الثلاثاء، 11 مارس 2014
تفسير سورة الزخرف (١-٣٢) / دورة الأترجة
{(حم ﴿١﴾ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٣﴾ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿٤﴾ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ﴿٥﴾ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ﴿٦﴾ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿٧﴾ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴿٨﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله تبارك وتعالى في سورة الزخرف وهي سورة مكية وابتدأت كما ابتدأت سورة الشورى بالحروف المقطعة قال الله تعالى (حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) سبق الكلام على الحروف المقطعة مراراً.
وقوله تعالى (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) هذه "الواو" إما أن تكون واو القسم وجواب القسم (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) وإما تكون عاطفة.
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) وهو القرآن الكريم والكتاب المبين سبق بيان هذا، والمراد بالكتاب المبين أنه القرآن البيّن فهو بيّن في نفسه في ألفاظه ومعانيه، ومبيّن لما تضمنه من الأخبار والأحكام.
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) قرآنا عربياً بلسان العرب قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) لماذا؟ قال (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لعلكم تفهمونه وتتعقلون معانيه وتحيطون بما فيه.
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) يعني إن القرآن في اللوح المحفوظ (فِي أُمِّ الْكِتَابِ) أي في اللوح المحفوظ (لَدَيْنَا) أي عندنا (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض لأنه كلام الله تبارك وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) كما قال سبحانه (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).
(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) أي أفنضرب عنكم الذكر صافحين عنكم والصفح هو: الإعراض، والمراد بالذكر هنا القرآن، والاستفهام هنا للإنكار وللتوبيخ فهو إنكار على مشركي العرب وتوبيخ لهم (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) نعرض عنكم (أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) فإسرافهم هو إعراضهم عن القرآن وتكذيبهم لما أنزل الله تبارك وتعالى وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله تبارك وتعالى محذراً لهم بـ (كم) الخبرية التي معناها التكثير فقال (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) وهذه الآية الكريمة تتضمن- والله أعلم- تسلية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وتتضمن تهديداً، أما التسلية فإنه كما أنك يا محمد مرسل فقد أرسل الله رسلاً من قبلك وعورضوا وكُذبوا وأُوذوا وآمن من آمن، وأما إنذار القوم فلأنه يجب أن يعلموا أن هؤلاء الرسل الذين أرسلهم الله تعالى في الأمم السابقة لمّا كذّبهم أولئك الأقوام عاجلهم الله تعالى بعقوبة الدنيا قبل عقوبة الآخرة.
فقوله تعالى (وَكَمْ أَرْسَلْنَا) أي ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأم السابقة!
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي كاستهزاء قومك بك.
(فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) أي أهلكنا قوماً أشد قوة من هؤلاء القوم مثل قوم عاد كما قال الله تعالى (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) فهذا تهديد شديد لأنه يتضمن أن الأولين أُهلِكوا بسبب تكذيب الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فهذا تهديد، وهؤلاء إن استمروا على التكذيب والكفر بما جئت به يا محمد فإنه سينزل بهم ما نزل بالأقوام من قبلهم.
ثم قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وهذا عجب إذا كانوا يقولون إذا سُئلوا من الذي خلق السماوات والأرض؟ يُقِروّن أنه العزيز العليم، أنه الله سبحانه وتعالى وهذا إقرار بتوحيد الربوبية فهنا يجب عليهم إذاً أن يُقِروا بتوحيد الألوهية توحيد العبادة، إذا كانوا يؤمنون ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت الذي بيده ملكوت كل شيء فيجب أن تصرف العبادة له وحده لا شريك له ولكن هذا لنقص عقولهم كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقال هنا (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إذا كان الذي خلق السماوات والأرض وهي أكبر من خلق الناس وأعظم هو العزيز العليم فلماذا لا تفردوه وحده بالعبادة وتصدقوا برسوله وتؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) وصف الله سبحانه هنا نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) وفي قراءة "مهاداً" والمهاد والمهد هي الفراش والبساط كما قال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)
(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) يعني جعل طرقاً تسلكونها إلى حيث تريدون، وقيل: معايش تعيشون بها كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم.
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) يعني بقدر الحاجة وحسب ما تقتضيه المصلحة ولم يُنزل عليكم جل وعلا من المطر ما هو زائدٌ عن حاجتكم لئلا تهلكوا لئلا تغرقوا. وتأمل حكمة الله جل جلاله أنه يُنزل المطر من السماء ويكون برفق، مطراً خفيفاً، ما يصب على الناس كما تصب الميازيب، لا، مطراً خفيفاً. ثم تأمل حكمة الله أنه نزل من علو ليعم جميع أجزاء الأرض الوهاد والمرتفعات والجبال والمنخفضات، ثم أيضاً حكمة الله جل وعلا ورحمته أيضاً أنه لم يجعل المطر يتتابع على العباد ويتوالى عليهم لأنهم سيغرقون وستهلك مواشيهم وتتهدم بيوتهم فإذا نزل عليهم المطر ما شاء الله أن ينزل أعقب هذا بالصحو وهكذا ولهذا قال (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ) ثم أيضاً الله جل وعلا ينزل هذا الماء من السماء تأخذ الأرض منه حاجتها ثم ينزل الباقي ليكون مستودعاً في قرار في الأرض يخرجه العباد عند الحاجة.
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) أي أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات كما قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) من قبوركم وهذا مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج النبات يعني يخرج الناس من قبورهم فإن من قدر على هذا قدر على ذلك وهذا مضى في سورة آل عمران وكذلك مضى في سورة الأعراف (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، و(كَذَلِكَ تَخْرُجُونَ) قراءتان.
(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) والمراد بالأزواج هنا: الأصناف (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) يعني خلق الأصناف كلها.
وقال الحسن: الشتاء والصيف، والليل والنهار، والسماوات والأرض، والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى.
وقيل: أزواج النبات كقوله تعالى (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وقال (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)
وقيل: ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر وإيمان وكفر.
وعلى أي حال الأظهر -والله أعلم- أنه قوله تعالى (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) يعني الأصناف جميع الأصناف قال تعالى (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى).
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) هنا قدّم الفلك على الأنعام لأن إظهار القدرة يتضح في الفلك أكثر لأن الفلك تجري على الماء على البحر وجريان الفلك على الماء أظهر في القدرة من مشي الأنعام على أرض مستقرة.
(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) جعل لكم من الفلك والأنعام التي هي الإبل والبقر، الإبل خاصة وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان رجل يركب بقرة فضربها فقالت إنا لم نُخلَق للركوب وإنما خُلِقنا للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر)، قال: ولم يكونا ثَمَّ في القوم. ما كانوا موجودين وهذا يدل على منزلة أبي بكر ومنزلة عمر شيخا الاسلام رضي الله عنهما.
(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) لما كان الركوب يعتبر مباشرة أمر محذور واتصال بسبب من أسباب التلف أمر أن لا ينسى الإنسان إذا أراد أن يفعله أن يذكر نعمة الله عليه الإنسان. أحياناً يركب طائرة أو يركب قطاراً أو يركب سيارة أو يركب بهيمة أو سفينة فيهلك يموت بركوبه هذا فعليه أن لا ينسى أن ما يركبه من هذه الأشياء إنما هو نعمة من الله سخرها له ولهذا قال (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) تذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم يعني (كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين وهذا يدل على أن الشخص لا يمكن أن يستقل بنفسه بركوب شيء إلا بأمر الله سبحانه وتعالى فالله جل وعلا هو الذي ينجيه في البر والبحر. (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) يعني ما كنا مطيقين هذا الأمر، يقال أقرن هذا البعير إذا أطاقه، يعني ما تستطيع أن تضبط هذا البعير إذا ركبته أو تجعله هادياً إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، قال الطبري: "ويُذكَر أن رجلاً ركب بعيراً هزيلاً فقال له رجلٌ بجواره سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وكانت بعير ذاك الرجل أقوى أما هذا فبعيره هزيل قال أما هذا البعير الهزيل فأنا له مقرن وأنا له مطيق يقول فسار قليلاً فصرعه هذا البعير فدق عنقه فمات" (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ما تطيقه. الآن البعير على عظم خلقته وقوته يقوده بأمر الله الطفل الصغير هذا من تسخير الله سبحانه وتعالى ولو شاء الله سبحانه وتعالى ما قُدت هذا البعير الذي يعتبر من الحيوانات التي جسمها كبير ما تستطيع أن تقوده وتذلله إلى مكان إلا بأمر الله (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ما كنا مطيقين لولا تسخير الله سبحانه وتعالى وفضله (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون إليه، وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة فالإنسان يسن له إذا ركب أن يقول "بسم الله ويكبر ثلاثاً إذا سافر ويقول سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون" والذي رجحه بعض شيوخنا أن الإنسان لا يقول هذا الدعاء إلا إذا ركب لسفر أما إذا كان داخل البلد وركب سيارته أو بهيمة لم يرد دليل على أنه يقول دعاء الركوب كلما ركب داخل البلد إنما يقوله كما جاء في السنة إذا ركب مسافراً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) يعني عِدْلاً، يعني ما عبد من دون الله، الجزء هنا أنهم جعلوا له عدلاً أو جزءاً وهي البنات قال تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ).
- يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى إلى آخره هذا إذا كان يريد السفر، أما إذا كان داخل البلد وقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين فقط فأرجو أن لا يكون في هذا بأس وإن كان لا أعلم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ركب دابة يقول هذا إنما الذي ورد إذا ركب مسافراً.
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) قيل المراد بالجزء هنا الملائكة أنهم جعلوهم أولاداً لله سبحانه وتعالى ثم جعلوا الملائكة إناثا (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي ظاهر الكفران مبالغ فيه الذي هو الكافر يجحد نعم الله تعالى عليه جحوداً بيّناً ولهذا أنكر الله عليهم فقال (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ) وهذا استفهام تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين يعني اتخذ ربكم لنفسه البنات (وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) جعل لنفسه المفضول من الصنفين ولكم الفاضل منهما وأنتم الحال كما قال تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)؟، (وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ).
ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) يعني الآن هم يجعلون البنات، يجعلونها لله تبارك وتعالى يجعلون الملائكة إناثاً وهم لهم الذكور؟! (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى).
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) يقال أصفيته الود يعني أخلصت له ومثل هذه الآية قوله تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى).
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا) يعني هو الآن جعل لنفسه يعني الله جل وعلا أنكر عليهم أنهم يجعلون لله البنات كما قال في سورة النحل (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) وهنا قال (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) وكان من عادة أهل الجاهلية أنهم يكرهون البنات ويصيبهم كما قال الله إذا بشر أحدهم بأنه ولدت له بنت اغتم لذلك وظهر أثره على وجهه صار كئيباً صار وجهه مسوداً بسبب ولادة البنت له وهذه جاهلية بغيضة لا شك، فكراهة البنات هذه لا شك أنها من آثار الجاهلية. ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: «من عال جاريتان حتى تبلغا كُنَّ له سترا من النار» وجاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها «أنها جاءتها امرأة ومعها ابنتان لها تقول: فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات تقول فأعطيت هذه الأم تمرة وأعطيت كل بنت تمرة تقول: فأكلت كل بنت التمرة التي معها فلما رفعت الأم يدها لتأكل التمرة ابتدرت كل واحدة من البنتين تريد أن تأخذ التمرة التي مع الأم فأخذت الأم أخرجت التمرة من فمها وقسمتها نصفين ولم تأكل شيئاً تقول عائشة فأعجبني شأنها فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد أوجب لها بذلك الجنة» وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأدبهن وزوجهن كنا له ستراً من النار» إلى غير ذلك من الأحاديث التي ترغب في تربية البنات والعناية بهن. وأما العرب في الجاهلية فكانوا يقولون ما هي بنعم الولد نصرها بكاء وبِرها سرقة، يقولون ما هي بنعم الولد، فلما جاء الإسلام عزز مكانة البنت ورغب في تربيتها ونص عليها لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون هذا وكان بعضهم يئدها وهي حية.
فقال الله تبارك وتعالى هنا (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)، (يُنَشَّأُ) يعني يربى (فِي الْحِلْيَةِ) الذي هي الزينة يعني المعنى: أو جعلوا له سبحانه من شأنه جعلوا له من يربى في الزينة وهو عاجز أن يقوم بأمور نفسه وإذا خوصم ما يقدر على إقامة الحجة لأن المرأة أضعف حجة من الرجل وإذا غُلبت في الحجة فالغالب أنها قد تبكي أحياناً فهنا الله سبحانه وتعالى يقول (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) فالحُلي الذهب أبيح للإناث خاصة دون الذكور لأنه يكمل ما نقص من المرأة ولأن المرأة محل استمتاع للرجل ولهذا قال الشاعر:
وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسنٍ إذا الحُسْنُ قصّرا
أما الرجل فليس بحاجة إلى الحلي لأن جماله ليس بتنعمه ولبسه للحلي وإنما هو لغير هذا.
(أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)
وهذا سبق أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام هم كما قال الله (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) لكن الله وبـَّخ المشركين وقرعهم فقال (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) يعني أحضروا خلق الله جل وعلا للملائكة فهي من الشهادة هي الحضور حتى يحكمون عليهم أنهم بنات وفي هذا تهكم بهم وتجهيل لهم لأن الملائكة خلقوا من نور فهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يوصفون بهذا الوصف الذي وصفه به المشركون. (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) أي يسألون عن هذه الدعوة التي ادعوها وقالوها وهي أن الملائكة بنات الله.
(وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) هذا فن آخر من فنون كفر المشركين بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية يعني لو شاء الرحمن -بزعمكم- ما عبدنا هذه الملائكة وهذا حق يراد به باطل ومضى هذا في الأنعام (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) فبين الله جل وعلا جعلهم بقولهم (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم من علم بل تكلموا بذلك عن جهل وأرادوا بما صورته صورة الحق أرادوا باطلاً فهذا قول حق أريد به باطل وزعموا أنه إذا شاء فقد رضي ثم بيّن جل وعلا انتفاء علمهم فقال (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يعني يكذبون فيما قالوا.
(أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا) يعني قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله؟ الجواب لا. (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) يأخذون بحجج هذا الكتاب ويجعلونه لهم دليلاً (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) وهذه هي شبهة المشركين في القديم والحديث كلهم يحتجون بما وجدوا عليه آباءهم وهذا ليس بحجة لأن الإنسان لا يحتج بما وجد عليه أناس كانوا يفعلون فعلاً ففعل مثلهم هذا ليس بحجة ولا ينفعه عند الله سبحانه وتعالى (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) وجدناهم على ملّة وعلى دين ونحن نهتدي بذلك فاعترفوا بأنهم ما لهم مستند سوى التقليد لآبائهم وهذا ليس بحجة (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ) ثم بيّن الله سبحانه وتعالى أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقوهم إلى هذه المقالة وقال بها قوم قبلهم (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) مترفوها يعني أغنياؤها ورؤساؤها وقولهم (مُقْتَدُونَ) يعني متبعون، والاهتداء والاقتداء معناه متقارب هنا ولماذا خصّ الله المترفين؟ فقال (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر وترك التفكير في عواقب الأمور.
ثم أمر الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام أن يرُد عليهم بهذه المقولة الكاذبة هذه المقولة فقال (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) أنتم تعتقدون أن الحق محصور في آباءكم الذين تقلدونهم فأنا آتيكم بحق خير مما عندكم أهدى مما وجدتم عليه آباءكم (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) فهم أصلاً أرادوا الجحد وأصروا على الكفر ولهذا (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) هذا من أعظم الأدلة الدالة على إصرارهم على الباطل ودليل على أيضاً قُبح التقليد، من يقلد الغير بغير حجة ولا برهان، ويحزن كثيراً أن بعض المسلمين يفعلون أفعالاً يقلدون بها غيرهم فإذا قلت لشخص لماذا تفعل هذا؟ قال: كل الناس يفعلون هذا. نقول هذا لا ينجيك عند الله سبحانه وتعالى لا تفعل من الأفعال إلا ما دل الدليل الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أنه يُفعل، وأترك ما دل الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على أنه يترك، أما احتجاجك بفعل الناس فهذا لا ينفعك عند الله سبحانه وتعالى شيئاً ولا يغني عنك شيئاً.
قال الله بعد ذلك (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فالله سبحانه وتعالى لما أعرضوا انتقم منهم وعذّبهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من الأمم السابقة واللاحقة.
ثم قال تعالى مبيناً شأن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو إمام الأنبياء وقد مر ذكره في سور متعددة قال الله (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) وهنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من أبيه وتبرأ من الآلهة والأصنام التي يعبدونها من دون الله تبارك وتعالى. وإبراهيم هو إمام الحنفاء وقد ذكره الله تعالى في سورة الممتحنة في قوله تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) فهذه ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام البراءة من الشرك وأهله، البراءة من الكفر وأهله، فلم يجعل الله تعالى بين المسلمين وبين المشركين محبة والتقاء وموادة وموالاة بل قطع الله تعالى هذه المودة وقطع الله هذه الموالاة كما في قول الخليل عليه السلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) فهو تبرأ منهم وتبرأ من معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله تبارك وتعالى (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) استثنى الذي خلقه وهو الله تبارك وتعالى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) سيرشدني ويثبتني على الحق.
قال الله (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني أن هذه الكلمة، كلمة التوحيد، البراءة من الشرك وأهله باقية في ذرية ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لعلهم يرجعون إليها فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويعقوب وجميع أنبياء الله ورسله كانوا يوصون بالتوحيد قال الله تعالى (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فهذا التوحيد هي ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن تعبد الله تعالى وحده مخلصاً له الدين، هذه هي ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام التي أمره الله تعالى بها ووصى بها إبراهيم بينه وكذلك يعقوب عليه الصلاة والسلام وكذلك جميع أنبياء الله ورسله كل رسول ونبي يوصي أولاده وقومه وأهل بيته بأن يعبدوا الله وحده لا يشركوا به شيئاً. لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة وهذه العقيدة ولكن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك ذكر أن قريشاً ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم لم يفعلوا ذلك فقال (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ) فذكر أنهم تمتعوا بالأموال والأهل والأنفس وأنواع النعيم والله جل وعلا أملى لهم وأمهلهم قال تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) في هذه الحياة الدنيا لكنه متاع قليل كما قال تعالى (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
(بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ) لما جاءهم القرآن والرسول (جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) وهو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي المكي العربي يعرفون نسبه وأمانته وصدقه (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) فجحدوا واعرضوا واستكبروا (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) المراد بالقريتين هما مكة والطائف، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف كذا قال قتادة وجمع من المفسرين، فهم يقترحون يقولون لو أن هذا القرآن لم ينزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم لكنه نزل على الوليد بن المغيرة وإلا نزل على رجل من أهل الطائف الذي هو عروة بن مسعود لآمنا وصدقنا. قال الله (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني النبوة فإن الله جل وعلا يقول (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) بيّن سبحانه هنا أنه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولم نفوض ذلك إليهم وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء أو يقترح على الله شيء بل الحكم لله سبحانه وتعالى وإذا كان الله جل وعلا هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع بعضهم فوق بعضاً درجات فكيف لا يقتنعون بقسمة الله بأمر النبوة وتفويضها إلى الله تبارك وتعالى فهو يصطفي (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فالله تعالى اختار نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم لأنه علم أنه خير أهل الأرض عليه الصلاة والسلام فلذلك بعثه ولهذا قال (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) فجعل الله تعالى فاوت بين الناس في الأخلاق، وفاوت بينهم في الأرزاق، وفاوت بينهم في الأعمار، وفاوت بينهم في الخلق والصور والأشكال. (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) أي ليستخدم بعضهم بعضا فيستخدم الغني الفقير، والرئيس المرؤوس، والقوي الضعيف، وتنتظم مصالحهم بهذ،ا ويخضع الجاهل للعالم، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا، فإن كل أهل صناعة دنيوية يحسنها أناس دون آخرين فتجد بعض الناس يحسن صنعة، صنعتين، ثلاث، أربع ولكنه لا يحسن بقية الصنائع فيذهب فيبحث عمن يحسنها، فسخر الله بعض العباد لبعض وانتظمت معايشهم بهذه الحالة. ولهذا قال (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يعني بالرحمة ما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين في الجنة من الخيرات والخزائن والحور العين والتمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم فقال هنا (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ولا شك أنه ما في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء والنبي صلى الله عليه وسلم قال محقراً شأن الدنيا وأنها لا تستحق من الإنسان أن يعطيها همَه قال عليه الصلاة والسلام: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع» ولما دخل عليه الصلاة والسلام السوق والناس عن يمينه وشماله رأى جدياً -يعني تيساً- ميتاً وهو أصك- يعني صغير الأذنين- والعرب لا ترغب في هذا النوع من البهائم فنظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: «من يشتري هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله والله لو كان حياً ما كان أحدٌ يشتريه وهو أسكّ فكيف وهو ميت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أحدكم» وقال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وقال عليه الصلاة والسلام: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» ولهذا هنا قال الله تبارك وتعالى (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) وقال تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فالدنيا تذهب ويذهب نعيمها ويذهب بؤسها وشقاءها ولا يبقى إلا الحسنات والسيئات ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: «يؤتى بأنعم رجل في الدنيا فيغمس في النار غمسة واحدة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت خيراً قط ولا مر بي نعيم قط، ويؤتى بأبئس أهل الدنيا وهو من أهل الجنة فيغمس في الجنة غمسة واحدة ثم يقال يا ابن آدم هل مر بك بؤسٌ قط؟ هل رأيت شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت بؤساً قط ولا مر بي شدة قط».
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا وإياكم فهماً في كتابه وفي سنة نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
نسأله تبارك وتعالى في هذه الساعة الشريفة العظيمة المباركة أن يفرج همّ المهمومين من المسلمين، وأن ينفّس كرب المكروبين، وأن يفك أسرى المأسورين، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اجعل لإخواننا المسلمين في سوريا فرجاً ومخرجا، اللهم أشبع جائعهم، وأمّن خائفهم، اللهم احقن دمائهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا خير الناصرين، اللهم عليك بطاغية الشام ومن أعانه وناصره يا ذا الجلال والإكرام، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واكف المسلمين شرهم بما شئت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صلي وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق