د. صالح بن عبد الرحمن الخضيري
المجلس الأول
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴿٣٣﴾ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴿٣٤﴾ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٣٥﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. قال الله تبارك وتعالى في المجلس الثاني من سورة الزخرف (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴿٣٣﴾ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴿٣٤﴾ وَزُخْرُفًا) لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه فضّل بعض الناس على بعض في الرزق في الحياة وفي الآخرة قال جل وعلا (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) يعني هنا الله سبحانه وتعالى يبيّن حقارة الدنيا عنده وأنها لا تستحق شيئاً (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلاً إلى الدنيا وزخرفها (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ). وبهذا قال أكثر المفسرين . قال الحسن: معنى الآية لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله عز وجل، وبهذا قال أكثر المفسرين. وفي الآية درس جليل: الغنى ليس مقياساً لكرامة المرء عند ربه تبارك وتعالى فربّ طاغوت وكافر وفاجر يبعثر الذهب هنا وهناك، ورب نبي وصديق وصالح لا يجد الكفاف، وربُّ عاصٍ يتمرغ بالنعي،م وتقيّ لا يجد ما يسد رمقه، ومن هنا جاءت خاتمة الآية في غاية المناسبة إنها تعليق على زخرف الحياة الدنيا وبهرجتها قال تعالى (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ). وقوله (وَمَعَارِجَ) المعارج هي: الدرج جمع معراج والمعراج السُلّم ويقال ليلة الاسراء والمعراج، الإسراء من مكة إلى بيت المقدس والمعراج إلى السماء والمعنى فجعلناها معارج من فضة عليها يظهرون، على المعارج يرتقون ويصعدون. يقال ظهرت على البيت يعني علوت سطحه. (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ) أي وجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً من فضة عليها يتكئون يعني على السرر. (وَزُخْرُفًا) ولهذا سميت السورة الزخرف لأنه ما ذُكر هذا اللفظ إلا في هذه السورة. والزخرف هو: الذهب، وقيل: الزينة أعمّ من أن تكون ذهباً أو غير ذهب. (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ) وجعلنا لهم مع كل ذلك أبواباً من فضة وسرراً وزخرفاً.
ثم أخبر الله تعالى أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقط هل رأيتم غنياً أو ثرياً أو ملكاً ذهب بشيء من ماله إلى قبره؟! أبداً. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يتبع الميت إلى قبره ثلاثاً أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله". (وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء" لكن ما تعدل شيئاً!.
قال ابن القيم: "ما ذكر الله الدنيا في القرآن إلا ذاماً لها ومحقراً لشأنها".
وفي سنن الترمذي: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً). هذه الدنيا التي من أجلها يتنافس كثير من الناس ويتقاطعون ويتحاسدون ويتباغضون ويقتتلون لا تستحق شيئاً عند الله سبحانه وتعالى لا قيمة لها أبداً، ليس لها قيمة عند الله واقرأ في القرآن تجد الخبر اليقين
(فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [التوبة:38]
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [الأنعام:32]
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) [الكهف:45]
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) [يونس:24].
قال الحسن البصري: "والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟!". قال بعض السلف لرجل: تريد أن أريك الدنيا؟ تعال، فذهب إلى أحد المزابل فقال انظر إلى سمنهم وعسلهم ودقيقهم! هذه هي الدنيا! والنبي صلى الله عليه وسلم خاف علينا من الدنيا فقال: اتقوا الدنيا واتقوا النساء. وفي الترمذي: (لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين كانوا قبلكم فتنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم). هو ما خاف علينا من الفقر وإنما خاف علينا من الدنيا. (وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) فمن اتقى الله تعالى وترك الشرك والمعاصي وآمن به وحده وعمل بطاعته فإنها الباقية التي لا تفنى هذه الدار (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت:64] فهي الحياة الدائمة الباقية (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)) [الأعلى] .
ثم قال تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴿٣٦﴾ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿٣٧﴾)
فمن أعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى، من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلّين يعاقبه الله بشيطان يلاحقه ويلازمه فيكون قريناً له فلا يهتدي لأن الجزاء من جنس العمل، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق.
انظر الآن في أحوال بعض الناس الذين أعرضوا عن القرآن الكريم، وأعرضوا عن سنة سيد المرسلين، وأعرضوا عن كتب السلف الصالح، وذهبوا إلى كتب أهل الكلام وكتب أهل الفلسفة والروايات الملحدة والآراء الشاذة انظر ما هي النتيجة؟! صار قائلهم يقول على الله جل وعلا الكذب والزور والبهتان ويُلحد بآيات الله ويسخر ويستهزئ بالله وآياته وبرسوله صلى الله عليه وسلم فهذا نتاج خبيث لعمل سيء قبله.
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) فمن أعرض عن ذكر الله فإن الشيطان يلزمه -والعياذ بالله- يكون ملازماً له لا يفارقه يوسوس له بل لربما زُيّن له سوء عمله فيراه حسناً كما قال الله (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر:٨] لأن بعض الناس -من ضلاله- يتصور أن الشخص لا يكون مفكراً ولا مثقفاً ولا راقياً ولا متعلماً إلا إذا قرأ في كتب أهل الفلسفة وكتب أهل الكلام وفي الكتب المنحرفة التي تحمل آراء شاذة، يقول هذا إنسان بسيط هذا إنسان ما قرأ في هذه الكتب! ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) لما ذكر قصة الثلاث الذين خلفوا واستنبط منها الدروس والعبر وكان فيها قصة كعب رضي الله عنه لما جاءه كتاب من ملك غسّان يقول له: أنا بعد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان فالْحَقْ بنا نواسِك قال كعب فأخذت الكتاب فذهبت به إلى التنور فسجرته -أي أحرقته-. قال ابن القيم: "وهذا فيه دليل على إحراق كتب أهل الكفر والزندقة وأن الإنسان لا يُنظر فيها" لا يجعل قلبه مجالاً لتخطفه هذه الشُبَه فإن القلوب ضعيفة. قال بعض السلف: من سمع ببدعة فلا يحكيها لجلسائه لئلا يُزينها الشيطان في قلوبهم، -نسأل الله لنا ولكم الثبات-.
(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) يصدونهم عن طريق الحق، الشياطين الذين قيضهم الله لكل من أعرض عن ذكر الرحمن يحولون بينهم وبين سبيل الحق،(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) يظنون أنهم على حق، (حَتَّى إِذَا جَاءنَا) الكافر أو الشيطان الذي يُقارنه قال الكافر مخاطباً الشيطان (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) يعني بُعد المشرق والمغرب، يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرق والمغرب، يتمنى الكافر أن يكون بينهما بعد أطول مشرق يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة، (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي الشيطان أنت، كما قال الله سبحانه وتعالى (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29)) [الفرقان].
(وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ) هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة (وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ) أي لأجل ظلمكم لأنفسكم في الدنيا (أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) لأن لما كان المُصاب إذا شاركه غيره في مصيبة يحصل له نوع من التأسّي، نوع من التخفيف كما قالت الخنساء تبكي أخاها:
ولولا كثرة الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ** أسلّي النفس عنه بالتأسي
فالإنسان إذا علم أن فلاناً وفلاناً أصيب مثله تأسى بعض الشيء.
أهل النار قال الله (وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) يعني لا ينفعكم اشتراككم في العذاب، يعني لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب كما هي الحال للناس في الدنيا إذا أصيبوا بمصيبة وأصيب غيره قال الحمد لله لست وحدي، لا، في الآخرة كلهم مشتركون في العذاب لكن لا يشعرون بالتخفيف -والعياذ بالله- (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف:٧٥].
ثم رجع السياق لما ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم ذكر أنها لا تنفع الدعوة والوعظ لمن سبقت له الشقاوة فقال (أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) وهذه الآية مرت معنا في سورة النمل وفي غيرها أنك لا تهدي من كان كذلك فهؤلاء الكفار بمنزلة الصمّ الذين لا يسمعون، وبمنزلة العُمي الذين لا يبصرون لإفراطهم في الضلالة (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) بالموت قبل أن ينزل العذاب بهم (فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ) في الدنيا والآخرة. (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ) من العذاب قبل موتك (فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ) متى شئنا عذّبناهم. قال كثير من المفسرين: وقد أراه ذلك يوم بدر، أقرّ الله عين نبيه صلى الله عليه وسلم من هؤلاء ثم فتحت مكة وصارت دار إسلام.
(فَاسْتَمْسِكْ) يا محمد بهذا القرآن، استمسك (بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) ولو كذب به من كذب ووالله ما يقي الإنسان من الشبهات والفتن مثل التمسك بالقرآن. هل تعلمون زمناً أكثر فتناً وشبهات من زمننا هذا؟ ما نعلم زمناً أعظم شبهات من هذا الزمن فمن أراد أن ينجيه الله فتن هذا الزمان وشدائده فليقرأ قوله الله وليعمل بقول الله عز وجل (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) فالقرآن العظيم وتدبر القرآن العظيم والعمل بما في القرآن أعظم سبب للثبات على الحق. (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) على طريق واضح وإن هذا القرآن أيضاً (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) فهو شرف لنبيه عليه الصلاة والسلام وشرف لقومه إن تمسكوا به كما قال تبارك وتعالى (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء:١٠] فيه شرفكم وعزّكم والقرآن يفسر بعضه بعضاً. (وسوف تُسألون) عما جعله الله لكم من الشرف، يُسأل الإنسان يوم القيامة ماذا عمل بهذا القرآن.
(وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) قال العلماء: إن المعنى واسأل أمماً ممن قد أرسلنا، ومعنى الآية سؤالهم هل أذِن الله بعبادة الأوثان؟ لا، لم يأذن الله تعالى بعبادة الأوثان في أي ملة من الملل ما أذن الله بعبادة الأوثان (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) لم يجعل الله سبحانه وتعالى في ملّة من المِلل أن الأوثان تُعبد أبداً، والمقصود تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأتِ بشريعة من الشرائع.
ثم قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وموسى عليه الصلاة والسلام سبق ذكر قصته وأقرب تفصيل فيها هو في سورة غافر فلما أَعلم نبيه أنه مُنتقم له من عدوه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد أتبعه بذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام وما نزل بفرعون وقومه من النقمة فأرسل الله موسى بالآيات التسع التي تقدم بيانها في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) [الإسراء١٠١] (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ) [الأعراف:١٣٣] ، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) وهم الأشراف (فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لك (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) يسخرون ويستهزئون (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها وأعظم قدراً مع أن التي قبلها عظيمة في نفسها، ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما قبلها وأعظم قدراً مع كون التي قبلها آية عظيمة في نفسها. (وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بسبب تكذيبهم بهذه الآيات، العذاب المقصود بقوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف:١٣٠] وأخذ الله فرعون وجنده أخذاً مفاجئاً.
(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ) وكانوا يسمون العلماء سحرة وكانوا يوقرون السحرة ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذمّ عندهم. هذا على قول بعض لمفسرين: أن قولهم (يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ) ليس على سبيل السخرية والاستهزاء وإنما على حقيقته أنهم كانوا يسمون العلماء سحرة فخاطبوه بالساحر من باب التعظيم لموسى وقيل أنه على العكس، يقولون يا أيها الساحر من باب السخرية والاستهزاء.
(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) أي ما أخبرتنا من عهده إليك أنه إذا آمنا كشفت عنا العذاب (إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) دعا موسى عليه الصلاة والسلام وكُشف عنهم العذاب ولكنهم استمروا في طغيانهم يعمهون.
(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) لما رأى تلك الآيات خاف أن يميل القوم إلى موسى عليه الصلاة والسلام فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم وقال (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) ما ينازعني فيه أحد ولا يخالفني فيه مخالف (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) من تحت قصري أنهار النيل، أو أراد به القُواد والجند والجبابرة أنهم يصيرون تحت لوائه، أو المقصود -ظاهر الآية- أنه يقصد نهر النيل يجري من تحته، أجرى له من تحت قصره طريقاً (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) يقول ابن الجوزي: "عجباً لفرعون افتخر بنهر ما أجراه، ما أجرأه!" افتخر بالماء فأغرقه الله بما افتخر به. فرعون افتخر بنهر ما أجراه ما أجرأه، الأولى أنه ليس هو الخالق والمتسبب في جريانه، والثانية ما أجرأه على الله.
(أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٥١﴾ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) يقصد فرعون -لعنه الله- موسى عليه الصلاة والسلام، يقول أنا خير أم موسى؟ يقول (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) مهين: ضعيف (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) كان في لسانه عقدة كما قال في سورة طه (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)) .
(فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) انظر الطواغيت والكفرة همهم الدنيا فقط، ميزانهم الدنيا (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) يقصد موسى عليه السلام، يعني هلّا حُلّيَ بأساور الذهب إن كان عظيماً، وكان عادتهم أن الرجل إذا كان له منزلة وكان له مكانة عظيمة يحيطونه بقلائد الذهب وبأساور الذهب.
(أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يعني يمشون معه، وهذا يشبه ما جاء في سورة الإسراء في قول الكفار (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴿٩٠﴾ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ﴿٩١﴾ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ﴿٩٢﴾ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴿٩٣﴾).
قال الله (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) حملهم على خفه الجهل والسفه في قوله وغروره فأطاعوه (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله عز وجل، استجهل قومه فأطاعوه لخفة عقولهم. (فَلَمَّا آسَفُونَا) والأسف: أشد الغضب (انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) جعلناهم قدوة لمن عمِل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب ومثلاً الآخرين.
ثم قال تعالى (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) جاء في مسند الإمام أحمد ومعجم الإمام الطبراني رحمهم الله من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم وما تقول في محمد، فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كان نبيّا وعبداً من عباد الله وكان صالحاً فلئن كنت صادقاً فإن آلهتهم كما تقولون (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) يضجون.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) الذي هو خروج عيسى بن مريم قبل يوم القيامة وهذا الأثر منسوب إلى ابن عباس رضي الله عنه ولا يصح رفعه.
والله تبارك وتعالى لما قال (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلهاً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم إلهاً فأنزل الله (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ). وقال بعض المفسرين: أن هذا الآية نزلت في مجادلة رجل كافر يقال له الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال إني خصمتك يا محمد ورب الكعبة، قال كيف؟ قال إن النصارى يعبدون المسيح وفي القرآن (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) [الأنبياء:٩٨] كيف عيسى أليس نبياً ويكون في النار؟! فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) إذا كان قومك يا محمد من هذا المثل المضروب يصدّون يعني يضجّون فرحاً بذلك المثل المضروب. لما ضرب صلى الله عليه وسلم المثل بعيسى عليه الصلاة والسلام ظنوا أنهم انتصروا عليه وفرحوا بذلك وأنهم خصموه كما يقولون (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) يصدون يعني يضجون، يقال صدّ يصدّ صديدا إذا ضجّ، وقيل: إنه بالضم وقيل معناه يعدلون.
(وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) آلهتنا خير أم المسيح؟ قال الله ما ضربوه لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك (بل هم قوم خصمون) هم قوم عندهم شدة في الخصومة وعندهم لدد.
ثم بين سبحانه أن عيسى ليس برب وإنما هو عبد أنعم الله عليه
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران:٥٩]
(مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة:٧٥]
أكرمناه بهذه النبوة وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل أي جعلناه آية لهم وعبرة لهم يعرفون قدرة الله تعالى حيث خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أم بلا أب وكان يُحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وكل مريض بإذن الله.
(وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) لو نشاء أهلكناهم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة في الأرض يخلفونكم فيها.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) المراد المسيح عيسى بن مريم وقد جاء في قرآءة "وإنه لعَلَمٌ للساعة". فعيسى عليه الصلاة والسلام نزوله في آخر الزمان من أشراط الساعة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لينزلنّ فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فليكسرنّ الصليب وليقتلنّ الخنزير وليضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام) وقد أجمعت الأمة على هذا، وقال تعالى (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) [النساء:١٥٩] فإن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة نزوله في آخر الزمان ينزل ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ويقتل المسيح الدجال وهذه الأحاديث ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما. وقد ألّف بعض أهل العلم كتاباً سمّاه " التصريح بما تواتر في نزول المسيح" ألُفه بعض العلماء في القرن الرابع عشر من الهند، فالأحاديث في نزول المسيح عيسى ابن مريم وأن عيسى ابن مريم -مسيح الهدى- هو الذي يقتل مسيح الضلالة المسيح الدجال. وجاء هذا أيضا في حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) لا تشكوا (وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٦١﴾ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وترك الشرك والعمل بفرائض الله عز وجل فهذا الذي آمركم به وأدعوكم إليه طريق قيّم مُوصِّل إلى الحق.
(وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) لا تغتروا بوساوسه وشُبَهِه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي لأن الشيطان يقف لابن آدم في جميع طرق الخير، طريق التوبة، طريق الفرائض، يقف له في طريق حِلَق العلم (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)) [الأعراف]. (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) بيّن العداوة مُظهِر لعداوتكم. ووقع بين أبينا آدم عليه السلام وبينه ما هو معلوم مذكور في القرآن ولهذا تعهّد أن يغوي جميع بني آدم قال (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص] .
أعاذني الله وإياكم من شر ابليس وجنوده من الجن والإنس وذريته إنه على كل شيء قدير.
أعاذني الله وإياكم من شر ابليس وجنوده من الجن والإنس وذريته إنه على كل شيء قدير.
المجلس الثاني
(وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿٦٣﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٦٤﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فهذا هو المجلس الثالث والأخير من سورة الزخرف.
قال الله تبارك وتعالى (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) جاء إلى بني إسرائيل بالمعجزات الواضحة والشرائع، جاء بالإنجيل وأيضاً أقدره الله تعالى على إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وشفاء المرضى (قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) بالنبوة وجئتكم بالإنجيل (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أحكام التوراة (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) اتقوا معاصيه وأطيعوني في ما آمركم به من التوحيد.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٦٤﴾ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿٦٥﴾)
الأحزاب هم: أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أو هم فِرَق النصارى اختلفوا في أمر عيسى. ومعنى (مِن بَيْنِهِمْ) أنهم اختلفوا فيما بينهم (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) يعني اختلفوا فيما بينهم، وقيل اختلفوا من بين من بُعث إليهم من اليهود والنصارى. والأحزاب هي الفرق المتحزّبة، (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا) من هؤلاء المختلفين وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه (مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) وهو يوم القيامة، ويل لهم من عذاب يوم القيامة. (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ما ينتظر هؤلاء القوم إلا الأحزاب الذين كذّبوا رسل الله إلا يوم القيامة إذا أتاهم بغتة وهم لا يشعرون.
ثم قال تعالى (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء في الدنيا المتحابون في الدنيا يحب بعضهم بعضاً هؤلاء يكون يوم القيامة بعضهم لبعض عدو (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الذين اجتمعوا وصارت خُلّتهم على طاعة الله وعلى تقوى من الله ورضوان هؤلاء يشفع بعضهم لبعض ويناصر بعضهم بعضاً أما أولئك الذين كانت خُلّتهم واجتماعهم على الكفر وعلى الشرك وعلى المعصية وعلى الفجور فكما قال تعالى:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ) [العنكبوت:٢٥]
وقال تعالى (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29)) [الفرقان] .
والملاحظ -أيها الأحبة- أن الشخص -غالباً- إما يأتيه النفع أو الضرر، الشر أو الخير من صاحبه، إن كان صديقك ومن تُجالس إنساناً تقياً صالحاً ففي الغالب إنه يدلّك على الخير ويدعوك إليه، وإن كان جليسك فاسقاً فاجراً فإنه يدعوك إلى الشر والسوء.
وتأمل ما الذي حال بين أبي طالب وسعادة الأبد؟ أوليسوا هم جلساء السوء؟!
ما الذي جعل بعض المنحرفين ينحرف بعضهم إلى السوء والزندقة إلا جلساء السوء ولذا جاء في سنن أبي داوود: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل).
وجاء في الصحيحيين من حديث أبي موسى : (مثل الجليس الصالح وجليس السوء مثل حامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة).
وأنا أعرف أشخاصاً وربما أنتم تعرفون أيضاً كانوا على خير واستقامة ثم جالسوا أناساً عندهم من السوء والشر والفساد إلا تحولوا إما بحكم الدراسة أو الوظيفة زمالة العمل أو الجِوار أو القرابة وغير ذلك فهذا الجليس له أثر إما أثر إيجابي وإما أثر سلبي على صاحبه، ولا يقولن قائل أنا عندي حصانة أو أنا لا أتأثر، أبداً، إذا كانت الجيفة –أعزّكم الله - تلوِّث الهواء فما الظنّ بالنفوس الضعيفة؟! الجيفة المنتنة إذا صارت في مكان ولو كان هذا المكان عنده أنهار وأزهار وأشجار ومسطحات يفسد الهواء فما بالك بالنفس الضعيفة؟ لا بد أن يتأثر الانسان.
أنت بالناس تُقاس ** بالذي اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو ** وتنل ذكراً جميلا
(الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإنهم أخلّاء في الدنيا والآخرة.
قال الحسن البصري رحمه الله عن الصاحب والصديق المؤمن قال: "مَنْ مِثْلُ أخيك المؤمن، إذا متّ انصرف أهلك وأولادك يقتسمون أموالك ووقف عند جدثك وعند قبرك يدعو لك ويسأل الله لك المغفرة". يقول من مثل الأخ الصالح الصديق المؤمن التقيّ يدعو لك وأهلك يقتسمون مالك وهو واقف عند قبرك يدعو لك.
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) لما استثنى الله سبحانه وتعالى المتقين أنهم أخلاء في الدنيا قال (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) يقال لهؤلاء المتقين الذي اتقوا المعاصي والذنوب والشرك والكفر وعملوا بالطاعة وأخلصوا لله أعمالهم يقال لهم لما تحابّوا في الله هذه المقالة (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ). ومن الأعمال الصالحة: أن تحب المرء لا تحبه إلا لله، هذه الأخوة الصادقة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله على مدرجته ملكاً (أي على طريقه) فقال له: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل الدعاء لأخيك المسلم فقال: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك مثل بمثل. وفي السنن: أسرع الدعاء دعاء غائب لغائب، دعاء يؤمّن عليه الملك. وأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة:٧١] فالمؤمن يحب أخاه المؤمن في الله ولله ما يحبه لأجل الدنيا، يحبه لأنه قائم بطاعة الله، هذه المحبة تنفع، يشفع لأخيه المؤمن عند الله سبحانه وتعالى.
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) يقال لهم هذا المقالة لا خوف عليكم اليوم يوم القيامة، لا تخافون فيما تستقبلون ولا تحزنون على ما مضى.
(الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)) نساؤكم المؤمنات، أو قرناؤكم المؤمنين تُكرمون أنتم وأزواجكم تحبرون، تكرّمون وقيل: تُنعمون، وقيل: تفرحون وتسرون.
(يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ) وهي القصعة الواسعة العريضة (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة: (في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهذا من تمام النعيم أنه يخبرهم أنهم لا يتحولون عنها أبد الآباد فهم لا يموتون ولا يتحوّلون قال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)) [الكهف] ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي المنادي إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا وإن لكم أن تخلدوا فلا تخرجوا أبداً) (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:٤٣] بل قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أدنى أهل الجنة منزلة رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة، فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت، رب! فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ، رب! فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله). اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها يا حيّ يا قيوم.
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) صارت لكم كما يصير الميراث إلى الوارث بما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة.
(لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) سوى الطعام والشراب الفاكهة، وفي الجنة لا يبولون ولا يتفلون ولا يمتخطون إنما يخرج من أجسامهم مثل العَرَق أطيب من ريح المسك.
ثم لما ذكر السعداء ذكر الأشقياء فقال:
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿٧٤﴾ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿٧٥﴾)
أهل الإجرام والكفر في عذاب جهنم خالدون لا ينقطع عنهم العذاب أبد الآباد، لا يخفف عنهم العذاب (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيسون من النجاة (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ما عذبهم الله عز وجل بغير ذنب (وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) هم الذين ظلموا أنفسهم. (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) أي نادى المجرمون، ومالك هو: خازن النار. وقد جاء في الصحيح عن أنس قال سمعت النبي يقرأ على المنبر (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ).
نادى المجرمون مالك (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) يعني توسلوا بمالك إلى الله سبحانه وتعالى ليسأله ليقضي عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب -والعياذ بالله-. (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) مقيمون في العذاب. قيل: سكت عن إجابتهم ثمانين سنة ثم أجابهم بهذا الجواب فقال (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) وقيل أكثر من ذلك.
(لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ) يحتمل أن هذا من كلام الله عز وجل أنه يجيبهم أو يكون من كلام مالك (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ) أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا إليكم الكتب ودعوناكم إلى دين الله فلم تقبلوا ولم تصدقوا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) لا يقبلونه. والمراد بالحق: كل ما أمر الله به على ألسنة رسله هو الحق وأنزله في كتبه.
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) قيل: يعني كلكم للحق كارهون، وقيل: أراد الرؤساء والقادة ومن عداهم فأتباعٌ لهم.
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) (أم) هي المنقطعة التي هي بمعنى (بل) أي "بل أبرموا أمراً" كانتقال من توجّع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء. والإبرام: الاتقان والإحكام، (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا) أي أتقنوا أمرا وأحكموه وكادوا لأنبياء الله ورسله (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كما قال تعالى:
(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور:٤٢]
وقال (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:٣٠].
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم) أننا لا نسمع ما يُسروُّن به في أنفسهم وما يتحدثون به سراً في مكان خالٍ وما يتناجون به فيما بينهم؟ بلى نسمع ذلك ونعمل به (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) عندنا الحفظة يكتبون جميع ما يصدر منهم كما مر بكم في قول الله تعالى في سورة فصلت في قول الله تبارك وتعالى (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21))
ونزلت في بعض المشركين الذين قالوا إن الله لا يسمعنا، يسمعنا إن جهرنا لكن ما يسمعنا إن أسررنا، فقال بعضهم إن كان يسمعنا ما جهرنا فإنه يسمعنا إن أسررنا فنزلت الآية (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) إلى آخر الآية. (وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
ثم أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً يلزمهم بهم الحجة أو ما يريدونه من الشبهات قال (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) أي إن كان له ولد -على قولكم وعلى زعمكم- فأنا أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، كذا قال ابن قتيبة وجماعة.
وقيل المعنى: ما كان للرحمن ولد (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) ما كان للرحمن ولد، ثم يبتدئ فيقول فأنا أول العابدين لله، هذا القول الثاني (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) نفي، يعني ما كان للرحمن ولد، (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) لله لأنه ليس له ولد سبحانه وتعالى.
وقيل المعنى: -القول الثالث- قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته لكن يستحيل أن يكون له ولد
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾)
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) [المؤمنون:٩١].
وفيه نفيٌ للولد على أبلغ وجه وأتمّ عبارة وأحسن أسلوب وهذا هو الظاهر كما يقول الشوكاني من النظم القرآني ومن هذا قول الله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سبأ:٢٤] هذا يسمُّونه التنزّل مع الخصم كأن تقول لمن تناظره: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقد ما تقول مع أنك مقتنع أنه لن يستطيع أن يثبت هذا بدليل. فالقول الثالث (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد، مع استحالة أن يكون له ولد سبحانه فهذا يكون من أعظم الأساليب وأحسنها في نفي الولد عن الله تبارك وتعالى.
وقيل معنى العابدين الآنفين من العبادة لكن لا تكلّف، قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الذي يأنف من عبادة ولد لكن هذا قول فيه تكلّف بعض الشيء وحسبُنا الثلاث الأولى. (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82))
تنزيهاً له جل جلاله وتقديساً له عما يقولون من الكذب بأن له ولد ويفترون عليه ما لا يليق بجانبه، وهذا إن كان من كلام الله تعالى فقد نزّه نفسه عما قالوه، وإن كان من كلام رسوله فقد أمره أن يضم إلى ما حكاه عنهم -بزعمهم الباطل- تنزيهاً له سبحانه وتعالى وتقديسه عن هذا الولد وعن هذا الباطل.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) أي اترُك الكفار حيث لم يهتدوا بما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) هذا تهديد لهم. (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة وقيل العذاب في الدنيا.
ثم قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) وهذه الآية تشبه (وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام:٣] وهنا قال الله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) وهو الذي معبود في السماء ومعبود في الأرض، مستحق للعبادة في السماء والعبادة في الأرض، يعبده من في السماء ويعبده من في الأرض سبحانه وتعالى. (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) البليغ الحكمة الكثير العلم. (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) تبارك تفاعل من البركة وهي كثرة الخيرات. والمراد بـ (وَمَا بَيْنَهُمَا) الهواء وما فيه من المخلوقات (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) عنده علم الوقت الذي يكون قيام الساعة فيه. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازي كل أحد بما يستحق من خير وشرّ وهذا فيه وعيد شديد لهؤلاء المشركين.
(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) لا يملك من يدعون من دون الله من الأصنام ونحوها الشفاعة عند الله -كما زعموا- أن هذه الأصنام تشفع لهم (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:٣]. (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ) يعني بالتوحيد (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي على علم وبصيرة بما شهدوا.
(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ) من شهد بالحق مثل عيسى عليه السلام فإنه شهد بالحق وشهد بالتوحيد وعلم أنه على بصيرة هذا الذي يشفع، لكن لا أحد يشفع إلا بشرطين: إذن الله للشافع أن يشفع ورضاه عن المشفوع له كما قال تعالى (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) [النجم:٢٦] وقال تعالى (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:٢٨]. (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) والشفاعة تواترت فيها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت في القرآن مثبتة وجاءت منفية، ومرّ بنا الإشارة إلى ذلك، وحديث الشفاعة في صحيح البخاري أن الناس يأتون آدم فيعتذر ويأتون نوحاً فيتعذر إلى أن يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه هي الشفاعة العظمى فيقال يا محمد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما أصابنا؟! ليقضي بينهم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم أنا لها أنا لها فيقول آتي وأسجد تحت العرش فيفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه ويقال يا محمد ارفع رأسك وسل تُعطى واشفع تشفّع). وهذا هو المقام المحمود في قول الله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:٧٩] عليه الصلاة والسلام. وكذلك يشفع عليه الصلاة والسلام في عمه أبي طالب يقول هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار. ويشفع للمؤمنين في رفع درجاتهم في الجنة، وتشفع الملائكة، ويشفع المؤمنون بعضهم لبعض، أما الكفار فقد قال الله (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:٤٨]. (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .
ثم قال تعالى مبيّناً ضلال المشركين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) و"اللام" هي الموطئة للقسم والمعنى لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم؟ أقرّوا واعترفوا بأن خالقهم هو الله تبارك وتعالى ولا يقدرون على الإنكار فهم يؤمنون بتوحيد الربوبية ولكنهم يجحدون توحيد الألوهية، توحيد العبادة. ولو كانوا يعقلون للزِم من إثبات توحيد الربوبية توحيد الألوهية، فإذا كانوا يقولون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت الذي خلقهم وخلق السموات والأرض فيجب عليهم إلزاماً أن يقرّوا ويعترفوا ويوقنوا بأنه هو الإله الحق الذي يجب أن يُفرد وحده بالعبادة دون سواه ولكنهم لا يعلمون ولهذا قال الله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) فكيف يقلبون عن عبادته إلى عبادة غيره ويُصرفون عنها مع هذا الاعتراف فإن المعترف بأن الله هو خالقه ورازقه كيف يعمد إلى صنم أوحجر أو شجر ويتوجه إلى بالذبح والنذر والدعاء (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:٤٦] (ومن يُضْلِل الله فما لهُ من هاد).
ثم قال تعالى (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ) (وَقِيلِهِ) يعني وقيل، أي قال الرسول عليه الصلاة والسلام. (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ) يعني قال الرسول يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. (وقيله) مجرورة عطفاً على قوله على لفظ الساعة ألم يقل الله تبارك وتعالى (وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قال (وقيله) فهي مجرورة على لفظ الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله على أحد الأقوال. والقول والقال والقيل بمعنى واحد (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ) وقيل: الضمير في (وقيله) راجعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه. وقيل: الضمير عائد إلى عيسى بن مريم عليه السلام وعلى الوجهين فالمعنى: أنه قال منادياً لربه يا رب إن هؤلاء القوم الذين أرسلتني إليهم قوم لا يؤمنون. ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي أعرِض عن دعوتهم (وَقُلْ سَلَامٌ) أي أمري تسليم منكم ومتاركة لكم، ترككم، قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي كما قال تعالى (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:٥٥].
قال قتادة: أمره الله بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بآية السيف وهي الأمر بقتالهم وقيل لم تُنسخ.
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وهذا تهديد شديد وفي قرآءة سبعية أخرى (وسوف تعلمون).
(وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
وهذا وعيد عظيم من الله عز وجل لهم.
وكما ترون في سورة الزخرف السورة المكية أن فيها: المجادلة القوية لهؤلاء المشركين ولما كانوا يعبدونه من دون الله من الأصنام والأنداد. وفيها بيان مصير الغابرين وقد ختمت بهذا الوعيد الشديد للمكذبين.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا وإياكم فهماً في كتابه وفي سنة محمد صلى الله عليه وسلم وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقا معصوما وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، ونسأله تعالى أن يغفر لنا وإياكم ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا، وأن يجعلنا من عباده المتقين الذين ينعّمون في روضات الجنات إنه سبحانه وتعالى هو الوهاب الكريم الشكور الشاكر وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
----------------------------------
المصدر / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
(وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿٦٣﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٦٤﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فهذا هو المجلس الثالث والأخير من سورة الزخرف.
قال الله تبارك وتعالى (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) جاء إلى بني إسرائيل بالمعجزات الواضحة والشرائع، جاء بالإنجيل وأيضاً أقدره الله تعالى على إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وشفاء المرضى (قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) بالنبوة وجئتكم بالإنجيل (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أحكام التوراة (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) اتقوا معاصيه وأطيعوني في ما آمركم به من التوحيد.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٦٤﴾ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿٦٥﴾)
الأحزاب هم: أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أو هم فِرَق النصارى اختلفوا في أمر عيسى. ومعنى (مِن بَيْنِهِمْ) أنهم اختلفوا فيما بينهم (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) يعني اختلفوا فيما بينهم، وقيل اختلفوا من بين من بُعث إليهم من اليهود والنصارى. والأحزاب هي الفرق المتحزّبة، (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا) من هؤلاء المختلفين وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه (مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) وهو يوم القيامة، ويل لهم من عذاب يوم القيامة. (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ما ينتظر هؤلاء القوم إلا الأحزاب الذين كذّبوا رسل الله إلا يوم القيامة إذا أتاهم بغتة وهم لا يشعرون.
ثم قال تعالى (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء في الدنيا المتحابون في الدنيا يحب بعضهم بعضاً هؤلاء يكون يوم القيامة بعضهم لبعض عدو (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الذين اجتمعوا وصارت خُلّتهم على طاعة الله وعلى تقوى من الله ورضوان هؤلاء يشفع بعضهم لبعض ويناصر بعضهم بعضاً أما أولئك الذين كانت خُلّتهم واجتماعهم على الكفر وعلى الشرك وعلى المعصية وعلى الفجور فكما قال تعالى:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ) [العنكبوت:٢٥]
وقال تعالى (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29)) [الفرقان] .
والملاحظ -أيها الأحبة- أن الشخص -غالباً- إما يأتيه النفع أو الضرر، الشر أو الخير من صاحبه، إن كان صديقك ومن تُجالس إنساناً تقياً صالحاً ففي الغالب إنه يدلّك على الخير ويدعوك إليه، وإن كان جليسك فاسقاً فاجراً فإنه يدعوك إلى الشر والسوء.
وتأمل ما الذي حال بين أبي طالب وسعادة الأبد؟ أوليسوا هم جلساء السوء؟!
ما الذي جعل بعض المنحرفين ينحرف بعضهم إلى السوء والزندقة إلا جلساء السوء ولذا جاء في سنن أبي داوود: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل).
وجاء في الصحيحيين من حديث أبي موسى : (مثل الجليس الصالح وجليس السوء مثل حامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة).
وأنا أعرف أشخاصاً وربما أنتم تعرفون أيضاً كانوا على خير واستقامة ثم جالسوا أناساً عندهم من السوء والشر والفساد إلا تحولوا إما بحكم الدراسة أو الوظيفة زمالة العمل أو الجِوار أو القرابة وغير ذلك فهذا الجليس له أثر إما أثر إيجابي وإما أثر سلبي على صاحبه، ولا يقولن قائل أنا عندي حصانة أو أنا لا أتأثر، أبداً، إذا كانت الجيفة –أعزّكم الله - تلوِّث الهواء فما الظنّ بالنفوس الضعيفة؟! الجيفة المنتنة إذا صارت في مكان ولو كان هذا المكان عنده أنهار وأزهار وأشجار ومسطحات يفسد الهواء فما بالك بالنفس الضعيفة؟ لا بد أن يتأثر الانسان.
أنت بالناس تُقاس ** بالذي اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو ** وتنل ذكراً جميلا
(الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإنهم أخلّاء في الدنيا والآخرة.
قال الحسن البصري رحمه الله عن الصاحب والصديق المؤمن قال: "مَنْ مِثْلُ أخيك المؤمن، إذا متّ انصرف أهلك وأولادك يقتسمون أموالك ووقف عند جدثك وعند قبرك يدعو لك ويسأل الله لك المغفرة". يقول من مثل الأخ الصالح الصديق المؤمن التقيّ يدعو لك وأهلك يقتسمون مالك وهو واقف عند قبرك يدعو لك.
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) لما استثنى الله سبحانه وتعالى المتقين أنهم أخلاء في الدنيا قال (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) يقال لهؤلاء المتقين الذي اتقوا المعاصي والذنوب والشرك والكفر وعملوا بالطاعة وأخلصوا لله أعمالهم يقال لهم لما تحابّوا في الله هذه المقالة (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ). ومن الأعمال الصالحة: أن تحب المرء لا تحبه إلا لله، هذه الأخوة الصادقة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله على مدرجته ملكاً (أي على طريقه) فقال له: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل الدعاء لأخيك المسلم فقال: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك مثل بمثل. وفي السنن: أسرع الدعاء دعاء غائب لغائب، دعاء يؤمّن عليه الملك. وأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة:٧١] فالمؤمن يحب أخاه المؤمن في الله ولله ما يحبه لأجل الدنيا، يحبه لأنه قائم بطاعة الله، هذه المحبة تنفع، يشفع لأخيه المؤمن عند الله سبحانه وتعالى.
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) يقال لهم هذا المقالة لا خوف عليكم اليوم يوم القيامة، لا تخافون فيما تستقبلون ولا تحزنون على ما مضى.
(الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)) نساؤكم المؤمنات، أو قرناؤكم المؤمنين تُكرمون أنتم وأزواجكم تحبرون، تكرّمون وقيل: تُنعمون، وقيل: تفرحون وتسرون.
(يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ) وهي القصعة الواسعة العريضة (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة: (في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهذا من تمام النعيم أنه يخبرهم أنهم لا يتحولون عنها أبد الآباد فهم لا يموتون ولا يتحوّلون قال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)) [الكهف] ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي المنادي إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا وإن لكم أن تخلدوا فلا تخرجوا أبداً) (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:٤٣] بل قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أدنى أهل الجنة منزلة رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة، فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت، رب! فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ، رب! فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله). اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها يا حيّ يا قيوم.
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) صارت لكم كما يصير الميراث إلى الوارث بما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة.
(لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) سوى الطعام والشراب الفاكهة، وفي الجنة لا يبولون ولا يتفلون ولا يمتخطون إنما يخرج من أجسامهم مثل العَرَق أطيب من ريح المسك.
ثم لما ذكر السعداء ذكر الأشقياء فقال:
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿٧٤﴾ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿٧٥﴾)
أهل الإجرام والكفر في عذاب جهنم خالدون لا ينقطع عنهم العذاب أبد الآباد، لا يخفف عنهم العذاب (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيسون من النجاة (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ما عذبهم الله عز وجل بغير ذنب (وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) هم الذين ظلموا أنفسهم. (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) أي نادى المجرمون، ومالك هو: خازن النار. وقد جاء في الصحيح عن أنس قال سمعت النبي يقرأ على المنبر (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ).
نادى المجرمون مالك (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) يعني توسلوا بمالك إلى الله سبحانه وتعالى ليسأله ليقضي عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب -والعياذ بالله-. (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) مقيمون في العذاب. قيل: سكت عن إجابتهم ثمانين سنة ثم أجابهم بهذا الجواب فقال (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) وقيل أكثر من ذلك.
(لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ) يحتمل أن هذا من كلام الله عز وجل أنه يجيبهم أو يكون من كلام مالك (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ) أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا إليكم الكتب ودعوناكم إلى دين الله فلم تقبلوا ولم تصدقوا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) لا يقبلونه. والمراد بالحق: كل ما أمر الله به على ألسنة رسله هو الحق وأنزله في كتبه.
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) قيل: يعني كلكم للحق كارهون، وقيل: أراد الرؤساء والقادة ومن عداهم فأتباعٌ لهم.
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) (أم) هي المنقطعة التي هي بمعنى (بل) أي "بل أبرموا أمراً" كانتقال من توجّع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء. والإبرام: الاتقان والإحكام، (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا) أي أتقنوا أمرا وأحكموه وكادوا لأنبياء الله ورسله (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كما قال تعالى:
(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور:٤٢]
وقال (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:٣٠].
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم) أننا لا نسمع ما يُسروُّن به في أنفسهم وما يتحدثون به سراً في مكان خالٍ وما يتناجون به فيما بينهم؟ بلى نسمع ذلك ونعمل به (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) عندنا الحفظة يكتبون جميع ما يصدر منهم كما مر بكم في قول الله تعالى في سورة فصلت في قول الله تبارك وتعالى (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21))
ونزلت في بعض المشركين الذين قالوا إن الله لا يسمعنا، يسمعنا إن جهرنا لكن ما يسمعنا إن أسررنا، فقال بعضهم إن كان يسمعنا ما جهرنا فإنه يسمعنا إن أسررنا فنزلت الآية (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) إلى آخر الآية. (وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
ثم أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً يلزمهم بهم الحجة أو ما يريدونه من الشبهات قال (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) أي إن كان له ولد -على قولكم وعلى زعمكم- فأنا أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، كذا قال ابن قتيبة وجماعة.
وقيل المعنى: ما كان للرحمن ولد (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) ما كان للرحمن ولد، ثم يبتدئ فيقول فأنا أول العابدين لله، هذا القول الثاني (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) نفي، يعني ما كان للرحمن ولد، (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) لله لأنه ليس له ولد سبحانه وتعالى.
وقيل المعنى: -القول الثالث- قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته لكن يستحيل أن يكون له ولد
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾)
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) [المؤمنون:٩١].
وفيه نفيٌ للولد على أبلغ وجه وأتمّ عبارة وأحسن أسلوب وهذا هو الظاهر كما يقول الشوكاني من النظم القرآني ومن هذا قول الله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سبأ:٢٤] هذا يسمُّونه التنزّل مع الخصم كأن تقول لمن تناظره: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقد ما تقول مع أنك مقتنع أنه لن يستطيع أن يثبت هذا بدليل. فالقول الثالث (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد، مع استحالة أن يكون له ولد سبحانه فهذا يكون من أعظم الأساليب وأحسنها في نفي الولد عن الله تبارك وتعالى.
وقيل معنى العابدين الآنفين من العبادة لكن لا تكلّف، قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الذي يأنف من عبادة ولد لكن هذا قول فيه تكلّف بعض الشيء وحسبُنا الثلاث الأولى. (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82))
تنزيهاً له جل جلاله وتقديساً له عما يقولون من الكذب بأن له ولد ويفترون عليه ما لا يليق بجانبه، وهذا إن كان من كلام الله تعالى فقد نزّه نفسه عما قالوه، وإن كان من كلام رسوله فقد أمره أن يضم إلى ما حكاه عنهم -بزعمهم الباطل- تنزيهاً له سبحانه وتعالى وتقديسه عن هذا الولد وعن هذا الباطل.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) أي اترُك الكفار حيث لم يهتدوا بما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) هذا تهديد لهم. (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة وقيل العذاب في الدنيا.
ثم قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) وهذه الآية تشبه (وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام:٣] وهنا قال الله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) وهو الذي معبود في السماء ومعبود في الأرض، مستحق للعبادة في السماء والعبادة في الأرض، يعبده من في السماء ويعبده من في الأرض سبحانه وتعالى. (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) البليغ الحكمة الكثير العلم. (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) تبارك تفاعل من البركة وهي كثرة الخيرات. والمراد بـ (وَمَا بَيْنَهُمَا) الهواء وما فيه من المخلوقات (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) عنده علم الوقت الذي يكون قيام الساعة فيه. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازي كل أحد بما يستحق من خير وشرّ وهذا فيه وعيد شديد لهؤلاء المشركين.
(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) لا يملك من يدعون من دون الله من الأصنام ونحوها الشفاعة عند الله -كما زعموا- أن هذه الأصنام تشفع لهم (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:٣]. (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ) يعني بالتوحيد (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي على علم وبصيرة بما شهدوا.
(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ) من شهد بالحق مثل عيسى عليه السلام فإنه شهد بالحق وشهد بالتوحيد وعلم أنه على بصيرة هذا الذي يشفع، لكن لا أحد يشفع إلا بشرطين: إذن الله للشافع أن يشفع ورضاه عن المشفوع له كما قال تعالى (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) [النجم:٢٦] وقال تعالى (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:٢٨]. (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) والشفاعة تواترت فيها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت في القرآن مثبتة وجاءت منفية، ومرّ بنا الإشارة إلى ذلك، وحديث الشفاعة في صحيح البخاري أن الناس يأتون آدم فيعتذر ويأتون نوحاً فيتعذر إلى أن يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه هي الشفاعة العظمى فيقال يا محمد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما أصابنا؟! ليقضي بينهم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم أنا لها أنا لها فيقول آتي وأسجد تحت العرش فيفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه ويقال يا محمد ارفع رأسك وسل تُعطى واشفع تشفّع). وهذا هو المقام المحمود في قول الله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:٧٩] عليه الصلاة والسلام. وكذلك يشفع عليه الصلاة والسلام في عمه أبي طالب يقول هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار. ويشفع للمؤمنين في رفع درجاتهم في الجنة، وتشفع الملائكة، ويشفع المؤمنون بعضهم لبعض، أما الكفار فقد قال الله (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:٤٨]. (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .
ثم قال تعالى مبيّناً ضلال المشركين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) و"اللام" هي الموطئة للقسم والمعنى لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم؟ أقرّوا واعترفوا بأن خالقهم هو الله تبارك وتعالى ولا يقدرون على الإنكار فهم يؤمنون بتوحيد الربوبية ولكنهم يجحدون توحيد الألوهية، توحيد العبادة. ولو كانوا يعقلون للزِم من إثبات توحيد الربوبية توحيد الألوهية، فإذا كانوا يقولون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت الذي خلقهم وخلق السموات والأرض فيجب عليهم إلزاماً أن يقرّوا ويعترفوا ويوقنوا بأنه هو الإله الحق الذي يجب أن يُفرد وحده بالعبادة دون سواه ولكنهم لا يعلمون ولهذا قال الله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) فكيف يقلبون عن عبادته إلى عبادة غيره ويُصرفون عنها مع هذا الاعتراف فإن المعترف بأن الله هو خالقه ورازقه كيف يعمد إلى صنم أوحجر أو شجر ويتوجه إلى بالذبح والنذر والدعاء (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:٤٦] (ومن يُضْلِل الله فما لهُ من هاد).
ثم قال تعالى (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ) (وَقِيلِهِ) يعني وقيل، أي قال الرسول عليه الصلاة والسلام. (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ) يعني قال الرسول يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. (وقيله) مجرورة عطفاً على قوله على لفظ الساعة ألم يقل الله تبارك وتعالى (وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قال (وقيله) فهي مجرورة على لفظ الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله على أحد الأقوال. والقول والقال والقيل بمعنى واحد (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ) وقيل: الضمير في (وقيله) راجعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه. وقيل: الضمير عائد إلى عيسى بن مريم عليه السلام وعلى الوجهين فالمعنى: أنه قال منادياً لربه يا رب إن هؤلاء القوم الذين أرسلتني إليهم قوم لا يؤمنون. ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي أعرِض عن دعوتهم (وَقُلْ سَلَامٌ) أي أمري تسليم منكم ومتاركة لكم، ترككم، قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي كما قال تعالى (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:٥٥].
قال قتادة: أمره الله بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بآية السيف وهي الأمر بقتالهم وقيل لم تُنسخ.
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وهذا تهديد شديد وفي قرآءة سبعية أخرى (وسوف تعلمون).
(وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
وهذا وعيد عظيم من الله عز وجل لهم.
وكما ترون في سورة الزخرف السورة المكية أن فيها: المجادلة القوية لهؤلاء المشركين ولما كانوا يعبدونه من دون الله من الأصنام والأنداد. وفيها بيان مصير الغابرين وقد ختمت بهذا الوعيد الشديد للمكذبين.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا وإياكم فهماً في كتابه وفي سنة محمد صلى الله عليه وسلم وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقا معصوما وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، ونسأله تعالى أن يغفر لنا وإياكم ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا، وأن يجعلنا من عباده المتقين الذين ينعّمون في روضات الجنات إنه سبحانه وتعالى هو الوهاب الكريم الشكور الشاكر وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
----------------------------------
المصدر / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق