الاثنين، 24 فبراير 2014

تفسير سورة يس (1 -54)/ دورة الأترجة

د. عبدالرحمن بن معاضة الشهري
 

 
المجلس الأول
{يس ﴿١﴾ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ﴿٢﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٣﴾ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٤﴾ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿٥﴾ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴿٦﴾ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٧﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 سورة يس هذه السورة من السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بزمن طويل.
/ وسميت سورة يس بهذا الاسم لابتدائها بهذين الحرفين "ي - س" فـ "يس" تعتبر من الحروف المقطعة مثلها في ذلك مثل (ألم) ومثل "حم" ونحوها من الحروف التي وردت في أوائل السور التي ابتدأت بهذه الحروف المقطعة.
/ وسورة "يس" من السور المثاني التي ورد فيها الحديث الذي ورد عن الإمام أحمد عن واثلة بن الأصقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت مكان التوراة السبع - يعني السبع الطوال- وأعطيت مكان الزبور المئين -يعني السور التي تزيد آياتها عن مئة آية - وأعطيت مكان الإنجيل المثاني -وهي هذه السور منها سورة يس- وفُضِّلت بالمفصل) - والمفصّل هو -على الصحيح- من سورة ق إلى آخر سورة الناس.
 وفي هذا الحديث فائدة يمكن أن يستفيد منها الباحث وطالب العلم وهو أن يوازن بين ما اشتملت عليه هذه السُور وبين ما فضّلت عليه يعني مثل يقول النبي صلى الله عليه وسلم (وأعطيت مكان الإنجيل المثاني) والمقصود بالمثاني هنا السور أي السور المثاني وليس المقصود بها هنا في الحديث سورة الفاتحة كما في حديث أبي سعيد بن المعلَّم فيوازن بين ما اشتملت عليه هذه السور المئين والطوال والمفصّل وبين ما فضلت عليه من التوراة والإنجيل خاصة التوراة والإنجيل لأنه موجود جزء منها وإن كان محرّفاً لكن يمكن للباحث أن يستفيد منه.
ومما ورد في فضل سورة يس على وجه الخصوص ما أخرجه ابن حبان عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له) وهذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، وهناك أحاديث ضعيفة وبعضها موضوع في فضل سورة "يس" من أمثال قولهم:
 (أن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليهم وطوبى لألسن تتكلم بهذا وطوبى لأجوفٍ تحمل هذا) وهذا حديث ضعيف باطل.
وأيضاً الحديث الذي روي في (أن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس و من قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءت القرآن عشر مرات) فهذا الحديث موضوع وباطل -أنا أذكره لكم حتى تتنبهوا إلى أنه باطل-
وأيضاً (من قرأ يس ابتغاء وجه الله -وقد ذكر في آخرها- فأقرأوها عند موتاكم) وبعض الناس يفعل هذا وهذا حديثُ ضعيف لا يصح.
وهذه السورة كما قلت لكم سورة مكية ونحن عندما نقول لكم سور مكية نراعي أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وهو في حالة من الضعف والاستضعاف ولذلك جاءت هذه السورة لموضوعات معينة كان القرآن الكريم يركّز عليها في العهد المكي.
ويمكن أن نقول أن سورة يس تناولت ثلاث قضايا أساسية نعتبرها محاور أساسية لسورة "يس" :
المحور الأول: إثبات البعث وهذا هو موضوعها الأساسي إثبات البعث والجزاء والنشور يوم القيامة.
والموضوع الثاني: هو قصة أهل القرية وهي متصلة بهذا المحور أيضاً.
والمحور الثالث: هو الأدلة والبراهين على توحيد الله سبحانه وتعالى وسوف تأتي معنا في أواخر السورة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) إلى آخره.
  فهذه ثلاث محاور أساسية الإيمان بالبعث وقصة أصحاب القرية وتوحيد الألوهية أو الأدلة والبراهين على وحدانية الله سبحانه وتعالى.
 وقد ورد في قوله سبحانه وتعالى (إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا۟ وَءَاثَـٰرَهُمْ) في أول السورة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال "كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة بعيده عن المسجد فأرادوا النُقلة إلى قرب المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن آثاركم تُكتَب فلا تنتقلوا) وهذا أخرجه الترمذي.
طبعاً عندما يذكر العلماء هذا الحديث نحن نقول أن السورة مكية أليس كذلك؟ ثم نقول هذه الآية سبب نزولها حادثة في المدينة فكيف يمكن أن نجمع بين هذا الكلام؟
هذا قول: أن هذه الآية يمكن أن تكون مستثناة من السورة فتكون هذه الآية نزلت في المدينة وباقي السورة نزلت في مكة، هذا قول وبعض العلماء يقول ذلك.
وإما أن نقول: أن السورة كاملة مكية ولا يصح أن نستثني آية أو جزءاً من السورة فنقول أنه نزل في المدينة إلا بدليل صحيح وهنا ليس هناك دلالة.
 ولكن غاية ما يمكن أن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم استشهد بهذه الآية لبني سلمة عندما أرادوا أن ينتقلوا من مكان بعيد إلى مكان قريب من المسجد فقال لهم أبقوا في أماكنكم حتى يكتب الله آثاركم وأنتم تأتون إلى المسجد وتنصرفون واستشهد لهم بقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) يعني وآثار أقدامهم هنا.
 وقد ابتدأت السورة بهذه الأحرف المقطعة وقد مر معكم في المجالس السابقة الحديث عن الأحرف المقطعة وكلام العلماء فيها طويل ولا يوجد دليل صحيح صريحٌ قاطع يدل على معنى واحد لهذه الأحرف المقطعة ولو ورد دليلٌ صريحٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الأحرف المقطعة لكنا توقفنا عنده لكنه لم يرد فيها دليل فالعلماء يجتهدون في معرفة الحكمة من هذه الأحرف المقطعة في بداية السور. والأقوال كثيرة من أوجهها إن صح التعبير ومن أجودها القول الذي يقول: إن الله سبحانه وتعالى ابتدأ هذه السور بالأحرف المقطعة للتحدي والإعجاز للعرب الذين يخاطَبون بهذه الأحرف وبهذه السور فكأنه يقول لهم هذا القرآن الذي أنزلته على النبي صلى الله عليه وسلم هو مكون من هذه الأحرف التي تعرفونها ألف, لام، ياء, سين, نون, إلى آخره.
وهناك أقوال أخرى بعضهم يعتبرها قسم يعني بعضهم يذكر لها معاني أخرى لكن كما قلت لكم هي كلها أقوال اجتهادية وليس هناك قولٌ يجب المصير إليه.
  ثم يقسم الله تعالى بالقرآن (يسٓ ﴿1﴾ وَٱلْقُرْءَانِ ٱلْحَكِيمِ ﴿2﴾ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿3﴾)) فهو يقسم بهذا القرآن العظيم ويصفه بأنه حكيم أي مُحكم شديد الإحكام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وجواب القسم (إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ) لأن المشركين الذين يُخاطبون بهذه الآيات ينكرون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته والله سبحانه وتعالى يقسم على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من المرسلين فقال (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٣﴾ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٤﴾) والصراط في اللغة: هو الطريق المستقيم ووصفه هنا بأنه صراط مستقيم مع أن الصراط في اللغة هو الطريق المستقيم فلو قال "إنك من المرسلين على صراط" لدلّ ذلك أنه مستقيم لكن الله سبحانه وتعالى أكّد على هذه الدلالة بهذا الوصف المغاير فقال "على صراط مستقيم" كما في سورة الفاتحة في قوله (ٱهْدِنَا ٱلصِّرَ‌ٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ) للإشارة إلى أنه هذا هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى في حين أن طرق الضلالة والكفر كثيرة ولذلك قال (وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۦ) [الأنعام:153] فالسبيل واحد سبيل الجنة.
 قال (عَلَىٰ صِرَ‌ٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ ﴿4﴾ تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ)
(تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ) إشارة إلى القرآن الكريم أنه منزّل من الله سبحانه وتعالى ولاحظوا معي الوصف في قوله (تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ) وقوله في وصف القرآن (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) وهذه الأوصاف مهمة وينبغي أن يتوقف القارئ عندها لماذا يصف الله سبحانه القرآن الكريم بأنه حكيم ومحكم وشديد الإحكام؟
حتى يطمئن المسلم إلى أن هذا القرآن الذي بين يديه ليس فيه نقص بوجه من الوجوه لأنهم كانوا يطعنون في هذا القرآن وسوف يأتي معنا أنهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر وبأن القرآن الكريم عبارة عن شِعر.
 ثُم قال الله سبحانه وتعالى (تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ) لاحظوا الوصفين: (العزيز) مأخوذ من العزة وهي القوة والمنعة فالله سبحانه وتعالى عزيز لا يغالبه أحد ولا ينازعه في ملكه أحد، (الرحيم) فهو مع عزته وقوته سبحانه وتعالى ومنعته فهو رحيم بخلقه ولذلك هذا القرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى ما أنزله إلا رحمة بخلقه ولذلك لاحظوا أنه في سورة طه قال (طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) وإنما أنزلناه عليك لتسعد وهذا هو مقتضى الرحمة التي تظهر أيضاً في هذا الاسم العظيم.
 ثم قال الله سبحانه وتعالى مُبيناً الحكمة من إرسال الرسول ومن إنزال القرآن فقال (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ) وهذا فيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بُعث على حين فترة من الرُسُل أليس كذلك؟ الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث على حين فترة من الرُسُل وانقطاع من الرُسُل بدلالة هذه الآية وبدلالة الحديث وقول الله تعالى هنا (مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ) وهذا فيه يعني مقتضى الإنصاف من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء فهو يقول أنهم لم يؤمنوا لأنهم كانوا في غفلة عن هذا الوحي وعن هذا الهدى، فهو إشارة لهم يعني اعتذار لهم بأن ما أنتم فيه من الكفر ومن الشرك ومن الضلال سببه أنه لم يأتكم رسول يبين لكم وفيه دعوة لهم إلى الإيمان وإلى الاستجابة فقال (مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ) لكن لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أن هناك من هؤلاء الكفار والمشركين من سوف يصرُّ على كفره وعلى تكذيبه ولا ينفع في هؤلاء دعوة رسول ولا رفق في دعوة لأن الله قد كتب عليهم الكفر فلا يؤمنوا من أمثال أبي لهب مثلاً وأبي جهل ونحوهم فقال الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰٓ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) يعني حقّ عليهم القَدَر في الكتاب قبل أن يخلق الله السموات والأرض بأن هؤلاء لن يؤمنوا ولو جئتهم بكل آية. وفي هذا أولاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم كثيراً ويحزن عليه الصلاة والسلام ويضيق صدره لتكذيب هؤلاء فالله سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم (فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ) [الأعراف:2]
وقال (فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌۭ نَّفْسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَـٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا۟ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفًا﴾[الكهف:6] ونهاه سبحانه وتعالى عن الحزن وعن الأسى على أمثال هؤلاء المكذبين
وقال (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا ٱلْبَلَـٰغُ) [الشورى:48]
(وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ﴾ [العنكبوت:18] ما على الرسول إلا البلاغ، وهكذا.
 فوظيفة النبي صلى الله عليه وسلم هي البلاغ المبين الواضح وأما استجابة هؤلاء أو عدم استجابتهم ليست من شأن النبي صلى الله عليه وسلم وهي كذلك ليست من شأن أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما عليك أن تبيّن وتوضّح الحق بدليله ثم لا عليك بعد ذلك إن استجاب الناس أو لم يستجيبوا.
 الله سبحانه وتعالى يصف هؤلاء الذين كذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم فيقول (لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰٓ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ولاحظوا أنه يقول على أكثرهم ولم يقل عليهم للإشارة إلى أن هناك من استجاب. وأيضاً في هذه الآية فائدة: أن المستجيبين دائماً أقل من المعرضين ولذلك قال الله (وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف:103] ولذلك تجدون العالم اليوم كم عدد المسلمين فيهم؟ نسبتهم قليلة أليس كذلك؟ مقارنة وموازنة بنسبة غير المسلمين من النصارى واليهود والبوذيين وغيرهم، فتجد النصارى الآن بالمليارات تجد الهندوس كذلك ولكن المؤمنين نسبة قليلة، ثم الذين هم على المنهج الصحيح هم أقل في نسبة المسلمين أيضاً ليس كل من ينتسب إلى الإسلام هو على الصراط المستقيم الذي ذكره الله في هذه السورة وبالتالي قوله سبحانه وتعالى (لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ) في الأزل والقدر (عَلَىٰٓ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
 ثم وصفهم الله سبحانه وتعالى قال (جَعَلْنَا فِىٓ أَعْنَـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلًا فَهِىَ إِلَى ٱلْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ) وهذه صورة يصور بها الله سبحانه وتعالى فيها المُعرِض المكذِّب بأنه كأنه مغلول عن الاستجابة قد غلّ الله أيديهم هكذا ثم غلّها إلى أعناقهم هكذا فأصبحت رؤوسهم مرفوعة لأنها مغلولة أيديهم وهذا في اللغة هو الإقماح (فَهُم مُّقْمَحُونَ) أي مرفوعة رؤوسهم هذا هو الإقماح. فتخيّل مثل هذا مغلول عن الاستجابة كما يغل مثل هذا الشخص الذي تربط يديه إلى بعضهما ثم تربطان إلى عنقه فهو لا يستطيع أن يتصرف ولا يتحرك ولا يتحكم في يديه فكذلك هؤلاء الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قد منعهم كفرهم والقدر الذي قدره الله عليهم ومنعهم من الاستجابة فلن يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ) والإقماح أن يرفع الإنسان رأسه إلى السماء هكذا هذا هو الإقماح.
(وَجَعَلْنَا مِنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّۭا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّۭا فَأَغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) أيضاً هنا تأكيد لهذا المعنى وهو أشبه ما يكون بضرب المثل كما يقول قتادة وغيره وهو أن الله سبحانه وتعالى حال بين هؤلاء الكافرين المُعرِضين وبين الإيمان كما يحول السدّ بين الإنسان وبين الوصول إلى مراده فيقول (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) يعني من أمامهم سداً (وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) وكان ابن عباس يقرأها بالعين فيقول (فأعشيناهم) من العَشى (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ).
أحد الإخوة الحضور يسأل يقول: الله سبحانه وتعالى عدلٌ لا يظلم الناس شيئاً وهو سبحانه وتعالى منزّه عن الظلم فكيف الله سبحانه وتعالى يقدِّر على هؤلاء في الأزل أنهم من أهل جهنم؟ وبالرغم من أنه يُرسل إليهم الأنبياء ولكنه يقول للنبي هؤلاء لن يؤمنوا. وهذه مسألة تتعلق بالقضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى قد كتب مقادير الخلائق على الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض وهذا الإيمان ركنٌ من أركان الإيمان الستة كما تعلمون أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسُله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشرّه فالإيمان بالقدر ركنٌ من أركان الإيمان نحن نؤمن به ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام عندما احتج على آدم " فقال لآدم عليه الصلاة والسلام لماذا أخرجتنا من الجنة؟ فقال له آدم عليه الصلاة والسلام: يا موسى كيف تلومني على شيء قد كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السموات والأرض؟! فحجّ آدم موسى" طبعاً قد تقول ما هي الحكمة؟ نحن نقول الله أعلم، نحن نقول سمعنا وأطعنا لكننا نجزم بأن الله سبحانه وتعالى يعلم من قلوب هؤلاء من الكفر والإعراض ما جعله سبحانه وتعالى يكتب عليهم هذا الكتاب ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للصحابة "إن الله قد كتب المقادير فقدّر للجنة أهلها وقدر للنار أهلها فقال: أحد الصحابة يا رسول الله: فلم العمل إذن؟- يعني ما دام أن الله قد خلق للجنة أهلها وخلق لنار أهلها - فقال النبي صلى الله عليه وسلم - كلمة مهمة وهي التي تهمنا- قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له" بل وفي بعض الأحاديث أحاديث في غاية التخويف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يعمل الرجل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل لأهل النار فيدخلها ويعمل أحدهم بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". ولذلك نحن نقول آمنا بالله سبحانه وتعالى ونحن نحرص على أن نعمل بعمل أهل الجنة ونسأل الله أن يجعلنا الله وإياكم من أهل الجنة فهذه القضايا قضايا غيبية لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها ولولا أن الله أخبرنا بها في هذا الكتاب ما علمنا عنها شيئاً وهذا من فضل الله علينا ولذلك الإيمان بالقضاء والقدر يستلزم الرضا والتسليم والانقياد والطمأنينة والصبر والاحتساب وهذه المعاني كلها يفتقر إليها الكفار الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر ولا يؤمنون بالله ولا يؤمنون باليوم الآخر وهذه من أعظم المعاني التي ينبغي أن تترسخ في نفس المؤمن من قراءته لكتاب الله سبحانه وتعالى وتأتي على الإنسان أشياء لا يستطيع عقله أن يتصورها لكن الله سبحانه وتعالى ذكر طرفاً منها وأغفل عنا أشياء وسوف تأتي الآن ذكر بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والرسل الذين لا نعرف عن تفاصيلهم شيئاً وهناك بعض الرُسُل ذكر الله لنا طرفاً منهم وبعضهم ذكر تفاصيل كثيرة عنهم لحكمة.
  نعود إلى قوله سبحانه تعالى (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) هذا إشارة أيضاً أخرى إلى شدة تكذيب هؤلاء وإعراضهم وأنهم لا يهتدون إلى الحق فهي أيضاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف على نفسه عليه الصلاة والسلام من إعراض هؤلاء وتكذيبهم.
ثم يقول الله سبحانه تعالى (وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فيقول يا محمد يستوي في حال هؤلاء أن تدعوهم أو لا تدعوهم (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍۢ وَأَجْرٍۢ كَرِيمٍ) يقول الله سبحانه وتعالى هؤلاء المعرضون يا محمد لا يستجيبون لك ولو أنذرتهم وأكثرت في إنذارهم وإنما يستجيب لك يا محمد من خشي الرحمن بالغيب ومن اتبع الذكر والمقصود بـ"ومن اتبع الذكر" أي من آمن بهذا الكتاب  (وَخَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ) وهاتان صفتان من صفات المؤمن الكثيرة طبعاً ولكن هاتان الصفتان ذكرهما الله وخصّهما هنا وهي (مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ)   اتباع الذكر الإيمان بالقرآن الكريم وما جاء فيه والله سبحانه وتعالى سماه ذكراً لأن الله سبحانه وتعالى جعله ذكراً لنا نذكر الله به فهو من أعظم الأذكار قرآءة القرآن، والأمر الثاني: أن الله جعله ذكراً حسناً للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال في سورة الزخرف (وَإِنَّهُۥ لَذِكْرٌۭ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف:44] فهي تحتمل هذا وتحتمل هذا المعنى.
 قال (مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ) آمن بالقرآن الكريم (وَخَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ) وهذه الصفة من أخصّ صفات المؤمنين الصادقين وهي الإيمان بالغيب. نحن الآن أنت تسأل وتقول كيف أن الله سبحانه وتعالى يقدِّر هذا؟ نحن نؤمن به ثقة وتصديقاً وإيماناً بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بجهنم ونؤمن بالجنة ونؤمن بالأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام وهذا كله إيمان بالغيب. ونؤمن بمعجزة موسى أليس كذلك؟ العصا ونحن ما رأيناها لكنه تصديق لهذا القرآن وتصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا كله من الغيب ولذلك جعله الله من علامات المؤمنين وأكثر من ذكره في القرآن الكريم صفةً للمؤمن الصادق ولذلك قال الله في سورة البقرة في أولها (المٓ ﴿1﴾ ذَ‌ٰلِكَ ٱلْكِتَـٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِۛ هُدًۭى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ) أول صفة الذين يؤمنون بالغيب لكن الذي لا يؤمن إلا بما يشاهد سوف يندم في الآخرة عندما يرى جهنم التي كان يتوعّد بها فيقال لهم (هَـٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [يس:63] أو (التي كنتم بها تكذبون) لكن ما عاد ينفع الإيمان. ولذلك لاحظوا حتى ستأتي معنا قصة الشمس كيف أن الشمس تغرب من مغربها وتشرق من مشرقها لكن سوف يأتي يوم تشرق من المغرب، طبعاً هذا منظر غير مألوف عندما يراها الناس يؤمنون لكن بعد فوات الأوان ولذلك هذه من علامات الساعة الكبرى ولذلك نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين بالغيب.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) يعني الله سبحانه وتعالى هو المتفرِّد بهذا وهو الخالق وهذا توحيد الربوبية نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المُحيي المميت أليس كذلك؟ توحيد الله سبحانه وتعالى بأفعاله والمشركون من أهل الجاهلية كانوا يؤمنون ببعض هذه الأمور فيؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ) [لقمان:25] فهم يؤمنون بأنه الخالق لكنهم لا يرون أنه يستحق العبادة بمفرده فقط وإنما يشركون معه غيره وإذا قيل لهم في ذلك قالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3] لأننا نشاهدهم هذه الأصنام نشاهدها فنحن ننشط في عبادتها والسجود لها والنذر لها وهي تقرّبنا إلى الله أنظر إلى هذا الفهم المعكوس! والله سبحانه وتعالى ليس بيننا وبين واسطة ولا حجاب حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا واسطة بين الله وبين خلقه ولذلك قال الله سبحانه وتعالى قال في سورة البقرة (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى) ولم يقل "قل لهم إني قريب" وقال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ) خاطبهم مباشرة (أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا۟ لِى وَلْيُؤْمِنُوا۟ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186] وهذا من المعاني العظيمة التي رسّخها الإسلام في نفوس أتباعه أنه ليس بينك وبين أحد واسطة فإذا أدرت أن تتوب فتُب إلى الله وتحج له وتذبح له وتنذر له لا تشرك معه غيره ومن أشرك مع الله سبحانه وتعالى معه غيره تركه الله سبحانه وتعالى وشِركه.
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) هذا المعنى فيه بشارة أن الله سبحانه وتعالى يكتب أعمالنا كلها ما عملناه من الخير فهو مرصود ولذلك (مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًۭا يَرَهُ) [الزلزلة:7] في صحيفته يوم القيامة (وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَـٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةًۭ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا۟ مَا عَمِلُوا۟ حَاضِرًۭا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًۭا﴾ [الكهف:49] فالله يقول هنا (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) يعني من الأعمال (وَآثَارَهُمْ) قال العلماء: "وآثارهم" أي ما بقي بعد موتهم من أعمالهم التي كانوا هم سبباً فيها يعني مثلاً واحد يعمل عملاً من أعمال الشرّ ويموت ولكن هذا العمل يستمر بعد موته كمن يدعم يعني القنوات الفضائية التي تفسد أديان الناس وأخلاقهم فإنه يبقى إثمها بعد موته ونحو ذلك من الأعمال التي تعتبر سيئة جارية يعني على وزن صدقة جارية. فالله عز وجل يقول (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا۟ وَءَاثَـٰرَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ فِىٓ إِمَامٍۢ مُّبِينٍۢ) والإمام المبين هو: الكتاب الذي يُكتب فيه عمل العبد كله يأتي يوم القيامة ووضع هذا الكتاب وهذا الكتاب هو الإمام المبين اسمه الإمام المبين لأنه كما قال تعالى في سورة أخرى (يَوْمَ نَدْعُوا۟ كُلَّ أُنَاسٍۭ بِإِمَـٰمِهِمْ) [الإسراء:71] فبعض العلماء فسرها يعني ندعو كل واحد وكتابه معه (وَكُلَّ إِنسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِى عُنُقِهِۦ) [الإسراء:13] وهذا المقطع يمكن أن نستفيد منه فوائد نجملها لكم في أن فيه:
/ تقرير للنبوة (يس ﴿١﴾ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ﴿٢﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٣﴾) في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته. 
/ وفيه بيان الحكمة من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) وليست هذه الوظيفة الوحيدة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بشير ونذير لكنه خصّ هنا النذارة لأن المخاطبين أحوج إلى النذارة منهم إلى البشارة.
/ وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث على فترة من الرسل كما تقدم معنا (مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)
/ ومنها أن الذنوب تقيّد صاحبها وتحول بينه وبين الأعمال الصالحة كما حالت الذنوب وحال الشرك بين هؤلاء وبين الإيمان كما الله في آية أخرى (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ:54]
/ وفيها أيضاً بيان أن من سنّ سنة حسنة فله أجرها وكذلك من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها.
/ ومن الفوائد أيضاً تقرير عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر وأن كل شيء كتاب مكتوب وهو الذي عبر عنه الله في هذه الآية بالإمام.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴿١٣﴾ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴿١٤﴾ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ﴿١٥﴾ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴿١٦﴾ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿١٧﴾ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿١٨﴾ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴿١٩﴾}
تلاحظون الآن بعد عرض قضية الوحي والنبوة والرسالة في مقدمة السورة ذكر الله هنا مثلاً واقعياً لتكذيب هؤلاء وإيمان هؤلاء وإرسال الرُسُل. الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة كان يتعرّض لتكذيب ولسخرية ولاستهزاء فكان عليه الصلاة والسلام بأمس الحاجة للمواساة والتثبيت وهذا من حِكَم نزول القرآن مفرّقاً على النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك قال (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءَانُ جُمْلَةًۭ وَ‌ٰحِدَةًۭ) [الفرقان:32] قال الله سبحانه وتعالى (كَذَ‌ٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَـٰهُ تَرْتِيلًۭا) فالله سبحانه وتعالى يقصّ على النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القصص ليثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وهي كذلك مثبتة لأفئدة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فنحن عندما نقرأ الآن كيف أن الله أرسل الرسل لهؤلاء المكذبين فقتلوا هؤلاء وكذبوهم ثم ذكر الله لنا عاقبة المؤمنين وعاقبة المكذبين في الآخرة هذا يزيد إيماننا ويزيد يقيننا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وثباتنا على هذا الدين وكثرة لجوءنا إلى الله سبحانه وتعالى للتثبيت وإلى آخره.
 يقول سبحانه وتعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴿١٣﴾ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)
أولاً: أين هي هذه القرية؟ الجواب: الله أعلم تجدون في بعض كتب التفسير أنها أنطاكية وهذا غير صحيح لأن هذه القصة وقعت قبل بعثة عيسى عليه الصلاة والسلام بأزمنة طويلة وبعض المفسرين يقول (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) أن المقصود بها قرية أنطاكية وأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام هو الذي أرسل هؤلاء الرسل فأرسل اثنين ثم أرسل الثالث (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) يعني قوّيناهم بشخص ثالث فنقول هذا الكلام غير صحيح لأسباب:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى يقول (إِذْ أَرْسَلْنَا) نحن ولم يقل "إذ أرسل عيسى هؤلاء الرُسُل" وفي القرآن الكريم لم يذكُر الله سبحانه وتعالى الرسل إلا الذين أرسلهم هو سبحانه وتعالى، ذكر نوح وذكر موسى وعيسى ومحمد وإبراهيم هو الذي أرسلهم ولم يذكر في القرآن الكريم رسولاً أرسله غيره ولذلك القول أن هؤلاء الرُسُل أرسلهم عيسى غير صحيح والقصة قد وقعت قبل عيسى وأنطاكية لم تدخل كاملة في دين عيسى إلا بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام فجاءها اثنان من أتباع عيسى وآمنوا بهم وكانت هي أول قرية آمنة بعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. وأنطاكية تعتبر تقريباً الآن ما بين سوريا وبين تركيا قريبة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط تقريباً في سوريا.
فالقول الصحيح أن هذه القرية لا يُدرى أين هي الله أعلم، وهذا فائدة مهمة بالنسبة لنا أن المُبهمات في القرآن الكريم لا فائدة من التصريح بها لأن الحكمة متحققة بدون معرفتها، لا يهمنا هذه القرية هل هي أنطاكية أو دمشق أو بيروت هذه لا تغير من الحكمة والغاية التي من أجلها نزلت الآيات شيئاً. ولذلك يُبهم الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة (وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌۭ يَسْعَىٰ) من هو؟ لا ندري لكن الحكمة متحققة حتى مع جهالة عينه. يقول الله {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴿١٣﴾ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴿١٤﴾ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ﴿١٥﴾ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴿١٦﴾ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿١٧﴾ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿١٨﴾ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴿١٩﴾}
هذه القصة يذكر الله أنه أرسل رسولين هو الذي أرسلهم إلى قرية من القرى فكذب أهل هذه القرية هذين الرسولين فأرسل الله رسُولاً ثالثاً إما معهما أو إما بعدهما حتى يقيم الحُجة على هؤلاء ولكنهم استمروا في تكذيبهم وقالوا (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) يعني تشاءمنا بكم وأنتم أيها الرُسُل وجه شؤم علينا وما يقع في بلادنا من المصائب بسببكم كما كان يقول ذلك المكذبون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم هددوهم بالقتل (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) رجماً بالحجارة أو لنرجمنكم نسبنّكم ونشتمكم والصحيح أنها تدل على المعنيين معاً لنرجمنكم بالحجارة وبالكلام.
(ولَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) تهديد فقال لهم هؤلاء الرُسُل (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) والطائر هو العمل وجزاؤه يقال له طائر كما في قوله (وَكُلَّ إِنسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِى عُنُقِهِۦ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَـٰبًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) [الإسراء:13] أي ألزمناه عمله وجزاء عمله في عنقه. بل أنتم تقولون ذلك (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) يعني هل ترفضون هذه الدعوة لأننا ذكرناكم بالله سبحانه وتعالى وخوّفناكم به؟ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) والإسراف هو: مجاوزة الحد في الأمر فالإسراف في الماء مجاوزة الحد في استخدام الماء, والإسراف في التكذيب هنا هو الطغيان فيه. وهذا المقطع أولاً نستفيد منه فائدة:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قد بعث قبلك يا محمد أنبياء كثيرون.
ثانياً: أنهم لقوا تكذيباً واستهزاء وسخرية كما لقيت أنت.
ثالثاً: أن الذين يؤمنون بهؤلاء الأنبياء وهم ثلاثة آمن بهم رجلٌ واحد سوف يأتي معنا في المقطع القادم.
ونستفيد من هذا المقطع استحسان ضرب المثل فلا حظوا أن الله ذكر لنا كيف أنه بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكذبه قومه ثم ضرب مثلاً حيّاً وقع في الأمم السابقة.
ومن فوائد هذه الآيات تشابه حال الكفار في التكذيب والإعراض واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه عليه الصلاة والسلام. نتوقف عند هذا الحد ونأخذ سؤالاً على عجل لأننا انتهينا.
 نعم هذا صحيح لا شك بأن الفرق بين من يُرسله الله بنفسه وبين من يرُسِلهُ رسُولهُ فرق كبير هذا نبي وهذا ليس نبياً نعم أحسنت. نختم بهذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المجلس الثاني
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴿٢٠﴾ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿٢١﴾ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٢٢﴾ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ﴿٢٣﴾ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٢٤﴾ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴿٢٥﴾ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴿٢٦﴾ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴿٢٧﴾}
  بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً. (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) لا زال الحديث يتحدث عن قصة أصحاب القرية جاءها هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثلاثة يدعونهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وكل الرسل الذين أرسلهم الله من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى توحيد الله سبحانه وتعالى لا شريك له ولذلك دعوة الأنبياء واحدة (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). ثم يذكر الله سبحانه وتعالى أن أهل القرية قد كذّبوا هؤلاء الرسل، ولا شك أنّ في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني يا محمد أنت واحد وآمن بك كثيرون وكذّبك كثيرون، لكن هؤلاء ثلاثة ولم يؤمن بهم إلا واحد! وهو الذي ذكره الله في هذه الآيات (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى).
أولاً: لاحظوا أنه قال في أول الآيات (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) ثم قال (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) وهي نفسها طبعاً، فيأتي سؤال ما الفرق بين المدينة وبين القرية مع أنها نفسها؟ تماماً كما في سورة الكهف عندما قال الله سبحانه وتعالى في قصة موسى مع الخضر عندما قال (حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) ثم قال بعدها عندما أتى يفسّر له هذه المواقف قال (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) وهي نفس المكان والجدار واحد، فسمّاها قرية هنا وسمّاها مدينة هنا. طبعاً البعض يرى أنهما واحد المدينة والقرية، والبعض يفرِّق فيقول أن القرية أصغر من المدينة وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها لأن قَرَى بمعنى جَمَع، ومنهم من يقول: أن الله سمّاها قرية لأنه عندما جاء موسى والخضر كان يطمعون في كرم أهل القرية، وأهل القرى أهل كرم فلما أشار إلى سبب بنائه للجدار قال (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) والعادة أن الناس في المدن لا يسأل بعضهم عن بعض كما يفعل الناس في القرى لكبر المدينة واتساع المدينة كما حال الناس اليوم، يعني في المدينة تلاحظون الناس ربما لا يعرف الواحد عن جاره الكثير، لكن في القرى لا، يعرف ويسأل ويبحث، فهذا من أوجه التي يذكرها بعض المفسرين وهي على كل حال من مُلَح التفسير وليست من صُلبه، لكنها ملفتة للنظر في هذه الآية أيضاً.
فقال (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) لاحظوا (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) هذا آمن بهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من هو هذا الرجل؟ الله أعلم، بعض المفسرين يقول اسمه حبيب النجار وهذا غير صحيح، وأن حبيب النجار قبل ذلك بقرون في عهد موسى عليه الصلاة والسلام أو بعده والله أعلم لأن هذه مبهمة هذه القصة لا ندري هل هي قبل موسى أو بعده، هي قبل عيسى طبعاً.
فقال (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) فقدّم المكان الذي جاء منه على الوصف للإشارة إلى أنه جاء من مكان بعيد.
 فأولاً: وصفه الله بأنه رجل مدحاً له وثناءً عليه لأنه استجاب لدعوة هؤلاء الرسل،  الأمر الثاني: فيها إشارة إلى حرصه رضي الله عنه على نصرة هؤلاء الأنبياء وعلى دعوة قومه.
 الأمر الثالث: أن فيها إشارة إلى أن دعوة هؤلاء الأنبياء والرسل قد بلغت أرجاء المدينة بدليل أن هذا الذي جاء مسلماً جاء من أقص المدينة فقد بلغه الخبر وطبعاً لا يمكن أن يبلغ الخبر أقصى المدينة إلا وقد بلغ وسطها وأطرافها ولذلك قال (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) ثم جاء وهو يسعى ما جاء وهو يمشي بسكينة وهدوء لحرصه وإيمانه بهؤلاء الرسل عليه الصلاة والسلام.
(قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) يؤكِّد على دعوة هؤلاء الأنبياء ويقول اتبعوا هؤلاء المرسلين ثم يصفهم بوصف وصَفَ الله به معظم أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون على دعوتهم أجراً يدعون إلى الله مجاناً لوجه الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) ولذلك يقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ذكر الأنبياء وأنهم لا يسألون على دعوتهم أجراً إلا موسى وإبراهيم، فموسى وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام لم يذكر الله عنهم هذه الصفة فقال المفسرون لماذا يا ترى؟ لم يذكر الله هذه الصفة عن موسى في دعوته لفرعون وفي دعوته لقومه أنه يدعوهم لا يريد منهم أجراً وكذلك في إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه، فقالوا: السبب والله أعلم -هذا اجتهاد طبعاً- أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يدعو أباه في دعوته ويدعو قومه معه فحياءً من والده الذي ربّاه وكان سبباً في وجوده أن يقول له أنا لا أريد منك أجراً لأنه قد تقدّم فضل الوالد عليه بالولادة والتربية أليس كذلك؟ فلم يقل هذه الكلمة تأدباً مع والده على الرغم من كفره، ولا شك أن تلمُّس أوجه البِّر في مخاطبة إبراهيم لوالده في القرآن الكريم مهمة جداً ومليئة بالفوائد، حتى في سورة مريم (يَا أَبَتِ)، (يَا أَبَتِ)، (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ) إلى آخره. وأما في قصة موسى فإن موسى كان يدعو فرعون، وفرعون هو الذي ربّاه، فموسى كما تعلمون نشأ في بيت فرعون، فهو صاحب يدٍ عليه أليس كذلك؟ فأيضاً تأدباً من موسى عليه الصلاة والسلام لم يقل هذه الكلمة (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). وأما بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد صرّحوا بهذه الكلمة لأقوامهم نوح وصالح وهود وعيسى وشعيب وكذلك هؤلاء (اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) يعني هم يدعونكم مجاناً ودعوتهم صحيحة وصادقة والأدلة عليها ظاهرة.
قد يقول قائل: ما هي المعجزة التي جاء بهؤلاء الرسل؟ نقول الله أعلم، الله لم يذكرها لنا.
هل بالضرورة أن يكون هناك معجزة؟ نقول نعم، لا بد أن يكون لكل نبي من الأنبياء يرسله الله سبحانه وتعالى آية وبيّنة وحُجّة وهي التي يسميها العلماء في الكتب "المعجزة" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة". اللهم صلِّ وسلم عليه فيقول لا يوجد نبي من الأنبياء إلا وجعل الله له بينة وحجة تثبت صدقه والذي أوتيته أنا القرآن فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة، لماذا؟ لأن القرآن مستمر كما تلاحظون نحن نتدارس القرآن اليوم كما يتدارسه أبو بكر وعمر، لكن عصى موسى ما رآها إلا الذي حضر الواقعة أما أبناؤهم يسمعون بها لكنهم لم يروها، لكن نحن لا، نسمع القرآن، نحن نقرأه ونحفظه ونتدارسه.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى على لسان هذا الرجل الصالح (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لاحظوا كيف يناقش هذا المؤمن قومه ويقول: الله هو الذي خلقني وفطرني وإليه المرجع والمآب يوم القيامة (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً) يعني كيف أُشرِك به آلهة (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ) فهو يحاججهم محاججة عقلية، يعني يقول أين عقولكم؟ كيف تكفرون بالله الذي خلقكم ويحاسبكم ويجازيكم يوم القيامة وتؤمنون بهذه الأصنام التي لا تدفع عنكم ضراً ولا تجلب إليكم نفعاً ولا تنقذكم؟! (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) يعني إنني في هذه الحال لو آمنت بهذه الأصنام وكفرت بالله لفي ضلال مبين.
 (إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) هذه المشكلة الآن، يعني لاحظوا هم أقلية، الأنبياء ثلاثة والمؤمن واحد -أربعة- ماذا يصنعون مقابل أهل القرية كاملة وهؤلاء مكذِّبون، متربصون؟! قال (إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) هو طبعاً مؤمن من قبل أن يأتي وجاء مؤمناً وبيّن لهم ودعاهم وأمرهم بالإيمان بهؤلاء الرسل لكنه صرّح أمامهم فقال (إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) يعني هو يريد أن يبلِّغ جماعته ويقول لهم: أنا أُشهِدكم أنني آمنت بالله، وآمنت بهؤلاء الرسل. لاحظوا سبحان الله العظيم في القرآن الكريم ما قال الله سبحانه وتعالى: فقتلوه مع أنهم قتلوه، ما قال: قتلوه، قال (إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) طبعاً معنى الآيات وهذا في القصص القرآني كثيراً يطوي المراحل ما يفصل لك تفصيلاً دقيقاً كما في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام يروي، يروي ثم يتوقف ثم ينتقل إلى مشهد آخر كما هنا. فالله سبحانه وتعالى هنا لم يذكر لنا أنهم قتلوه وهناك روايات إسرائيلية كثيرة في هذه القصة بالمناسبة موجودة في تفسير ابن كثير وفي تفسير ابن جرير وفي غيرهما تروي أنهم لما سمعوا منه هذه الكلمة اجتمعوا عليه فبعض الروايات تقول أنهم دهسوه بأقدامهم حتى لفظ أنفاسه، وبعضهم يذكر أنهم رجموه حتى قتلوه، فلما مات مقتولاً أدخله الله سبحانه وتعالى الجنة وأراه مقعده من الجنة، فيقولون أنه لما رأى هذا المقعد وهذا النعيم قال (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ولذلك يقول أحد التابعين: "ما أبرّ هذا الرجل بقومه حيّاً وميّتاً فهو كان يدعوهم حيّاً ويدعوهم ميّتاً" أيضاً فعندما رأى النعيم الذي أعدّه الله له تمنى أن قومه ينظرون إلى هذا النعيم حتى يؤمنوا. وهذا فيه فائدة: أن الداعية والنبي المُصلِح يحب الخير لقومه ويدعو لهم ولو خالفوه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل هذه الأخلاق عندما ذهب إلى الطائف يدعوهم ويطلب النصرة طردوه عليه الصلاة والسلام ورجموه بالحجارة فكان يقول عليه الصلاة والسلام: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" وكأنه -والله أعلم- ينظر إلى هذه القصة قصة هذا الرجل عندما قال (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف أنهم لا يعلمون ولا يعرفون حقيقة هذه الحياة وأنهم سوف يأتون يوم القيامة ويُبعَثون ويُحاسَبون ويُجازون فيقول (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ولاحظوا القرآن كيف يطوي المراحل؟ فهو ينقلك مباشرة من هذه اللحظة التي يدعوهم فيها إلى اللحظات التي يدخل فيه الجنة ويرى هذا النعيم في الآخرة.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ) يعني يقول الله سبحانه وتعالى: هل تتوقعون أنني عاقبت هذه القرية بأنني أرسلت جنداً من السماء لكي يعذِّبوهم؟ لا، الأمر أهون من ذلك وهؤلاء المكذبون الذين قتلوا هذا المؤمن وكذّبوا الرسل إهلاكهم أهون على الله من أن يرسل لهم جنداً من السماء فقال (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ) يعني لإهلاكهم (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ) لأن الأمر أعجل من ذلك ماذا فعلت يا رب؟ قال (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) قالوا: أن الله بعث جبريل عليه الصلاة والسلام أو أن جبريل صاح صيحة أو كما يقولون في بعض الروايات أخذ بعضادتي الباب قيل باب المدينة وقيل باب القرية، فصاح فيهم صيحة فلم يبق منهم أحد. قال (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) يعني ما كان عذابهم إلا صيحة واحدة (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) وخامدون معناها ساكنون لا حراك لهم لم يبقَ لهم أي أثر، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في أمثالهم (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ).
وهذه الآيات التي تبين لنا عاقبة هؤلاء المكذبين فيها تثبيت شديد للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها تحذير للمشركين الذين يكذِّبون النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء المكذِّبين فقال الله سبحانه وتعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) يعني واحسرتاه على هؤلاء المكذبين يتحسّرون هم على مصيرهم في الآخرة. (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) يعني هم يتحسرون في الآخرة على هذا المصير. (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يعني ما لهم كيف يحكمون؟! أفلا يعقلون؟! كلما أرسلنا إليهم رسولاً يدلهم على الحق يستهزئون به، وهذه سُنّة من السنن أنه لا يُرسَل رسول إلا ويستهزئ به قومه. قد ذكر الله في سورة الذاريات فقال في آخر السورة (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) فهي سنة الله سبحانه وتعالى قال (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) يعني أن هذا لا يتواصون به ولكنها سُنّة مضطردة. لاحظ هؤلاء الذين أهلكهم الله لم يوصوا مَنْ بعدَهم بنفس الطريقة لكنها هي سنة الله في هؤلاء المكذبين في كل زمان وفي كل مكان.
ثم يقول (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) هذا المقطع يعني قصة أصحاب القرية وما فيها من الفوائد يمكن أن نجملها في نقاط:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى أكرم هذا الرجل المؤمن (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) أكرمه الله سبحانه وتعالى بما أدّاه من النصيحة وبما آل إليه من الكرامة في الجنة. الأمر الثاني: أن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى قديماً وحديثاً يلاقون من العناء ومن البلاء ما ذكره الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن هذا الرجل وربما أشد وربما أقل.
هذا الرجل طبعاً قُتِل يعني بلغ من الأذى الذي تعرّض له أنه قتل في سبيل الله سبحانه وتعالى. وهناك من يبلغ الأذى دون ذلك من الإهانة أو الأذى أو السجن أو التشريد والطرد. النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بلاده وأُهين عليه الصلاة والسلام من قبل المشركين، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كاد قومه أن يقتلوه رموه في النار، وموسى عليه الصلاة والسلام أيضاً طُورد وخرج وعيسى عليه الصلاة والسلام أراد قومه أن يقتلوه، أليس كذلك؟ فرفعه الله إليه، وهذا الرجل قُتِل وقيسوا على ذلك فهي طريق مليئة بالمشقة والعناء وليست طريقاً محفوفاً بالورود. ومن اللطائف يحدثني أحد المشايخ يقول: عندما تخرّج عدد من طلاب كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية أول ما فتحت الجامعة الإسلامية قال: فألقى أحد العلماء أظنه تقي الدين الهلالي المغربي الشيخ المغربي وكان يدرِّس فيها فألقى كلمة للطلاب الخريجين وقال: أبشروا فأنتم مقبلون على خير وأنتم مقبلون على طريق مفروش بالورود فقام الشيخ محمد الشنقيطي بعد هذه الكلمة وقال: أنا أختلف مع الشيخ أنتم مقبلون على ابتلاء ومقبلون على طريق مليئة بالمشقّات ومليئة بالمعاناة وربما تجدون سخرية من الناس وتجدون استهزاء، لأن الدعوة إلى الله طريق محفوفة بمثل هذه المشقّات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى.
 فنقول من فوائد هذه الآيات -أيها الأخوة- هي أن دعاة التوحيد يتعرضون للإيذاء وهذا الإيذاء قد يصل إلى القتل وقد يكون ما دون ذلك.
  أيضاً من فوائد هذه الآيات وجوب إبلاغ دعوة الحق مهما كان حجم التضحيات فهذا الرجل مع أنه كان وحيداً أعزلاً ضحّى بنفسه من أجل الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى وقُتِل والله سبحانه وتعالى ذكره هنا في معرض الثناء عليه ولم يعتبر هذا إلقاءً باليد إلى التهلكة أليس كذلك؟ فهذا دليل على أنه محل قدوة رضي الله عنه وجمعنا به في الجنة. أيضاً من فوائد هذه الآيات بشرى المؤمن عند الموت لا سيما الشهيد فإنه يرى الجنة رأي العين، كما في بعض الروايات.
  ومن فوائد هذه الآيات مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى في إهلاك المكذبين، لأنه قد يقول قائل: كيف يهلك الله هذه الأمم المكذبة؟ لكن قدرة الله سبحانه وتعالى لا تحدّها الحدود وأنتم ترون اليوم من الآيات ما يشيب الرؤوس مثل الزلازل والبراكين والفيضانات وقد رأينا شيئاً من هذا الذي يصيب الإنسان بالهلع فيُهلك الله سبحانه وتعالى في دقائق أمماً والله على كل شيء قدير.
أيضاً فيها طلب العبرة من أخبار الماضين وأحوالهم وقديماً قيل: العاقل من اعتبر بغيره واتّعظ بغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت تنزل عليه هذه الآيات فيعتبر بها المؤمنون ولا تزيد الكافرين والمكذبين إلا ضلال.
{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)}.
طبعاً ذكرنا في أول السورة أن من مقاصد سورة يس أو مقصدها الأعظم: تقرير البعث والنشور والجزاء، ومن الموضوعات الرئيسية أو المحورين الآخَرَين قصة أصحاب القرية وما فيها من العِبَر انتهينا منها، ثم دلائل التوحيد ودلائل الوحدانية، دلائل عقلية ودلائل مما يشاهدها الناس، السورة كلها الآن من الآن حتى تنتهي السورة في هذا الموضوع.
 فيقول الله سبحانه وتعالى (وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) يعني يقول الله سبحانه وتعالى: ومن دلائل ربوبية الله لهم واستحقاقه للألوهية ما يلي:
واحد: الأرض الميتة التي يرونها هذه الأرض الميتة ثم ينزل الله سبحانه وتعالى عليها المطر فتحيا، الذي أحياها ألا يحيي الموتى بعد الموت؟ بلى، ولذلك يقول (وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُون) يعني ما هو شيء لا يعرفونه، لا، هو شيء يأكلون منه.
 قال (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)
 لاحظوا هذه الاستدلالات العقلية الله يستدل عليهم بأشياء يعرفونها الماء الذي ينزل من السماء يعرفونه والأرض الميتة التي تنبت بإذن الله يعرفونها والنبات الذي يأكلون منه ويشربون من الماء كل هذه الأشياء بين أيديهم معروفة وهم لا يملكون إلا أن يُقِرّوا بهذه الأشياء.
ثم قال (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) أيضاً هذا دليل جديد وهو أن الله سبحانه وتعالى يمتن عليهم بالزوجية فيقول الله سبحانه وتعالى: خلق الخلائق كلها زوجين، زوجين وهذا صحيح، فالبشر هم زوجين اثنين الذكر والأنثى والحيوانات بمختلف أجناسها، والنباتات كذلك، بل وحتى الجمادات، مبدأ الزوجية موجود في كل المخلوقات، وتعرفون الآن ما وصلت إليه من قضية النواة والنيترون والالكترون والبروتون والأشياء هذه كلها تثبت هذا المعنى وترسّخه، معنى الزوجية. قال (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) يعني من النباتات (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني البشر (وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) فأطلق، يعني أشياء كثيرة لا تعرفونها ولم يصل إليها علمكم هي موجود فيها هذا المبدأ وهو مبدأ الزوجية أيضاً.
  ثم ذكر الله آية رابعة (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) أيضاً هذه من أعظم الآيات التي نشاهدها وهي تعاقب الليل والنهار، ثم انظروا كيف عبّر فقال (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) يعني الآن النهار الآن كما تلاحظونه الشمس ثم يدخل الليل فشبهه الله سبحانه وتعالى بأنه كأنه جلد ينسلخ (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) وهذه الآية بالرغم من أنها من أعظم الآيات يغفل عنها الناس لأنهم تعودوا عليها، وقديماً قالوا: "كثرة المساس تذهب الإحساس". وإلّا خروج الشمس من هذا المكان ثم غروبها من هذا المكان وخروجها من هذا المكان وغروبها من هذا المكان كل يوم لا تختلف منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرث الله الأرض هذه آية عظيمة، ولو اختلّ في نظامها شيء لانتهت الحياة كلها، لكن بالرغم من ذلك الناس لا يتوقفون كثيراً عندها، ولذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما جاء يحاججه النمرود (قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) طبعاً هو جاهل، ظنّ أنه عندما يعفو عن شخص أنه قد أحياه وأنه إذا قتل شخصاً بريئاً أنها قد أماته هذا مفهوم خاطئ للإحياء والإماتة لكن إبراهيم انتقل معه إلى شيء ما فيه مجال للمناقشة فقال إبراهيم (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) خلاص هذه ما فيه تلاعب (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ). فآية خروج الشمس من مطلعها وغروبها هذه آية عظيمة لكن لكثرة ما تتكرر علينا نحن لا نعرف قيمتها، ولذلك الله سبحانه وتعالى ذكرها هنا فقال (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)) يعني الله سبحانه وتعالى يذكر آية الليل والنهار، والليل والنهار هما من آثار الشمس، لأن حركة الشمس هي التي تولِّد الليل والنهار وحركة القمر تولِّد الفصول كما يقولون الأربعة، أو حركة الأرض، فعندك الآن عندما يقول (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) الله يقول الشمس تجري لمستقر لها وتدور في هذا الفَلَك، النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا معنى هذه الآية فقال: هل تعلم أين تذهب الشمس؟ يقوله لأبي سعيد الخدري قال: الله ورسوله أعلم، قال: (تذهب فتسجد تحت العرش) - يعني الشمس الآن إذا غربت تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن في الخروج مرة أخرى وهكذا حتى يأتي يوم تستأذن فلا يؤذن لها فتخرج من المغرب فعند ذلك يعني تكون هذه العلامة من علامات الساعة الكبرى، طبعاً قد يقول قائل: كيف تسجد؟! نقول الله أعلم، لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك في الحديث الصحيح ما ندري ولا نعرف، وهذه أشياء لا مدخل للعقل فيها، وإنما هي أشياء غيبية لا يعلمها إلا الله أو من أطلعه الله على شيء من الغيب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها تذهب فتسجد تحت العرش" وهذا معنى قوله (لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) أو ذلك مستقرها.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يشير الله إلى هذه الآية العظيمة التي يعرفها العرب وأنتم تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام ربط عندنا الشعائر الدينية بالقمر فنحن نصوم رمضان إذا رأينا الهلال ونفطر إذا رأينا الهلال ونحجّ إذا رأينا الهلال، مربوط بالرؤيا، فهذا شيء تعرفه العرب وتألفه، معروف لديها، فيقول الله: القمر الله سبحانه وتعالى قدّره منازل، منازل القمر تعرفها العرب كما يعرف أحدنا راحة يده. ولذلك قيل لامرأة من العرب كانت مشهورة بمعرفة النجوم والمواسم والناس يعرفونها اليوم أيضاً يعرفون المواسم متى يزرعون ومتى يحصدون أليس كذلك؟ بالنظر إلى المواسم. فقالت: وكيف لا يعرف أحدنا سقف بيته؟! نعرفه كما يعرف أحدنا سقف بيته، هذا من الأشياء والمعارف التي يعرفها العرب. اليوم ربما تسعة وتسعين من الناس لا يعرفون التعامل مع النجوم أليس كذلك؟ لأنهم استغنوا عنها في الزراعة ما عاد أحد يتابعها من أجل الزراعة أصبح الناس يتابعون تقويم أم القرى، وتقويم قطر. لكن العرب عندما نزل عليهم القرآن كانوا يدركون هذا المعنى وهو معنى دلالة القمر (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) منازل القمر التي هي يتنقل فيها ثلاثين ليلة أو تسعة وعشرين ليلة. قال (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) ما هو العرجون القديم؟
 قالوا: هو العذق عذق التمر إذا يبس واشتدّ، هذا العرجون وهو أشبه ما يكون بالقمر فعلاً الهلال في حالة من حالاته في آخره. (قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) حتى يصير في آخر ليلة من لياليه كأنه فعلاً عذق تمر منحني يابس قال (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).
ثم قال الله سبحانه وتعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) إشارة إلى دقة هذا النظام الشمسي الذي لا يختلّ شعرة بأمر الله سبحانه وتعالى وتدبيره، فإذا قامت الساعة انكدرت النجوم كما قال الله سبحانه وتعالى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) وذكر (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) انتهت، انتهى دورها. فالله يمتن علينا بهذا النظام أن الشمس لا يمكن أن تدرك القمر، ولا يمكن أنه يخرج القمر والشمس في وقت واحد، ولذلك تغرب الشمس من هنا فيظهر القمر وهكذا. ثم قال (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والفلك هو: المستدير كفَلَكَة المغزل، الشيء المستدير عند العرب ليس تام الاستدارة وإنما أشبه ما يكون بالشكل البيضاوي هذا هو الذي يسمونه الفَلَك في اللغة. ولذلك بعضهم أيضاً يبالغ في بعض اللطائف في القرآن الكريم "كل في فلك" كلمة "كل في فلك" فيها هذا المعنى تقرأها من أولها وتقرأها من آخرها نفس الشيء "كل في فلك" صح؟ ففيها إشارة إلى هذه الاستدارة، كلٌ في فلك أن هذا الشمس والقمر تدور في هذا الفلك حتى يأذن الله سبحانه وتعالى وينفرط هذا النظام. ثم أيضاً يذكر الله سبحانه وتعالى آية أخرى فيقول {وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)}
 أيضاً يمتنّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء وعلينا جميعاً لأن الله سبحانه وتعالى قد حمل نوحاً والمؤمنين معه في الفلك المشحون يعني الممتلئ لأن نوح عليه الصلاة والسلام أخذ معه في السفينة من كل زوجين اثنين أليس كذلك؟ فيقول (وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ) كيف؟ يعني المتوقع أنه يقول: أنّا حملنا أجدادهم في الفلك المشحون، صح؟ لأن الذرية هم الأولاد والأبناء وليسوا الأجداد، فكيف يقول هنا (وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) - تفضل يا شيخ، لا، المخاطبين الآن يعني أنت الآن هل جدك وجد جدك من ذريتك وإلا أنت من ذريتهم؟ - على كل حال معنى الآية: أن الله يمتن علينا بأنه حمل نوحاً ومن معه، ثم نأتي فنقول لماذا قال (ذُرِّيَّتَهُمْ)؟
 نقول: إما أن المقصود بالذرية هنا ليس فقط الأبناء وإنما مطلق النَسَب سواء كانوا متقدمين أو متأخرين فيدخلون فيها، ومنهم من قال: أنه عبّر بالذرية هنا للإشارة إلى امتنانه سبحانه وتعالى باستمرار تناسل البشرية، الامتنان على نوح هو امتنان على أبنائه من بعده -كما سيأتي معنا- (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) فيقول قائل: كيف كذبت قوم نوح المرسلين وأصلاً نوح هو أول الأنبياء؟ هم ما كذبوا إلا رسولهم فقط، قال العلماء: لأن تكذيبهم لرسول واحد تكذيب لكل الأنبياء، لأن دعوة الأنبياء واحدة. فكذلك هنا أن الله سبحانه وتعالى امتن بحمل نوح وذريته فهي امتنان على كل البشرية لأنهم من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام.
قال (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) يعني (وَخَلَقْنَا لَهُمْ) يعني للبشر من بعد نوح عليه الصلاة والسلام لأن نوح هو أول من صنع السفينة بوحي من الله، ولذلك صناعة السفن هي تعتبر وحياً أوحى الله به إلى نوح عليه الصلاة والسلام، ثم تناقل الناس بعد نوح هذه الصناعة صناعة السفن، لذلك المسلمون هم أول من صنع السفن بدلالة هذه الآية لأن نوح عليه الصلاة والسلام نبي من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام. فيقول الله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ) أي وخلقنا وجعلنا لهم من مثل هذه السفينة التي أنجينا فيها نوحاً ما يركبونه في البحر بعده إلى اليوم طبعاً.
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ)
 يعني يمتنّ الله سبحانه وتعالى بأنه حمل الناس في البحر على هذه السفن، ولا شك أن من أعظم النِعَم التي أنعم الله بها على البشر هذه السفن التي تجري في الفلك، ولذلك امتنّ الله بها في أكثر من موضع أليس كذلك؟ امتنّ الله بأن جعل الفلك والفلك تجري في البحر في مواضع كثيرة من القرآن لأنها من آياته العظيمة فعلاً أن هذه السفينة الضخمة تجري على الماء ولا تغرق.
ويقول الله سبحانه وتعالى (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) في هذه السفن (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ) الصريخ يعني منقِذ -منجِد- الصريخ هو الذي ينقذ المُستصرِخ، يعني المُستصرِخ هو الذي يقول النجدة والصريخ هو الذي ينقذه ويلبي النجدة فيقول (فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ) يعني لا ينقذهم أحد (وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) وهذه الآيات فيها فوائد عظيمة منها:
/ تقرير عقيدة البعث.
/ ومنها وجوب شكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم العظيمة التي امتن الله بها نحن نرى الشمس، ونرى القمر، ونرى الليل والنهار، فلا بد أن يشكر الله سبحانه وتعالى الإنسان الحمد لله أنها تشرق الشمس، ما زالت تشرق من المشرق، ونحمد الله سبحانه وتعالى أننا لسنا في بعض المناطق على سبيل المثال في مناطق في العالم لا تشرق الشمس عليها ستة أشهر أو أكثر من ذلك، مثل على سبيل المثال فنلندا تبقى ستة أشهر لا تشرق عليها الشمس وستة أشهر لا تغرب تخيل! ولذلك قال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ) وكذلك امتنّ عليهم بأنه لو جعل النهار كله سرمداً من يأتيهم بليل يسكنون فيه، فهذه من أعظم النعم.
/ أيضاً ذكر القرآن لأمور الفلك التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا النزر اليسير، هذه إشارات موجودة في القرآن الكريم إلى هذه القضايا الشمس، والفلك، والقمر، وكيف تتعاقب الليل والنهار.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) لاحظوا مجادلة الكفار والمشركين في الله سبحانه وتعالى هنا إذا (قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) يعني من العذاب والمستقبل (وَمَا خَلْفَكُمْ) أي وما ستتركونه خلفكم من الأبناء والذرية (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يعني آمنوا بالله سبحانه وتعالى يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنة ويحفظ أبناءكم من بعدكم، يُعرِضون، قال (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) يعني بالرغم من أن ذكر الشمس، وذكر القمر، والليل والنهار، كأنها لا تعنيهم ولذلك انظر الكفار الآن ما أكثر ما يشاهدون من الآيات والعِبر بل ربما هم يشاهدون أكثر مما نشاهد لتقدّم العلم عندهم وبالرغم من ذلك هم لا يزيدون إلا إعراضاً!. ثم يقول (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) يعني يحتجون بالقضاء والقدر، يعني يقول هذا الفقير الذي تطلبون منا أن نُطعِمه لماذا لا يُطعمه الله؟ لا يعرفون أن الله يبتليك أيها الغني بهذا الفقير لينظر سبحانه وتعالى هل سوف تعطيه أم سوف تبخل؟.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يعني يشككون في وعد الله سبحانه وتعالى لأنبيائه وللمؤمنين بالقيامة وبالجزاء فيشككون فيه فيقولون (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) والخطاب طبعاً هنا للمشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم.
(مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) يعني ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا صيحة واحدة كما وقعت في أصحاب القرية (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) يعني وهم يختصمون ويجادلون في الله سبحانه وتعالى ويخاصِمون فيه. (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) يشير الله سبحانه وتعالى إلى أخذ البغتة وأن الله سبحانه وتعالى قد يأخذكم بغتة لدرجة أنك ما تستطيع أنك توصي أهلك إنما تؤخذ فجأة (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).
ثم يذكر الله سبحانه وتعالى النفخ في الصور فيقول (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) الأجداث القبور جمع جدث، وينسلون يعني يخرجون بسرعة.
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) يعني أنهم في الآخرة يقولون هذا عندما يُبعَثون من القبور يقولون (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) من قبورنا؟ فيقول الله سبحانه وتعالى هذا أو يقول الملائكة ذلك أو يقول المؤمنون كل هذا صحيح (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) أي نفخة البعث (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذه الآيات كما تلاحظون كلها في تقرير عقيدة البعث، وأن الله سبحانه وتعالى يستدلّ علينا بهذه النعم العظيمة لكي يصل إلى هذه النتيجة أن الله هو الذي أنزل المطر، وأحيا الأرض بعد موتها، الذي عاقب الليل والنهار، الشمس والقمر، كل هذا دليل على أنه سوف يبعث الناس بعد الموت، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يحاسب الناس ويجازيهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فَشَرّ. نتوقف عند هذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------------------------
المصدر / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق