د. صالح بن عبد الرحمن الخضيري
المجلس الأول
(حم ﴿١﴾ عسق ﴿٢﴾ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٣﴾ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿٤﴾ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿٥﴾ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴿٦﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان الى يوم الدين، أما بعد.
فهذا هو الدرس الأول في تفسير سورة الشورى وهي من السور المكية التي تهتم بقضية الوحي والرسالة وما أكثر ما يذكر الله جل جلاله في السور المكية ما يتعلق بالوحي وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، كما أن في السورة أيضاً دحض حجج أو دحض شبهات المكذبين لرسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وكعادة السور المكية غالباً تبتدئ بالحروف المقطعة فيقول الله تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم (حم (١) عسق) وزيادة الحروف هنا هي أكثر السور زيادة في الحروف المقطعة في افتتاحها وقد مضى ما يتعلق بأوائل الحروف المقطعة في السور الماضية وأن أرجح الأقوال في هذا أن يقال الله تعالى أعلم بمراده بها مع الإشارة إلى أن مثل هذه الحروف المقطعة من أهم مقاصدها بيان عجز العرب عن معارضة القرآن الكريم وأنه مؤلف من مثل هذه الحروف التي هي بين أيديكم وتعرفونها يا معشر العرب.
فقال الله تبارك وتعالى (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبقه أنبياء أوحى الله إليهم كذلك فما هو ببدع من الرسل ولا الوحي إليه عليه الصلاة والسلام بأمر غريب بل أوحى الله جل وعلا إليه هذا القرآن كما أوحى إلى من قبله قال الله جل وعلا (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) [النساء:163] .
والوحي جاء في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم شديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقاً قال الله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل:5]. فهذا الحديث يدل على أنواع الوحي وأيضاً جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
(كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي له عزة القدر وعزة القهر وعزة الامتناع الحكيم جل وعلا الذي له صفة الحكمة في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ثم قال الله تبارك وتعالى (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
التفطر (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) هو أن التشقق يعني أن السماوات تقارب التشقق والانفطار في هذه الآية الكريمة. وللعلماء تفسيران:
الأول: أن المعنى (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) خوفاً من الله جل جلاله وهيبة وإجلالاً له لأنه قال جل وعلا (أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) في الآية السابقة قال (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ثم قال (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) فدل على أن المراد أن السماوات تكاد تنفطر وتتشقق خوفاً من الله سبحانه وتعالى وهيبة له وإجلالاً.
المعنى الثاني للمفسرين: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) من شدة عِظَم الفِرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض من كونه اتخذ ولداً.
وهذا الأمر الثاني يدل عليه آية مرت بنا في سورة مكية سابقة وهي قوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)) أي شيئاً عظيماً (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)) [مريم] . ولا شك أن المعنى الأول والمعنى الثاني كلاهما مراد وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو ساجد أو راكع لله تبارك وتعالى».
ووصف الله تعالى الملائكة بقوله (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:28] فإذا كانت الملائكة تشفق وتخاف من الله تبارك وتعالى فالسماوات كذلك التي هي موضع الملائكة.
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) يعني (مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي كل سماء تنفطر فوق السماء
التي تليها.
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي أنهم ينزهون الله جل جلاله عما لا يليق به ولا يجوز عليه والملائكة عباد مكرمون كما قال الله تبارك وتعالى (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء:26] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء:20]. وأيضاً هم يسبحون بحمد الله ويقدسونه ويستغفرون للمؤمنين (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من عباد الله وهذه الآية جاء تفسيرها في السورة التي مضت وهي سورة المؤمن سورة غافر في قوله تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) الآيات. الملائكة عليهم الصلاة والسلام يهتمون اهتماماً كبيراً بأعمال العباد، ومن لطف الله تبارك وتعالى -وسيأتي في قوله (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)- أن الله سبحانه وتعالى جعل الملائكة يثبّتون المؤمنين ويعينونهم ويستغفرون لهم، يدعون لهم، فهم خير عون للمؤمن على طاعة الله سبحانه وتعالى، ولهذا إذا حلّت الملائكة في مكان حلّ فيه الخير واذا خرجت الملائكة من مكان وصار محلاً للشر حلت فيه الشياطين التي هي ضد عمل الملائكة فكما أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن الملائكة وعونهم للمؤمنين واستغفارهم للمؤمنين بالمقابل قال:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم:83]
وقال سبحانه (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [الاعراف:27]
فهنيئاً لمن كانت ملائكة الرحمن تستغفر له وتعينه على الخير وتؤيده (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [الأنفال:12] ويا ويل من كانت الشياطين عوناً لهم على الشرك والكفر ومعصية الله سبحانه وتعالى.
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) هؤلاء الكفار الذين عبدوا هذه الآلهة واتخذوها من دون الله، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) ما المراد بالأولياء؟ إما أن يراد بالأولياء الشياطين كما في الآية الآنفة الذكر (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الاعراف:30] أو يراد بالكفار الذين اتخذوا أولياء الأوثان كما قالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3] وهذا يسمى عند العلماء اختلاف تنوع، ومن القواعد المقررة عند علماء التفسير: أن الآية الكريمة إذا كانت تحتمل ثلاثة معاني أو تحتمل معنيين أو أربعة أنه يحمل على المعاني هذه كلها لأن القرآن حمّال للوجوه، ولأنه كلام الله سبحانه وتعالى فنحن نحمل عليه جميع الوجوه التي يحتملها نص الآية بلا تكلف. فهؤلاء الكفار اتخذوا هذه المعبودات اتخذوا الشياطين أولياء واتخذوا الأوثان أولياء وهذ الأوثان كل وثن وصنم عنده شيطان وقد جاء في هذا آثار وأحاديث متعددة في كون هؤلاء الشياطين يجلسون عند الأوثان والأصنام التي تعبد من دون الله يعززون عابديها ويلبون بعض حاجاتهم ليجرؤهم على الاستمرار في الشرك والكفر بالله عز وجل. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى أمرهم ويحفظ أعمالهم ليجازيهم بها (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) فالله جل وعلا لم يوكلك حتى تأخذ بذنوبهم ولا أيضاً وكل إليك هدايتهم إنما عليك البلاغ.
ثم قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك وأنزل عليك هذا القرآن الكريم باللسان العربي المبين (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ (195)) [الشعراء] (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) وهي مكة (وَمَنْ حَوْلَهَا) المراد به القرى المجاورة أو من حولها من الناس إلى أن يصل -لتنذر به ومن بلغ- ، فهذا القرآن الكريم هو بالدرجة الأولى للعرب ولكنه أيضاً لهم ولغيرهم لكن هم المعنيون بهذا الأمر من جهة إنهم يجب أن يقوموا بهذا الدين وأن يبلغوه فإنه نزل بلسانهم وخوطب أول من خوطب هم ولم ينزل كتاب باللسان العربي غير هذا القرآن الكريم.
(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) من الناس وأيضاً من حولها من القرى وهذا شامل لجميع الأرض كما قال ابن عباس رضي الله عنه (وَمَنْ حَوْلَهَا) شامل لجميع الأرض كما قال الله سبحانه وتعالى (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]. (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يوم الجمع الذي هو يوم القيامة إذا جمع الله تعالى الناس ليوم لا ريب فيه قال تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) [التغابن:9]. (لَا رَيْبَ فِيهِ) لا شك في وقوعه (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ولو شاء الله سبحانه وتعالى وأراد لجعل هؤلاء الناس أهل دين واحد لجعلهم أمة واحدة إما على هدى وإلا على ضلالة ولكن أراد سبحانه وتعالى ولا رادّ لمشيئته ولا رادّ لحكمه ولكن (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) في الدين الحق وهو الاسلام (وَالظَّالِمُونَ) أي المشركون (مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ) يدفع عنهم العذاب (وَلَا نَصِيرٍ) ينصرهم في هذا المقام العظيم وهو مقام يوم القيامة يوم الجمع كما قال تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة:13]
.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) هذه جملة مستأنفة تقرر ما قبلها من انتفاء كون هؤلاء المشركين الظالمين، من انتفاء أن يكون لهم ولي ولا نصير. (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) وهي الأصنام التي يعبدونها (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ) هو الحقيق أن يُتخذ ولياً سبحانه وتعالى (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو سبحانه وتعالى الخالق الرازق المحيي المميت الذي هو أولى أن يُعبد وحده لا شريك له.
ثم قال تبارك وتعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وهذه الآية الكريمة تدل على أن المرجع حال الاختلاف إنما هو إلى حكم الى الله سبحانه وتعالى فإذا اختلف الناس في أمر من الأمور أو شيء مما بينهم فيجب أن يرجعوا الى حكم الله سبحانه وتعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فإن ما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام فهو من حكم الله كما قال تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7] وقال تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) [النجم] فهنا يقول الله تبارك وتعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) فالمرجع فيه إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي) الحاكم بهذا الحكم هو الله جل وعلا (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) واعتمدت في جميع أموري عليه, (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وهذا الأمر وهو قوله تعالى (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) كثيراً ما يجتمع في آيات القرآن كما قال تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فالإنابة إلى الله وتفويض الأمور إليه هذه أصل عظيم من أصول الايمان والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده ومن توكل على الله عز وجل وفوّض أموره إليه ورجع إليه فإن الله سبحانه وتعالى يهديه في أمور دينه وفي أمور دنياه فقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى ورحمته أن يهدي عباده لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ولهذا قال الله جل وعلا (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في جميع أموري إليه.
(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي خلق السماوات والأرض وأبدع خلقهما، وقد مرّ قول ابن عباس رضي الله عنهما: كنت لا أعلم ما معنى فاطر حتى سمعت أعرابياً يخاصم آخر في بئر فيقول: أنا فطرتها يعني أنا ابتدأتها وأنا حفرتها، فيقول: فعلمت ما معنى فاطر أي هو خالق وهو مبدع السماوات والأرض على غير مثال سابق.
(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي خلق لكم من جنسكم نساء والمراد حواء لأنها خُلقت من ضلع آدم عليه السلام ثم جعل الله تعالى النسل بعد ذلك في الذرية ولهذا قال (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) والظاهر أن ضمير الخطاب في قوله (يَذْرَؤُكُمْ) شامل للآدميين وللأنعام (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) يعني ذكر وأنثى (وَمِنَ الْأَنْعَامِ) أيضاً أزواجاً ذكراً وأنثى (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) هذا يشمل الآدميين ويشمل الأنعام. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) (فِيهِ) راجع إلى ما ذُكر من الذكور والإناث من بني آدم أو الأنعام في قوله (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا) (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [النجم:45] كما قال تعالى، لعمار الكون (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [النجم:45] ،فالله سبحانه وتعالى جعل من الأنعام ذكر وأنثى وجعل من بني آدم ذكر وأنثى ليعمُر الكون بأمره سبحانه وتعالى، ولينتفع الناس من الأنعام سواء كان من الذكور أو من الإناث. الآدميون الذكور والإناث ينتفعون من الأنعام ذكورها وإناثها. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) كثيراً ما يستدل بها أهل العلم على أمر عظيم وهو إثبات أسماء الله جل وعلا وصفاته على الوجه اللائق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل كما قال تعالى هنا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). والذين ضلوا في باب الأسماء والصفات فرقٌ شتى منهم الممثّلة ومنهم المعطّلة ومنهم المؤولة، نصت الآية الكريمة الجزء الأول في قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذا يرد على الممثّلة الذين يزعمون أن صفات الخالق مثل صفات المخلوقين -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تردّ على المعطّلة الذين هم نُفاة الصفات، لأن التعطيل معناه النفي فالمعطّلة هم الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى يقولون لم يستوِ على العرش، ليس له وجه، ليس له يدين، ليس له عينيين، ليس له سمع، ليس له بصر، فهؤلاء هم المعطلة الذين عطلوا أسماء الله وصفاته. فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فهي ترد على الممثلة أو المشبهة وقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ترد على نُفاة الصفات، على المعطلة الذين أنكروا صفات الباري جل جلاله وتقدست أسماؤه.
ثم قال تبارك وتعالى (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) المقاليد هي المفاتيح، والإقليد هو المفتاح (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فالله سبحانه وتعالى بيده أمر السماوات وأمر الأرض لا يخفى عليه شيء مما في السماوات ولا يخفى عليه شيء مما في الأرض فهو المالك للجميع.
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) فهو يُوسِّع الرزق على بعض عباده ويضيّق الرزق على آخرين وله في هذا الحكمة التامة والعلم الشامل سبحانه وبحمده لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. والعباد تتفاوت أحوالهم فمن عباد الله من لا يصلح له إلا أن يكون رزقه كفافاً فهذا أصلح لدينه، ومن العباد من يصلح له التوسيع، ولهذا ورد في بعض الآثار: (إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الصحة ولو أمرضته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا المرض ولو أصححته لأفسدت عليه دينه)، فهو جل وعلا العليم بأحوال العباد والعليم بما يصلحهم ولهذا قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) كما في الآية الآتية، وقال جل وعلا (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)) [العلق] كل هذا تبع لحكمته جل وعلا فقال (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يضيّق الرزق على بعض العباد ابتلاء وامتحان (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو لا يخفى عليه شيء من العالم العلوي ولا العالم السفلي ويعلم ما في الصدور يعلم السر وأخفى.
ثم قال تبارك وتعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) هذه الآية مع آية سورة الأحزاب جمعت أمراً يتعلق بالنبيين، هذه الآية في سورة الشورى مع آية سورة الأحزاب جمعت الخمسة أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم (محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى) عليهم الصلاة والسلام وهم الذين قال الله فيهم (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35] وأيضاً قوله تعالى في هذه الآية (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) الآية، وفي الأحزاب قال الله تبارك وتعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [الأحزاب:7]. فالله تبارك وتعالى هنا يقول (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) فالأنبياء من آدم عليه السلام إلى محمد عليهم الصلاة والسلام جميعاً كلهم دينهم واحد وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّا معاشر الأنبياء أولاد علات» وأولاد العِلات الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، فجميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوتهم واحدة هي دعوة التوحيد فكل واحد منهم يقول لقومه (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فكل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من آدم إلى محمد هي دعوتهم تدعو إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، لكن الشرائع تختلف، الأحكام تختلف من عصر إلى آخر فمثلاً في عصر آدم عليه السلام كان يتزوج الأخ أخته لكن بعدهم في عهد نوح تغيرت الشرائع والأحكام بعض الشيء وهكذا إلى أن جاء عيسى فقال لبني إسرائيل (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) يعني في التوراة، ثم جاءت هذه الرسالة الشاملة الخاتمة وهي رسالة نبينا وحبيبنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب العربي المكي الهاشمي القرشي فصارت عامة شاملة لجميع الثقلين الجن والإنس وصار القرآن العظيم مهيمن على جميع الكتب السابقة وصارت رسالته صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع ومهيمنة عليها ومؤكدة على التوحيد الذي بُعث به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
(شَرَعَ لَكُمْ) يا أمة محمد (مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) فأصول الشرائع لم تختلف أبداً (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) في هذا القرآن (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) كلهم أمروا بقوله (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أقيموا الدين، أقيموا التوحيد وهو إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة واجتناب والبعد عن كل ما يُعبد من دون الله من الأحجار والملائكة والصالحين وأصحاب القبور والأصنام والأوثان والأنداد فكل هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام تطابقت شرائعهم (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) لا تتفرقوا فيه، هنا (فِيهِ) يرجع إلى ماذا؟
(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) في ماذا؟ (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يعني في الدين، راجع إلى الدين لأنه قال (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ويدل على ذلك
قول الله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]
وقوله تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام:153]
وقوله تعالى (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) [الروم] .
(وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) شقّ وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد ورفض الأوثان ويدل لذلك قوله تعالى في أول سورة ص (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)) كبُر عليهم: شقّ عليهم أنك تدعوهم إلى "لا إله إلا الله"، تدعوهم إلى إفراد الله تعالى وحده بالعبادة دون سواه، تدعوهم إلى نبذ الأنداد والأوثان التي تُعبد من دون الله تعالى.
(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ) جل وعلا وحده (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ) يختار ويصطفي لتوحيده ودينه من يشاء (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ويقبل إلى عبادته (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) بالمناسبة الإنابة تعني الرجوع ومن الناس من إذا ذكّرته بشيء أو نصحته يحتج عليك يقول لم يرد الله لي هداية، نقول كيف حكمت على نفسك؟ هذا احتجاج مذموم قال الله عن المشركين (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) قال الله (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام:148] ونقول لمن يقول هذا الكلام أقبل على الله ويهديك الله لأن الله يقول (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أما أن تعرض عن الله كما يُعرض الجمل الشارد عن أهله وتطلب الهداية فأنت لم تبذل أسباب الهداية فأبذل أسباب الهداية، أقبل على الله، تعرّض لرحمة الله ويهديك الله لأن الجزاء من جنس العمل، أما أن يعرض عن ربه تبارك وتعالى ويبارزه بالمحاربة والمعارضة وينصرف عن عبادته ثم يقول لم يكتب لي هداية، نقول أنت حكمت على نفسك وخرصت، جئت بالكذب واقتحمت على علم الغيب فافعل السبب ويهديك الله سبحانه وتعالى لأن الله جعل بحكمته كل شيء من الأشياء جعل له مفتاحاً وجعل له سبباً.
ثم قال تبارك وتعالى (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة ففعلوا ذلك التفرق للبغي بينهم لطلب الرياسة والحمية وكأن الآية تشير إلى قريش فإنهم تفرقوا بعدما جاءهم العلم وهو محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
وعند العلماء قاعدة مفيدة يقولون "العبرة بعموم اللفظ" فالآية عامة.
(إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) بغياً منهم عليه وقد كانوا يقولون ما قال الله عز وجل (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) [فاطر:42] لماذا؟ أكمل الآية (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (43)).
وقال تعالى (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة:89] فهم اختلفوا لما طال بهم الأمد فهذه الآية يدخل فيها ويدخل تحت معناها اليهود والنصارى وكذلك غيرهم قال تعالى (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة:4] ،وقال (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي تأخير العقوبة عنهم وإمهالهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة كما قال تعالى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) [القمر:64] ، أو إلى الأجل الذي كتبه الله وقضاه في الدنيا إما بقتلهم أو أسرهم ونحو ذلك (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لنزل العذاب بهم لا محالة.
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ) وهم اليهود والنصارى (مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد مَنْ قبلهم من اليهود والنصارى (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن أو من محمد عليه الصلاة والسلام (مُرِيبٍ) موقِع في الريب ولذلك لم يؤمنوا. قال مجاهد: معنى (مِنْ بَعْدِهِمْ) من قبلهم، يعني من قبل مشركي مكة وهم اليهود والنصارى. وقيل: المراد كفار المشركين من العرب الذين ورثوا القرآن من بعد ما ورث أهل الكتاب كتابهم. ووصفهم بأنهم في شك من القرآن مريب، فهم شكوا في القرآن والعجيب أن التوراة والإنجيل -إذا كان المراد أهل الكتاب- بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشرت بكتابه كما قال الله تبارك وتعالى (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)[الصف:6].
قال الله (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)
أدعو إلى الله لأجل ما ذكر من التفرق والشك
أو لأجل أن الله شرع من الدين ما شرع
أدعو إلى ربك، أدع إلى الله وإلى توحيده واستقم على دينه، فإن الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى هي أعظم الأعمال الصالحة. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "الدين كله في قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ".
(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) وقال تعالى في آخر سورة يونس (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) والاستقامة تعني: السداد، أن يقوم الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له مع دعوة الآخرين (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) وهذه ميزة لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام وميزة لأمته أنهم يؤمنون بجميع الأنبياء السابقين وبجميع كتب الله التي أنزلها الله تعالى على رسله كما قال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285] فاشتملت هذه الآية الكريمة (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) عشر كلمات مستقلات كل جملة منفصلة عن التي قبلها، يعني حكم برأسها، قالوا ما لها نظير إلا آية الكرسي فإنها مثل هذه عشرة فصول (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) يعني ليس بيننا وبينكم خصومة فإنه قد ظهر الحق وبان فما الداعي للخصومة. وليس المراد أنك تقيم الحجة، لا، ولا تجادل فإن الله سبحانه وتعالى قال (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125] لكن المراد (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) يعني: ليس بيننا وبينكم خصومة ولا نقاش بعد ظهور الحق وتبينه (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) إليه المرجع والمآب سبحانه وبحمده.
المجلس الثاني
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿١٦﴾ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴿١٧﴾ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴿١٨﴾ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿١٩﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد. هذا هو المجلس الثاني من تفسير سورة الشورى وقبل أن أبدأ بهذا المجلس أشير إلى الآية العاشرة من المجلس السابق وهي قوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أشار الشيخ ابن السعدي رحمه الله حول هذه الآية إلى أمر أحب أن نُلحقه بتفسير الآية العاشرة قال: "ومفهوم الآية الكريمة أن اتفاق الأمة حجة قاطعة لأن الله تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه فما اتفقنا عليه يكفي فيه اتفاق الأمة عليه لأنها معصومة من الخطأ ولا بد أن يكون اتفاقها موافقاً لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم". وهذا واضح لمن تأمل الآية الكريمة من مفهومها أن اتفاق الأمة حجة قاطعة لأن الله ما أمرنا أن نردّ إليه إلا ما اختلفنا فيه أما ما اتفقنا عليه فيكفي فيه اتفاق الأمة لأنها معصومة من الخطأ كما قال الشيخ رحمه الله.
قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) أي يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه يعني من بعد ما أسلموا. هؤلاء القوم (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لا ثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لأنهم جادلوا بالباطل غضب الله جل وعلا العظيم عليهم لأنهم جادلوا بالباطل، والإنسان إذا كان يجادل بالباطل فلا شك أن الإثم عليه أشد وهذا الجدال منه أقبح. (وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة.
(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) والمراد بالكتاب اسم جنس يشمل جميع الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: إنه في القرآن خاصة.
(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) فهذا الكتاب العظيم وكتب الله جميعاً كلها مشتملة على الحق وعلى الصدق. (وَالْمِيزَانَ) هل الميزان المراد به آلة الوزن أو المراد بالميزان العدل والانصاف؟ أولاً ليتنا نستذكر الآيات التي فيها ذكر الميزان في القرآن خاصة -الميزان الذي يتعلق بآية سورة الشورى-، هذه الآية
وأيضاً في سورة الحديد الله سبحانه وتعالى قال (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
وفي سورة الرحمن أيضاً قال الله تعالى (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)، هذا في الآخرة (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) وقال تعالى أيضاً (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:8]
وفي سورة المطففين أيضاً قال تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) وأهلك الله أمة من الأمم وهم قوم شعيب بسبب أنهم يبخسون الميزان والمكيال وهذا سبق في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء.
هنا من المفسرين من قال: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة.
ومنهم من قال: الميزان هنا أنزل الميزان المراد به العدل والانصاف وهذا رجّحه الشنقيطي وجماعة من أهل العلم أن المراد بقوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) أنه المراد بالميزان هنا العدل والانصاف، وقال بعض أهل العلم: الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة وهو داخل في الأول (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) يعني أيهما أعمّ أن نقول المراد بالميزان هنا العدل والانصاف وإلا نقول آلة الوزن أيهما أعمّ؟ العدل والإنصاف ويدخل فيه الآلة المعروفة آلة الوزن. ومن أهل العلم من قال: المراد بآية الشورى هذه وآية الحديد العدل والانصاف والمراد بآية الرحمن آلة الوزن وهذا قول جيد لأن الله سبحانه وتعالى قال (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)) فيكون المراد بآية الرحمن هو آلة الوزن المعروفة ويكون المراد -والله أعلم- بالآية في سورة الشورى وفي سورة الحديد هو العدل والانصاف.
(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي شيء يدريك؟ فلعل الساعة أن تكون قريبة جداً لأن الساعة علمها عند الله سبحانه وتعالى لا يعلمها إلا هو كما جاء في آيات متعددة (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فلا يدري أحد متى تقوم الساعة إلا الله تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) [لقمان:34] الآية.
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) يستعجل المشركون بالساعة استهزاء منهم وتكذيباً بمجيئها (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) خائفون وجلون من مجيئها لأنهم لا يدرون على ما يكونون عليه والعبد لا يدري بما يختم له. (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أي إنها آتية لا ريب فيها قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60] فهم يعلمون أن الساعة آتية، وأن القيامة حق لا ريب فيه، لكنهم لا يدرون متى تكون هذه الساعة. ثم بيّن الله جل وعلا ضلال الممارين في هذه الساعة فقال (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ) يخاصمون ويجادلون (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ) وهم في شك منها (لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) فهم في بعد عن الحق لم يتفكروا في الموجبات والدلائل التي تدعوهم إلى الإيمان بها وهي مشاهدة معلومة لمن تفكّر ونظر ولكن القوم صموا آذانهم وعيونهم وقلوبهم عن التفكر فيما خلق الله في السماوات وفي الأرض.
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ربنا تبارك وتعالى من أسمائه "اللطيف" ومعناه الذي يدرك السرائر والضمائر سبحانه وتعالى يوصل عباده المؤمنين إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.
واللطف أنواع من ربنا تبارك وتعالى:
فمن لطف الله تعالى بعبده أن هداه للإيمان،
ومن لطفه أن بصّره بالحق وجعل له عقلاً وجعل له قلباً يميز بين الحق والباطل،
ومن لطف الله تعالى بعبده أنه هداه يعني خلق له فِطرة في قلبه يدرك بها الضار من النافع والخير ومن الشر مع دلالات الوحي،
ومن لطف الله تعالى بعبده أن أرسل رسوله محمداً صلى عليه وسلم وأنزل هذا الكتاب وهو القرآن العظيم،
ومن لطف الله تعالى بعبده أن شرع لعباده ما يعينهم على تحقيق عبوديته فشرع لهم الجمعة والأعياد وشرع لهم الاجتماع في الحج وشرع لهم الصلوات الخمس في المساجد ليقتدي بعضهم ببعض ولينافس بعضهم بعضاً في الدرجات العالية فهذا من لطفه تبارك وتعالى، تصور لو أن الإنسان يدخل في الإسلام ولكنه ما يرى أحداً من المسلمين إلا نادراً ما فيه اجتماعات عامة لربما ما ينشط الإنسان للخير لكن لما شرع الله لنا مجالس العلم وحِلَق الذكر والجُمَع والأعياد وصلاة الجماعة وصلة الرحم والتعاون على البر والتقوى فهذا من لطفه تبارك وتعالى بعبده.
وأيضاً من لطف الله تبارك وتعالى بنا وبعباده المؤمنين أنه يصرف عن العبد كل سبب يحول بينه وبين الهداية أو يدخل عليه الشقاء -أحياناً- يزوي الله جل وعلا الدنيا عن العبد فلربما يتبرم بعض الناس لماذا زويت عني الدنيا؟! وينسى ما جاء في المسند «إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين والإيمان إلا من أحب» فمن أعطاه الله الدِّين والإيمان فقد أحبه. فيصرف الله جل وعلا كل سبب يحول بين العبد وبين طاعة الله وعبادته، يصرف عنه أحياناً الرياسة يصرف عنه المال لأنه قد يؤخره عن المراتب العالية أو يحرمه من مراتب عالية في الجنة ولهذا قال بعد ذلك (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)
ومن لطفه سبحانه وتعالى أن يفرّج كُرب المكروبين وييسر أمور عباده المؤمنين ويجيب دعوة الداعين،
ومن لطفه سبحانه وتعالى بعبده أنه لطف به وهو جنين في بطن أمه ثم عطّف عليه قلب الأم والأب إلى أن نشأ، وهكذا أنواع اللطف لا تُحصى.
ولهذا أحياناً العبد يمرض فيريه الله عز وجل قدرته ثم يبدئ لطفه لعبده فيشفيه وهكذا في أمور كثيرة في أحوال الأمم والأفراد والإنسان في نفسه وفي غيره أيضاً (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) ولهذا ذكر الله الرزق بعد ذلك (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ).
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) هذه الآية الكريمة تشبه الآية في سورة الإسراء في قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)، وتشبه الآية في سورة هود في قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)).
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الحرث في اللغة: هو الكسب، يقال: هو يحرث لعياله ويحترث يعني يكتسب ومنه سُمّي الرجل حارثاً ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح «خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمّام» من الهِمّة ومن الحراثة. والمعنى: من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة فإن الله جل وعلا يضاعف له ذلك الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويزيده توفيقاً وإعانة وتسديداً وتسهيلاً، (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا) يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا ومتاع الدنيا فإن الله تعالى يعطيه ما يريد من الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق -والعياذ بالله-. قال قتادة: "إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا". وقد جاء في السنن: (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك). فلا تجد أحداً -كائناً من كان- تكون مراقبة الله تعالى نصب عينيه ومُهتم بعبادة الله وأداء فرائض الله، لا تكاد تجد هذا الصنف من الناس يشعر بعِوز وفقر ومسكنة أبداً، إما أن يصب الله تعالى رزقه وإما أن يجعل مع صب رزقه يجعل غناه في قلبه. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيح: «ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس». وليس معنى هذا أن الإنسان لا يبذل الأسباب في المعاش، لا، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15] لكن المراد أن الإنسان لا يتخطى الحدود الشرعية ولا يجعل الدنيا الدنيّة تتغلب على الهدف العظيم الأسمى الأكبر الذي خلق من أجله وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ولهذا قال الله هنا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).
ثم قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لما بيّن سبحانه وتعالى ما يجب بيانه في أمر الدنيا والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الذي يوجب النار فقال (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ) وهذا استفهام تقرير وتقريع والضمير يعود على هؤلاء الكفار أو إلى الشركاء (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) ما لم يأذن به الله من الشرك والمعاصي فمن ندب الناس إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
(وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وهي تأخير عذابهم حيث قال تعالى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) [القمر:46] (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهم المشركون (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة كما قال تعالى (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [الرعد:34].
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) فهم على وجلٍ وخوف عظيم جداً مشفقين مما كسبوا ولما كان الشخص المشفق الخائف لا يدري عن الشيء هل يقع وإلا ما يقع قال الله (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أحياناً الشخص إذا كان مشفق، إذا كان الشخص مشفقاً خائفاً من أمر من الأمور لا يدري هل يقع وإلا ما يقع يبقى الاحتمال قائماً لكن الله سبحانه وتعالى أكد في هذه الآية الكريمة أنهم لا مناص لهم من العذاب فقال (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) جازم لئلا يتطرق إلى ذهن السامع أو القارئ أنه ربما يقع العذاب بهم أو لا يقع، فقال (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) لا محالة فهو نازل بهم العذاب.
ثم لما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين كما هي طريقة القرآن الكريم فقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)
ذلك هو الفضل الكبير الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول لمعرفة حقيقته. (ذَلِكَ الَّذِي) "ذلك" يعني الإشارة هنا إلى الفضل الكبير، أي يبشرهم به، ثم وصف العباد بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) جمعوا بين الايمان والعمل الصالح. (قُلْ) يا محمد لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلاً ولا نفعاً (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وقد جاء في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد عن طاووس قال: سأل رجل ابن عباس عن قول الله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال سعيد بن جبير: قرابة محمد صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: عجِلتَ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بطنٌ من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم قرابة فنزلت (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة منفعة أو عاجل دنيوي أو شيء إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم فقط وذلك أن تكفوا أذاكم عني، فإن لم يكن كف الأذى بسبب أني رسول الله ونبيه فعلى الأقل يكون كف الأذى لأني من أقاربكم، وقد كانت العرب في الجاهلية كانوا يعظِّمون الرحم ويرون للرحم والقرابة مكانة ومنزلة. فالله تعالى يقول (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وهذه الآية الكريمة يحاول أن يتعلق بها أو يستدل بها أناس في غير دليلها ولهذا ذكر ابن القيم قال: "استدل شيعي على الوصية لأهل البيت بهذه الآية فأجيب بأن قيل هذه وصية بهم لا وصية إليهم" فهي حجة على خلاف قول الشيعة لأن الأمر لو كان إليهم لأوصاهم ولم يوصي بهم. طبعاً آل البيت، آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام يجب حبهم وتوليهم والترضي عنهم لكن هنا استدل الشيعي بهذه الآية بالوصية لآل البيت فكان الجواب أن هذه وصية بهم وليست وصية إليهم فهي حجة على خلاف قول الشيعة لأن الأمر لو كان إليهم لأوصاهم ولم يوصي بهم فهنا أوصى بهم فقال (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) وقوله هنا (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) أصل القرف: الكسب والاكتساب، الاقتراف هو: الاكتساب، يعني من يكتسب حسنة نزد له هذه الحسنة حسنة بمضاعفة ثوابها، قيل: المراد بهذه الحسنة هي المودة في القربى، ولكن الأولى أن يحمل على العموم، كل حسنة تقرب إلى الله سبحانه وتعالى يعني عمل صالح تدخل تحت هذه الآية. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) كثير المغفرة للمذنبين (شَكُورٌ) كثير الشكر للمطيعين، فالشكور هو: الذي يقبل القليل من العمل ويضاعفه لصاحبه (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).
ثم قال تبارك وتعالى (أَمْ يَقُولُونَ) (أَمْ) هنا هي المنقطعة التي هي بمعنى (بل) أي بل أيقولون افترى محمد صلى الله عليه وسلم على الله كذباً بدعوى النبوة وهذا إنكار توبيخ ومعنى افتراء الكذب اختلاقه. أجاب الله سبحانه وتعالى عن هذه الشبهة بقوله (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) هم الآن يقولون أن محمداً عليه الصلاة والسلام كذب على الله وافترى على الله فقال الله: إن (يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) وهنا الختم على القلب بمعنى أنه ينسى القرآن، إنه لو فعل هذا، لو كان الأمر كما تقولون أنه افترى على الله كذب، كان الله ينسيه القرآن وينزِل به نقمته كما قال تبارك وتعالى في سورة الحاقة (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)) فهذا ردٌ عليهم وقد استدل العلماء على إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ولا سيما ممن استدل بهذا الأمر وذكره كثيراً شيخ الإسلام ابن تيمية في "الجواب الصحيح" وابن القيم أيضاً رحمهم الله بأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً عليه الصلاة والسلام ثم كثر اتباعه وواجه المعاندين له ومع ذلك رب العالمين يؤيده وينصره وأعطاه من الآيات أكثر من ألف آية ودليل من المعجزات والآيات فالله يؤيده وينصره ويعينه ويسدده ومع ذلك تقولون أنه كذب؟ لو كان الأمر كذلك لما مكّنه الله سبحانه وتعالى ولخذله في بدر، ولخذله يوم فتح مكة، ولخذله في كذا، ولما مكنه من جزيرة العرب، ولما مكنه من رقاب أعدائه ولما قتل من صناديد قريش يوم بدر قريب السبعين أو يزيدون وأسر مثلهم فهذا دليل على أنه مرسل من الله تبارك وتعالى بالحق والهدى.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) يمحُ الله الباطل هذه جملة مستأنفة تقرر ما قبلها من نفي الافتراء يعني (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) هنا تمّ المعنى، ثم تستأنف فتقول (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). فكما قال تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) [الأنفال:8] وقال (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81] وهذا هو أرجح الأقوال أن قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يعني إن يشأ الله ينسيك القرآن ويقطع عنك الوحي فهذا هو أرجح الأقوال.
فيه قول آخر روي عن مجاهد (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يعني إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك، وهذا من اختلاف التضاد لأنه لا يمكن أن نقول بالقولين إلا على اعتبار أن الله سبحانه وتعالى يربط على قلب نبيه عليه الصلاة والسلام كما ذكر هذا في آيات متعددة (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) [الحجر] فالله يربط على قلب رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. قال الله (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
ثم قال تبارك وتعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)).
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) وهذا من فضله وكرمه وجوده فهو سبحانه وتعالى التواب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويتوب الله على من تاب» وعند الترمذي «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». والتوبة من الأعمال الصالحة ويجب على الإنسان أن يصبح تائباً وأن يمسي تائباً وقد ندب الله جل وعلا المؤمنين فقال (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31] فالتوبة عمل صالح ولا بد للإنسان أن يجدد توبته ليل نهار، وشروط التوبة عند العلماء:
الإقلاع عن الذنب
والثانية الندم على ما فات
والثالثة العزم على ألا يعود
والشرط الرابع إن كانت تتعلق بحقوق الآدميين فلا بد من إرجاعها إلى أصحابها. والتائب إلى الله بمنزلة عظيمة ولهذا قال الله تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ولما كانت التوبة قد تكون لمصلحة مادية أو أمر دنيوي أو هدف معين قال الله بعد ذلك (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فهو جل وعلا يعلم من الذي يتوب إليه صدقاً وحقاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) [التحريم:8] من الذي يتوب لهدف معين يولي إذا انقضى هذا الهدف وهذا الأمر قال (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) يعلم من كانت توبته صادقة إلى الله وحده ممن كانت توبته ليست كذلك.
وأيضاً (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) فهو سبحانه وتعالى يستجيب لعباده المؤمنين ويعطيهم ما طلبوه ومن ذلك أن التائب إذا دعا وتضرع وسأل الله محى الله جميع السيئات والخطايا كما قال تعالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)) [الفرقان].
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يزيدهم على ما طلبوه منه أو على ما يستحقونه من الثواب تفضلاً منه جل جلاله فهم يشفعون في إخوانهم ويتبوؤن المنازل العالية في الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه وجوده والكافرون مقابل المؤمنين هؤلاء الكفار (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).
ثم قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) لو وسع عليهم الرزق لبغوا في الأرض ولعصوا وبطروا النعمة وتكبروا فلذلك من حكمته سبحانه وتعالى أن يتفاوت العباد في الأرزاق (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21] والله يقبض ويبسط فهو سبحانه وتعالى يوسع الرزق على بعض عباده يعطيه لحكمة، كما أنه يقبض الرزق عن بعض العباد لحكمة ابتلاء وامتحان فهو لا يُسأل جل وعلا عما يفعل وهم يسألون.
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)) [العلق] (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) أي ينزل من الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته وما تقتضيه حكمته البالغة سبحانه وتعالى. (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ) بأحوالهم وما يصلحهم (بَصِيرٌ) بهم من توسيع الرزق وتضييقه فيقدّر لكل أحد ما يصلح حاله ويكفه عن البغي في الأرض.
ثم قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) وهو المطر وهو أنفع أنواع الرزق وأعمّ أنواع الرزق فائدة وأكثر أنواع الرزق مصلحة. (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) أي من بعد ما حصل عندهم اليأس من نزوله، ولهذا قال رجل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أصابنا القحط والجهد حتى كدنا أن نيأس قال أبشر جاء الغيث (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) فالله تبارك وتعالى من رحمته بعباده أن يريهم ضعفهم، وهذا المطر النازل من السماء هو حياة للزروع، حياة للأبدان، حياة للناس ومعاشهم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك:30] ، يُذكر أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله -يقول ابن-ه كان أبي إذا أنزل الدلو في البئر وخرج ملآن قال: الحمد لله. يقول فقلت: يا أبي على أي شيء تحمد الله رأيتك كلما أنزلت الدلو في البئر ثم (كلمة غير واضحة) فرأيت الدلو ملآن بالماء قلت: الحمد لله، قال: يا بني أما سمعت الله يقول (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك:30] الله أكبر فهم دقيق!
هذا المطر النازل من السماء إذا نزل أروى الأرض، وأنبت الله به أنواعاً من النباتات، وأزال الله به الأتربة والغبار عن الناس، ثم نزل وصار في هذه الأرض يستخرجه العباد ويشربون منه ويحيون (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30] وقال جل وعلا (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70))[الواقعة].
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) جاء في الحديث: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب خيره» وفي رواية: «وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب». كُن فيكون. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله واقفاً مع سليمان بن عبد الملك في عرفة فجأة نظر إلى السماء فانتشر السحاب ثم رعدت ونزل المطر في الحال فقال سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: هذا المُلك، كُن فيكون، هذا المُلك، فتبارك الذي بيده الملك (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34] لا يدري متى يجيء المطر إلا الله. (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
ثم قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) فهذه من الآيات العظيمة الدالة على خلقه سبحانه وتعالى وكمال قدرته والموجبة لتوحيده خلق السماوات والأرض خلقها مع هذه الكيفية العجيبة كما قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [غافر:57]. (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) من هذا الخلق العجيب هذه البحار، هذه الأنهار، هذه الجبال، هذه الدواب، هؤلاء الإنس والجن، وهذه الأشجار، هذه الأمور العجيبة (وَهُوَ عَلَى) حشرهم يوم القيامة (عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ).
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فكل بلاء يصيب العبد وكل قحط إنما هو بذنوب العباد، ورضي الله عن أسماء بنت أبي بكر كانت تخشى شؤم الذنب ووبال المعصية فإذا أصابها الصداع وضعت يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفر الله أكثر، وفي المسند: «إن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه». أخذت هذا الأدب من قول الله (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فكم للذنوب والمعاصي من الآثار السيئة على الهواء، وعلى الأرض، وعلى النبات، وعلى نقص البركات، ونقص الأرزاق، وعلى الأجسام، وعلى غيرها.
(وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) وهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) تدل على هوان الخلق على الله مهما تجبروا ومهما تكبروا فإن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء من أحوالهم بل هو على كل شيء قدير (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11] . نسأل الله أن يرزقنا وإياكم فهماً في كتابه وفي سنة نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين.
-------------------------------------
المصدر : ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ربنا تبارك وتعالى من أسمائه "اللطيف" ومعناه الذي يدرك السرائر والضمائر سبحانه وتعالى يوصل عباده المؤمنين إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.
واللطف أنواع من ربنا تبارك وتعالى:
فمن لطف الله تعالى بعبده أن هداه للإيمان،
ومن لطفه أن بصّره بالحق وجعل له عقلاً وجعل له قلباً يميز بين الحق والباطل،
ومن لطف الله تعالى بعبده أنه هداه يعني خلق له فِطرة في قلبه يدرك بها الضار من النافع والخير ومن الشر مع دلالات الوحي،
ومن لطف الله تعالى بعبده أن أرسل رسوله محمداً صلى عليه وسلم وأنزل هذا الكتاب وهو القرآن العظيم،
ومن لطف الله تعالى بعبده أن شرع لعباده ما يعينهم على تحقيق عبوديته فشرع لهم الجمعة والأعياد وشرع لهم الاجتماع في الحج وشرع لهم الصلوات الخمس في المساجد ليقتدي بعضهم ببعض ولينافس بعضهم بعضاً في الدرجات العالية فهذا من لطفه تبارك وتعالى، تصور لو أن الإنسان يدخل في الإسلام ولكنه ما يرى أحداً من المسلمين إلا نادراً ما فيه اجتماعات عامة لربما ما ينشط الإنسان للخير لكن لما شرع الله لنا مجالس العلم وحِلَق الذكر والجُمَع والأعياد وصلاة الجماعة وصلة الرحم والتعاون على البر والتقوى فهذا من لطفه تبارك وتعالى بعبده.
وأيضاً من لطف الله تبارك وتعالى بنا وبعباده المؤمنين أنه يصرف عن العبد كل سبب يحول بينه وبين الهداية أو يدخل عليه الشقاء -أحياناً- يزوي الله جل وعلا الدنيا عن العبد فلربما يتبرم بعض الناس لماذا زويت عني الدنيا؟! وينسى ما جاء في المسند «إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين والإيمان إلا من أحب» فمن أعطاه الله الدِّين والإيمان فقد أحبه. فيصرف الله جل وعلا كل سبب يحول بين العبد وبين طاعة الله وعبادته، يصرف عنه أحياناً الرياسة يصرف عنه المال لأنه قد يؤخره عن المراتب العالية أو يحرمه من مراتب عالية في الجنة ولهذا قال بعد ذلك (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)
ومن لطفه سبحانه وتعالى أن يفرّج كُرب المكروبين وييسر أمور عباده المؤمنين ويجيب دعوة الداعين،
ومن لطفه سبحانه وتعالى بعبده أنه لطف به وهو جنين في بطن أمه ثم عطّف عليه قلب الأم والأب إلى أن نشأ، وهكذا أنواع اللطف لا تُحصى.
ولهذا أحياناً العبد يمرض فيريه الله عز وجل قدرته ثم يبدئ لطفه لعبده فيشفيه وهكذا في أمور كثيرة في أحوال الأمم والأفراد والإنسان في نفسه وفي غيره أيضاً (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) ولهذا ذكر الله الرزق بعد ذلك (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ).
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) هذه الآية الكريمة تشبه الآية في سورة الإسراء في قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)، وتشبه الآية في سورة هود في قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)).
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الحرث في اللغة: هو الكسب، يقال: هو يحرث لعياله ويحترث يعني يكتسب ومنه سُمّي الرجل حارثاً ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح «خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمّام» من الهِمّة ومن الحراثة. والمعنى: من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة فإن الله جل وعلا يضاعف له ذلك الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويزيده توفيقاً وإعانة وتسديداً وتسهيلاً، (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا) يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا ومتاع الدنيا فإن الله تعالى يعطيه ما يريد من الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق -والعياذ بالله-. قال قتادة: "إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا". وقد جاء في السنن: (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك). فلا تجد أحداً -كائناً من كان- تكون مراقبة الله تعالى نصب عينيه ومُهتم بعبادة الله وأداء فرائض الله، لا تكاد تجد هذا الصنف من الناس يشعر بعِوز وفقر ومسكنة أبداً، إما أن يصب الله تعالى رزقه وإما أن يجعل مع صب رزقه يجعل غناه في قلبه. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيح: «ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس». وليس معنى هذا أن الإنسان لا يبذل الأسباب في المعاش، لا، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15] لكن المراد أن الإنسان لا يتخطى الحدود الشرعية ولا يجعل الدنيا الدنيّة تتغلب على الهدف العظيم الأسمى الأكبر الذي خلق من أجله وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ولهذا قال الله هنا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).
ثم قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لما بيّن سبحانه وتعالى ما يجب بيانه في أمر الدنيا والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الذي يوجب النار فقال (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ) وهذا استفهام تقرير وتقريع والضمير يعود على هؤلاء الكفار أو إلى الشركاء (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) ما لم يأذن به الله من الشرك والمعاصي فمن ندب الناس إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
(وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وهي تأخير عذابهم حيث قال تعالى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) [القمر:46] (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهم المشركون (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة كما قال تعالى (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [الرعد:34].
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) فهم على وجلٍ وخوف عظيم جداً مشفقين مما كسبوا ولما كان الشخص المشفق الخائف لا يدري عن الشيء هل يقع وإلا ما يقع قال الله (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أحياناً الشخص إذا كان مشفق، إذا كان الشخص مشفقاً خائفاً من أمر من الأمور لا يدري هل يقع وإلا ما يقع يبقى الاحتمال قائماً لكن الله سبحانه وتعالى أكد في هذه الآية الكريمة أنهم لا مناص لهم من العذاب فقال (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) جازم لئلا يتطرق إلى ذهن السامع أو القارئ أنه ربما يقع العذاب بهم أو لا يقع، فقال (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) لا محالة فهو نازل بهم العذاب.
ثم لما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين كما هي طريقة القرآن الكريم فقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)
ذلك هو الفضل الكبير الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول لمعرفة حقيقته. (ذَلِكَ الَّذِي) "ذلك" يعني الإشارة هنا إلى الفضل الكبير، أي يبشرهم به، ثم وصف العباد بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) جمعوا بين الايمان والعمل الصالح. (قُلْ) يا محمد لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلاً ولا نفعاً (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وقد جاء في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد عن طاووس قال: سأل رجل ابن عباس عن قول الله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال سعيد بن جبير: قرابة محمد صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: عجِلتَ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بطنٌ من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم قرابة فنزلت (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة منفعة أو عاجل دنيوي أو شيء إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم فقط وذلك أن تكفوا أذاكم عني، فإن لم يكن كف الأذى بسبب أني رسول الله ونبيه فعلى الأقل يكون كف الأذى لأني من أقاربكم، وقد كانت العرب في الجاهلية كانوا يعظِّمون الرحم ويرون للرحم والقرابة مكانة ومنزلة. فالله تعالى يقول (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وهذه الآية الكريمة يحاول أن يتعلق بها أو يستدل بها أناس في غير دليلها ولهذا ذكر ابن القيم قال: "استدل شيعي على الوصية لأهل البيت بهذه الآية فأجيب بأن قيل هذه وصية بهم لا وصية إليهم" فهي حجة على خلاف قول الشيعة لأن الأمر لو كان إليهم لأوصاهم ولم يوصي بهم. طبعاً آل البيت، آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام يجب حبهم وتوليهم والترضي عنهم لكن هنا استدل الشيعي بهذه الآية بالوصية لآل البيت فكان الجواب أن هذه وصية بهم وليست وصية إليهم فهي حجة على خلاف قول الشيعة لأن الأمر لو كان إليهم لأوصاهم ولم يوصي بهم فهنا أوصى بهم فقال (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) وقوله هنا (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) أصل القرف: الكسب والاكتساب، الاقتراف هو: الاكتساب، يعني من يكتسب حسنة نزد له هذه الحسنة حسنة بمضاعفة ثوابها، قيل: المراد بهذه الحسنة هي المودة في القربى، ولكن الأولى أن يحمل على العموم، كل حسنة تقرب إلى الله سبحانه وتعالى يعني عمل صالح تدخل تحت هذه الآية. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) كثير المغفرة للمذنبين (شَكُورٌ) كثير الشكر للمطيعين، فالشكور هو: الذي يقبل القليل من العمل ويضاعفه لصاحبه (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).
ثم قال تبارك وتعالى (أَمْ يَقُولُونَ) (أَمْ) هنا هي المنقطعة التي هي بمعنى (بل) أي بل أيقولون افترى محمد صلى الله عليه وسلم على الله كذباً بدعوى النبوة وهذا إنكار توبيخ ومعنى افتراء الكذب اختلاقه. أجاب الله سبحانه وتعالى عن هذه الشبهة بقوله (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) هم الآن يقولون أن محمداً عليه الصلاة والسلام كذب على الله وافترى على الله فقال الله: إن (يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) وهنا الختم على القلب بمعنى أنه ينسى القرآن، إنه لو فعل هذا، لو كان الأمر كما تقولون أنه افترى على الله كذب، كان الله ينسيه القرآن وينزِل به نقمته كما قال تبارك وتعالى في سورة الحاقة (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)) فهذا ردٌ عليهم وقد استدل العلماء على إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ولا سيما ممن استدل بهذا الأمر وذكره كثيراً شيخ الإسلام ابن تيمية في "الجواب الصحيح" وابن القيم أيضاً رحمهم الله بأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً عليه الصلاة والسلام ثم كثر اتباعه وواجه المعاندين له ومع ذلك رب العالمين يؤيده وينصره وأعطاه من الآيات أكثر من ألف آية ودليل من المعجزات والآيات فالله يؤيده وينصره ويعينه ويسدده ومع ذلك تقولون أنه كذب؟ لو كان الأمر كذلك لما مكّنه الله سبحانه وتعالى ولخذله في بدر، ولخذله يوم فتح مكة، ولخذله في كذا، ولما مكنه من جزيرة العرب، ولما مكنه من رقاب أعدائه ولما قتل من صناديد قريش يوم بدر قريب السبعين أو يزيدون وأسر مثلهم فهذا دليل على أنه مرسل من الله تبارك وتعالى بالحق والهدى.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) يمحُ الله الباطل هذه جملة مستأنفة تقرر ما قبلها من نفي الافتراء يعني (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) هنا تمّ المعنى، ثم تستأنف فتقول (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). فكما قال تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) [الأنفال:8] وقال (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81] وهذا هو أرجح الأقوال أن قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يعني إن يشأ الله ينسيك القرآن ويقطع عنك الوحي فهذا هو أرجح الأقوال.
فيه قول آخر روي عن مجاهد (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يعني إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك، وهذا من اختلاف التضاد لأنه لا يمكن أن نقول بالقولين إلا على اعتبار أن الله سبحانه وتعالى يربط على قلب نبيه عليه الصلاة والسلام كما ذكر هذا في آيات متعددة (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) [الحجر] فالله يربط على قلب رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. قال الله (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
ثم قال تبارك وتعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)).
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) وهذا من فضله وكرمه وجوده فهو سبحانه وتعالى التواب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويتوب الله على من تاب» وعند الترمذي «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». والتوبة من الأعمال الصالحة ويجب على الإنسان أن يصبح تائباً وأن يمسي تائباً وقد ندب الله جل وعلا المؤمنين فقال (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31] فالتوبة عمل صالح ولا بد للإنسان أن يجدد توبته ليل نهار، وشروط التوبة عند العلماء:
الإقلاع عن الذنب
والثانية الندم على ما فات
والثالثة العزم على ألا يعود
والشرط الرابع إن كانت تتعلق بحقوق الآدميين فلا بد من إرجاعها إلى أصحابها. والتائب إلى الله بمنزلة عظيمة ولهذا قال الله تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ولما كانت التوبة قد تكون لمصلحة مادية أو أمر دنيوي أو هدف معين قال الله بعد ذلك (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فهو جل وعلا يعلم من الذي يتوب إليه صدقاً وحقاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) [التحريم:8] من الذي يتوب لهدف معين يولي إذا انقضى هذا الهدف وهذا الأمر قال (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) يعلم من كانت توبته صادقة إلى الله وحده ممن كانت توبته ليست كذلك.
وأيضاً (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) فهو سبحانه وتعالى يستجيب لعباده المؤمنين ويعطيهم ما طلبوه ومن ذلك أن التائب إذا دعا وتضرع وسأل الله محى الله جميع السيئات والخطايا كما قال تعالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)) [الفرقان].
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يزيدهم على ما طلبوه منه أو على ما يستحقونه من الثواب تفضلاً منه جل جلاله فهم يشفعون في إخوانهم ويتبوؤن المنازل العالية في الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه وجوده والكافرون مقابل المؤمنين هؤلاء الكفار (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).
ثم قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) لو وسع عليهم الرزق لبغوا في الأرض ولعصوا وبطروا النعمة وتكبروا فلذلك من حكمته سبحانه وتعالى أن يتفاوت العباد في الأرزاق (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21] والله يقبض ويبسط فهو سبحانه وتعالى يوسع الرزق على بعض عباده يعطيه لحكمة، كما أنه يقبض الرزق عن بعض العباد لحكمة ابتلاء وامتحان فهو لا يُسأل جل وعلا عما يفعل وهم يسألون.
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)) [العلق] (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) أي ينزل من الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته وما تقتضيه حكمته البالغة سبحانه وتعالى. (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ) بأحوالهم وما يصلحهم (بَصِيرٌ) بهم من توسيع الرزق وتضييقه فيقدّر لكل أحد ما يصلح حاله ويكفه عن البغي في الأرض.
ثم قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) وهو المطر وهو أنفع أنواع الرزق وأعمّ أنواع الرزق فائدة وأكثر أنواع الرزق مصلحة. (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) أي من بعد ما حصل عندهم اليأس من نزوله، ولهذا قال رجل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أصابنا القحط والجهد حتى كدنا أن نيأس قال أبشر جاء الغيث (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) فالله تبارك وتعالى من رحمته بعباده أن يريهم ضعفهم، وهذا المطر النازل من السماء هو حياة للزروع، حياة للأبدان، حياة للناس ومعاشهم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك:30] ، يُذكر أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله -يقول ابن-ه كان أبي إذا أنزل الدلو في البئر وخرج ملآن قال: الحمد لله. يقول فقلت: يا أبي على أي شيء تحمد الله رأيتك كلما أنزلت الدلو في البئر ثم (كلمة غير واضحة) فرأيت الدلو ملآن بالماء قلت: الحمد لله، قال: يا بني أما سمعت الله يقول (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك:30] الله أكبر فهم دقيق!
هذا المطر النازل من السماء إذا نزل أروى الأرض، وأنبت الله به أنواعاً من النباتات، وأزال الله به الأتربة والغبار عن الناس، ثم نزل وصار في هذه الأرض يستخرجه العباد ويشربون منه ويحيون (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30] وقال جل وعلا (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70))[الواقعة].
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) جاء في الحديث: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب خيره» وفي رواية: «وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب». كُن فيكون. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله واقفاً مع سليمان بن عبد الملك في عرفة فجأة نظر إلى السماء فانتشر السحاب ثم رعدت ونزل المطر في الحال فقال سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: هذا المُلك، كُن فيكون، هذا المُلك، فتبارك الذي بيده الملك (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34] لا يدري متى يجيء المطر إلا الله. (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
ثم قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) فهذه من الآيات العظيمة الدالة على خلقه سبحانه وتعالى وكمال قدرته والموجبة لتوحيده خلق السماوات والأرض خلقها مع هذه الكيفية العجيبة كما قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [غافر:57]. (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) من هذا الخلق العجيب هذه البحار، هذه الأنهار، هذه الجبال، هذه الدواب، هؤلاء الإنس والجن، وهذه الأشجار، هذه الأمور العجيبة (وَهُوَ عَلَى) حشرهم يوم القيامة (عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ).
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فكل بلاء يصيب العبد وكل قحط إنما هو بذنوب العباد، ورضي الله عن أسماء بنت أبي بكر كانت تخشى شؤم الذنب ووبال المعصية فإذا أصابها الصداع وضعت يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفر الله أكثر، وفي المسند: «إن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه». أخذت هذا الأدب من قول الله (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فكم للذنوب والمعاصي من الآثار السيئة على الهواء، وعلى الأرض، وعلى النبات، وعلى نقص البركات، ونقص الأرزاق، وعلى الأجسام، وعلى غيرها.
(وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) وهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) تدل على هوان الخلق على الله مهما تجبروا ومهما تكبروا فإن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء من أحوالهم بل هو على كل شيء قدير (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11] . نسأل الله أن يرزقنا وإياكم فهماً في كتابه وفي سنة نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين.
-------------------------------------
المصدر : ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق