الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه:
______________________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه:
/ قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(58) سورة النــور].
فيه ثمان مسائل:
الأولى : قال العلماء: هذه الآية خاصة، والتي قبلها عامة؛ لأنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [(27) سورة النــور].
ش: هذه الآية عامة في جميع من يتجه إليه الخطاب، يمكن أن يوجه إليه من الذكور والإناث،والأحرار والأرقاء، وهذه الآية التي معنا خاصة باستئذان مُلك اليمين، والخطاب موجه للرجال والنساء خلافاً لمن قال إنه للرجال؛ لأن "الذين" موصول للذكور لكن الخطاب للرجال يدخل فيه خطاب النساء خلافاً لمن يقول أن الخطاب خاص بالنساء؛ لأن "الذين" لم يوضع للنساء إنما يدخل فيه النساء تبعاً للرجال وإلا فالأصل أنه للرجال، فمن أهل العلم من يقول: أن المخاطب بهذه الآية النساء دون الرجال، فلا بد من استئذان ملك اليمين على سيدته، والآية الأصل فيها أنها للرجال، وعرف من جميع نصوص الشرع -إلا ما دل الدليل على تخصيصه- أنه إذا وجه الخطاب للرجال دخل فيه النساء.
/ ثم خص هنا فقال: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
ش: اللام هنا لام الأمر، فالاستئذان هنا لا بد منه لأنه مأمور به، ففي هذه الأوقات الثلاثة لابد من الاستئذان، وهذا حينما كان الناس جارين على سنن السنة الإلهية في كون الليل سكن والنهار معاش، بمعنى أنه في العصر مثلاً لا يحتاج إلى استئذان؛ لأنه وقت المعاش، والناس مستيقظون ومنتبهون أو الضحى مثلاً، يدخل الساعة تسع وعشر ما في حاجة للاستئذان؛ لأن الناس مستيقظون، وكان هذا قبل أن توجد الأبواب والأغلاق التي يلزم من خلالها قرع هذه الأبواب وطرقها من أجل أن يعلم من في البيت من الداخل، أما بعد وجود هذه الأبواب فلا بد من الاستئذان على كل حال، لكن لما لم تكن الأبواب موجودة والأغلاق إنما هي مجرد ستور يمكن أن يدخل من غير استئذان ففي غير الأوقات الثلاثة لا داعي للاستئذان حينما كان الناس جارين على السنة الإلهية في كون النهار معاش والليل سكن، ووقت القيلولة معروفة -أوقات النوم معروفة- لكن الآن اضطربت أحوال الناس ولو قيل: أنه يستأذن في الضحى وأن الاستئذان في هذا الوقت أهم من الاستئذان في الليل لأن الناس في الليل مستيقظون أما في النهار فلا شك أن الساعة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة أحياناً في بعض البيوت مثل نصف الليل فيما تقدم؛ لأن الناس قلبوا هذه الفطرة وهذه السنة الإلهية.
/ فخصّ في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضاً يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموماً، وخص في هذه الآية بعض الأوقات فلا يدخل فيها عبد ولا أمة، وغداً كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان.
ش: "وغداً" يعني لا يفهم شيئاً، لا يفهم ولم يطلع على العورات، ولا "ذا منظر" يعني صاحب نظر في النساء بحيث يفهم، أو مطلع على العورات سواء كانت بالنسبة للرجال أو النساء.
/ قال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد دخل عليها غلام لها كبير فاشتكت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت عليه الآية، وقيل: سبب نزولها دخول مُدلج على عمر، وسيأتي.
الثانية : اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ}على ستة أقوال:
الأول: أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير.
الثاني: أنها ندب غير واجبة، قاله أبو قِلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظراً لهم.
ش: نظراً لهم ورعايةً لمصالحهم وما كان من هذا الباب فإنه لا يصل إلى حد الوجوب عند بعضهم، لكن المقرر عند أهل العلم أن الأمر الأصل فيه الوجوب، واللام لام الأمر، فلا محيد عن القول بوجوبه.
الثالث: عنى بها النساء، قاله أبو عبد الرحمن السلمي.
ش: نعم، وهذا مردود حقيقة، يعني به النساء هذا مردود؛ لأن "الذين" إنما وضعت في الأصل للذكور لا للنساء.
وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء، وهو القول الرابع.
الخامس: كان ذلك واجباً إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس.
ش: يعني هل هو حكم معلق بعلةٍ يدور معها وجوداً وعدماً؟
أو هو حكم سابق رُفع بحكمٍ متأخر، بمعنى أنه لا يعود ولو عادت العلة؟
يعني فرق بين قولنا: أنه منسوخ وبين قولنا: أنه كان واجباً إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب ولو عاد الحال لعاد الوجوب، على القول الأول أنه لا يعود هذا الحكم إطلاقاً، خلاص رفع الحكم، رُفع حكم المنسوخ بالناسخ، وعلى القول الخامس يدور مع علته، إذا ألغيت الأبواب واكتفى الناس بالستور عاد الحكم وإلا لا داعي له مع وجود هذه الأبواب.
السادس: أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي، وأضعفها قول السلمي؛ لأن "الَّذِينَ" لا يكون للنساء في كلام العرب..
ش: قول أبي عبد الرحمن السلمي أنها خاصة بالنساء، وهو القول الثالث الذي تقدم.
/ لأن "الَّذِينَ" لا يكون للنساء في كلام العرب..
ش: يعني على سبيل الاستقلال، أما دخولهن تبعاً للرجال في "الذين" فهذا مضطرد.
/ إنما يكون للنساء (اللاتي واللواتي)، وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر؛ لأن {الَّذِينَ} للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم.
ش: وضعفه معروف مقرر عند أهل العلم، وهو من الطبقة الدنيا بالنسبة لمسلم الذين قد يحتاج إليهم عند فقد أحاديث الطبقات العليا ينتقي من أحاديثهم.
/ وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: "آية لم يؤمر بها أكثر الناس، آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن عليّ".
ش: يعني لم يؤمر بها من ليس عنده ملك يمين، لا يتجه أمره بها {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} لأن الإذن أو الاستئذان مربوط بملك اليمين، (مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) فالذي ليس عنده ملك يمين لا خادم ولا خادمة، يعني لا عبد ولا أمة ما يحتاجون يستأذنون، ما يتجه إليهم الخطاب في هذا.
/ قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به، وروى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى..
ش: هنا آية لم يؤمر بها أكثر الناس، والرواية الثانية: يأمر به أكثر الناس.
/ وروى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى في هذه الآية التي أُمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد قوله الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم}[(58) سورة النــور] قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حِجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، أمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد.
ش: وهذا ماشي على القول الخامس، وأن الاستئذان كان واجباً إذ كانوا لا غلاق لهم ولا أبواب، ما فيه إلا ستور، لكن لما وجدت الأبواب والأغلاق، الأبواب توصد وترتج فحينئذٍ لا بد من طرق هذه الأبواب.
/ قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية.
ش: فعرفنا الفرق بين القولين، الأول والخامس.
/ وعلى أنها كانت على حالٍ ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها.
ش: لأنهم لا غلاق لهم ولا أبواب، يعني بيوت من الشعر أو من المدر يتجاوزون ويتسمحون فيها كبيوت بعض القرى والأرياف والبوادي في الصحاري فلا يوجد لهم أبواب محكمة تمنع من الدخول.
/ وروى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[(58) سورة النــور] قال: ليست بمنسوخة، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله -عز وجل- المستعان.
ش: نعم لو أجمع الناس واتفق أهل العلم على عدم العمل بها لقلنا: أنها منسوخة، ودل الإجماع على وجود نسخ ولو لم نطلع عليه.
الثالثة: قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثاً مأخوذ من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}[(58) سورة النــور] قال: يريد ثلاث دفعات.
ش: في ثلاثة أوقات، ثلاث مرات يعني في ثلاثة أوقات، أما الاستئذان ثلاثاً فمأخوذ من السنة الصحيحة، كان إذا استأذن استأذن ثلاثاً، فإذا استأذن أحدكم فليقل: السلام عليكم أأدخل؟ ثلاثاً، المقصود أن الاستئذان ثلاثاً مأخوذ من السنة، وهنا الاستئذان في ثلاثة أوقات.
طالب: ما تكون السنة تفسير للآية؟
السنة الاستئذان ثلاث غير الوارد في الآية، الآية ثلاثة أوقات، منصوص عليها في الآية وكل وقت من هذه الثلاث يحتاج إلى استئذان ثلاث مرات، هذا الذي تفسره السنة، أما مجمل الأوقات الثلاثة فلا دلالة للحديث عليها.
/ قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجميع، قال ابن عبد البر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله: {ثلاث مَرَّاتٍ} أي في ثلاث أوقات، ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها: {مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء}[(58) سورة النــور].
الرابعة: أدب الله -عز وجل- عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها.
ش: يعني ظهروا واطلعوا على عورات النساء ويمكن أن يصفوها لغيرهم فمثل هؤلاء يُمنعون ويُحجبون لا بد من الاستئذان.
/ يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة.
ش: لأنها وقت النوم والراحة، والعادة جرت بأن هذه الأوقات هي أوقات النوم، الناس يتخففون من الملابس فيها وينامون بالشيء الخفيف، فقد يطلع على شيءٍ من عوراتهم.
/ وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري، فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت القائلة وقت التجرد أيضاً وهي الظهيرة؛ لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره، وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم، فالتكشف غالب في هذه الأوقات. يُروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث غلاماً من الأنصار يقال له مُدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه فوجده نائماً قد أغلق عليه الباب فدق عليه الغلام الباب فناداه ودخل فاستيقظ عمر وجلس، فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجداً شكراً لله، وهي مكية.
ش: مُخرج؟ يقول يُروى، طالب: قال: ذكره الواحدي عن ابن عباس بدون إسناد فلا حجة فيه.
فقط؟ إذاً قال هنا: يُروى أن رسول الله، مع أنه لا يفرق بين الصيغ، المؤلف -رحمه الله- لا يفرق، قد يأتي بحديثٍ في الصحيحين ويقول فيه: يروى، لا يراعي الاصطلاح في مثل هذا.
/ طالب: المعلق قال: السورة مدنية بإجماع كما نقل القرطبي في أولها فلا أدري ما وجه قوله: وهي مكية؟
طالب آخر: الغلام أنصاري فكيف يقول: السورة مكية؟
مُدلج؟
طالب: هذا يدل أنها مدنية.
ش: هي السورة مدنية، لكن الخبر فيه ما فيه، الخبر لا يعتمد عليه، وموافقات عمر معروفة، موافقات عمر أكثر من عشرين.
/ الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ} أي الذين لم يحتلموا من أحراركم قاله مجاهد، وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم..
ش: إسماعيل بن إسحاق القاضي.
/ وذكر إسماعيلَ بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء، وقرأ الجمهور بضم اللام وسكّنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرٍ يستحسنها و{ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثاً، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في {ثَلَاثَ} بينة.
{مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} وقد مضى معناه، ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت.
{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} قرأ جمهور السبعة {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} برفع {ثَلَاثُ} وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثَلَاثَ} بالنصب على البدل من الظرف في قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود، وقال الفراء: الرفع أحب إلي، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات، والرفع عند الكسائي بالابتداء والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصاً بالابتداء، قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان: أحدهما: أنه مردود على قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ولهذا استبعده الفراء، وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
و{عَوْرَاتٍ} جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات ونحو ذلك، وسكَّنوا العين في المعتل كبيضةٍ وبيضات؛ لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك، فأما قول الشاعر:
أبو بيَضات رائح متأوب *** رفيق بمسح المنكبين سبوحُ. فشاذ.
ش: لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله، ما معنى هذا؟ ......
هنا يقول: وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات، هنا قال: {عَوْرَاتٍ} ما قال: عوَرات، أن يجيء على فعلات كجفنةٍ وجفنات، وسكّنوا العين في المعتل كبيضةٍ وبيضات مثل: عورة وعوْرات؛ لأن فتحه داعٍ إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك؛ لأنه تنطبق عليه القاعدة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، تصير (عارات) ما تصير (عورات)؛ لأنه لو فتحت الواو في الصحيح تفتح، لكن في المعتل ما تفتح؛ لأنه يلزم قلبها ألف، لو قلنا تحركت الواو، القاعدة أنها إذا تحركت الواو وانفتح ما قبلها تقلب ألفاً، وهم أحياناً ولو لم تنفتح الواو يتوهمون انفتاحها إذا أرادوا قلبها، فمثلاً: إقامة وإجازة، القاف الأصل: إقوامة، وإجوازة، يقول: تحركت الواو وتوهّم انفتاح ما قبلها فقلبت ألفاً، وهنا سكّنوها لئلا تنقلب، لماذا؟ لأنهم يمشون على السماع، ما سُمع (عارات) من أجل أن يقال: تحركت الواو فتحمل ما قبلها فقلبت ألفاً.
/ السادسة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا.
ش: خطوة وخطُوات، تقلب هنا ألف وإلا ما تقلب؟ لأن بعضهم يجمعه على (خطَوات)؟ الواو متحركة، وخطَوات على هذا الجمع على القاعدة تقلب الواو ألف، لكن لتلافي الأمثال، ألف مع ألف لا يمكن النطق بها فلا تقلب، وأيضاً الجمع الصحيح (خطُوات).
/ السادسة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا، وإن كنتم متبذلين، {طَوَّافُونَ} بمعنى: هم طوافون، قال الفراء: كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم ، وأجاز الفراء نصب طوافين؛ لأنه نكرة والمضمر في {عَلَيْكُمْ} معرفة، ولا يجوز البصريون أن يكون حالاً من المضمرين اللذين في {عَلَيْكُمْ} وفي {بَعْضُكُمْ} لاختلاف العاملين، ولا يجوز مررت بزيد ونزلت على عمرو العاقلين على النعت لهما فمعنى {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم} أي: يطوفون عليكم وتطوفون عليهم، ومنه الحديث في الهرة: ((إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات)) فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}[(13) سورة الأحزاب] أي سهلة للمدخل، فبيَّن العلة الموجبة للإذن وهي الخلوة في حال العورة، فتعين امتثاله، وتعذر نسخه.
ش: لأن العلة قائمة، ما دامت العلة قائمةً فلا نسخ، إذا كانت العلة قائمة فلا نسخ.
يعني بعض الناس الآن يشاهد من بعض الناس أنهم إذا بنوا البيوت وجعلوا الأبواب من زجاج، بحيث يُرى من ورائها، فهل نقول أن هذا في حكم الستور لا في حكم الأبواب؟ أو نقول: هذه أبواب تغلق لا يمكن الولوج من ورائها، وكونهم يضعونها بهذه الطريقة لا شك أنه تفريط كغيره من أنواع التساهل، يعني يفترض أن هذا الشخص وضع باباً ثم استأذن الداخل ثم بعد ذلك النساء ما احتجبن عن الداخل، هذا تفريط من صاحب البيت وقل مثل هذا في الباب الذي يكشف ما وراءه، هذا تفريط ولا يؤخذ حكم الستور الذي لا تمنع من أراد الدخول؛ لأن هذه تمنع من أراد الدخول.
/ ثم رفع الجناح بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يطوف بعضكم على بعض.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الكاف في موضع نصب: أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بياناً مثل ما يبيّن لكم هذه الأشياء، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تقدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} يريد العتمة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يُعتمون بالإبل)) وفي رواية: ((فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل)) وفي البخاري عن أبي برزة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤخر العشاء، وقال أنس: أخر النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، وهذا يدل على العشاء الأولى، وفي الصحيح: (فصلاها) -يعني العصر- بين العشاءين المغرب والعشاء، وفي الموطأ وغيره: ((ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)).
ش: فدل على أن النهي في الأحاديث السابقة للكراهة، والصارف ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: ((لو يعلمون ما في العتمة)) والمقصود بها العشاء، ولو كان النهي للتحريم لما قاله -عليه الصلاة والسلام-.
/ وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف الصلاة، قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار متعارضة لا يعلم منها الأول من الآخِر بالتاريخ، ونهيه -عليه السلام- عن تسمية المغرب عشاء، وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلاً عمن عداهم، وقد كان ابن عمر يقول: "من قال: صلاة العتمة فقد أثم" ، وقال ابن القاسم قال مالك: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} فالله سماها صلاة العشاء، فأحبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تسمى بما سماها الله تعالى به، ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال: عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم .
ش: من لا يفهم الاصطلاح الشرعي ،الذي لا يفهم الاصطلاح الشرعي وإنما يفهم الاصطلاح العرفي الذي درجوا عليه وهكذا عوام المسلمين يخاطبون بأعرافهم وعاداتهم التي درجروا عليها، فإذا درجوا على تسمية شيء لا يعدل بهم عنه إلا بعد إفهامهم الاصطلاح الشرعي. أما لو قلت لشخص: أعطِ زكاتك، ابحث عن شخص محروم وأعطه زكاتك فإنه أفضل من السائل، ثم يذهب إلى شخصٍ عنده الأرصدة في البنوك لكنه لا ينفق منها، يقول: هذا المحروم في عرفنا؟ يخاطب في عرفه وإلا بالعرف بالشرعي؟ لا بد أن يبيّن له العرف الشرعي والاصطلاح الشرعي، وحينئذٍ يقال له: لا تعط المحروم، والله -جل وعلا- يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(24-25) سورة المعارج] فأنت نهيت عمّن أمر الله بإعطائه مراعاة لاصطلاح هذا العامي الذي لا يعرف الحقيقة الشرعية، وإنما يعرف الحقيقة العرفية؛ لأنك لو قلت له: أعطِ المحروم وهو أفضل من السائل لذهب إلى شخص يملك الملايين والأرصدة الطائلة في البنوك لكنه مقتر على نفسه وعلى من يمون ويقول: هذا المحروم، صحيح هذا المحروم في عرف الناس لكن ليس هذا هو المقصود في الآية، فلا بد من ملاحظة هذا لا سيما عند مخاطبة من لا يفهم، لا بد من إفهامه.
/ وقد قال حسان بن ثابت :
وكانت لا يزال بها أنيس *** خلال مروجها نعم وشاءُ
فدع هذا ولكن من لِطيف *** يؤرقني إذا ذهب العشاءُ
وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة إنما كان لئلا يعدل بهما عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء}.
ش: بمعنى أنه لا يطغى الاسم الأعرابي على الاسم الشرعي، لا يطغى بحيث لا تُعرف إلا بهذا –العتمة- ولهذا جاء في الحديث: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم)) بمعنى أنكم تنسوا الاسم الشرعي، لا أنه لا يجوز أن يطلق بالكلية، وإنما لا يغلب عليه هذا الاسم بحيث تُنسى التسمية الشرعية.
/ فكأنه نهي إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز، ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشريفة الدينية على أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلةٍ دنيوية وهي الحلبة التي كانوا يحتلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة، ويشهد لهذا قوله: ((فإنها تعتم بحلاب الإبل)).
الثامنة: روى ابن ماجة في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزِية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: ((من صلى في جماعةٍ أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقاً من النار)).
ش: حديث ابن ماجة ماذا قال عنه؟
طالب: قال: أخرجه ابن ماجة من حديث أنس عن عمر مرفوعاً، وقال البصيري: فيه إرسال وضعف، قال الترمذي والدارقطني: لم يدرك عمارةً أنساً ولم يلقه، وإسماعيل بن عياش كان يدلس. انتهى كلامه، وأخرجه الترمذي من حديث أنس مع اختلافٍ يسير فيه وصوب وقفه، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجة: هو حسن دون قوله: ((لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء)) وانظر الصحيحة والضعيفة.
وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)). وروى الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة، وصلى بعدها أربع ركعات فأتمَّ ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كنّ له بمنزلة ليلة القدر.
ش: ما يقترئ يعني يقرأ، يعلم ما يقترئ يعني يعلم ما يقرأ، ينتبه لما يقرأ ويتدبر ما يقرأ، لا أنه يقرأ شيئاً لا يدري ما يقول، ولا يتدبر ما في كلام الله.
قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[(59) سورة النــور]. قرأ الحسن {الحلْم} فحذف الضمة لثقلها والمعنى: أن الأطفال أُمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا، ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله -عز وجل- لأحكامه، وإيضاح حلاله وحرامه. وقال: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل فليستأذنوكم، وقال في الأولى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين، وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}.
ش: يعني الأطفال غير مخاطبين ولذا لم يوجه لهم الخطاب، ما قيل: يا أيها الأطفال استأذنوا، وجه لمن يعقل الخطاب، ولمن يمتثل الخطاب، ولمن يلتزم بالخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهذا أمر للذين آمنوا بأمر هؤلاء وإلزامهم بالاستئذان، وإلا فالأصل أن الطفل لا يتجه إليه الخطاب؛ لأنه غير مخاطب ولا متعبد.
/ وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحراراً كانوا أو عبيداً، وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين قال: لا يدخل على امرأة حتى يستأذن، وقاله الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية. ش: أما التحديد بأربع سنين لا شك أن الأطفال يتفاوتون في مثل هذا، بعض الأطفال وهو ابن ثلاث سنين يعقل وينتبه لأمور لا ينتبه لها من هو أكبر منه في الرابعة والخامسة وأحياناً في السادسة، وبعض الأطفال يناهز الحلم ولما يعقل بعد، فهم يتفاوتون والتمييز متفاوت عند الأطفال، منهم من يتقدم تمييزه ومنهم من يتأخر، وأهل الحديث حينما حدّوا صحة السماع بالخمس اعتمدوا على حديث محمود بن الربيع الذي عقل المجة وهو ابن خمس سنين وفي روايةٍ: أربع سنين، فلعلها هي معوّل ابن جريج حينما حدد بالأربع، لكن الذي في الصحيح: ابن خمس سنين.
لحفظ الملف الصوتي:
ش: خطوة وخطُوات، تقلب هنا ألف وإلا ما تقلب؟ لأن بعضهم يجمعه على (خطَوات)؟ الواو متحركة، وخطَوات على هذا الجمع على القاعدة تقلب الواو ألف، لكن لتلافي الأمثال، ألف مع ألف لا يمكن النطق بها فلا تقلب، وأيضاً الجمع الصحيح (خطُوات).
/ السادسة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا، وإن كنتم متبذلين، {طَوَّافُونَ} بمعنى: هم طوافون، قال الفراء: كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم ، وأجاز الفراء نصب طوافين؛ لأنه نكرة والمضمر في {عَلَيْكُمْ} معرفة، ولا يجوز البصريون أن يكون حالاً من المضمرين اللذين في {عَلَيْكُمْ} وفي {بَعْضُكُمْ} لاختلاف العاملين، ولا يجوز مررت بزيد ونزلت على عمرو العاقلين على النعت لهما فمعنى {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم} أي: يطوفون عليكم وتطوفون عليهم، ومنه الحديث في الهرة: ((إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات)) فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}[(13) سورة الأحزاب] أي سهلة للمدخل، فبيَّن العلة الموجبة للإذن وهي الخلوة في حال العورة، فتعين امتثاله، وتعذر نسخه.
ش: لأن العلة قائمة، ما دامت العلة قائمةً فلا نسخ، إذا كانت العلة قائمة فلا نسخ.
يعني بعض الناس الآن يشاهد من بعض الناس أنهم إذا بنوا البيوت وجعلوا الأبواب من زجاج، بحيث يُرى من ورائها، فهل نقول أن هذا في حكم الستور لا في حكم الأبواب؟ أو نقول: هذه أبواب تغلق لا يمكن الولوج من ورائها، وكونهم يضعونها بهذه الطريقة لا شك أنه تفريط كغيره من أنواع التساهل، يعني يفترض أن هذا الشخص وضع باباً ثم استأذن الداخل ثم بعد ذلك النساء ما احتجبن عن الداخل، هذا تفريط من صاحب البيت وقل مثل هذا في الباب الذي يكشف ما وراءه، هذا تفريط ولا يؤخذ حكم الستور الذي لا تمنع من أراد الدخول؛ لأن هذه تمنع من أراد الدخول.
/ ثم رفع الجناح بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يطوف بعضكم على بعض.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الكاف في موضع نصب: أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بياناً مثل ما يبيّن لكم هذه الأشياء، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تقدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} يريد العتمة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يُعتمون بالإبل)) وفي رواية: ((فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل)) وفي البخاري عن أبي برزة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤخر العشاء، وقال أنس: أخر النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، وهذا يدل على العشاء الأولى، وفي الصحيح: (فصلاها) -يعني العصر- بين العشاءين المغرب والعشاء، وفي الموطأ وغيره: ((ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)).
ش: فدل على أن النهي في الأحاديث السابقة للكراهة، والصارف ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: ((لو يعلمون ما في العتمة)) والمقصود بها العشاء، ولو كان النهي للتحريم لما قاله -عليه الصلاة والسلام-.
/ وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف الصلاة، قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار متعارضة لا يعلم منها الأول من الآخِر بالتاريخ، ونهيه -عليه السلام- عن تسمية المغرب عشاء، وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلاً عمن عداهم، وقد كان ابن عمر يقول: "من قال: صلاة العتمة فقد أثم" ، وقال ابن القاسم قال مالك: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} فالله سماها صلاة العشاء، فأحبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تسمى بما سماها الله تعالى به، ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال: عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم .
ش: من لا يفهم الاصطلاح الشرعي ،الذي لا يفهم الاصطلاح الشرعي وإنما يفهم الاصطلاح العرفي الذي درجوا عليه وهكذا عوام المسلمين يخاطبون بأعرافهم وعاداتهم التي درجروا عليها، فإذا درجوا على تسمية شيء لا يعدل بهم عنه إلا بعد إفهامهم الاصطلاح الشرعي. أما لو قلت لشخص: أعطِ زكاتك، ابحث عن شخص محروم وأعطه زكاتك فإنه أفضل من السائل، ثم يذهب إلى شخصٍ عنده الأرصدة في البنوك لكنه لا ينفق منها، يقول: هذا المحروم في عرفنا؟ يخاطب في عرفه وإلا بالعرف بالشرعي؟ لا بد أن يبيّن له العرف الشرعي والاصطلاح الشرعي، وحينئذٍ يقال له: لا تعط المحروم، والله -جل وعلا- يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(24-25) سورة المعارج] فأنت نهيت عمّن أمر الله بإعطائه مراعاة لاصطلاح هذا العامي الذي لا يعرف الحقيقة الشرعية، وإنما يعرف الحقيقة العرفية؛ لأنك لو قلت له: أعطِ المحروم وهو أفضل من السائل لذهب إلى شخص يملك الملايين والأرصدة الطائلة في البنوك لكنه مقتر على نفسه وعلى من يمون ويقول: هذا المحروم، صحيح هذا المحروم في عرف الناس لكن ليس هذا هو المقصود في الآية، فلا بد من ملاحظة هذا لا سيما عند مخاطبة من لا يفهم، لا بد من إفهامه.
/ وقد قال حسان بن ثابت :
وكانت لا يزال بها أنيس *** خلال مروجها نعم وشاءُ
فدع هذا ولكن من لِطيف *** يؤرقني إذا ذهب العشاءُ
وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة إنما كان لئلا يعدل بهما عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء}.
ش: بمعنى أنه لا يطغى الاسم الأعرابي على الاسم الشرعي، لا يطغى بحيث لا تُعرف إلا بهذا –العتمة- ولهذا جاء في الحديث: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم)) بمعنى أنكم تنسوا الاسم الشرعي، لا أنه لا يجوز أن يطلق بالكلية، وإنما لا يغلب عليه هذا الاسم بحيث تُنسى التسمية الشرعية.
/ فكأنه نهي إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز، ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشريفة الدينية على أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلةٍ دنيوية وهي الحلبة التي كانوا يحتلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة، ويشهد لهذا قوله: ((فإنها تعتم بحلاب الإبل)).
الثامنة: روى ابن ماجة في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزِية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: ((من صلى في جماعةٍ أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقاً من النار)).
ش: حديث ابن ماجة ماذا قال عنه؟
طالب: قال: أخرجه ابن ماجة من حديث أنس عن عمر مرفوعاً، وقال البصيري: فيه إرسال وضعف، قال الترمذي والدارقطني: لم يدرك عمارةً أنساً ولم يلقه، وإسماعيل بن عياش كان يدلس. انتهى كلامه، وأخرجه الترمذي من حديث أنس مع اختلافٍ يسير فيه وصوب وقفه، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجة: هو حسن دون قوله: ((لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء)) وانظر الصحيحة والضعيفة.
وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)). وروى الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة، وصلى بعدها أربع ركعات فأتمَّ ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كنّ له بمنزلة ليلة القدر.
ش: ما يقترئ يعني يقرأ، يعلم ما يقترئ يعني يعلم ما يقرأ، ينتبه لما يقرأ ويتدبر ما يقرأ، لا أنه يقرأ شيئاً لا يدري ما يقول، ولا يتدبر ما في كلام الله.
قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[(59) سورة النــور]. قرأ الحسن {الحلْم} فحذف الضمة لثقلها والمعنى: أن الأطفال أُمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا، ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله -عز وجل- لأحكامه، وإيضاح حلاله وحرامه. وقال: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل فليستأذنوكم، وقال في الأولى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين، وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}.
ش: يعني الأطفال غير مخاطبين ولذا لم يوجه لهم الخطاب، ما قيل: يا أيها الأطفال استأذنوا، وجه لمن يعقل الخطاب، ولمن يمتثل الخطاب، ولمن يلتزم بالخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهذا أمر للذين آمنوا بأمر هؤلاء وإلزامهم بالاستئذان، وإلا فالأصل أن الطفل لا يتجه إليه الخطاب؛ لأنه غير مخاطب ولا متعبد.
/ وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحراراً كانوا أو عبيداً، وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين قال: لا يدخل على امرأة حتى يستأذن، وقاله الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية. ش: أما التحديد بأربع سنين لا شك أن الأطفال يتفاوتون في مثل هذا، بعض الأطفال وهو ابن ثلاث سنين يعقل وينتبه لأمور لا ينتبه لها من هو أكبر منه في الرابعة والخامسة وأحياناً في السادسة، وبعض الأطفال يناهز الحلم ولما يعقل بعد، فهم يتفاوتون والتمييز متفاوت عند الأطفال، منهم من يتقدم تمييزه ومنهم من يتأخر، وأهل الحديث حينما حدّوا صحة السماع بالخمس اعتمدوا على حديث محمود بن الربيع الذي عقل المجة وهو ابن خمس سنين وفي روايةٍ: أربع سنين، فلعلها هي معوّل ابن جريج حينما حدد بالأربع، لكن الذي في الصحيح: ابن خمس سنين.
لحفظ الملف الصوتي:
______________________
تفسير القرطبي - سورة النور -
المصدر / موقع الشيخ عبد الكريم الخضير
المصدر / موقع الشيخ عبد الكريم الخضير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق