د. صالح بن عبد الرحمن الخضيري
المجلس الأول:
(وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴿٣٢﴾ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿٣٣﴾ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ﴿٣٤﴾ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ﴿٣٥﴾ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿٣٦﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فهذا هو المجلس الثالث في تفسير سورة الشورى يقول الله تبارك وتعالى:
(وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) هنا يذكر الله تبارك وتعالى آية أخرى من آياته العظيمة التي تدل على توحيده وصدق ما وعد به فقال (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) وهي السفن واحدتها جارية أي سائرة قال الله تبارك وتعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)، (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) أي كالجبال جمع عَلَم وهو الجبل قالت الخنساء:
وإن صخراً لتأتمّ الهُداة به ** كأنه علمٌ في رأسه نار
وكما قال الخليل: "كل شيء مرتفع عند العرب فهو عَلَم".
ويروى عن مجاهد (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) كالقصور، وعلى أي حال من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله تبارك وتعالى هذه السفن التي تكون في البحر تجري بأمر الله سبحانه وتعالى كأنها جبال أو كأنها قصور قال الله تعالى (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) الآية.
(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) يعني يُسكن الريح التي تجري بها السفن وإذا سكنت الريح قال (فَيَظْلَلْنَ) أي السفن (رَوَاكِدَ) أي سواكن ثوابت على ظهر البحر. (إِنَّ فِي ذَلِكَ) في ذكر أمر السفن (لَآَيَاتٍ) ودلالات عظيمة (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء. والصَبَّار هو: الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) وهو أبلغ من صابر. يقول بعض السلف: "كم من مُنعَم عليه غير شاكر وكم من مُبتلى غير صابر".
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) أي يهلكهن بالغرق والمراد من هو في وسط هذه السفن بما كسبوا من الذنوب كما قال تعالى في الآية السابقة التي قبل هذه قال (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة. وقال تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) فالبحر من آيات الله العجيبة وجريان السفن فيه أيضاً من آيات الله العجيبة.
(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) هنا هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء القوم الذين يجادلون في آيات الله بغير علم أنهم ليس لهم مهرب ولا ملجأ وقد سبق تفسير المجادلة بغير علم في سورة غافر وفي غيرها.
(مِنْ مَحِيصٍ) من قولهم حاص به البعير حَيْصةً إذا رمى به، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق أي يميل عن الحق ويحيد عنه.
ثم قال الله تبارك وتعالى (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هنا لما ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل التوحيد ذكر هنا التنفير عن الدنيا لأن من شأن الدنيا أنها تحجب الإنسان عن التفكّر -خاصة إذا استولت على القلب- فإنها تحجب الإنسان عن التفكّر والتدبر والنظر فيما خُلِق من أجله. فقال (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ما أعطيتم من الغنى والسعة في هذه الحياة الدنيا فإنما هو متاع قليل كما قال تعالى (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ). (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) ما عنده من ثواب الطاعات والجزاء عليها والنعيم المقيم في الآخرة خير (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فهم يفوضون أمورهم إلى الله ويعتمدون عليه لا على غيره في جميع شؤونهم.
ثم قال تعالى (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) والمراد بكبائر الإثم: الكبائر من الذنوب، وقد مرّ في سورة النساء في قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) والذنوب أكبر كبائر، وكبائر، وصغائر، والكبائر وأكبر الكبائر لا بد لها من التوبة وأما الصغائر فإن الله سبحانه وتعالى قال (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) قال قبل ذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة النجم (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مُكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنبت الكبائر» والكبائر عند العلماء الصحيح أو أرجح الأقوال أنها محدودة وليست بمعدودة ولهذا لما قيل لابن عباس: الكبائر هي سبع؟ قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع. وقد عدّ النبي عليه الصلاة والسلام منها سبعاً فقال: «اجتنبوا السبع الموبقات الإشراك بالله والسحر وقتل النفس واليمين الغموس وقذف المحصنات» إلخ، وأيضاً قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه» وجاء في أحاديث أخرى أيضاً تعداد بعض الكبائر، الكبيرة عند العلماء هي كل ذنب خُتِم بلعنة أو غضب أو نار أو حدٍّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو تبرأ النبي عليه الصلاة والسلام من فاعله، ولا شك أن الواجب على العبد أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب كما سبق كبيرها وصغيرها فإن التوبة هي فريضة العمر ويجب أن يصبح الإنسان تائباً ويمسي تائباً وأعظم هادم للذنوب والخطايا والأوزار هو التوبة وكثرة الاستغفار.
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) والفواحش هي: من الكبائر لكنها لما وصف كونها فاحشة كأنها فوقها، وهناك من الكبائر ما تصل إلى درجة الفحش مثل قتل النفس، مثل الزنا، مثل القول على الله بغير علم، فهذه فواحش وكبائر أيضاً وقيل: إن الفواحش موجبات الحدود، وقيل: إن الفواحش هي في الزنا.
(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي يتجاوزن عن الذنب الذي أغضبهم ويكظمون الغيظ ويحلُمون على من ظلمهم وهذه خصلة عظيمة جداً في الإنسان إذا كظم غيظه وعفا عن ظالمه، وفرقٌ بين العفو عند المقدرة وبين كون المسلم يكون عزيزاً ويعفو عند المقدرة وبين كونه يكون ذليلاً مهاناً مستذلاً، وقد جاء في قول الله تبارك وتعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)) [آل عمران] وجاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظاً وهو قادراً على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أي حُلَل الإيمان ما شاء أو يخيّره من الحور ما شاء» وكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام كظم الغيظ والصفح وقد عفا عن الأعرابي الذي كما في الصحيحين جبذ بردته وقال يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فإنك لا تعطيني من كدّك ولا من كدّ أبيك فالتفت وتبسم ثم أمر له بعطاء. وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم قال الحُرّ بن قيس: دخل رجل قريب لي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل غضب عمر حتى همّ أن يوقع بالرجل لأنه أساء الأدب في مجلس أمير المؤمنين قال الحُرّ بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله يقول لنبيه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين. قال: فوالله ما جاوزها عمر حين تليت عليه وكان وقّافاً عند حدود الله تعالى. وهذه أم المؤمنين صفية رضي الله عنها جاءت جارية من جواريها إلى أمير المؤمنين عمر فقالت إن صفية تعظم السبت وترسل أموالاً إلى اليهود، فسأل عمر صفية أم المؤمنين عن هذا، فقالت: أما السبت فوالله ما عظمته بعدما أبدلني الله تعالى به يوم الجمعة، وأما إرسالي بعض الصدقات إلى اليهود فإن لي فيهم قرابة، فقالت صفية للجارية: ما حملك على هذا؟ قالت: حملني على ذلك الشيطان، قالت اذهبي فأنت حُرّة لوجه الله تعالى.
(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) هذه أخلاق أهل الإيمان أن الإنسان لا يتشفّى من خصمه بل إنه يستعمل معه العدل ثم إذا قَدِر فإنه يعفو ويصفح ولهذا قال الله سبحانه وتعالى هنا (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) فلا يحملنّهم الغضب على أن يتجاوزوا الحدود الشرعية أو أن يظلموا من كان بينهم وبينه عداوة أو ما إلى ذلك. وأصعب ما يكون على النفس أن تستعمل العدل مع من يُبغضها ولهذا قال الله تبارك وتعالى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فهنا جعل المؤمنين صنفين:
/ صنف يعفو عن ظالمهم فبدأ بذكرهم
/ وصنف ينتصرون من ظالمهم وهم الذين سيأتي ذكرهم
لكن المؤمن الذي إذا قدر عفا كما يقول بعض السلف قال: كانوا يكرهون أن يُستذَلوا فإذا قدروا عفوا. فرق بين الذلة والمهانة وبين أن تكون قدرت على من ظلمك فعفوت عنه فأنت لا تلام على طلب حقك وعلى إظهار العزة لكنك إذا قدرت على حقك تقوم بالعفو والتجاوز وهذه خصلة أهل الإيمان.
(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) أي أجابوه إلى ما دعا إليه وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة.
(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي يتشاورون فيما بينهم ولا يعجلون ولا ينفردون بالرأي والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر الناس مشاورة مع أن الله تعالى أيّده بالوحي فكان يستشير أصحابه عليه الصلاة والسلام، وكذلك ينبغي أن يكون بين المسلمين هذا الخُلُق العظيم خُلُق الشورى في أمور المسلمين العامة وكذلك في أحوال الناس الخاصة فيستشير الرجل زوجته في بعض أمور الأسرة ويستشير الحاكم عقلاء رعيته وأهل الحل والعقد في أمور مملكته وما يحتاجه الناس فهذا من الخُلُق العظيم وقد كان هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام وهو هدي الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. والنبي عليه الصلاة والسلام دخل على أم سلمة في يوم الحديبية وأخبرها بما الناس عليه حيث إنهم شقّ عليهم أن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا وكأنهم طمعوا أن يدخلوا مكة فقالت له أم سلمة رضي الله عنها: اخرج يا رسول الله وأمر الحلاق فليحلق رأسك ولا تكلِّم منهم أحداً، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام برأيها ثم خرج وفعل ذلك فقام بعضهم حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً يعني قاموا بسرعة وحلقوا رؤوسهم ونفَّذوا هذا. وليس معنى هذا أن المرأة تكون من أهل الشورى بمعنى أنها تدخل مع أهل الحلّ والعقد تكون تدخل معهم ويستشيرونها في أمور الناس العامة، كلا، وإنما المراد أن المرأة يؤخذ رأيها فيما يختص بأمور النساء أو كذلك فيما يخص أسرتها ومما يخص بيتها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «والمرأة راعية في بيتها ومسؤولة عن رعيتها». ولا يُعهد في الاسلام -وقد أشرت إلى هذا فيما خلا- لا يُعهد في الإسلام أن مجالس الخلفاء ومجلس النبي عليه الصلاة والسلام كان يضم نساء يدخلن معه في الشورى ليُستشرن فيما يجري على الناس وفيما يحلّ بأمر المسلمين وإنما قد تُدلي المرأة برأيها في وقت ما في أمر خاص في قضية خاصة وليس في أمور المسلمين العامة. (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ولا شك أن الشورى -الاستشارة- خُلُق فاضل ولهذا أحياناً الإنسان يجري له أمر من الأمور ربما يكون هو من أهل المشورات ولكنه يحتاج أن يشاور وهذه علامة العقل أن الإنسان يضيف إلى عقله عقولاً أخرى
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تُبصر ما نأى ودنا ولا ترى نفسها إلا بمرآة
فأحياناً قد يكون الشخص يقصده الناس ليستشيروه وهو أيضاً يشاور غيره ولا أكمل وأزكى من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان أكثر الناس مشاورة، لكن الإنسان أيضاً إذا أراد أن يستشير فإنه يستشير إنساناً لبيباً عاقلاً حازماً ويأخذ برأيه بعد الاستخارة. قال العلماء: "ما ندم من استخار الخالق وشاور المخلوقين وتثبت في أمره فإن الله يقول (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)".
(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ينفقون في سُبُل الخير ويتصدقون على المحتاجين.
ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها فقال (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق فإنهم ينتصرون لأنفسهم. ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح، كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح لأن التذلّل للباغي ليس من صفات من جعل الله له العزّة والله تعالى قال (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) والانتصار عند البغي فضيلة كما أن العفو عند الغضب فضيلة فلا يخلط الإنسان بينهما، الانتصار عند البغي فضيلة كما أن العفو عند الغضب فضيلة.
يقول النخعي: "كان يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء" ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزة الحد كما قال تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فبيّن سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة. وظاهر هذا العموم ولهذا قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك لما بيّن أن جزاء السيئة بمثلها بيّن فضيلة العفو فقال (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) يعني من عفا عمّن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه فإنه لا شك أن الإنسان إذا عفا عن ظالمه سيزول ما بينهما من إحن وعداوات وإذا كان هناك خلاف سيكون بينهما عكس الخلاف وهو الموافقة والمؤالفة والصُلح ولهذا قال تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وما أعظم الأجر إذا كان على الله! هنا أبهَمَ الأجر تعظيماً لشأنه وتنبيهاً على جلالته، الله أكبر! (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ما قال: فأجره الجنة، "أجره على الله" إذا كان أجرك على الله فلا تسأل عن الأجر الذي سيكون عند الكريم الوهاب سبحانه وتعالى فهو أجر عظيم. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الرجل يوم القيامة يأتي بينه وبين أخيه مظلمة من أهل الجنة فيرفع له قصر؟ فيقول: يا رب لمن هذا القصر ألنبيّ أم لصدّيق أم لشهيد؟ فيقول: لك أنت إذا عفوت عن أخيك فيقول: يا ربي قد عفوت عنه». وهذه أخلاق كما سبق أخلاق الأنبياء وأخلاق الصحابة رضي الله عنهم وأخلاق التابعين ومن تبعهم بإحسان، والإمام أحمد رحمه الله له مواقف الإمام أحمد بن حنبل له مواقف مشهودة في العفو حتى قال: كل من آذاني -وقد سُجِن وأوذي وضُرِب- قال: "كل من آذاني فهو في حل وقرأت قول الله (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) ثم قال وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم بسببك؟!" ومثل ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما تكلم مسطح بن أثاثة وكان من المهاجرين الأولين في شأن عائشة استزله المنافقون فتحدث بحديث الإفك حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فلما نزل قول الله تعالى (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) قال أبو بكر: بلى والله نحب أن يغفر الله لنا، فأجرى أبو بكر رضي الله عنه النفقة ولم يقطعها عنه حتى مات.
ومثل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يعفو عن ظالميه وله في هذا مواقف يضيق الوقت عن إيرادها وذكرها. فقال الله سبحانه وتعالى هنا (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ).
ثم قال تبارك وتعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي المبتدئين بالظلم الذين يتجاوزون الحدود والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وقرأ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)» ودعاء المظلوم مستجاب وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه كما جاء في مسند الإمام أحمد. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في السنن «ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهنّ ومنها دعوة المظلوم» وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى الله كأنها شرارات من نار". فالظلم من أعظم الذنوب ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الذي رواه مسلم حديث أبي ذر قال: «قال الله تعالى: يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا» فأكد تحريم الظلم بثلاث مؤكِّدات:
الأولى: أنه قال: حرّمت الظلم على نفسي
والثانية: قال: وجعلته بينكم مُحرّماً
والثالثة: قال: فلا تظالموا.
(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)
اللام لام القسم كما قيل وقيل أنها لام الابتداء.
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) و"مَنْ" هنا شرطية وجوابها (فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ). (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) ما عليهم مؤاخذة وعقوبة (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يعني يعتدون عليهم ابتداء ويظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم، يظلمونهم بقتلهم، أو بأخذ أموالهم، أو بالاعتداء على أعراضهم، أو بقذفهم، أو بأي نوع من أنواع الظلم والأذى.
(وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يعملون في النفوس والأموال بغير الحق (أُولَئِكَ) الذين يظلمون الناس (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لهذا السبب، ثم رغّب جل جلاله بالصبر والعفو فقال (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك منه (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يعني من الأمور التي أمر الله تعالى بها ورغّب فيها (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
ثم قال الله تبارك وتعالى (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) وترى الظالمين المشركين المكذبين بالبعث لما رأوا العذاب نظروا إلى النار (يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) يعني هل من رجعة إلى الدنيا؟ يريدون أن يرجعوا إلى الدنيا مرة أخرى.
قال الله (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) يعني ساكنين متواضعين إذا عرضوا على النار من الذل والهوان كما قال الله: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)
وقال جل وعلا (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) وهنا قال (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) من الذل والوجل.
(وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي الذين كملوا في خسرانهم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين في يوم القيامة أما خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا -والعياذ بالله- معذَّبين في النار (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وأما خسرانهم لأهيلهم فلأنهم كانوا معهم في النار فلا ينتفعون بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبينهم. (أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) دائم أبد الآباد.
ثم أمر الله جل وعلا عباده بأن يستجيبوا له وحذّرهم فقال (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) أي استجيبوا دعوته لكم إلى الإيمان به جل وعلا وبكتبه ورسله واليوم الآخر (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) لا يقدر أحد على رده ودفعه (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) يوم القيامة (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) تلجأون إليه (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي إنكار يعني ما لكم من إنكار هذا اليوم بل تعترفون، يعني هذا اليوم لا يمكن أن تنكروا فيه شيئاً ولا أن تجحدوا فيه شيئاً لأنه يوم الاعتراف يوم لا يستطيع الإنسان أن يخفي فيه شيئاً من الأشياء تعترفون بذنوبكم وما لكم من ناصر ينصركم.
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها ولا موكلاً بهم ولا رقيباً عليهم إنما عليك البلاغ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) ما عليك إلا البلاغ لما أمرت بأن تبلّغه وليس عليك غير ذلك. (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) إذا أعطيناه منا رخاء وصحة ونعماً فإنه يصيبه الأشر والبطر. (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) إذا نزل بهم بلاء ومرض وشدة وقحط بما قدمت أيديهم من الذنوب والمعاصي والسيئات (فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ) يعني كثير الكفر لما أنعم الله جل وعلا عليه به لا يشكر وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان ولهذا قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وقال (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) وقال (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ).
ثم قال تبارك وتعالى (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) خلقاً وإيجاداً وتصرفاً لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) من الخلق (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) وهذا من الله سبحانه وتعالى لِحِكَم لا يعلمها إلا هو جل جلاله وتقدست أسماؤه له الحكمة في هذا. (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) يعني يعطي من يشاء من الذرية إناثاً فقط ويعطي من يشاء ذكوراً فقط (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) فصارت أقسام الناس كم؟ أربعة أقسام:
منهم من يرزقه الله تعالى الذكور فقط
ومنهم من يولد له البنات فقط
ومنهم من يجمع الله له بين الإناث والذكور
ومنهم القسم الرابع من يجعله الله تعالى عقيماً لا يولَد له
وله في ذلك الحكمة التامة والعلم الشامل (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
ولا شك أن الإنسان إذا أعطاه الله تعالى ذرية سواء كانوا إناثاً فقط أو ذكوراً فقط أو جمع له بينهما أو جعله عقيماً أنه يجب أن يشكر وأن يصبر وأن يقوم إن رزق ذرية من الأقسام الثلاثة عليه أن يتقي الله تعالى بهم وأن يربيهم على الإسلام والسنة وأن يعلم أن الله تعالى سائله عنهم وأن يرجو أن يكون هو وإياهم ممن قال الله فيهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) وأن يتذكر فيهم قول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) وأن يتذكر قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قال علي: "أي علّموهم وأدّبوهم".
ومن الناس من يتسخط لميلاد البنات إذا ولد له بنات تسخط وهذه من الجاهلية البغيضة وسيأتي الحديث والإشارة -إن شاء الله- في سورة الزخرف عن هذا الأمر.
ومن الناس من يتسخط إذا لم يُرزق إلا الذكور فقط، ومنهم من يتسخط إذا رُزق الذكور والإناث يتسخط لأمور كثيرة يظن أنه هو الذي يرزقهم والذي يقوم بهم والواقع أن الله تبارك وتعالى هو الرزاق (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) ولا يولد مولود إلا ورزقه معه وفي الصحيح «أن الله تبارك وتعالى يأمر الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» ومما يستملح في هذا الباب ما جاء عن بعض السلف أن رجلاً شكى إلى آخر كثرة عياله ونفقاتهم فقال له هذا الرجل الصالح: يا فلان انظر واكتب لي من أولادك من ليس رزقه على الله فأنا أتكفل به. فسكت ذاك الرجل لأنه يعلم أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها.
ومن الناس من يتشكى ويتألم لأنه كان عقيماً ولا يعلم قد يكون هذا من رحمة الله تعالى به ويمكن لو رزق الأولاد لصاروا سبباً في شقائه وحرمانه من سعادة الدنيا والآخرة.
ولهذا قال الله جل وعلا في شأن الخضر وموسى لما قتل الخضر الغلام قال الله (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)) [الكهف] فلله تبارك وتعالى الحكمة التامة في هذا الأمر. (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) بليغ العلم عظيم القدرة.
ثم قال تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) ما صحّ لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله بوجه من الوجوه إلا بأن يوحي إليه فيلهمه، وهذا كما قلت في أول سورة الشورى إشارة إلى أن السورة تدور على الوحي فهي بدئت بالوحي وخُتمت بالوحي في أولها (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي ختام السورة يقول الله تبارك وتعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا) وقال (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) فافتتحت بالوحي واختتمت بالوحي.
فهنا ما صح لفرد من الأفراد البشر أن يُكلمه الله بوجه من الوجوه إلا بأن يوحي إليه فيُلهمه ويقذف ذلك في قلبه وكما جاء في الحديث «إن روح القدس نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب».
(إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) كما كلّم موسى عليه السلام كلمه بحيث يسمعه ولا يراه (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) وهو المَلَك (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) من رسل الله وهو جبريل عليه الصلاة والسلام (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) أو غير جبريل لكنه الغالب أن جبريل عليه السلام هو الذي ينزل بالوحي، (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
(إِلَّا وَحْيًا) المقصود به هنا: الوحي هو أن يلهمه الله تعالى بأن يقذف في قلبه شيئاً كما قالت عائشة: كان ما يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ورؤيا الأنبياء رؤياهم في المنام وحي لأن الشيطان لا يتسلط عليهم، فهذا هو المقصود بقوله تعالى (إِلَّا وَحْيًا) فالمقصود بالوحي هنا هو ما يلهمه الله هذا النبي في قلبه أو ما يراه في منامه ويقذفه في قلبه.
ثم قال تبارك وتعالى (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) هنا الله تبارك وتعالى سمى الوحي سماه روحاً لأنه سبب للحياة قال الله تبارك وتعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) فالوحي سماه الله تعالى روحاً لأن به الحياة كما أن الجسد يحيا بالروح (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) كما قال تعالى (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ). (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ومن هداه الله تعالى فلا مضل له ومن أضله فلا هادي له (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) يا محمد (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهنا أثبت الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يهدي ونفى عنه الهداية في قوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فما الفرق بينهما؟
أما المنفي في قوله (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فالمقصود بها هي هداية التوفيق والإلهام وخلق الإيمان بالقلب، وأما المثبت هنا فهو هداية الدلالة والإرشاد.
(صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ترجع إليه سبحانه وتعالى الأمور: أمور الدنيا، وأمور الآخرة، وأمور الكون، لا إله إلا هو، لا خالق غيره، ولا رب سواه.
-----------------------------------------المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق