماً في أن الإنسان إذا سمع حديثاً عن آخرين لا يستعجل بالحكم عليهم هذا هو ميزان الإيمان. إذا جاءك خبر عن شخص أو طائفة بأمر من الأمور يسوؤك أو يقدح في ديانتهم أو في أدبهم أو يقع في نفسك سوء ظن بهم فالواجب في هذا هو التثبّت والتبين.
ثم قال عز وجل في تربية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربية أولئك الوفود الذين جاؤوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم يظهر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسوهم حقاً قال (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) هم يعلمون أن رسول الله فيهم لكن الغرض منها: الاشارة أن بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد من ربه عز وجل بالوحي الصادق فواجب أن يُعظموه ويُوقروه ويأخذوا برأيه وحكمه فقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) يفيد أن المقصود يجب أن تعتبروا وجوده فيكم فتوقروه وترجعوا إلى رأيه وتنزلوا عند حكمه ولا تتقدموا بين يديه ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ولا تجهروا له بالقول وغير ذلك من الآداب المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) يعني لو أن النبي صلى الله عليه وسلم استجاب للناس في أهوائهم وما يطلبون لشقّ ذلك فيهم والعنت: المشقة، ووقعوا في العنت والمشقة لأن الإنسان قد يهوى في وفرة إيمانه وقوته، في حال قوة إيمانه قد يطلب أموراً في المستقبل لا يُطيقها فيقول الله (لَعَنِتُّمْ) أي لشقّ عليكم ذلك ولم تستطيعوه (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ) الله أكبر! ما أعظم هذه الجملة العظيمة التي ترقق قلوب الصحابة، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين معه، المؤمنين الذين آمنوا من تلك الوفود وتقربهم وتحقق الايمان في قلوبهم.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) ما الفرق بين حبّب إليكم الإيمان وبين زيّنه في قلوبكم؟ المحبة تعني أن يُخالط هذا الايمان القلوب بالرضى والقبول التام، حبب الإيمان أنت تعشق هذا الإيمان وتأنس به وتقرّ عينك به، هذا هو الإيمان الصحيح، المؤمن حقاً يجد في نفسه سروراً وبهجة واشراقاً في قلبه أن الإيمان في قلبه وأنه مستقيم على طاعة الله عز وجل ممتثل أمره. أما زيّنه بما وراء ذلك والزينة هي: أثر من آثار الشيء، زينة الشيء خارجة عنه وتحلّيه فالزينة في (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) زيّنه بأخلاقكم وآدابكم وما يمكن أن يكون من آثار ذلك الإيمان الذي حبّبه وأقره ورسخه في قلوبكم. وعلى هذا نقول أن السورة في تحقيق الإيمان وتكميل الأخلاق، هذه الآية تؤكد ذلك.
قال (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) وهذا الذي يقابل التحبيب والتزيين، الكفر والفسوق والعصيان هي الأخلاق السيئة من معصية الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال عز وجل في وصف أولئك وكفى بهذا وصفاً (أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الرُشد: هو كمال العقل وكمال الديانة، فوصفهم الله وبين أنهم بهذا الوصف الذي جعلهم الله فيه هم راشدون كاملون في إيمانهم وآدابهم وأخلاقهم. ثم قال الله امتناناً عليهم (فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) والله إن ذلك لأعظم الفضل أن يُحبب الله إليك الإيمان وأن يزّينه في قلبك بالتقوى واليقين وغير ذلك من آثاره ويُكرّه لك الكفر والفسوق والعصيان ذلك هو تحقيق الإيمان حقاً وذلك صفو العقيدة وذلك هو الرُشد والكمال ولهذا قال (فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) فضلٌ من الله تفضّل به عليكم (وَنِعْمَةً) زادكم بها وأكرمكم بها (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) حينما علِم صدقكم ورغبتكم في الإيمان فحببه إليكم وحكيم في ذلك. نقف عند هذا ونكمل الدرس.
المجلس الثاني
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٩﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿١٠﴾) قال الله عز وجل في سياق سورة الحجرات (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) لاحظوا أن السياق ما يزال في تحقيق تكامل المؤمينن ومودّتهم وتحقيق الإيمان في نفوسهم وإبعاد دخائل الشيطان ووساوسه ورواسب الجاهلية التي كانوا عليها.
هذه الآيات نازلة في قصة: كان النبي صلى الله عليه وسلم مرّ وهو على حمار على مجلس عبد الله بن أُبيّ بن سلول -رأس المنافقين- ومعه أصحابه فلَمَز عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم وقال لقد آذانا نتن حمارك، هذه الكلمة ماذا يعني بها؟ يعني بها استقذار مرور النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة النيل للتنقيص منه عند أصحابه الذين وافقوه في النفاق. فأحد من كان معهم من أصحابه وقد كان أصحابه الخزرج منهم المؤمنين أوس والخزرج كانوا يجتمعون ومنهم مؤمنون ومنهم منافقون قال: والله لَنَتَنُ حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب من رائحة مسكك، فتنازع الرجلان وارتفعت أصواتهما صوت ذلك الرجل مع رجل من أصحاب عبد الله ثم اجتمع الفريقان وهما طائفتان الأوس والخزرج فكادا أن يقتتلا فتنازعا وتقاتلا بالنِعال فجاء النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ليُصلح بينهما فأنزل الله هذه الآية. والطائفتان ليستا طائفة المؤمنين والمنافقين وإنما طائفتا الأوس والخزرج فيها مؤمنين وفيها منافقين ولذلك أنزل الله تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) فيبيّن لنا أن هذا الاقتتال كان بين طائفتين لقبيلتيهما الأوس والخزرج وليس بين المنافقين والمؤمنين فأنزل الله هذه الآية (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
ثم قال الله عز وجل في حُكم الإصلاح بين طائفة المؤمنين بعد ذلك، قاعدة من قواعد لمّ الشمل وقطع الطريق على البُغاة الذين يريدون أن يشقّوا عصا الجماعة واجتماع المؤمنين وتوادّهم وأخوتهم. قال الله عز وجل (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى) ولم تستجيب للإصلاح (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) يعني إذا وصل الأمر إلى أنها تُقاتَل ولم تسجيب فقاتلوها (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع (إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (فَإِن فَاءتْ) أي رجعت (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) هنا سؤال: ما سرّ الأمر بالإصلاح مرة أخرى؟ لم يقل "حتى تفيء إلى أمر الله" فقط بل قال (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) فما السر في الأمر بالإصلاح مرة أخرى بعد اختلافهما؟ المقصود هنا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ربما هذه الفئة الباغية تقف عن بغيها استجابة لسعي المؤمنين الذين أرادوا أن يقاتلونهم لأن الله تعالى قال (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) يعني لم تكفّ عن البغي إلا لما قاتلها جماعة المؤمنين إذا لم تصفِ النفوس بعد والغرض تصفية النفوس. فالله عز وجل قال هنا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) وإنما قال (بالعدل) حتى لا يكون الإصلاح في صالح طائفة دون طائفة فيُقتصّ من الطائفة الباغية لصالح الطائفة المُبغي عليها في مُقاتلتِهم وفي أموالهم التي فقدوها وغير ذلك وإنما أمر بالعدل هنا حتى يكون الأمر يُبعد ما يكون في نفوس المؤمنين من شفاء غليلهم من هذه الطائفة الطاغية ربما ظلموهم، الله أكبر، ما أعظم العدل! وما أعظم حكمة الله عز وجل حينما دقق في الحُكم هنا بالإصلاح بالعدل ولم يصفه ولم يقرنه بالإصلاح في الموضع الأول. ثم قال (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) العدل مقترن بالإصلاح وأما (وَأَقْسِطُوا) فهو زائد عامٌ في حكم ثابت يجب على المسلمين أن يقسطوا دائماً فيما بينهم. والقسط هنا العدل والسلامة من الظلم وتجاوزه. قال الله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) هذه الطائفة التي تُصلح هي جماعة المسلمين وأهل الإيمان هي التي يجب أن تُصلح، من تتولى أمر المؤمنين وجماعتهم هي التي تذهب للإصلاح ولذلك الإصلاح قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من جماعة المسلمين والصحابة، فهذه الطائفة هي التي تُصلح، أما الطائفتان قد تكون إحداهما أو كلاهما من المؤمنين ولكن كان بينهما النزاع فهما اللذين يقع عليهما الإصلاح.
قال الله تعالى تأكيداً لهذا الاصلاح ولمّاً لشمل الجماعة المسلمة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) تكررت كلمة الإصلاح مرة أخرى لأن السورة تؤكد على قضية تحقيق الجماعة المسلمة وتآلفها واجتماعها بعد أن أكرمها الله عز وجل بهذا التمكين وهذا العزّ وهذه الكثرة في عام الوفود، فما أعظم هذه الآيات التي تُربي المسلمين وجماعتهم وتوثق الصلة بينهم!. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) لماذا أصلحتم بينهم؟ لأنهم مؤمنون والمؤمنون إخوة " لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه" " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد" فالسعي للإصلاح لتوثيق عرى الأخوة وهنا لفتة عظيمة مهمة أن قضية الإصلاح أمرها عظيم في الدين لأنها تشد هذه الجماعة وتقطع طريق الشتات بين المسلمين والتفرق والنزاع وإيغال الصدور وغير ذلك، ولذلك رتب الله عليها ثواباً عظيماً قال الله تعالى (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:١١٤] حريٌ بنا أن نجعل هذا مبدأ من مبادئنا وقيمة معتبرة في حياتنا، الإصلاح بين أخوينا. ليس صحيحاً أنك حينما تجد بين أخويك جارك مثلاً أو أخيك أو زميلك حصل بينه وبين أحد خلاف فتقول مالي وشأنه؟ هذه للأسف نسمعها أحياناً كأن يقول ما لي علاقة بهم! ما الذي يجعلني أوقع نفسي في مشكلة معهم؟! لا يا أخي أنت من مبدأ الأخوة في الدين كأن هذا أخوك الشقيق أو ابنك الذي يجب أن تحفظ الأسرة به وتلمه وتُصلحه فكذلك أنت في بيت الاسلام حريٌ بك أن يكون من مبادئك ومبادئنا جميعاً الإصلاح، وإننا والله لنحزن أشد الحزن في هذا الوقت الذي نحن فيه حين كثرت النزاعات والفرقة والشتات حتى بين الأخوين وبين الزوجين وبين الأبناء مع أبيهم وامتلأت المحاكم وقلّ التناصح والإصلاح وما بقي للناس إلا التحاكم -للأسف الشديد-، والله إن هذا لمؤسف! ثم إنك تجد أن هذا النزاع عند أمر يسير عند أمر مادي لا قيمة له بين أخ وأخيه، والله إني لأجد بعض النزاعات ست سنوات قطيعة بين أخوين شقيقين لم ير أحدهما الآخر ولم يسمعه ووالدتهما يكاد يومها يغطيها بالحزن والبكاء من هذه القطيعة ومع ذلك لا يأبه أحدهما بالآخر أعوذ بالله من هذه القطيعة! والله عز وجل يقول في شأن المنافقين وهذه صفة من صفاتهم في سورة محمد التي مرت معنا (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) إن هذا ليقشعر منه الجسد هيبة وتعظيماً في قضية قطع الصلة ثم قضية عدم الرغبة في الإصلاح ثم بعد ذلك في المسلمين السعي بالإصلاح بين الإخوة. قال الله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اتقوا الله بتحقيق ما أمركم الله عز وجل به وهو الإصلاح والسعي لتحقيق الأخوة فإن ذلك سبب من أسباب الرحمة قال (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). فإذا كنا نريد رحمة الله فعلينا أن نُحقق الرحمة في مجتمعنا بالإصلاح وتحقيق الأخوة والبُعد عن الشقاق والنزاع ونحو ذلك.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هذه الآية يذكر لها بعض المفسرين سبب نزول أن بعض الوفود التي أتت لمزت بعض الصحابة بألقابهم أو فيما بينهم، أو بعضهم من سخر من بعض الصحابة كبلال وغيره، لكن يظهر -والله تعالى أعلم- أن الآية كلها بما فيها من آداب تعالج تلك الوفود بما أتت به من رواسب الجاهلية وعاداتها والسخرية وتنابزهم بالألقاب، وكانت الألقاب السيئة عادة بين العرب، السخرية والهجاء وقصائد الهجاء لا تنتهي عندهم، فالله عز وجل أراد أن يُصفيهم بمصفاة الإيمان والآداب الاسلامية. قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهي انتقال، وإعادة هذا النداء له أثر في نفوس المؤمنين تجديد لأدب جديد كأنه يحفزهم مرة بعد مرة ليُحقق الإيمان في نفوسهم ويسترعي أسماعهم ولهذا قال ابن مسعود: "إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا فأرع لها سمعك فإنما هي أمر تؤمر به أو نهيٌ تُنهى عنه". فتكرر وإعادة هذه النداءات الإيمانية في هذه السورة خمس مرات له غرض في تحقيق الايمان وبعثه في نفوس المؤمنين والتأكيد عليه.
قال الله (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ) لا تسخر قبيلة من قبيلة ربما قبيلة سبقت قبيلة في الاسلام، في هذه الآية دليل على أن الانسان لا يرى أن ما هو عليه من قبيلة أو حسب أو نسب تجعل له نصيباً في الإسلام أو له سبق على غيره في الدين، أبداً ليس في الإسلام سَبق لحسب أو نسب أبداً، ولهذا قال بعد ذلك (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وهذا لحكمة الإسلام وكماله أنه قطع بين الأنساب والأحساب وقضية الإيمان وشرف الإيمان جعلهما ضدان، صحيح أنه جعل تلك القبائل والشعوب تحقيقاً لتلك الحقيقة الإيمانية وهي الإيمان لتعارفوا فتتآلف قلوبكم فتقوى شوكتكم لكن العرب استخدموها في عكس ما هي له فتنازعوا وتنابزوا. قال الله سبحانه وتعالى (عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ) صحيح أن الإنسان إذا قدح في شخص آخر غالباً ما يكون هذا القادِح في نفسه دخيلة كِبر، عُجب، أن يرى نفسه فإذا كان ذلك فإن هذا سوءة من سوءاته وهذا يُقلل من شأنه وقدره عند الله فقد يكون الشخص الآخر خيراً منه فعلى هذا ينبغي أن نعي هذه القضية وأن الإنسان لا يظهر في نفسه أي فخر على أحد من الناس وإن قلّ قدره أو قلّ ماله أو لم يُعرف نسبه، هذه الأمور لا علاقة لها بالشرف ولا علاقة لها بالقيمة الحقيقية للإنسان. قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء) لماذا خصّ النساء؟ لأن السخرية والتنابز بينهن أكثر لأنهن في الغالب صاحبات مجالس وحديث فيحصل منهن ما يحصل من ذلك فخصّهنّ الله عز وجل. (عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ) لو جعل الإنسان من هذا مبدأ أنه إذا سخر الإنسان من آخر نهره قال لعله خيرٌ منك في إيمانه وقُربه لربه، هذه جميلة أن نجعلها سبيلاً لإنكار تلك السخرية والتفاخر بالأنساب وغيرها.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) ما هو اللمز؟ والهمز؟ (ويل لكل همزة لمزة)، اللمز هو: الإشارة بتقليل شأنه مثل ما قيل "حسبك من صفية أنها كذا" -أي قصيرة-، أو كما لزمت بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة أنها قصيرة، وصفية أنها يهودية. هذا قوله (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) اللمز هو: العيب يعيب بعضكم بعضاً ولم يقل "ولا يلمز بعضكم بعضا" أنت الآن كأنك تعيب نفسك لأن هذا أخوك في الاسلام، فأنت وإياه روح واحدة " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد" فحينما تعيب أخاك فكأنما تعيب نفسك وهذا كثير في القرآن (ولا تقتلوا أنفسكم) في التنفير من شيء يعبِّر عن الآخر بالنفس تأكيداً على النهي وتحذيراً منه.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) المقصود بالتنابز بالألقاب أن يُعيّره بلقب معين، وغالب ألقاب العرب مشينة -حمار وجحش- وغير ذلك صحيح أن بينها حسب وليس المقصود هنا الألقاب الحسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقب أصحابه ربما يُداعبهم فإذا كانت غير مشينة مثل يا أبا هر، يا أبا نغير، يا أبا تراب هذه الألقاب ليس مقصود بها السوء أو الذم أو التقليل. إنما المقصود الألقاب السيئة، هذه ألقاب لا تنمّ إلا عن ثقافة جاهلية دنيئة، وكلما ارتفعت ثقافة الناس نأت عن تلك الكلمات البذيئة والسيئة الأخلاق، كلما كمُلت قيمة الإنسان وقِيمه ومبادئه لا شك أنه سينهى عن تلك الأوصاف والكلمات السيئة ولهذا الله عز وجل يريد أن يرتقي بأهل الاسلام وأهل الإيمان إلى قِيم عالية وأخلاق سامية.
قال الله تعالى (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) الفسوق هو: الخروج عن الطاعة. والوصف سيء لأن هذا الوصف لا يُرضي الله ورسوله، بئس ما وصفته بوصف سيء لا يرضي الله ورسوله بعد أن اتّصف بوصف الإيمان. هذا رجل مؤمن كيف تصفه بوصف سيء وهو متصف بوصف الإيمان؟! كيف يجتمع الإيمان وهذا الوصف السيء؟ فكأنك أنت تجمع بين نقيضين فلهذا قال الله تعالى (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) كأن الله تعالى يحذّر عن هذا الأمر بأنك لا تجمع مع وصف الإيمان الذي يتّصف به صاحبك بوصف يُضادّ هذا الإيمان. ثم قال الله تعالى (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المتجاوزون الحد وهذا تأكيد وتحقيق على التوبة عما بدر منهم والاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى بعد ذلك في النداء الخامس في تربية المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) ما الحكمة أن الله عز وجل أمر باجتناب كثير من الظن؟ لِم لَم يقل اجتنبوا الظن؟ لأن هناك ظناً حسناً ، وإنما قال (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) لأن الظن غالباً مبدؤه من هواجس نفسية لم تُبْنَ على حقائق ودلائل وقرائن قوية وإنما هي على أحداث ومظاهر فأكثر الظن ينبني على هذه القرائن التي ربما يكون ظاهرها -حقيقتها- غير صحيحة رأيت أخاك -مثلا- في موطن لا يليق هنا لم تبنِ على حقيقة، الحقيقة أنك لم تراه عيناً رأي العين على معصية وإنما رأيته مرة في سوق لا يليق أو مع أناس ربما حضر معهم لينصحهم وربما كان ذلك بدعوة من أحدهم وأراد أن يستفيد منه أو نحو ذلك.
إذاً الظن غالباً ما لا يبنى على حقائق وإنما ينبني على شك وهواجس نفسية وخواطر نفسية قد يكون مبدؤها من موقف بينك وبينه. ولذلك الإنسان الذي ينظر بعين نقد غالب أحواله الظن، إذا كنت دائماً تنقد شخصاً فكثيراً من المواقف التي تحدث منه والكلام الذي يقوله دائماً توجه حولها علامات استفهام ربما يريد كذا أو يحتمل كذا فكما يقال تنظر بعين سوداوية أو بنظارة سوداوية ستجد أن المواقف التي تأتيك كلها تأتي بهذا الجانب. أما الإنسان المؤمن الطاهر في قلبه، الصافي في إيمانه ويقينه، السامي في أخلاقه وآدابه لا ينظر إلا بحسن ظن وتفاؤل وغالباً يأخذ الناس على حسن ظنهم إلا أن يُعرف هذا الأمر بما يسوء، اشتهر عنه أنه صاحب بدعة أو صاحب شهوة وانتشر ذلك عنه، ولذلك قال الله تعالى (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وهذا يفيد أن بعض الظن ليس بإثم مثل الظنّ بأهل البدع، والظنّ بالكفار أنهم يكيدون بالمسلمين والظنّ بأهل الفسق ونحو ذلك، هذا ظنّ في محله، لكن الظنّ بالمؤمن الذي ليس من حاله إلا الخير فهذا ليس بظنّ حسن ولهذا قال بعض السلف: "أن الظنّ في المؤمن الذي ظاهره الصلاح ظنّ باطل وهو إثم" يعني إذا كان أخوك صاحب صلاح وإيمان واستقامة فظنك به في شيء من الأمور والتي طرأت ظنّ ،إثم، يجب أن تتبين فيه وتتحقق منه.
قال تعالى (وَلَا تَجَسَّسُوا) وفي قراءة "ولا تحسسوا" وما الحكمة من الأمر بعدم التحسس بعد الظن؟ لأن الظن سيبعث على تتبع الإنسان والتحسس والتجسس عليه.
وقيل: أن التحسس في الأمر الذي فيه خير، والتجسس في الأمر الذي هو سوء. والتجسس هو التطلع بخفاء على ما يراد منه سوءاً، التطلع على أمر بخفاء.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) وهذه الجملة ختم الله تعالى بها توجيه المؤمنين بالآداب لكنه عقّبها بما ينهر المؤمنين عنها ويحذرهم منها ويجعلها في نفوسهم مستكرهة لماذا؟ لأنها أمر يغلب في الناس وهي الغيبة. قال الله تعالى (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) ثم قال (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) لاحظ أنه مثّل هذه الصفة السيئة بأوصاف بليغة في الكراهية والقُبح مما يجعل الإنسان يتصور ذلك المشهد ينهَ عنه ويستقذره ويتركه، أولاً أكل لحم، من يستطيع أن يأكل لحماً نيئاً؟! ثم يأكل لحم إنسان، ثم يأكل لحم أخيه، ثم يأكل لحم أخيه الميت! من يجرؤ على هذا؟! إلا إنسان متوحش لا رحمة فيه البتة وليس فيه قيمة من قِيم الإنسان. فالله تعالى أراد أن يصور ذلك المشهد والحالة بأسوأ صورة فإذا اقترنت بها حِذرها الإنسان. وهذا منهج من مناهج التربية أنك تقرِن صفة بمشهد سيء يحذر الانسان منه فلهذا الله عز وجل صوّر الغيبة التي هي نهش في أعراض الناس، في أعراض المسلمين بغيبتهم -عدم حضورهم- والمثال متجانس من حيث أنه نهش لأوصاف الناس وعيبهم فيهم، وفي غيبتهم وفي وصف الإيمان أي أنه غيبة لمؤمن، فلذلك -ما أعظم- والغيبة قد انتشرت في مجالس الناس وصارت كما يقال فاكهة المجالس أن يستحضر الانسان دائماً هذا المشهد الذي ذكره الله عز وجل ليحذر منها ولا يكون من أهلها. قال الله عز وجل (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
قبل هذا في بيان حكم الغيبة وهل هي من الكبائر أو من الصغائر:
بعض العلماء قال من الكبائر لأن الله عز وجل نهى عنها وقرنها بتحذير وبوعيد وتصوير بليغ.
وبعضهم قال أنها ليست من الكبائر لكنها لا شك من الأخلاق السيئة والمعاصي التي يأثم بها الإنسان إذ أنها متعلقة بحقوق الناس فإنك إذا اغتبت إنساناً فلا يُمحَ عنه ذنبك إلا بالاستحلال منه فتعلقه بحق الآخرين فينبغي للإنسان أن يستشعر هذا الأمر ليدعوه إلى تركه.
قال الله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) لعلنا نقف هنا ونجدد اللقاء إن شاء الله بعد الصلاة في بقية السورة التي لها علاقة بأولها. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهل الايمان الصادق، أن يجعلنا من أهل الإيمان الذين حققوا ما أمر الله تعالى به في هذه السورة من حب الله ورسوله والأدب مع أمر الله ورسوله ويجعلنا متخلقين بأخلاق الاسلام وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المجلس الأول
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿١٣﴾ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿١٤﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
نعاود الحديث في هذا المجلس المبارك في إتمام سورة عظيمة عَنَت بتربية المؤمنين وتحقيق الإيمان والآداب في نفوسهم وهي سورة الحجرات. ولعلي إلماحة مختصرة حول ما ذكرناه في المجلس السابق.
هذه السورة سورة الحجرات اختلف المفسرون هل هي من المفصّل أم لا؟
والحقيقة أن غالب العلماء يرجِّحون أنها ليست من المفصّل وخاصة الحنابلة.
لكن يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذه السورة داخلةٌ في المفصّل من حيث مقاصد المفصّل. المفصّل -ونحن ندلف بين يديه هذه الليلة في سورة ق- يركز على قضيتين اثنتين:
قضية بناء الايمان وترسيخ قضية الأخلاق.
قضية الإيمان هي الأصل والأخلاق لأنه أثرٌ من آثار الإيمان، فلا أخلاق حقيقة إلا بإيمان صحيح. فعلى هذا إذا قلنا أن هذه السورة هي في تحقيق الايمان في نفوس المؤمنين وتكميله وتكميلهم بالأخلاق كما قال الله تعالى (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي زيّنه بهذه السلوكيات التي كانت ثمرةً لهذا الإيمان، فإننا نقول أن سورة الحجرات من المفصّل من هذا الوجه أي من مقاصد المفصّل وإن كنا نقول أن المفصّل كما ورد في التحزيب عن الصحابة رضي الله عنهم أنه يبدأ من سورة ق لكن إنما جعلنا سورة الحجرات من المفصّل من حيث مقصدها ومقاصد المفصّل يتواكب ويتوافق معها.
وقفنا عند قول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) هنا سؤال: تلحظون أن النداءات السابقة في السورة كلها جاءت بلفظ الإيمان بنداء الإيمانية (يا أيها الذين آمنوا) إلا هذا النداء الذي جعل بعض المفسرين يقول أن هذه الآية مكية وهي ليست مكية فليس كل سورة فيها (يا أيها الناس) فهي مكية وإنما غالب السورة المكية فيها نداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) لأن "الناس" يدخل فيه المشركون لكن السؤال هنا حتى يتحقق لنا أن الآية مدنية ما سر موقعها في السورة بالنظر إلى نزولها؟ ما سرّ النداء بالناس في إطار نزولها؟ هو أننا نعلم أن هذه السورة نزلت في عام الوفود وعام الوفود جاءت قبائل كثيرة بعضها دخل في الاسلام دخولاً ظاهراً كما دلت الآيات التي بعد ذلك (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) إذاً هذه القبائل التي وفدت لم تُحقق الإيمان، ما زالت في دائرة الإسلام الظاهر فقُدمت بين يدي هذه الآيات بقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ليشمل الوفود والقبائل التي جاءت التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها فيها نفاق وبعضها لم يتحقق الإيمان في نفوسها فناداهم الله بلفظ الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، هذا معنى أول.
والمعنى الثاني: هو أننا حينما نركز في السورة نجد أنها تُحقق معنى اجتماع المسلمين في دائرة واحدة وهي دائرة الاسلام ودائرة الأخوة في الدين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فكأن الله عز وجل ناداهم جميعاً ليضمهم ثم يبين لهم الحقيقة الواحدة -حقيقة واحدة- التي تجمعهم وتبين شرفهم وهي حقيقة التقوى والإيمان فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) وهو آدم وحواء (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) انظر ما هذا الأسلوب البديع والبليغ الذي جعل من هذه الدائرة الكبيرة معنى واحد (ليتعارفوا)، هذا التعارف هو المبدأ الذي بُني عليه الاسلام وهو الأخوة فحقق من هذه القبائل المتنازعة والمختلفة والتي بينها -في الجاهلية- من النزاع والشقاق والحرب والخلاف قرّبها وجعلها كلها تحت أساس الاسلام في دائرة التعارف فهذّبها وصحّح مبادئها وتصوراتها. تصورات هذه القبائل هي المفاخرة والنزاع والشقاق لكن تصوراتها الصحيحة -في دائرة الاسلام- هي التعارف فأرجعها إلى هذا الأصل الصحيح الذي أراده الله، ثم أرجع هذا الأصل إلى دائرة الاسلام فقال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). أرأيتم السر البليغ في هذه الآية كيف جمع تلك القبائل كلها لتحقق معنى الأخوة في معنى التقوى والكرامة به وتنبذ عن نفسها قضية المفاخرة والسباب والشقاق والتنابز، فقط هذا المعنى لو حصل في نفوس الناس لأزال كثيرا مما في نفوسهم من رواسب الجاهلية. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) لو حققنا هذا في الأمة لكفى في قضية قطع كثير من الشقاق والنزاع والخلاف والفرقة والجنسيات والأحزاب والتفرقات. فهذه الآية هذا قصدها، مقصدها جمع لفيف هذه القبائل التي جاءت إلى الاسلام ودخلت فيه ولمّا تُحقق دائرة الإيمان الحقيقية فأراد أن يوثقها بالميثاق الذي أراده الله وهو التعارف ويربط هذا برباط الإيمان والتقوى فقال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). فإذا تقرر هذا الأصل في تلك القبائل نسيت ما كان فيها من الرواسب وما بينها من نزاعات والتفتت إلى النظرة الإيجابية أن يكون تنافسنا وتفاخرنا بالإيمان والتقوى لنحققه ونشرُف فيه. ثم قال الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .
هنا قال الله عز وجل (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) ما الفرق بين الشعوب والقبائل؟
هذا معنى أن الشعوب في غير العرب والقبائل في العرب.
وقيل: أن القبائل تحت الشعوب فهي داخلة تحت دائرة الشعوب وإنما قال الشعوب ليدخل دائرة الشعوب غير العرب من العجم وقبائل العرب التي دخلت في الاسلام عام الوفود فشمل ذلك كل من دخل في دين الله عز وجل من العرب والعجم.
قال الله عز وجل (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا) هذه الآية نازلة في بني أَسْدٍ وهم الذين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنّوا عليه بإسلامهم وقالوا إنا أتيناك بذرارينا وأموالنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان يعني جاؤوا مفاخرةً بإسلامهم وممتنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يعطيهم من الغنائم والصدقات ما لا يعطي غيرهم إذ أنهم أتوا بغير قتال وغيرهم من القبائل أتوا بعد قتال. فهذه مفاخرة وهذه منٌّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منٌّ على الله ورسوله في الإسلام فقال (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) هذه القبيلة ومن جاء معها وهي قبيلة كبيرة (آمَنَّا) أتيناك مؤمنين ولنا المنّة أننا أتينا من غير قتال، فقال (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) والدليل على ذلك أنهم إنما قالوا ذلك لقصد طلب الصدقات، والذي يأتي مؤمناً لا يطلب الصدقات أصلاً تأتيه تبعاً فلا يكون هذا همّه في إسلامهم، كأنهم أتوا لمصلحة وهي مصلحة الصدقات. فهذا يُبين أنهم لم يؤمنوا بعد، لم يحققوا الإيمان بعد فقال الله تعالى (وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) دخلنا في دائرة الاسلام بالشهادتين والإقرار بشرائع الاسلام لكن الإيمان في القلب وتحقيق الإيمان الصادق والإتيان طاعة لله ورسوله لم يتحقق ذلك. قال تعالى (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) قوله (يَدْخُلِ) يعني يتحقق في ذلك فإن الدخول في الشيء يعني التلبس به.
قال الله تعالى (وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) حقاً (لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً،من إيمانكم وإسلامكم وما تستحقونه من الأجر والصدقات وغيرها.
(لَا يَلِتْكُم) لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً ولا ينقصكم من إيمانكم وسبقكم إذا كنتم قد سبقتم شيئاً. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهنا نلحظ أن فيه تعريض لهم بأن يحققوا الإيمان وأن يستغفروا مما تبوؤا به من المِنّة على الله ورسوله بزعم الإيمان ولم يحققوه قال الله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
ثم بيّن الله حقيقة المؤمنين إشادة بالمؤمنين السابقين المجاهدين ووصفاً ينبغي أن يتمثل به هؤلاء إن كانوا صادقين فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ولاحظوا أن (إِنَّمَا) أداة حصر تفيد أن ما بعدها داخلٌ في هذا الوصف لازم. قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي المؤمنين الكُمّل الذين حققوا الإيمان بالله ورسوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) لم يقع فيهم شك ولا ريب وتردد إنما التردد والشك ناتج عن الحظوظ التي كانت داعٍ لإسلامهم ودخولهم في الدين. قال الله تعالى (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قوله (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) هذا إشادة بالمجاهدين السابقين الأولين بأنهم قد سبقوا وحققوا الايمان وثانياً هو باعثٌ وداعٍ لهؤلاء أن يبيّن لهم أن دخولكم في الدين يستلزم معه أن تجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم تحققوا الايمان. إذا كنتم أتيتم لأجل مصالح مادية والصدقات ولستم على استعداد وقبول بما يأمركم الله تعالى به ورسوله من الجهاد فأنتم لستم بمؤمنين ولهذا قال بعدها (أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فمن حقق هذه الأوصاف فهو الصادق في إسلامه. إذاً هذه الآية -حقيقة- في علامات صدق الايمان، ما هي علامات صدق الإيمان:
أولاً: الذين آمنوا بالله ورسوله
وثانياً: لم يقع في قلوبهم ريب وشك في طاعة الله ورسوله، وأمر الله ورسوله، وحكم الله ورسوله، ولم يترددوا في ذلك البتّة، ولم يقدّموا بين يدي الله ورسوله في حكم أو أمر، هذا صدق الإيمان
/ ثم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم مما يدل على أنهم مستعدون للتضحية بأنفسهم وأنهم لم يأتوا لمصالح دنيوية. هذا محض الإيمان أنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل فهو يبين لهم هنا علامات صدق الإيمان.
ولكن لا يدل ذلك أن الذي لم يجاهد في سبيل الله في فترة من فترات الإسلام والجهاد أنه لم يحقق صدق الإيمان وإنما يدل على ذلك أن يكون ذلك متقرر في نفسه ومؤمن به ومحدِّثٌ نفسه لهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يغزو ولم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة الجاهلية" أو "على شعبة من النفاق". فيُبين لك أن من علامات صدق الإيمان أن يكون في قلبك رغبة وصادقة في نصرة هذا الدين بالجهاد في سبيل الله إذا تمكنت من ذلك وتيسر أمره وفُتح أمره. قال الله عز وجل (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) في دين الله نصرة له وإعزازاً له.
قال الله (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ) حينما أتوا وقالوا نحن أتينا وآمنا فكأنهم يُعلِّمون الرسول ويُبينون له ويُظهرون له وهذا ليس هو الدين أن تقول أنا آمنت. وفي هذه الآية أدب عظيم ينبغي التنبه له وهو: أن الإنسان ينبغي أن لا يعدد فضائله في الإسلام وأعماله. يقول أنا عملت، فعلنا كذا وأسلم على أيدينا كذا مظاهرة وإلا لو كان الأمر إخباراً حتى يُسرّ المسلمون بذلك أو يدعموا هذا المشروع لا بأس فالأعمال بالنيات، لكن يقول فعلت وفعلت وأنا فتحت كذا وأسلم على يدي كذا هذه مفاخرة ومنّة على الله ورسوله لا تجوز وهذا دليل على عدم تحقيق صدق الايمان وأن هناك دخنٌ في النفوس، كأن الإنسان يريد أن يكون له مقام في هذه الأمة لأجل أنه قدّم في هذه الأعمال، لا، إنما الله عز وجل هو الذي يبعث لك هذا القدر من المقام والفضل والقبول في الأرض بحسب صدقك وإيمانك وبذْلِك لأجل الله عز وجل صدقاً.
قال الله تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) لا حاجة أن تُخبر بما عملته أنت فإن الله حافظه والله عز وجل سيأجرك عليه وسيمنحك عليه فضلاً في الدنيا قبل الآخرة. ثم قال الله تعالى (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد أن ذكر ما في السموات والأرض ذكر عِلمه بكل شيء ليُقِر في نفوس هؤلاء الذين أتوا من أولئك القبائل أن الله يعلم ما في نفوسكم ويعلم أحوالكم ويعلم ما في قلوبكم فلا حاجة إلى أن تُظهروا بألسنتكم ما ليس في قلوبكم فإن الله يعلم ذلك.
قال الله تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) هنا لم يقل "بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإسلام" قال (للإيمان) وما هي منّة الله عز وجل عليهم أن هداهم للإيمان؟ هو توجيههم هذا وتقويمهم وتصحيح ما وقع منهم ودعوتهم إلى الإيمان الصادق، هذه هداية من الله عز وجل لهم بالإيمان. هم منّوا باسلامهم وهو سبحانه وتعالى منّ عليهم أنه سبحانه وتعالى أراد أن يُحقق الايمان في نفوسهم بتوجيههم في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) هذا منّة من الله عز وجل أن الله أراد أن يحقق الإيمان في نفسك ويدعوك لذلك ويحذرك من أن تمنّ عليه فيحبط عملك، منّة وهداية من الله سبحانه وتعالى أن يسوقك إلى ذلك.
قال (ِإِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) إن كنتم صادقين في تحقيق الإيمان وتكميله في نفوسكم ودخولكم في هذا الدين دخول طاعة واستجابة وقبول فإنه ينبغي أن تستشعروا أن المنة لله عز وجل عليكم أن هداكم للإسلام ومنّ عليكم أن هداكم للإيمان بهذا التصحيح لإيمانكم.
قال الله تعالى في ختام السورة (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كأن هذه الآية ظلالة ولباسٌ يلبسه الله تعالى لمن دخل في هذا الدين أن يستشعروا هذا المعنى ليُحقق ذلك في نفوسهم وهو يوقنون أن الله يعلم غيب السماوات والأرض فإذا كان يوقن أن الله يعلم غيب السموات والأرض فإنه يعلم أن الله يعلم ما في نفسه وما في غيبته، وما يدور بين الناس في أنفسهم في تلك القبائل وحقيقة إسلامهم فليتقوا الله في ذلك ويراقبوه في ذلك ويكفوا عما كان في نفوسهم من الدَخن والحظوظ النفسية إذا أيقنوا أن الله يعلم غيب السموات والأرض ولذلك ختم السورة بقوله (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) كما أنه يعلم الغيب يعلم سبحانه وتعالى ويُبصر سبحانه وتعالى ما تفعلونه وما تقومون به من أعمال ومن كلام وتصرفات وأحوال فذلك تحت نظره وبصره سبحانه وتعالى وهذا باعث إلى غرس المراقبة في نفوسهم. أرأيتم كيف أن الله عز وجل في هذه الآيات أراد أن يُقرب هؤلاء في دائرة الايمان ويحقق الإيمان في قلوبهم ويصحح دواخل نفوسهم ويقوّمهم فيما كان فيه من خلل، هذه منّة من لله سبحانه وتعالى وهي منّة من الله علينا إذ أننا الآن نقرأ هذه الآيات ونستظهر فيها تربية الله للمؤمنين ونحن بإذن الله من المؤمنين فندخل في ذلك في قبول أمر الله عز وجل بالإيمان فنُمحِص الإيمان في قلوبنا ونحقق ما أمرنا الله به من الأدب ونتحلى بما ذكره الله عز وجل من الأخلاق والتوجيهات التي تضمنتها هذه السورة.
لحفظ الملف الصوتي:
–––––––––––––––––––––––––––
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق