بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، حديثنا سيكون عن سورة الحج ولأننا في أيام الحج فسيكون الحديث عن هذه السورة
مناسبا ، ولعل فهم الآيات من خلال اهتمامنا بموضوع الحجّ أو معايشتنا لموضوع الحجّ يكون أكثر بإذن الله - عز وجل -
حتى يقول بعضهم لبعض بعدما يذهبوا إلى مكة والمناسك هل قرأت سورة الحجّ ؟ أكثر الناس يقول لا ، هل قرأت كتابا في
أحكام الحجّ ؟ يقول : نعم ، فيقول أخذت كلام البشر وتركت كلام الله!! فالأولى بالإنسان الذي يريد أن يذهب إلى مكة والحجّ
أول ما يقرأ يقرأ سورة الحجّ ولذلك حديثنا سيكون مربوطا من خلال الحديث عن السورة بالحجّ .
هذه السورة قال عنها بعض السلف أنها من أعاجيب سور القرآن ، وسبب ذلك مجموعة أمور :
أولا : أنها السورة الوحيدة التي سميت بركن من أركان الإسلام وهو الحجّ ، هذا على المشهور من أسماء السور وإلا فقد سُميت الفاتحة بسورة الصلاة لكنه اسم غير مشهور . ثانيا : أنها تنوعت في منازلها ووقت نزولها وأماكن نزولها بشيء لم يُعهد مثله في سورة أخرى ، فقد نزل بعضها في الليل ونزل بعضها في النهار ، ونزل بعضها في السفر ونزل بعضها في الحضر ، ونزل بعضها في الشتاء وبعضها في الصيف ، وكان بعضها مدني وبعضها الآخر مكي . فهذا التنوع في هذه السورة جعل بعض أهل العلم يقول هذه الكلمة .
ثالثا : لا يوجد في القرآن سورة فيها سجدتان إلا في سورة الحجّ ، وسنتحدث عن السجدتين بشكل خاص .
رابعا : تكرر نداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في هذه السورة أربع مرات ، ولم يُعهد ذلك في سورة من القرآن أخرى إلا ما ندر في سورة واحدة أو سورتين رغم قِصر سورة الحجّ بالنسبة لتلك السورتين . والعجيب أن المناداة بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في كل شيء يخصّ الحجّ ذائع مشهور ، والعجيب أنه عندما يُخاطب الرب سبحانه وتعالى في أحكام الحجّ يُخاطبهم بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وليس بعنوان الإيمان بخلاف الأحكام الأخرى والفرائض الأخرى والأحكام الأخرى .
خامسا : تنوعت موضوعاتها فتجد موضوعا في البعث وأهواله ، ثم تجد موضوعا في الحجّ وأحكامه ، ثم تجد موضوعا في الدعوة والجهاد والرسالة ، ثم تجد موضوعا في بيان قدرة الله في الكون من إنزال الماء وإنبات الشجر والإحياء والإماتة ... إلى غير ذلك ، ثم تجد موضوعا في بيان نتيجة ذلك كله وهو عبودية الخلق كلهم ، الكائنات كلها بما فيها الإنسان لرب العالمين . يمكن هذا سبب من أسباب تسمية بعض أهل العلم وتجدها في كتب التفاسير إنها من أعاجيب سور القرآن .
/ من الأشياء التي اعتدنا أن نتحدث عنها إذا تحدثنا عن سورة مطلع السورة ومقطع السورة . أما مطلع السورة فهو بداية السورة ، وأما المقطع فهو نهاية السورة .
مقارنة بين بداية السورة ونهايتها :
/ نلحظ أن بداية السورة كان فيها نداء بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) بينما خُتمت في آخر نداء لها بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فكأنها بُدأت بدعو عالمية ثم خُتمت بالذين استجابوا لهذه الدعوة من هؤلاء الناس .
/ كذلك بدأت هذه السورة بالترهيب واختُتمت بالترغيب ، فبُدأت بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) بينما اختُتمت بقوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) فرق بين حالة الخوف هنا وحالة الطمأنينة والنصر .
/ بُدأت هذه السورة بما يتعلق باليوم الآخر من أهواله كما سمعتم واختُتمت بحال المؤمنين في الدنيا الآن ، النصر ، التمكين ، الله وليهم ، هذا في الدنيا وكأنه يُقال لهم إذا حصل منكم هذا فإنكم ستأمنون من هذا الخوف الذي بُدأت به هذه السورة .
/ كذلك بُدأت السورة بالأمر بالتقوى واختُتمت بآثار هذه التقوى وهي عبودية الله ، الخوف من الله ، الركوع ، السجود ، الاستجابة لأمر الله ، هذه آثار التقوى هي العبادات والأعمال الصالحة كلها . هذه بعض القضايا المتعلقة بمناسبة المطلع للمقطع .
ما موضوع سورة الحجّ ؟
يصعب على الإنسان وعلى قارئ القرآن أن يحدد موضوع سورة من سور القرآن لأن هذا لو حصل لأشبه القرآن كلام الناس ولذلك يتميز القرآن بهذا الأمر أنك لا تكاد تجزم للسورة الواحدة بموضوع واحد ، وهذا من صور إعجاز هذا القرآن ، والله لو أن أحدنا كتب الآن سورة الحجّ أو أي سورة أخرى نثرا بيده أي حولها إلى كتابة نثرية لوجد أنه يخرج من موضوع في موضوع ربما لا علاقة له ولأصبح كلامه غير مفهوم وغير مستساغ عند الناس ، لكنك عندما تقرأ القرآن رُغم المواضيع المتعددة من موضوع لموضوع ، فتخرج من موضوع يتعلق بالآخرة وبالهول وبالعذاب تخرج مباشرة للحجّ وأحكامه ما علاقة هذا بهذا ؟ وتجدك في أحكام الطلاق والنكاح ثم تخرج منه (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، صدقني لو أن أحدنا قال كلاما مثل هذا على منبر وإلا في محاضرة لقالوا هذا لا يفهم أو لا يعرف كيف يتكلم ، فهذه صورة من صور إعجاز القرآن ، ونظم القرآن معجز ، لا يوجد كلام يشبهه أبدا لا كلام أنبياء ولا كلام بشر ، هذا كلام رب العالمين سبحانه وتعالى . ولذلك لا نستطيع أن نجزم بموضوع واحد إنما هو اجتهاد .
نقول لعل الموضوع الأشمل الذي يمكن أن يكون ظاهرا في هذه السورة حسب النظر في هذه السورة نقول إن موضوعها الرئيس هو العبودية لرب العالمين والمدخل الذي حاولنا أن ندخل منه إلى هذا المفهوم وهو عبودية رب العالمين سبحانه وتعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) هو وجود سجدتين في هذه السورة ، والسجود أحد أبرز وأهم معالم العبودية لله ، لأن معنى طريق معبد أي مذلل فهناك جانب من الذلة والخضوع ، ولا يمكن أن تتم العبودية لله إلا بالخضوع له سبحانه وتعالى ، ولذلك أسوء عمل يقوم به الإنسان أو أسوء خلق يتصف به الإنسان هو الكِبر خصوصا في مواطن التعبد ولذلك من أظهر مظاهر الخضوع على الإطلاق الحجّ ، الملك يلبس مثل أقلّ الناس مالا ، لا يستطيع أن يلبس لبس خاص ، ويتجرد من كل الحُلي والملابس والبهرجة ويبقى مثله مثل أي واحد آخر ويبقى على هذا أياما يُقاسي وهو لم يتعود على هذه العيشة لكن هي تربية على العبودية القلبية الحقيقية والخضوع لرب العالمين ، ولذلك أُمرنا عندما نصلي ونحن في موطن عبادة (أُمرت أن أسجد على سبعة أعظُم وألاّ أكف شعرا ولا ثوبا) لماذا ؟ كانت شعورهم طويلة فتسقط على التراب فتنظُفا يرفعوها لكن رفعها في هذا المكان لا يتناسب مع الخضوع والذلة لرب العالمين وأنت في موطن سجود الآن . إذا هذا درس غاية في الأهمية ، العبودية هي الخضوع ، وأتمنى أنه بعد اليوم لما نقرأ سورة الحج نحاول نتتبع موضوع الخضوع لرب العالمين - سبحانه وتعالى - وأقول المدخل العبودية مظهره سجود وقد تكرر مرتين في هذه السورة ، مرة بالوصف ومرة بالأمر ، وصف أن كل الكائنات تسجد لله رب العالمين ، وفي الثانية أمر للمؤمنين أن يسجدوا لله رب العالمين ، إذا هذا المظهر قد يكون هو المدخل لفهم موضوع هذه السورة العظيمة وهي قضية العبودية لله رب العالمين ، وإذا ربطنا ذلك مع موضوع الحجّ سنجد أننا فعلا وجدنا أن هذا الموضوع يتضح ، وإذا ربطناها أيضا ببداية السورة ومطلعها وجدنا أنه يتضح لأنه لما يُظهر الله - عز وجل - قدرته سبحانه وتعالى بهذه الصورة التي سنتحدث عنها أمر مذهل وعظيم ، ثم يُظهر سبحانه وتعالى في خاتمة السورة ضعف الإنسان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ذباب ، وكلنا يحتقر الذباب مع هذا لو أخذ الذباب من واحد منا شيء ما يستطيع يُنقذه ولا يُرجعه (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) هنا يبدأ الإنسان يعرف قيمته في مقابل معرفته لمنزلة ربه وقدرة ربه سبحانه وتعالى فيحصل التوازن فيذهب الكِبر الذي هو أول ذنب عُصي الله به وهو الكِبر (خلقتني من نار وخلقته من طين) ، وأسوء خُلق في الإنسان هو الكِبر ، عند الله وعند الناس . الآن الإنسان الذي فيه تكبر لا يحبه الناس ، والذي فيه تكبر يعاقبه الله عقابا عظيما يوم القيامة فيتحولون أمثال الذر يطأؤهم الناس بأقدامهم ولو كان في الدنيا يملك ملكا عظيما أو كان عنده مال فلا ينفعه هذا بشيء . ولذلك موضوع التواضع له مظاهر كثيرة ، والخضوع والعبودية لله لها مظاهر كثيرة ، على سبيل المثال ، من ضمنها مثلا : إذا أعطاك الله نعمة ، مياشرة إذا تحدثت عنها أو تذكرتها تذكر من أعطاك إياها وإياك أن تنسى وتنسبها لنفسك - هذا بحسن إدارتي ، هذا بفضل علمي ، هذا ما تعلمته ، هذا الجهد الذي بذلته - وتسترسل في مثل هذه العبارات فيأتي يوم تجد أنك سقطت (إنما أوتيته على علم عندي) قالها قارون فذهب كل ماله ، فينتبه الإنسان لأنك في هذه الحالة كأنك استغنيت عن الله ، لب العبودية أن تفتقر إلى الله .
الآن الإنسان يدعو ... يدعو ... كل الناس هكذا وبعضهم يقول أنا لم يستجب لي ربي لكن بمجرد ما أن يصل إلى حالة الاضطرار ، بمعنى أنه فقد كل الأسباب البشرية والمادية ... الخ وجرب كل السُبل ولم يبقَ له شيء عند ذلك يدعو الله من قلبه ، مضطر،وقلّما يدعو مضطر إلا أجابه الله حتى قال أهل العلم ولو كان المضطر كافرا (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) لأنه يكون في هذه اللحظة صادقا مفتقرا ، بمجرد ما يكون في قلبه شيء من الاستغناء لا يستجيب الله دعاءه ، لذلك بعض الناس يقول لم يستجب الله لدعائي ، انظر في نفسك ، دعوتك ولجوؤك إلى الله لم يكن صافيا ، وما كان بقدر الافتقار الحقيقي ، عندما نرى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف أنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر يرفع يديه إلى السماء يدعو ويدعو ويدعو حتى يرحمه أبو بكر ويقول "يارسول الله كفاك مناشدة لربك " ويسقط رداؤه الذي على ظهره من شدة الدعاء ويرده عليه أبو بكر ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن الذي يعرف رب العالمين - وهو أعرف الناس بالله - فهذا أمر إذا أردت أن تنجح في أي قضية أو في أمر افعل كل الأسباب الممكنة - لأن هذا مطلوب شرعا - افعل كل ما تستطيع ثم بعد ذلك الجأ إلى الله لجوءا حقيقيا ستجد - بإذن الله - أن النجاح حليفك .
يلحق بموضوع العبودية والذي مظهره السجود موضوعات فرعية سأتحدث عنها كل على حدة بعد قليل لكن قبل أن أصل إليها سأتحدث عن السجدتين اللتان قلنا أنهما مظهر عظيم من مظاهر العبودية ، هاتان السجدتان فيهما مجموعة من اللطائف والدلالات : أولا : قيل إن السجدة الثانية في سورة الحجّ هي آخر سجدة نزلت في القرآن ، وهي سجدة يؤمر فيها المؤمنون بالسجود لله رب العالمين ، وإذا ربطت ذلك ببداية الإسلام ودعوة الإسلام وآخر الإسلام وجدت أنه فعلا أن قضية السجود هي المظهر لأكبر للعبودية لأن الإنسان لا يمكن أن يضع أنفه - أشرف ما عنده - وجبهته على الأرض إلا لأمر عظيم وجلل حتى إنهم يقولون ولا يوجد ألذّ حالة في حالات العبودية أفضل ولا أحسن من السجود لله ، وهذه يمكن ما يشعر بها الإنسان بها وهو في وسط الناس لكن لو خلوت يوما في مكان ما ، في صحراء أو غيرها وصليت وسجدة وتذكرت هذا الأمر اللي وضعت أشرف ما لديّ على الأرض على التراب من أجل رب العالمين سبحانه وتعالى هذه أجمل حالة ممكن أن تمرّ على الإنسان ويصلح بها قلبه وتتغير بها نفسه فالسجود حالة عظيمة ، ولذلك لأجل هذا الأمر ولأجل هذا القُرب ولأجل هذا الخضوع والذل لرب العالمين كانت أقرب أحوال لالصلاة للاستجابة والإنسان ساجد ، فأكثر حالة من حالات استجابة الدعاء يمكن أن يستجيب الله لك فيها هي وأنت ساجد (فأكثروا فيه من الدعاء فقمِن أن يُستجاب له) حري ، أحرى حالة ممكن يستجيب لك الله فيها السجود ، فيحاول الإنسان في عبادة السجود أن يتنبه لمثل هذه المعاني . وأول سجدة نزلت في القرآن هي التي في العلق (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وإذا تأملنا ما بين أول وآخر سجدة وجدنا الإسلام كله ، وجدنا مسيرة الدعوة كلها ، وجدنا أن هذا الإسلام بتعاليمه وبالقرآن الذي نزل وبكلام النبي - صلى الله ليه وسلم - وقع بين هاتين السجدتين في زمن طويل .
/ كذلك لاحظنا أن آخر سجدة في القرآن جاءت في السورة المسماة بالحجّ ، والحجّ نزلت فيه الآية الدالّة على تمام هذا الدين كله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) نزلت في عرفة ، هذه الآية الدالّة على تمام الدين كله ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فتيء بعدها إلا قليلا وتوفي - صلى الله عليه وسلم - لأنه تمّ الدين ، ودعني أقول كمُلت العبودية أو الهدف الذي أُرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجله فقد عبّد الناس لرب العالمين ووضح لهم شريعة الله وانتهت المهمة ، وانتهت الرسالة وتوفي صلى الله عليه وسلم . فهناك ارتباط بين الحجّ وبين آخر سجدة التي مثّلت الرسالة كلها .
/ كذلك من لطائف السجدات الواردة في سورة الحجّ أن السجدة الأولى كانت عامة في المخلوقات ، ومن لطائفها أيضا أن كل المخلوقات المذكورة وهي كل ما حولنا من العوالم ذكرها الله بصورة عامة إلا نحن البشر - ونحن جزء من هذا العالم - قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) يعني ليس كل الناس يسجدون لكن كل العوالم تسجد الشجر والدواب لكن حين أتى عند الناس قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) لم يقل "والناس" قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) لأن ما كل الناس يسجدون لرب العالمين ، وهذا أمر مؤسف ، ولذلك الإنسان الذي يريد أن يعبد الله سبحانه وتعالى لا يتعلل بالناس حوله ويقول الناس كلهم ، العالم كله ، لا أنت مخطئ ليس العالم أنت قل الناس لكن العالم لا ، الشجر كله يعبد الله والحجر كله يعبد الله والمحيطات بما فيها والبحار بما فيها كلها تعبد الله وما بين السماء والأرض كله يعبد الله ، كل ما في الكون يعبد الله ، ما فيه إلا عدد قليل وهم نحن البشر قليلون جدا نحن البشر في مقابل مخلوقات الله التي نراها والتي لا نراها ، نحن جزء يسير . إذا فكرت بهذه المعادلة عرفت أن الكل يعبد الله ، بل بالعكس إذا عبدت الله فأنت مشيت مع الكون كله ليس العكس كما يظن بعض الناس لأنك أنت تنظر إلى البشر ، الكثرة في الناس دليل الخطأ وليس دليل الصحة ، النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة) يعني نسبة الصلاح ، نسبة أن تجد أحد منجز وجيد ويُعتمد عليه نسبة واحد إلى مئة ، ما كل الناس مثل بعض ، لا عليك من الكثرة (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) فهذا المقياس الذي يقيس به أكثر الناس الآن ، كل ما عمل شيء "يا أخي الناس كلهم أنت ما رأيت إلا أنا ، الناس كلهم يفعلون هذا" هذا غير صحيح أنت مسؤول عن نفسك ويوم القيامة ستُحاسب فردا (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) المحاسبة فردية ، ماذا فعلت ، ماذا تركت ، ماذا قلت ، أما أن يُخطئ الناس فأُخطئ هذا غير صحيح ، ولذلك أنت لا عليك من مقاييس الناس خذ بالمقاييس الشرعية في هذا الجانب ، اعمل الصح الذي عندك والخطأ الذي يفعله الناس فهذا أمر لهم .
/ كذلك لو لاحظنا في السجدة الأولى فيها دعوة للتأمل والتفكير (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ) "ألم تر" فهي وصف ، والمفروض أنني حين أقرأ هذه الآية أتأمل وأتمعّن ، وللمعلومية تجدون آيات كثيرة تبدأ بـ (ألم تر)، (ألم يروا) وهنا في بعض أحوالها (ألم تر) تجيء بمعنى "العِلم" أي ألم تعلم ولكن يُعبر أحيانا عن العلم بالرؤية لأن المطلوب رؤية أو علم يحصل بمثل الرؤية فالإنسان حين يرى شيئا ليس كما يُنقل إليه نقل "فما رائي كمن سمع" فقد أسمع الخبر لكن ليس كما أُعاينه وأراه هناك فرق بين هذا وهذا ، ولذلك هل نحن عندما نقرأ مثل هذه الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) لاحظ السعة من في السموات ومن في الأرض ، كل هذا ، فلو وقف أحدنا وفكر فقط كيف تسجد النملة ، فقط لو فكر في الحشرات قد يذهب ليله كله وهو يفكر كيف تسجد الحشرات ، فما بالك بالذي لا نراه إلا بالمجاهر ، هذا كله يسجد لله والشجر والدواب وكل ما في الكون مما ذُكِر ووما لم يُذكر ، لو فكرت في خلق الله، (ألم تر) أي ما نظرت ، ما رأيت ، ما علمت ، طيب اعلم ، فكّر ، اُنظر ، فالآية الأولى في السجدة الأولى تدعوك للتدبر والتفكّر في أن هذا الكون يسجد لله كلٌ على طريقته التي أرادها الله سبحانه وتعالى ، المهم الدرس الذي يصل إليّ وإليك وإلى كل الناس أن هذه المخلوقات قامت بالمهمة التي أُمرت بها وهي السجود لله ، لكن لما جاء إلى الإنسان قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) ليس كلهم ، وهذا صحيح ألا يوجد أُناس لا يسجدون لله أبدا ، وقضية السجود عجيبة يا إخوان حتى يوم القيامة يُدعون إلى السجود لكنهم في تلك الحالة لا يستطيعون يصبح ظهر الواحد منهم طبقا واحدا لا يستطيع السجود لكنهم كانوا في السابق (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) ومن أراد أن يسجد تلك السجدة يوم القيامة فليسجد الآن ، أما إذا امتنع ن السجود الآن فلن يسجد بعد ذلك ، ولو لاحظتم المقامات الكبرى يسبقها سجود فيأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسجد لرب العالمين - سبحانه وتعالى - فيقول له (يا محمد ارفع رأسك واشفع تُشفّع وسل تُعطى) المقامات الكبرى مدخلها السجود لله رب العالمين ، ولا يمكن أن يكون السجود إلا لله ، وإذا سجد إنسان لغير الله خرج من إنسانيته وخرج من عقله وإن رأيتموه ، هذا لا يُفكر ولذلك تجد دائما في القرآن نفي للعقل وإن كان فيه مُخ وفيه تفكير لكنه في الحقيقة لم يُستعمل في مكانه ولذلك تجد أناس يحملون درجة الدكتوراه ومع هذا يعبدون بقرا ، والله يقول أحد الإخوة أنه في إحدى البلدان توقفت سيارة فارهة في زحمة شديدة يقول وكنا في تلك البلد فلما وصلن إلى ذلك الزحام الشديد فإذا بقرة واقفة في الطريق ونزل هذا الرجل الذي يلبس لباسا رسميا أنيقا ، هذا لابد أن يكون إما مسؤولا كبيرا أو أستاذا في جامعة أو محاميا .. المهم أنه أنه يكون إنسان عنده ثقافة وعلم ومع هذا هو أول المتمسحين والآخذين من بول هذه البقرة - أكرمكم الله - فأين االعقل ؟! عندما يأتي هؤلاء الوثنيون أو غيرهم يُناقشون بالعقل يهربون لا يحبون أن تُناقشهم بالعقل لأنه لا يمكن أن يستمر معك في النقاش ، والعرب أكثر ما تجد في القرآن من نقاشات كانت نقاشات عقلية لهم في ماذا يعبدون وماذا يتركون ، فكان أحدهم يعبد صنما وأحيانا يصنعه من تمر فإذا جاع في سفره أكله ، أكل ربه ، أكل إلهه ، أكل الذي يعبده ، فكيف يكون هذا ؟! ومع هذا يعود مرة أخرى ويصنع له رب وإله ويعبده وهذا يدلّ على أن الإنسان مفطور على أن يعبد شيئا ، في فطرته ، في داخله ، حتى الذين لا يعبدونها هم يعبدون ذواتهم ، أليس هناك أناس يعبدون الشيطان ، يبحثون عن أي شيء ، فاحمد الله أن الله هداك لعبادة الرب الخالق الموجد - سبحانه وتعالى - ، هذه قضية السجدة الأولى والثانية . أحببت أن يكون هناك نوع من الأمثلة نضربها حتى إذا قرأنا القرآن نحاول نتأمل ، نقرأ ، ندخل ، نفكّر ، يكون هذا القرآن مُحرّك لنا، مُغير لنا ليس نقرأ الكلمات فقط بدون أن تحرك فينا شيئا .
/ مطلع السورة :
كلكم يُجمع أن السورة بدأت بحديث واضح عن قضية البعث ، عن قضية أهوال يوم القيامة ولربما لا توجد في القرآن آيات مصوّرة لِعظم الهول يوم القيامة مثل ما صورته هذه الآيات فيما يتعلق بإحساس الإنسان البشري مقابل هذا الهول ، نحن من الممكن أن نسمع تكوير الشمس ، إنكدار النجوم ، وتغير السموات والأرض لكن الله - عزّ وجل - ذكر لنا صورة للإنسان كيف يمكن يواجه أو ينظر لمثل هذه اللحظة إذا قامت يوم القيامة ، وهذا كلام رب العالمين الذي خلقنا وأوجدنا وهو أعلم بأحوالنا - سبحانه - منا .
فبدأت هذه السورة بالحديث عن البعث وأهواله ، ثم هي اسمها سورة الحجّ فالعادة أن السور تُسمّى ببداياتها ، أغلب السور تجده تُسمى ببداياتها فلِمَ لم تُسمى بسورة البعث مثلا؟ إذا هذا دليل على أن هناك علاقة وثيقة بين ما بُدأت به السورة وبين الموضوع الذي سُميّت به وهو الحجّ .
/ صور التشابه بين الحجّ كشعيرة نراها وبين البعث كقضية غيبية لم تأتِ حتى الآن : المرحلة الأولى : يحتاج هذا الأمر إلى نظرة بسيطة ، لا يحتاج إلى جهد كثير فأنا متأكد أن كلكم تدركون العلاقة أو صور العلاقة بين موضوع الحجّ وبين البعث ، يمكن أن نقول - باختصار - : أن الحجّ مشهد مُصغّر من مشاهد يوم القيامة ، فإذا أردت أن ترى مشهدا مصغرا ليوم القيامة انظر إلى الحاجّ منذ أن يخرج من بيته إلى يعود إلى بيته ، انظر إلى مسيرته هذه ، خذها خطوة خطوة ، مرحلة ، مرحلة ستجد أنك كأنك تنتقل إلى العالم الآخر وإلى الآخرة وإلى الجنة وإلى النار ، بعد ذلك عودة الإنسان إلى أهله إما محبورا مسرورا ، وإما خاسئا حسيرا .
أول نقطة ذكرتها السورة في الحديث عن الآخرة قضية الذهول (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ذكر الله - عز وجل - قضية الذهول في هذه اللحظة ممن لا يذهل عادة وهي "المرضعة" والمرضعة غير المرضع فـالمرضعة : هي التي كان ولدها يرضعها حين الكلام ، أي إذا كان الطفل قد التقم الثدي نسميها مُرضعة ، وإن كانت هذه السنة أو في هذه الحال وفي الأيام هذه هي مُرضع لكن هذه اللحظة لا تُرضع ولدها نسميها مُرضع ، فالله ذكر أشد الحالات التصاقا للجنين بأمه وهو أن يكون ثديها في فمه "مرضعة" بالتاء ، وأنا متأكد لو جاء الدارسون في علم النفس أو علم الاجتماع أو جميع علوم الدنيا ليُثبتوا أحدا أكثر التصاقا بالآخر وشعورا به لن يجدوا أكثر من التصاق الأم بجنينها والجنين بأمه ، وطبعا من جهة الأم أكثر ، والأم التي تُرضع أكثر حنانا والتصاقا بجنينها من الأم التي لا تُرضع وهذه ظاهرة اشتُهرت وعُرفت ، ولعلي أُعرج عليها بعد قليل .
قضية الذهول موجودة في الآخرة فهل هي موجودة في الحجّ ؟ نعم .
الذي ذهب إلى الحجّ منكم في وسط الزحام ألا تنكشف العورات ؟
أليست ملابس الناس هناك لا تستر العورات غالبا؟
ومع هذا لا تجد أحدا يبحث عن هذه الأشياء - سبحان الله - قالتها عائشة - رضي الله عنها - لما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (يُحشر الناس يوم القيامة حفاة عُراة غُرلا) لم تهتم عائشة بحفاة وغرلا ، اهتمت بـ(عُراة) فقالت : يارسول الله الرجال والنساء سواء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ( يا عائشة الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك) أي أنهم مشغولون بشيء فهذه الأشياء لم يهتموا فيها أبدا - سبحان الله - موضوع الحجّ أمر رباني وليس هو من الناس ، تجد الناس في الحجّ لا ينشغلوا بهذه الأشياء ولكن لو في غير الحجّ هم يفعلون أمورا - مع تستر الناس ولبسهم اللباس الكامل - ومع هذا تجدهم العين تذهب هنا وهناك ، هذه القضية أيضا ظاهرة في الحجّ ، الناس ينشغلون بأمور أخرى ، الزحام ، الناس ، الأعداد ، الكل يريد أن يعبد الله،الجو بشكل عام يعطيك هذه الروح الإيمانية تُخرجك من هذا النظر . هذه القضية الأولى وهي قضية الذهول .
قضية اللباس : صحيح أن السورة لم تتحدث عنها مباشرة لكن تحدثت عن مراحل خلق الإنسان ، ومراحل خلق الإنسان تبدأ من تراب ثم من نطفة ، ثم من علقة ثم من مضغة ثم يخرجه بعد ذلك طفلا ، ثم هذا الطفل يبقى أو يموت أو يشيخ أو يهرم هذا علمه عند الله - سبحانه وتعالى - لكن هذه المراحل التي يمر بها الإنسان من ضمن المراحل التي يمر بها هو يمر بمرحلة يُلبس لباسا معينا ومن ضمن الأشياء الدالة على قضية مراحل خلق الإنسان ذكر الموت ، والإنسان إذا مات لبس لباسا خاصا وهو "الكفن" هذا الكفن يُشبه إلى حد كبير حال الإنسان وهو محرم ولذلك سبحان الله حين ينظر الإنسان إلى مراحل الخلق هذه والإحياء والإماتة التي فيها وكيف أن الإنسان إذا مات لُف بشيء أبيض فكذلك المُحرم يُلف بهذا الإحرام فإذا ربطنا هذه المراحل بموضوع اللباس وجدنا الآتي : المحرم يخرج من بيته في المرحلة الأولى أو دعني أتحدث عن الإنسان في مراحله الأولى خُلق من نطفة ، من تراب إلى مرحلة النطفة هذه خلق آدم عليه السلام ، بعد ذلك يُخلق الناس بعده من نطفة ، من النطفة إلى أن يكون طفلا هذه مرحلة فيخرج إلى الدنيا ، بعد ذلك تكون هناك مرحلة من الطفولة إلى الكهولة أو الموت ، ثم بعد ذلك مرحلة من الموت إلى البعث وهي مرحلة القبر ، بعد ذلك البعث مرحلة الحساب ، بعد ذلك المكان الذي يستقر فيه الإنسان جنة أو نار . المحرم ماذا يفعل ؟ يخرج من بيته إلى أن يصل إلى الميقات (الإحرام) هذه المرحلة الأولى ، مازال بلباسه ، مازال يتطيب ويفعل ما يريد ، إذا وصل الإحرام كأنما حصلت الوفاة والموت لهذا الإنسان ، فهذا - المحرم - يخلع ملابسه أما الميت فتُخلع عنه ملابسه ، المحرم يلبس إحرامه والميت يُلبس الكفن وكلاهما يشبه بعض ، هذا يغتسل وهذا يُغسّل ، هذا يصلي وهذا يُصلى عليه . بعذ ذلك - إخواني الكرام - لاحظ هذه المرحلة : هذا يُذهب به إلى القبر - المقبرة ليبقى فيها - وذاك يذهب في رحلته إلى مكة . ولو لاحظت أيضا قبل قضية الإحرام يتطيب الإنسان في جسده ويأخذ من شعره ، وكذلذ هذا الميت يُطيب ويُقص ما طال من أظفاره ويُغسل ، بعد ذلك يذهب هذا المحرم إلى مكة لأداء هذه الشعائر ، وهذا يذهب حتى يحصد أعماله في القبر ، بعد ذلك يُبعث هذا وذاك يذهب إلى عرفات ، وعرفات أشبه يوم بيوم القيامة يقول فيه ابن القيم :
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي ** كموقف يوم الحشر بل ذاك أعظم
أي موقف عرفة يشبه موقف الحشر هذا خرج من قبره وحُشر استعدادا للحساب ، وهؤلاء ذهبوا في صباحية يوم عرفة - يوم التاسع - إلى عرفة ليتلقوا رحمة الله - سبحانه وتعالى - لا يعلمون بعد الغروب ما الذي سيحصل ، وألئك أيضا يُحاسبون في المحشر لا يدرون ماذا يُعمل بهم فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير ، وهؤلاء ينتظرون عفو الله لايدرون أينصرفون إلى مزدلفة مغفورا لهم ، أينصرفون وهم مأزورون أم وهم مأجورون الله أعلم ، فهذا الانصراف يشبه ذلك الانصراف .
/ كذلك تشبهه في النهاية، فإن النهاية بعد هذا الدعاء وهذا الاجتماع الضخك الموجود في عرفة أو الموجود في يوم القيامة في المحشر ، الناس بعد ذلك ينصرفون حسب ما أُعلن لهم إما جنة أو نار ، فإن كانت جنة يعود الإنسان إلى أهله مسرورا وكذلك الإنسان إذا رجع وقد يسر الله حجته وغفر ذنبه فعاد مسرورا إلى أهله ، أو يكون غير ذلك - عياذا بالله - . وهذه المسيرة أيضا لا غضاضة أن نجد ربطا بين موضوع الحجّ وبين موضوع أهوال يوم القيامة ، وإذا كنا نريد أن نستفيد - يا إخواني الكرام - نستفيد من هذه السورة الموجودة سواء عايشناها أو رأيناها فالواحد يتذكر الحال لو حصل يوم القيامة ، والله الواحد منا لو جاءه فقط ضغطة زحام بسيط وهو يطوف أو وهو يرمي الجمرات ما أطاق ذلك فكيف تُطيق زحام يوم القيامة ، الناس يوم القيامة يركب بعضهم بعضا كأنهم جراد منتشر والجراد معروف أنه بطريقة تجمعه يكون فوق بعضه من كثرته ، فهو زحام لا يشبه زحامنا إلا من أجل التقريب والتوضيح فإذا كنا لا نصبر على هذا الزحام البسيط فكيف نستعد لذلك الزحام الكبير يوم القيامة ، وإذا كنا لا نستطيع أن نصبر على الحر - وهذه لعلها والله أعلم من أسباب كون مكة دائما حر - حتى تشبه ذلك الموقف لأن موقف يوم القيامة حر ، شمس ، فتجد مكة ليست منطقة باردة هي من أحر بلاد الدنيا وأكثرها حرا ولذلك يموت بعض الناس من ضربات الشمس وغير ذلك ، فإذا كنا لا نتحمل هذا في الدنيا فكيف سنتحمله يوم القيامة فإذا أردنا أن نتحمله يوم القيامة فلنبحث عما يُظلنا الآن ، وفي هذه اللحظة أذكر قضية الصدقة وهي من اظلمور الظاهرة في قضية الحجّ وأيضا في سورة الحجّ على وجه الخصوص . هذا مناسبة بداية السورة في موضوعها واسم السورة .
الموضوعات الرئيسة التي تحدثت عنها سورة الحجّ :
الموضوع الأول الذي تحدثت عنه السورة بالتفصيل - غير موضوع العبودية العام - البعث وأهواله ، تحدثت هذه الآيات عن الأمور التالية :
- عِظم ما يراه الإنسان يوم القيامة بعينه
- أثر الشيطان في التشكيك في قضية القيامة ، كثير من الناس ليس لديه يقين والشيطان يُلهيك عن قضية تصور الحقيقة يوم القيامة ، بعض الناس لا يحب حتى أن يقرأ عن هذه الأشياء ، وهذا غير صحيح فإذا أراد الإنسان أن يكون عنده توازن في هذه الحياة ولا يكون مادي يكون يقرأ ، كما يقرأ عن الدنيا يقرأ عن الآخرة فيصبح عنده توازن يسميها أهل العلم الرقائق تجد فيها حديث عن القبر ، عن الآخرة هذه قضايا تجعل في الإنسان توازن ، أما الإنسان المنصرف إلى الدنيا يقسو قلبه ثم يدخل في الظُلم والتعدي والجور ، حدثني رجل بنفسه أن كفيله أخذ أمواله وظلمه وانتقل هو من الرياض إلى تبوك ، وسمع كلمة عن بعض أحوال يوم القيامة فأعجبته ودوّنها ثم أرسلها بالفاكس إلى كفيله في الرياض وقال : بيني وبينك يوم القيامة ، أرساها له في الصباح وقال أني سأشكوك لرب العالمين فاتصل عليه في الليل وقال له تعال غدا للرياض لأعطيك حقك كاملا ، قال له : ليس معي أوراق ، قال له لا تحتاج أوراق فأنا أعرف حقك ، فقال له ليس فقط أنت هناك 300 عمل غيرك كنت قد ظلمتهم ، تذكير . ولذلك تجد القرآن مليء بالإشارات ، ولذلك أي أنسان تمر عليه فترة طويلة لا يسمع شيئا عن الآخرة تجده يقسو ، يميل .. يميل ... يميل ، فإذا سمع شيئا رجع التزم ، إذا كان هناك خطأ بدأ يقل الخطأ ، هذا توازن ، خوف ورجاء لا هذا ولا هذا كجناحي طائر ، لأنك لو غلبت جانب الخوف فسينزوي الإنسان ولن يعمل ، فيه اتزان ، خوف ورجاء ، تخاف الله كأنك من أهل النار ، كأنك دخلت النار ، وترجو الله كأنك من أهل الجنة ، بهذا التوازن يمشي الإنسان ، ولذلك بعض الناس يؤسفنا كلما قالوا فيه قال الله غفور رحيم ، هذا يضحك على نفسه ، وهو يعرف أن الله شديد العقاب لكنه لا يريد أن يسمع هذه العبارة ، لا يريد أن يتصورها لكنه يغش نفسه وهذا من تغرير الشيطان .
الدليل على البعث من ضمن هذه الآيات وليس عرض البعث فقط ولا عرض لأهوال يوم القيامة فقط بل هناك تدليل عليها حتى نفهم ونشعر ، والعجيب في أدلة البعث أنها أدلة متجددة لا تنقضي أبدا ، وأدلة البعث التي ذكرها الله في القرآن كلها أدلة عقلية يُخاطب بها المسلم والكافر ، والعالم والجاهل ، والصغير والكبير ، في كل بيئة وفي كل زمان ، وهذا ما لا يقدر أن يقوله بشر ، وهنا أمامنا دليلان :
دليل فيك ، في خلقك أنت أيها الإنسان ، ودليل آخر خلق النبات ، فقد يغفل الإنسان عن ذاته لكنه لن يغفل عما يراه ، أما الدليل الأول المتعلق بالذات فهو: مراحل خلق الإنسان والله ذكر أن الإنسان يُخلق من تراب والتراب ليس فيه حياة بل ميّت ، بعد ذلك من نطفة والنطفة فيها حياة ، بعد ذلك يتحول لمضغة وعلقة ليس فيها حياة ثم تنفخ الروح ويصير فيها حياة ثم يموت فما يكون فيه حياة ، بعد ذلك يُبعث ، أصلا البعث موجود قبل قيام القيامة في مراحلك الأولى ، كل هذه دلائل على قدرة الله ، على الذي أنشأك في هذه المراحل أن يُنشأك بعد ذلك والإعادة أهون وكله هين على الله سبحانه وتعالى .
- الدليل الثاني : النبات الموجود في كل مكان وهو دليل على البعث لأن كل النبات يمر بمراحل حياة وموت ، حياة وموت ، حياة وموت ، شيء يتكرر بعضه يوميا وبعضه أسبوعيا وبعضه شهريا وبعضه سنويا ، والناس بطبيعتهم إذا نزل المطر قال : كيف الأرض ؟ قال : والله حية أبشرك ، يطلقون عليها"حية" ، وإذا مرت الأيام ذهب الربيع واصفرّت وراحت قالوا إنها ماتت "ميتة" ، ثم حيت ثم ماتت ثم حيت دليل مستمر على قدرة الله على الإحياء والبعث ، هذه قضية مهمة جدا ولذلك ذكر الله - سبحانه وتعالى - ذكر بعدها قضية إحياء الموتى .
من اللطائف المتعلقة بهذه القضية - قضية التدليل على البعث من خلال الموت - أن الله سبحانه وتعالى قال فيها (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ثم قال (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أن الذي قدر على هذا يقدر على هذا - سبحانه وتعالى - النقطة : أنه قال هنا في سورة الحجّ قال (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً) وفي سورة فصلت قال ( أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً) والسياق واحد أي الجملة شكلها واحد (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) ، وفي فصّلت ( أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) فالمقطع الأول متشابه تماما إلا في كلمة واحدة ، في الحجّ (هامدة) وفي فصّلت (خاشعة) والسبب : أن السياق في سورة الحجّ سياق عن الموت فالحديث الذي سبقه (وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) الحديث عن الموت فقال هذا ، والسياق في سورة فصّلت سياق عبادي يتحدث عن عبودية وعن سجود (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) السجود ، العبادة ، السياق العبادي لا يُناسبه الهمود فالمطلوب في العبادة الخشوع وليس الهمود ولكن ناسب كل مكان السياق الذي ورد فيه ، فلما كان السياق هناك يتحدث عن العبادة قال (أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً) صحيح أن هناك تواؤم بين الهمود والخشوع في أن كل منهما عدم حركة لكن لا يصلح أن أقول عن إنسان عابد - يصلي - أقول هامد السياق والموقف لا يناسب فهناك قال (خاشعة) لأن الحديث عن عبادة ، عن سجود فقال (خاشعة) وهنا الحديث عن موت فقال هامدة والناس يقولون "جثة هامدة" فعند الموت يُعبّر بالهمود وعند العبادة يُعبّر بالخشوع .
/ كذلك من الأشياء التي ذُكرت في قضية البعث ضعف اليقين بالبعث عند بعض الناس وهؤلاء هم الذين يعبدون الله على حرف فإنه كان من أهل البادية أو الأعراب كانوا يأتون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فينظر - فالمسألة تجريب - وهذا خطير جدا ، الدين لا تجرب فيه ، لا تقول والله أنا سأقرأ رقية ، أجرب إن شفاه الله وإلا لست بخاسر ، أنت لا تتعامل مع طبيب ولا مع دواء ، أنت تتعامل مع رب العالمين، إذا ما فيه يقين ، هذا هو السر "اليقين" ، لماذا بعض الناس لو قرأ على ولده شيء يُشفى ؟ القضية في اليقين وبعضهم يجرب تجريب ، ما ينفع ، الدعاء يجرب تجريب يقول أنا رحت للأطباء خليني أجرب الدعاء ، ما ينفع . ولذلك اليقين هنا بعض الناس كانوا يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرى بعضهم والله إن كان كثُر ماله وتحسنت صحته ودابته التي معه ولدت له شيئا - هم يبقون في المدينة فترة - وزاد ماله قال هذا دين حسن واستمر عليه ، وإن كان أصابه مرض وتغير عليه الجو وخسر في تجارته أو في شيء قال هذا دين سوء فهو يعبد الله على حرف ، وترى كثير من الناس عنده تزعزع وما عنده يقين كل مرة يميل ، لا ثق بالله - سبحانه وتعالى - اثبت فقد تأتي لحظة ينحرف فيها الإنسان (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ) فهذا عنده ضعف في اليقين في قضية البعث وما عند الله - سبحانه وتعالى - ، ثم في آخرها ذُكر المصير إما إلى الجنة وإما إلى النار وهذه استوعبت عدد كبير من الآيات إلى آية (25) تقريبا وهي تتحدث عن الآخرة بشكل عام .
/ كذلك من الأمور التي تحدثت نها السورة الحجّ ، جاء تقريبا من آية (26) إلى آية (38) والموضوعات التي ذُكرت في الحجّ غريبة وعجيبة ، يعني بما أنها سورة الحجّ ربما يتوقع الإنسان أنه سيجد فيها أحكام الحجّ ، العجيب أنه ليس فيها شيء من أحكام الحجّ إلا نزر يسير وأحكام الحجّ جاءت في سور أخرى ، بل حتى إيجاب الحجّ لم يأتِ فيها (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ليس فيها لكن العجيب أن كثير من أحكام الحجّ ارتبط التوجيه فيها بلفظ الناس لا بلفظ الإيمان والمؤمنين أو المتقين ، من ضمنها هنا الأشياء التي ذُكرت في قضية الحجّ مكان الحجّ ومكان البيت والمطلوب فعله حيال هذا المكان ، والأمر الثالث التأذين بالحج والدعوة إليه (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا) وأيضا ذُكر استثمار الحجّ في الانتفاع بما فيه من الخيرات ، وخامسا : ذُكر فيه تعظيم حرمات الله وشعائر الله وخصوصا بهيمة الأنعام ، قضية الذبح ، أكثر شيء تكرر هو الحديث عن بهيمة الأنعام والذبح في هذه السورة على وجه الخصوص ، فيما يخصّ الأحكام لم يتكرر إلا هذا الأمر .
في قضية الآيات التي تحدثت عن الحجّ لنا وقفات سريعة :
- يقول - سبحانه وتعالى - (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) "بوأنا" هيأنا أو جهّزنا أو دللنا (أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) لاحظ أول شيء ذُكر بعد تعريف إبراهيم بالبيت أو تهيئة هذا المكان ليكون هذا البيت أو دلالته عليه ، أول شيء نُبّه عليه ألاّ يُشرك مع الله غيره لماذا؟
لأن الشرك يرتبط دائما وأبدا بالمجسمات الثابتة ، دائما الشرك يأتي بتعظيم مكان ثم يذهب الناس الذين لهم معرفة به ثم يأتي ناس بعدهم لا يدرون لماذا عُظم فتأتي العبادات تزيد وتزيد إلى أن يُعبد من دون الله فنُبّه لأن كل الحجّ مبني على هذه الأشياء ، هناك جمرات ، هناك كعبة ، هناك أماكن معينة ، فيه جبل ، فهنا يكثُر ميل الناس للابتداع وظهور مثل هذه الأشياء فلذلك ذكر هذه القضية .
الأمر الثاني : قال (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) والمقصود بالتطهير قالوا : من الأوثان والرجس ولكن قالوا فيه أيضا ملمح لطيف وهو : إذا كان الله وهو رب العالمين أمر بأن يُطهّر بيته وهو الغني سبحانه وتعالى عن الناس للوافدين إليه قال فمن باب أولى أن يكون ذلك مع كل قادم لكل بيت ، ولذلك من حُسن الضيافة أن الإنسان إذا دعا أحدا إلى بيته أن يُطهره وينظفه ويُطيّبه حتى لو كان القادم أقلّ شأنا من صاحب البيت فإن هؤلاء مخلوقون وهذا خالق - سبحانه وتعالى - فبعض الناس لو جاءه إنسان ضعيف الحال البيت كما هو لا يهتم له ، لكن الأولى لكل قادم أن يُهيأ البيت ويُجهّز هذا من كرم الضيافة ، وهذه من الملامح التي أشار إليها أهل العلم ، من ضمن التطهير التنظيف ، التنظيف الحسي والمعنوي لكن الحسي لا يصلح أن تدعو إنسان إلى بيتك وهو قذر وغير مرتب ولا مُنظم ، هذا لا يصلح ، وهذه من تعاليم الإسلام .
/ (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) لماذا قدّم الطائفين والقائمين والركع السجود مع أنها كلها عبادات ، الناس يصلون وكل العبادات تُقام ؟
قال : لأن العبادة الأميز التي لا يُشارك فيها هذا المكان مكانا آخر هي الطواف ، السجود والقيام والركوع في كل مكان لكن الطواف فقط في هذا المكان ولذلك قدّمه لتميّزه .
/ لما قال (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) "أذّن" ولاحظ "في الناس" يعني الدعوة الموجهة في الحجّ لكل الناس ، لماذا ؟
/ بعضهم قال : حتى في الإيجاب قال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) ، طيب هؤلاء الناس بعضهم غير مسلم فكيف يجب عليه الحجّ مع أنه من شروط الحجّ الإسلام ، فكيف يأمرهم الله ويطلب منهم أن يحجّوا وهم غير مسلمين ؟ قال :
/ هذا الذي كان ينبغي عليهم - أن يحجّوا - وهم لن يحجّوا إلا بالإسلام فكأنما دعاهم إلى الإسلام. هذه واحدة .
الأمر الثاني : أنه قد يكون أظهر مظهر ندعو به إلى الإسلام هو مظهر الحجّ ، وهذا لم يستثمر من المسلمين حتى الآن ولذلك الآن بدون اهتمام من المسلمين ، يعني بدون قصد تنقل الفضائيات موضوع الحجّ فيُسلم بشر كثير نحن لا نعلمهم من هذا المنظر العجيب ، نحن لا نعلم بهم لكن الله يقول لنا أنه في موضوع الحجّ خاطب الناس ، اعرضوا هذا الحجّ للناس واجعلوا الناس تراه .
الأمر الثالث : أنه العبادة الوحيدة التي يتجمع فيها البشر من كل مكان ويؤدونها في مكان واحد فقط ، العبادات الأخرى تُؤديها في أي مكان لكن هذا تؤديه في مكان واحد والناس يأتون من كل حدب وصوب فهم في الحقيقة يمثلون الناس جميعا فالخطاب عالمي من هذه الناحية .
/ (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) التأذين هو : رفع الصوت والإعلام بشيء معين - بالحجّ - فنادى فقال يارب كيف أبلغهم - الناس كثيرون - ؟ قال : اصعد على جبل قبيس ، فصعد فنادى فبلّغ الله صوته كل أحد ، ثم قال الله - عز وجل - بعد ذلك (يَأْتُوكَ رِجَالا) مباشرة يأتوك ، "يأتوك" هذا الفعل جواب لـ"أذن" أي أنت تؤذن وهم يحصل منهم الإتيان وهذا دليل على أن هذه الاستجابة هي من الله سبحانه وتعالى ، سبحان الله الحجّ من العبادات التي تهفو إليها النفوس ، تجد الناس رغم الضيق والفقر والحاجة وبُعد المكان إلا أنه يعيش طول عمره يفكّر في الحجّ ، وبعضهم يخطط طول عمره للحجّ ، وبعضهم يجمع مالا لمدة أربعين سنة وثلاثين سنة من أجل أن يحجّ ، ولذلك الله - عز وجل - لما ذكر الحجّ أو ذكر مكة قال عنها ، وعبّر عنها بأنها تهوي إليها الأفئدة والقلوب والنفوس ، معناه أنك لا تملُك هذا ، تميل إليها النفوس رغم أنه - سبحان الله - لا يوجد في مكة أي مقوّم لجذب الناس ، العادة المكان الذي يجذب الناس إما مكان تجاري فيه النقود ، أو مكان للبحر الناس يأتون للماء ، أو مكان فيه نهر أو مكان فيه جو جميل ولطيف ، أو فيه خضرة ، لا ترى فيه شيء إلا جبال سود وحرارة وزحام ، في عُرف البشر هذا المكان طارد وليس جاذب لماذا ؟ قال : ليكون المجيء لله وحده وليس لجمال المكان ولا الموقع ، حتى يكون الإخلاص كاملا لله - عز وجل - .
/ من الأمور التي وردت في آيات الحجّ : ملمح التواضع ، هذا الملمح يمكن أن نجده ظاهرا في قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) صحيح أنها ما وردت في الحج لكنها أيضا من آيات الحجّ وحتى نعرف هذا لهذا الموضوع قصة وهو أنه كانت قريش تتميز عن العرب وتقول نحن أهل الحرم لن نخرج من الحرم أبدا ، ويرون لهم بذلك فضل على الناس وهنا نقطة الكِبر في مواطن التعبد ، لا يصلح ، العبادة ذُل ، إذا جاء معها الكِبر أفسدها ، فكانوا يذهبون ويصلون إلى حدود عرفة - عرفة في الحِل وليست في الحرم - فلا يذهبون مع الناس ويبقون إلى أن يفيض الناس وبعد ذلك هم يُفيضون ، لكن هم لا يخرجون ، هكذا يرون ، فلما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صبيحة يوم عرفة ظنوا - لأنه قرشي - ظنوا أنه سيضرب خيامه في هذا المكان ولا يمكن أن يتجاوزه فنحن أناس مميزون ، مختلفون عن غيرنا ، رعاع الناس والمساكين والأجناس الأخرى هم الذين يذهبون ، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضُربت له قُبة في نِمره ، ونمِره خارج الحرم فكبُر ذلك عليهم جدا فقال الله - عز وجل - (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أي لا تتميزوا في العبادات عن الناس ، أُنظر هم ناس ضعفاء جعل هؤلاء الأقوياء في نظر أنفسهم اذهبوا مع هؤلاء ، العمل مع الجماعة أفضل (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) لا تتميزوا عنهم بشيء ، حتى التميز في الحجّ يمكن يكون فيه هذا الملمح ، الإنسان لا يذهب إلى أماكن يتميز بها عن غيره وينفصل عنها ، ولذلك الثراء الموجود في الحجّ الآن والترفه هذا يُخالف هدفا من أهداف الحجّ ، أصلا أهداف الحجّ أن تشعر بالمشقة ، أن تشعر بالناس ، تصور إذا كان الملك وإلا الخليفة وإلا الأمير - اللي يكون - وإلا المسؤول حينما يعيش الحجّ حقيقة ، يشعر بالشمس والتعب ، يشعر بالزحام ، يشعر بالناس بعد ذلك ويكون الأمر مختلف ، لكن إذا كان الإنسان لا يشعر بشيء ، الآن أفراد الناس أصبحوا يذهبون في مخيمات خمس نجوم كأنما ذهبوا في فندق والله حتى حمامات السباحة يضعونها لهم ، أين الحجّ!!؟
جزء من الحجّ هو هذا ، أن يطول الشعر فلا تستطيع أن تقصه ، يطول الظفر فلا تستطيع أن تقصه ، تشعر بأن فيه شيء ، فيه تفث ، فيه قذر تريد أن تزيله لكن لا تستطيع فهنا ينغسل الكِبر الذي عندك في خمسة أيام ، تتغير ، تكون إنسان متواضع . دُفع عبد الله بن المبارك وكان معه الفضيل بن عياض - وهو المُسمّى بعابد الحرمين - دُفع عند زمزم أو في مكان فيه زحام فدفعه الناس وأسقطوه على الأرض ، وكان رجلا عالما عظيما ، ابن المبارك معروف ، وتاجرا وصاحب ثراء ، فسقط على الأرض وقام وهو يبتسم وقال : "والله ما أجمل هذا المكان لا يعرفون فيه أحد فلا يحترمون فيه أحد " . حينما يعيش الإنسان إنسانيته الطبيعية ، يشعر بما يشعر به الناس ويُحسّ بما يُحس به الناس يكون أقرب إلى الحكم الصحيح وهذا جزء من أهداف الحجّ.
/ في قوله تعالى (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) الاستجابة كانت عامّة وربانية من الله ، بل إن الله - عز وجل - قدم استجابة الذين يأتون على أقدامهم على الذين يأتون على رواكبهم فقال (يَأْتُوكَ رِجَالا) "رجالا" ليس المقصود نساء ورجالا(يَأْتُوكَ رِجَالا) أي يمشون على أرجلهم ، (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) يعني يركبون ، فقدّم استجابة الذين يمشون على أرجلهم قبل استجابة الذين يمشون على رواكبهم وأطال أهل العلم في هذا لماذا ؟
/ قال : لأنهم أكثر أجرا لأنهم أكثر مشقة فحقهم أن تُجبر خواطرهم بتقديمهم على غيرهم.
/ قال بعضهم : لا ، بل لأنهم أقرب مكانا فالعادة الأقرب مكانا يأتي على أقدامه والبعيد يركب فطبيعي جدا أن القريب هو الذي يستجيب أولا .
/ وقال بعضهم : (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أنه من تقديم الأولى فإذا كان قد استجاب الذين عليهم المشقة أكثر وهم الذين على أقدامهم لا يجدون شيء فمن باب أولى أن يستجيب من عنده راحلة .
لذلك يقول أهل العلم ّإذا كان عندك راحلة وقوت - مال يكفيك - وأنت فيك شروط الحجّ كاملة مستطيع ، هذه هي الاستطاعة الإيمانية والبدنية مستطيع وعندك قدرة يجب عليك الحجّ فورا ، الأمر ليس بسيطا ، صحيح فيه فضل عظيم لكنه ليس بسيطا ولذلك الحجّ رغم أنه عبادة واحدة لكنه يُعيد الإنسان كأنه وُلد الآن ، وقضية أنه يُعيد الإنسان كما كان الآن يعيدك إلى قضية المراحل التي تحدثنا عنها قبل قليل أن الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم ...ثم ...ثم ، تذكر هذه القضايا كيف تُربط مع بعضها البعض ولذلك عمر بن العاص مدّ يده للنبي - صلى الله عليه وسلم - يُبايعه ثم قبضها فقال : مالك يا ابن العاص ؟ قال : أُريد أن أشترط يا رسول الله ؟ - قبل أن أُسلم عندي شرط - ماهو شرطك ؟ قال: أن يغفر الله لي ذنوبي السابقة ، فقال : "يا ابن العاص أما علِمت أن التوبة - وفي رواية الإسلام - يهدم ما كان قبله ، أما علِمت أن الحجّ يهدم ما قبله" يهدم ، لا يُبقي شيء ، الحجّ وهو كم يوم رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ( من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) (من حجّ فلم يرفث ولم يفسق) هذه من أعاجيب الدلالات أنه رُتب الجزاء الأعظم في الحجّ لا على الشعائر الظاهرة رمي الجمرات والطواف إنما رُتب على الأخلاق في الحجّ ، الناس الذين يذهبون كل اهتماماتهم ماذا نعمل بعد الظهر ؟ متى نرمي ؟ ولا يهمه أن يكون سيء الخُلق يؤذي الناس ، لا يسابب أحد ، لا يهمّه ، لا ، الأخلاق .. الأخلاق ، الحجّ فيه تظهر التقوى ، الله قال عن الحجّ (وَتَزَوَّدُواْ) خذوا معكم تقوى حتى تطبقوها هناك ، طيب ماهي التقوى ؟ قالوا : عُدة المتقين ، من هم يارب ؟ قال (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء) إذا لم يظهر ذلك في الحجّ فمتى يظهر؟ والله بعض الناس يذهب ولا يُنفق ريالا ، يا أخي اشترِ للناس طعام وأطعمهم فرصتك الآن نفّذ التقوى (يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء) أنا لا أريدك تعطي الناس الذين يأتون للسؤال ويقولون أنا فقير ومحتاج ، اعمل شيء ، بعض الناس لا يعمل شيئا يذهب ويأتي يقول خلاص أنا دفعت للحملة ، ما دفعته للحملة هذا شيء آخر لكن انفع نفسك ، أخرج من المال ، اعمل شيء ، قدّم شيء ، اجعل اثنين أو ثلاثة يحجّون على حسابك ، بعض الناس الله مُنعِم عليهم ولا يُنفقون شيئا فالصفة الأولى عندهم من صفات المتقين صفر وهي أصعبها علينا جميعا فنصلي ونصوم لكن عند الفلوس لا ، والله هذه الصلاة لو كل واحد صلى صلاة يدفع خمس ريالات ما صلى واحد فأصعب شيء على الإنسان المال ، وكل من اختبرهم الله في القرآن في المال رسبوا - إلا ما رحم - خطير المال .
/ الأمر الثاني هنا في قضية (يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) رُغم البعد إلا أنها تأتي ، و"عميق" معناها : بعيد لكن كلمة عميق في اللغة لا تدل على البُعد ، تدل على النزول إلى أسفل فالبئر يُوصف بأنه عميق ولذلك - والله أعلم - أن مكة هذه حتى في شكل الكرة الأرضية كأنها فوق والناس يصعدون إليها من أسفل فهي أعلى وهي مركز الأرض وثبت ذلك في أبحاث كثيرة فكأنما هي فوق والناس يصعدون لها ، وكلما بعُد المكان كلما كان أعمق ، ولو كانت قضية المسافة لقيل بعيد فاللفظ القرآني دقيق (يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) المنافع كثيرة .
/ من ضمن الأشياء التي ذُكرت هنا : قضية الأنعام ، ذُكرت بهيمة الأنعام أو الأنعام ثلاث مرات وهي أكثر سورة ذُكرت فيها الأنعام - سورة الحجّ - السور التي ذُكرت فيها كلمة الأنعام عشر سور وهي أكثر سورة ذُكرت فيها لماذا ؟ لماذا في هذا الموطن بالذات ؟ وفي سورة الحجّ خصوصا ؟ ما علاقة الأنعام في الموضوع ؟
- الله أعلم - أن الأنعام رمز من رموز الشكر لله أو رمز من رموز الإحسان ، خصوصا أنك حين تتأمل لما يذكر الله الأنعام يقول (عَلَى مَا رَزَقَهُم) أي أن الله أحسن إليك (مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) ثم يقول (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) وفي الآية الثانية (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) أي سقطت (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) "أطعموا" لاحظ قضية الإطعام الموضوع الغائب عن الحجاج أحيانا ، هناك أناس يهتمون بالإطعام في الحجّ ، فكأن فيه إشارة إلى قضية الذبح الموجود ولو تلاحظ في الحجّ بالذات ليس أضاحي فقط ، هناك أضاحي وفيه دم جبران وفيه دم ... كل هذه .... تجد فيها قضية الذبح متعددة لماذا ؟ ليكون المُطعَم كثير فكأنه يُقال له كما أحسن الله إليك أحسن إلى الناس ، وإذا لم تقدر أن تقوم بهذا العمل في خمسة أيام ، تُجبر نفسك بأنك تدفع شيء من مالك وتُحسن إلى الناس فمتى تُحسن ؟ والناس كلهم حولك والبيئة مناسبة فمتى تُحسن ؟ ولذلك من الموضوع الرئيس الذي قلناه قضية العبودية من أعظم الأشياء التي تساعدك على استشعار عبودية الله أن تستشعر نعمة الله ودليل ذلك : أن أول سورة في القرآن والتي نرددها دائما وهي سورة الفاتحة فيها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فجاء الشكر لله قال (رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعني المُنعم فنحن نعبد الله لأنه مُنعم علينا ، واقرأ في الآيات تجد أي آية فيها أمر بالعبادة تجد فيها ذكر لِنعم الله على الإنسان فأي واحد منا تضعف عنده العبادة فقط يجلس مع نفسه ويتذكر نِعم الله عليه سواء في مأكله أو مشربه أو ملبسه أو ما حوله أو في جسده أو الكون الذي عنده سيعلم عندها يقينا أنه محتاج إلى رب العالمين فيعبد الله - سبحانه وتعالى - عن يقين .
/ من الأشياء التي نختم بها : قلنا الموضوعات الرئيسة البعث وأهواله ، الحجّ ، الجهاد والدعوة ، بيان قدرة الله سبحانه وتعالى ، تحقيق عبودية الله ، أخيرا سأختم بمعلومة حول قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) هذه صورة ذكرها الله سبحانه وتعالى ليعظنا ، الأم أكثر إنسانة في الدنيا تشعر بوليدها هي الأم ، الأب لا يصل إلى هذه المنزلة أبدا ولا ربعها ولا نصفها ولذلك قال بعضهم :" لا تلعن أم أحد أبدا فإن أسوأ أم في الدنيا لا تستحق اللعن " ، أسوأ واحدة التي لا خير فيها أبدا تظل أفضل من كثير من الناس لأنها أمّ ، يكفي أنها أمّ ، فهذه الأم يرتفع اهتمامها بوليدها في فترة الإرضاع ويشتد ذلك في لحظة الإرضاع ، يعني واضعة جنينها في حجرها وترضعه ، في هذه اللحظة لو قامت الدنيا كلها لما اهتمت بها ، لو تكسر البنيان ، شبّ حريق ، أهم شيء ولدها ، تجدها تنحرق ولا تشعر بشيء ولكن في ذلك الموقف هذه الإنسانة التي لا يمكن أن يتصور أحد أن تتخلى عن وليدها أبدا ، ليس تتخلى عنه فقط بل تذهل ، تنساه تماما فالذهول معناه أنك لا تشعر بشيء أصلا ، يعني ليس أنك لا تشعر به شعورا عاديا بل لا تتذكره ، لا تشعر به نهائيا ، يا الله ، الموقف عظيم وكبير مهما تخيلته لكن بهذه الصورة ممكن تتخيله ولهذا السبب قال أهل العلم : إن الله - عز وجل - أمر أم موسى أن تُرضعه وهو حتى يشتدّ ارتباطها به قال الله (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) موضوع الإرضاع موضوع عادي جدا يمر على أي إنسان في الدنيا وليس على موسى فقط فلماذا يُذكر إذا في تاريخ موسى - عليه السلام - يعني لماذا يُذكر أن الله قال لأمه أرضعيه أليست كل أم ستُرضع ؟ أليس هو أمر عادي والأمر العادي لا يُذكر لكن للتدليل على أن الله أراد لها أن تُرضعه لأنها في تلك اللحظة يمكن لا تهتم بالإرضاع فقال لها (أرضعيه) لأنها بمجرد أن تُرضعه ستختلف العلاقة بينها وبين طفلها ، ستكون أكثر اشتدادا والتصاقا به ، فإذا اشتدت والتصقت به يأمرها في هذه اللحظة أن ترميه ليكون الاختبار أعظم لها ، وتُلقيه في اليمّ ، واليمّ أسرع وسيلة لقتل الإنسان ، لو قال لها ضعيه في الصحراء كان أسهل لأنه سيبقى لفترة لكن في اليمّ لكن يبقى طويلا وخصوصا إذا كان طفلا ، وقال (في اليم) مع أنه نهر وليس بحر لكنه بالنسبة لطفل صغير يعتبر يمّا واليمّ هو البحر العظيم. فلاحظوا إخوتي الكرام ثم قال (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وفعلا صار هذا الرضاع سبب في عودته لأنه لما ذهب يريد أن يرضع من غير أمه ما قبِل المراضع وارتبط بأمه التي أرضعته .
/ دعوة للأمهات إذا كن يسمعن ، دعوة للأباء الكرام موضوع الإرضاع ليس موضوعا هامشيا في حياتنا ولو كان كذلك لما كان الإرضاع يُحرم ما يُحرم النسب ، القضية أكبر من قضية نقل لبن أو تلقي لبن ، القضية أبعد من هذا ، هي نقل شعور ، نقل أحكام ولذلك الأم المُرضعة التي تُرضع ولدها فترة كلملة تجد حنانها يختلف ، تجد شعورها بطفلها يختلف ، يكون في الشارع وهي في البيت تقوم من جانب الأب وهو لم يدرِ عن شيء فتجد ولدها في خطر فعلا هذه الأم ، بينما التي لا تُرضع والآن في زمننا هذا تجده في يد الخادمة 24 ساعة وحليب صناعي ، تجده يسقط من الدرج ويبكي فتقول للخادمة شيليه ، ارفعيه وكانها ليست بأم ، السبب الإرضاع أمر خطير . نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل خير وصلى الله وسلم على سيدنا محمد .
هذه السورة قال عنها بعض السلف أنها من أعاجيب سور القرآن ، وسبب ذلك مجموعة أمور :
أولا : أنها السورة الوحيدة التي سميت بركن من أركان الإسلام وهو الحجّ ، هذا على المشهور من أسماء السور وإلا فقد سُميت الفاتحة بسورة الصلاة لكنه اسم غير مشهور . ثانيا : أنها تنوعت في منازلها ووقت نزولها وأماكن نزولها بشيء لم يُعهد مثله في سورة أخرى ، فقد نزل بعضها في الليل ونزل بعضها في النهار ، ونزل بعضها في السفر ونزل بعضها في الحضر ، ونزل بعضها في الشتاء وبعضها في الصيف ، وكان بعضها مدني وبعضها الآخر مكي . فهذا التنوع في هذه السورة جعل بعض أهل العلم يقول هذه الكلمة .
ثالثا : لا يوجد في القرآن سورة فيها سجدتان إلا في سورة الحجّ ، وسنتحدث عن السجدتين بشكل خاص .
رابعا : تكرر نداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في هذه السورة أربع مرات ، ولم يُعهد ذلك في سورة من القرآن أخرى إلا ما ندر في سورة واحدة أو سورتين رغم قِصر سورة الحجّ بالنسبة لتلك السورتين . والعجيب أن المناداة بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في كل شيء يخصّ الحجّ ذائع مشهور ، والعجيب أنه عندما يُخاطب الرب سبحانه وتعالى في أحكام الحجّ يُخاطبهم بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وليس بعنوان الإيمان بخلاف الأحكام الأخرى والفرائض الأخرى والأحكام الأخرى .
خامسا : تنوعت موضوعاتها فتجد موضوعا في البعث وأهواله ، ثم تجد موضوعا في الحجّ وأحكامه ، ثم تجد موضوعا في الدعوة والجهاد والرسالة ، ثم تجد موضوعا في بيان قدرة الله في الكون من إنزال الماء وإنبات الشجر والإحياء والإماتة ... إلى غير ذلك ، ثم تجد موضوعا في بيان نتيجة ذلك كله وهو عبودية الخلق كلهم ، الكائنات كلها بما فيها الإنسان لرب العالمين . يمكن هذا سبب من أسباب تسمية بعض أهل العلم وتجدها في كتب التفاسير إنها من أعاجيب سور القرآن .
/ من الأشياء التي اعتدنا أن نتحدث عنها إذا تحدثنا عن سورة مطلع السورة ومقطع السورة . أما مطلع السورة فهو بداية السورة ، وأما المقطع فهو نهاية السورة .
مقارنة بين بداية السورة ونهايتها :
/ نلحظ أن بداية السورة كان فيها نداء بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) بينما خُتمت في آخر نداء لها بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فكأنها بُدأت بدعو عالمية ثم خُتمت بالذين استجابوا لهذه الدعوة من هؤلاء الناس .
/ كذلك بدأت هذه السورة بالترهيب واختُتمت بالترغيب ، فبُدأت بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) بينما اختُتمت بقوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) فرق بين حالة الخوف هنا وحالة الطمأنينة والنصر .
/ بُدأت هذه السورة بما يتعلق باليوم الآخر من أهواله كما سمعتم واختُتمت بحال المؤمنين في الدنيا الآن ، النصر ، التمكين ، الله وليهم ، هذا في الدنيا وكأنه يُقال لهم إذا حصل منكم هذا فإنكم ستأمنون من هذا الخوف الذي بُدأت به هذه السورة .
/ كذلك بُدأت السورة بالأمر بالتقوى واختُتمت بآثار هذه التقوى وهي عبودية الله ، الخوف من الله ، الركوع ، السجود ، الاستجابة لأمر الله ، هذه آثار التقوى هي العبادات والأعمال الصالحة كلها . هذه بعض القضايا المتعلقة بمناسبة المطلع للمقطع .
ما موضوع سورة الحجّ ؟
يصعب على الإنسان وعلى قارئ القرآن أن يحدد موضوع سورة من سور القرآن لأن هذا لو حصل لأشبه القرآن كلام الناس ولذلك يتميز القرآن بهذا الأمر أنك لا تكاد تجزم للسورة الواحدة بموضوع واحد ، وهذا من صور إعجاز هذا القرآن ، والله لو أن أحدنا كتب الآن سورة الحجّ أو أي سورة أخرى نثرا بيده أي حولها إلى كتابة نثرية لوجد أنه يخرج من موضوع في موضوع ربما لا علاقة له ولأصبح كلامه غير مفهوم وغير مستساغ عند الناس ، لكنك عندما تقرأ القرآن رُغم المواضيع المتعددة من موضوع لموضوع ، فتخرج من موضوع يتعلق بالآخرة وبالهول وبالعذاب تخرج مباشرة للحجّ وأحكامه ما علاقة هذا بهذا ؟ وتجدك في أحكام الطلاق والنكاح ثم تخرج منه (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، صدقني لو أن أحدنا قال كلاما مثل هذا على منبر وإلا في محاضرة لقالوا هذا لا يفهم أو لا يعرف كيف يتكلم ، فهذه صورة من صور إعجاز القرآن ، ونظم القرآن معجز ، لا يوجد كلام يشبهه أبدا لا كلام أنبياء ولا كلام بشر ، هذا كلام رب العالمين سبحانه وتعالى . ولذلك لا نستطيع أن نجزم بموضوع واحد إنما هو اجتهاد .
نقول لعل الموضوع الأشمل الذي يمكن أن يكون ظاهرا في هذه السورة حسب النظر في هذه السورة نقول إن موضوعها الرئيس هو العبودية لرب العالمين والمدخل الذي حاولنا أن ندخل منه إلى هذا المفهوم وهو عبودية رب العالمين سبحانه وتعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) هو وجود سجدتين في هذه السورة ، والسجود أحد أبرز وأهم معالم العبودية لله ، لأن معنى طريق معبد أي مذلل فهناك جانب من الذلة والخضوع ، ولا يمكن أن تتم العبودية لله إلا بالخضوع له سبحانه وتعالى ، ولذلك أسوء عمل يقوم به الإنسان أو أسوء خلق يتصف به الإنسان هو الكِبر خصوصا في مواطن التعبد ولذلك من أظهر مظاهر الخضوع على الإطلاق الحجّ ، الملك يلبس مثل أقلّ الناس مالا ، لا يستطيع أن يلبس لبس خاص ، ويتجرد من كل الحُلي والملابس والبهرجة ويبقى مثله مثل أي واحد آخر ويبقى على هذا أياما يُقاسي وهو لم يتعود على هذه العيشة لكن هي تربية على العبودية القلبية الحقيقية والخضوع لرب العالمين ، ولذلك أُمرنا عندما نصلي ونحن في موطن عبادة (أُمرت أن أسجد على سبعة أعظُم وألاّ أكف شعرا ولا ثوبا) لماذا ؟ كانت شعورهم طويلة فتسقط على التراب فتنظُفا يرفعوها لكن رفعها في هذا المكان لا يتناسب مع الخضوع والذلة لرب العالمين وأنت في موطن سجود الآن . إذا هذا درس غاية في الأهمية ، العبودية هي الخضوع ، وأتمنى أنه بعد اليوم لما نقرأ سورة الحج نحاول نتتبع موضوع الخضوع لرب العالمين - سبحانه وتعالى - وأقول المدخل العبودية مظهره سجود وقد تكرر مرتين في هذه السورة ، مرة بالوصف ومرة بالأمر ، وصف أن كل الكائنات تسجد لله رب العالمين ، وفي الثانية أمر للمؤمنين أن يسجدوا لله رب العالمين ، إذا هذا المظهر قد يكون هو المدخل لفهم موضوع هذه السورة العظيمة وهي قضية العبودية لله رب العالمين ، وإذا ربطنا ذلك مع موضوع الحجّ سنجد أننا فعلا وجدنا أن هذا الموضوع يتضح ، وإذا ربطناها أيضا ببداية السورة ومطلعها وجدنا أنه يتضح لأنه لما يُظهر الله - عز وجل - قدرته سبحانه وتعالى بهذه الصورة التي سنتحدث عنها أمر مذهل وعظيم ، ثم يُظهر سبحانه وتعالى في خاتمة السورة ضعف الإنسان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ذباب ، وكلنا يحتقر الذباب مع هذا لو أخذ الذباب من واحد منا شيء ما يستطيع يُنقذه ولا يُرجعه (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) هنا يبدأ الإنسان يعرف قيمته في مقابل معرفته لمنزلة ربه وقدرة ربه سبحانه وتعالى فيحصل التوازن فيذهب الكِبر الذي هو أول ذنب عُصي الله به وهو الكِبر (خلقتني من نار وخلقته من طين) ، وأسوء خُلق في الإنسان هو الكِبر ، عند الله وعند الناس . الآن الإنسان الذي فيه تكبر لا يحبه الناس ، والذي فيه تكبر يعاقبه الله عقابا عظيما يوم القيامة فيتحولون أمثال الذر يطأؤهم الناس بأقدامهم ولو كان في الدنيا يملك ملكا عظيما أو كان عنده مال فلا ينفعه هذا بشيء . ولذلك موضوع التواضع له مظاهر كثيرة ، والخضوع والعبودية لله لها مظاهر كثيرة ، على سبيل المثال ، من ضمنها مثلا : إذا أعطاك الله نعمة ، مياشرة إذا تحدثت عنها أو تذكرتها تذكر من أعطاك إياها وإياك أن تنسى وتنسبها لنفسك - هذا بحسن إدارتي ، هذا بفضل علمي ، هذا ما تعلمته ، هذا الجهد الذي بذلته - وتسترسل في مثل هذه العبارات فيأتي يوم تجد أنك سقطت (إنما أوتيته على علم عندي) قالها قارون فذهب كل ماله ، فينتبه الإنسان لأنك في هذه الحالة كأنك استغنيت عن الله ، لب العبودية أن تفتقر إلى الله .
الآن الإنسان يدعو ... يدعو ... كل الناس هكذا وبعضهم يقول أنا لم يستجب لي ربي لكن بمجرد ما أن يصل إلى حالة الاضطرار ، بمعنى أنه فقد كل الأسباب البشرية والمادية ... الخ وجرب كل السُبل ولم يبقَ له شيء عند ذلك يدعو الله من قلبه ، مضطر،وقلّما يدعو مضطر إلا أجابه الله حتى قال أهل العلم ولو كان المضطر كافرا (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) لأنه يكون في هذه اللحظة صادقا مفتقرا ، بمجرد ما يكون في قلبه شيء من الاستغناء لا يستجيب الله دعاءه ، لذلك بعض الناس يقول لم يستجب الله لدعائي ، انظر في نفسك ، دعوتك ولجوؤك إلى الله لم يكن صافيا ، وما كان بقدر الافتقار الحقيقي ، عندما نرى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف أنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر يرفع يديه إلى السماء يدعو ويدعو ويدعو حتى يرحمه أبو بكر ويقول "يارسول الله كفاك مناشدة لربك " ويسقط رداؤه الذي على ظهره من شدة الدعاء ويرده عليه أبو بكر ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن الذي يعرف رب العالمين - وهو أعرف الناس بالله - فهذا أمر إذا أردت أن تنجح في أي قضية أو في أمر افعل كل الأسباب الممكنة - لأن هذا مطلوب شرعا - افعل كل ما تستطيع ثم بعد ذلك الجأ إلى الله لجوءا حقيقيا ستجد - بإذن الله - أن النجاح حليفك .
يلحق بموضوع العبودية والذي مظهره السجود موضوعات فرعية سأتحدث عنها كل على حدة بعد قليل لكن قبل أن أصل إليها سأتحدث عن السجدتين اللتان قلنا أنهما مظهر عظيم من مظاهر العبودية ، هاتان السجدتان فيهما مجموعة من اللطائف والدلالات : أولا : قيل إن السجدة الثانية في سورة الحجّ هي آخر سجدة نزلت في القرآن ، وهي سجدة يؤمر فيها المؤمنون بالسجود لله رب العالمين ، وإذا ربطت ذلك ببداية الإسلام ودعوة الإسلام وآخر الإسلام وجدت أنه فعلا أن قضية السجود هي المظهر لأكبر للعبودية لأن الإنسان لا يمكن أن يضع أنفه - أشرف ما عنده - وجبهته على الأرض إلا لأمر عظيم وجلل حتى إنهم يقولون ولا يوجد ألذّ حالة في حالات العبودية أفضل ولا أحسن من السجود لله ، وهذه يمكن ما يشعر بها الإنسان بها وهو في وسط الناس لكن لو خلوت يوما في مكان ما ، في صحراء أو غيرها وصليت وسجدة وتذكرت هذا الأمر اللي وضعت أشرف ما لديّ على الأرض على التراب من أجل رب العالمين سبحانه وتعالى هذه أجمل حالة ممكن أن تمرّ على الإنسان ويصلح بها قلبه وتتغير بها نفسه فالسجود حالة عظيمة ، ولذلك لأجل هذا الأمر ولأجل هذا القُرب ولأجل هذا الخضوع والذل لرب العالمين كانت أقرب أحوال لالصلاة للاستجابة والإنسان ساجد ، فأكثر حالة من حالات استجابة الدعاء يمكن أن يستجيب الله لك فيها هي وأنت ساجد (فأكثروا فيه من الدعاء فقمِن أن يُستجاب له) حري ، أحرى حالة ممكن يستجيب لك الله فيها السجود ، فيحاول الإنسان في عبادة السجود أن يتنبه لمثل هذه المعاني . وأول سجدة نزلت في القرآن هي التي في العلق (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وإذا تأملنا ما بين أول وآخر سجدة وجدنا الإسلام كله ، وجدنا مسيرة الدعوة كلها ، وجدنا أن هذا الإسلام بتعاليمه وبالقرآن الذي نزل وبكلام النبي - صلى الله ليه وسلم - وقع بين هاتين السجدتين في زمن طويل .
/ كذلك لاحظنا أن آخر سجدة في القرآن جاءت في السورة المسماة بالحجّ ، والحجّ نزلت فيه الآية الدالّة على تمام هذا الدين كله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) نزلت في عرفة ، هذه الآية الدالّة على تمام الدين كله ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فتيء بعدها إلا قليلا وتوفي - صلى الله عليه وسلم - لأنه تمّ الدين ، ودعني أقول كمُلت العبودية أو الهدف الذي أُرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجله فقد عبّد الناس لرب العالمين ووضح لهم شريعة الله وانتهت المهمة ، وانتهت الرسالة وتوفي صلى الله عليه وسلم . فهناك ارتباط بين الحجّ وبين آخر سجدة التي مثّلت الرسالة كلها .
/ كذلك من لطائف السجدات الواردة في سورة الحجّ أن السجدة الأولى كانت عامة في المخلوقات ، ومن لطائفها أيضا أن كل المخلوقات المذكورة وهي كل ما حولنا من العوالم ذكرها الله بصورة عامة إلا نحن البشر - ونحن جزء من هذا العالم - قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) يعني ليس كل الناس يسجدون لكن كل العوالم تسجد الشجر والدواب لكن حين أتى عند الناس قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) لم يقل "والناس" قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) لأن ما كل الناس يسجدون لرب العالمين ، وهذا أمر مؤسف ، ولذلك الإنسان الذي يريد أن يعبد الله سبحانه وتعالى لا يتعلل بالناس حوله ويقول الناس كلهم ، العالم كله ، لا أنت مخطئ ليس العالم أنت قل الناس لكن العالم لا ، الشجر كله يعبد الله والحجر كله يعبد الله والمحيطات بما فيها والبحار بما فيها كلها تعبد الله وما بين السماء والأرض كله يعبد الله ، كل ما في الكون يعبد الله ، ما فيه إلا عدد قليل وهم نحن البشر قليلون جدا نحن البشر في مقابل مخلوقات الله التي نراها والتي لا نراها ، نحن جزء يسير . إذا فكرت بهذه المعادلة عرفت أن الكل يعبد الله ، بل بالعكس إذا عبدت الله فأنت مشيت مع الكون كله ليس العكس كما يظن بعض الناس لأنك أنت تنظر إلى البشر ، الكثرة في الناس دليل الخطأ وليس دليل الصحة ، النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة) يعني نسبة الصلاح ، نسبة أن تجد أحد منجز وجيد ويُعتمد عليه نسبة واحد إلى مئة ، ما كل الناس مثل بعض ، لا عليك من الكثرة (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) فهذا المقياس الذي يقيس به أكثر الناس الآن ، كل ما عمل شيء "يا أخي الناس كلهم أنت ما رأيت إلا أنا ، الناس كلهم يفعلون هذا" هذا غير صحيح أنت مسؤول عن نفسك ويوم القيامة ستُحاسب فردا (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) المحاسبة فردية ، ماذا فعلت ، ماذا تركت ، ماذا قلت ، أما أن يُخطئ الناس فأُخطئ هذا غير صحيح ، ولذلك أنت لا عليك من مقاييس الناس خذ بالمقاييس الشرعية في هذا الجانب ، اعمل الصح الذي عندك والخطأ الذي يفعله الناس فهذا أمر لهم .
/ كذلك لو لاحظنا في السجدة الأولى فيها دعوة للتأمل والتفكير (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ) "ألم تر" فهي وصف ، والمفروض أنني حين أقرأ هذه الآية أتأمل وأتمعّن ، وللمعلومية تجدون آيات كثيرة تبدأ بـ (ألم تر)، (ألم يروا) وهنا في بعض أحوالها (ألم تر) تجيء بمعنى "العِلم" أي ألم تعلم ولكن يُعبر أحيانا عن العلم بالرؤية لأن المطلوب رؤية أو علم يحصل بمثل الرؤية فالإنسان حين يرى شيئا ليس كما يُنقل إليه نقل "فما رائي كمن سمع" فقد أسمع الخبر لكن ليس كما أُعاينه وأراه هناك فرق بين هذا وهذا ، ولذلك هل نحن عندما نقرأ مثل هذه الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) لاحظ السعة من في السموات ومن في الأرض ، كل هذا ، فلو وقف أحدنا وفكر فقط كيف تسجد النملة ، فقط لو فكر في الحشرات قد يذهب ليله كله وهو يفكر كيف تسجد الحشرات ، فما بالك بالذي لا نراه إلا بالمجاهر ، هذا كله يسجد لله والشجر والدواب وكل ما في الكون مما ذُكِر ووما لم يُذكر ، لو فكرت في خلق الله، (ألم تر) أي ما نظرت ، ما رأيت ، ما علمت ، طيب اعلم ، فكّر ، اُنظر ، فالآية الأولى في السجدة الأولى تدعوك للتدبر والتفكّر في أن هذا الكون يسجد لله كلٌ على طريقته التي أرادها الله سبحانه وتعالى ، المهم الدرس الذي يصل إليّ وإليك وإلى كل الناس أن هذه المخلوقات قامت بالمهمة التي أُمرت بها وهي السجود لله ، لكن لما جاء إلى الإنسان قال (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ) ليس كلهم ، وهذا صحيح ألا يوجد أُناس لا يسجدون لله أبدا ، وقضية السجود عجيبة يا إخوان حتى يوم القيامة يُدعون إلى السجود لكنهم في تلك الحالة لا يستطيعون يصبح ظهر الواحد منهم طبقا واحدا لا يستطيع السجود لكنهم كانوا في السابق (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) ومن أراد أن يسجد تلك السجدة يوم القيامة فليسجد الآن ، أما إذا امتنع ن السجود الآن فلن يسجد بعد ذلك ، ولو لاحظتم المقامات الكبرى يسبقها سجود فيأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسجد لرب العالمين - سبحانه وتعالى - فيقول له (يا محمد ارفع رأسك واشفع تُشفّع وسل تُعطى) المقامات الكبرى مدخلها السجود لله رب العالمين ، ولا يمكن أن يكون السجود إلا لله ، وإذا سجد إنسان لغير الله خرج من إنسانيته وخرج من عقله وإن رأيتموه ، هذا لا يُفكر ولذلك تجد دائما في القرآن نفي للعقل وإن كان فيه مُخ وفيه تفكير لكنه في الحقيقة لم يُستعمل في مكانه ولذلك تجد أناس يحملون درجة الدكتوراه ومع هذا يعبدون بقرا ، والله يقول أحد الإخوة أنه في إحدى البلدان توقفت سيارة فارهة في زحمة شديدة يقول وكنا في تلك البلد فلما وصلن إلى ذلك الزحام الشديد فإذا بقرة واقفة في الطريق ونزل هذا الرجل الذي يلبس لباسا رسميا أنيقا ، هذا لابد أن يكون إما مسؤولا كبيرا أو أستاذا في جامعة أو محاميا .. المهم أنه أنه يكون إنسان عنده ثقافة وعلم ومع هذا هو أول المتمسحين والآخذين من بول هذه البقرة - أكرمكم الله - فأين االعقل ؟! عندما يأتي هؤلاء الوثنيون أو غيرهم يُناقشون بالعقل يهربون لا يحبون أن تُناقشهم بالعقل لأنه لا يمكن أن يستمر معك في النقاش ، والعرب أكثر ما تجد في القرآن من نقاشات كانت نقاشات عقلية لهم في ماذا يعبدون وماذا يتركون ، فكان أحدهم يعبد صنما وأحيانا يصنعه من تمر فإذا جاع في سفره أكله ، أكل ربه ، أكل إلهه ، أكل الذي يعبده ، فكيف يكون هذا ؟! ومع هذا يعود مرة أخرى ويصنع له رب وإله ويعبده وهذا يدلّ على أن الإنسان مفطور على أن يعبد شيئا ، في فطرته ، في داخله ، حتى الذين لا يعبدونها هم يعبدون ذواتهم ، أليس هناك أناس يعبدون الشيطان ، يبحثون عن أي شيء ، فاحمد الله أن الله هداك لعبادة الرب الخالق الموجد - سبحانه وتعالى - ، هذه قضية السجدة الأولى والثانية . أحببت أن يكون هناك نوع من الأمثلة نضربها حتى إذا قرأنا القرآن نحاول نتأمل ، نقرأ ، ندخل ، نفكّر ، يكون هذا القرآن مُحرّك لنا، مُغير لنا ليس نقرأ الكلمات فقط بدون أن تحرك فينا شيئا .
/ مطلع السورة :
كلكم يُجمع أن السورة بدأت بحديث واضح عن قضية البعث ، عن قضية أهوال يوم القيامة ولربما لا توجد في القرآن آيات مصوّرة لِعظم الهول يوم القيامة مثل ما صورته هذه الآيات فيما يتعلق بإحساس الإنسان البشري مقابل هذا الهول ، نحن من الممكن أن نسمع تكوير الشمس ، إنكدار النجوم ، وتغير السموات والأرض لكن الله - عزّ وجل - ذكر لنا صورة للإنسان كيف يمكن يواجه أو ينظر لمثل هذه اللحظة إذا قامت يوم القيامة ، وهذا كلام رب العالمين الذي خلقنا وأوجدنا وهو أعلم بأحوالنا - سبحانه - منا .
فبدأت هذه السورة بالحديث عن البعث وأهواله ، ثم هي اسمها سورة الحجّ فالعادة أن السور تُسمّى ببداياتها ، أغلب السور تجده تُسمى ببداياتها فلِمَ لم تُسمى بسورة البعث مثلا؟ إذا هذا دليل على أن هناك علاقة وثيقة بين ما بُدأت به السورة وبين الموضوع الذي سُميّت به وهو الحجّ .
/ صور التشابه بين الحجّ كشعيرة نراها وبين البعث كقضية غيبية لم تأتِ حتى الآن : المرحلة الأولى : يحتاج هذا الأمر إلى نظرة بسيطة ، لا يحتاج إلى جهد كثير فأنا متأكد أن كلكم تدركون العلاقة أو صور العلاقة بين موضوع الحجّ وبين البعث ، يمكن أن نقول - باختصار - : أن الحجّ مشهد مُصغّر من مشاهد يوم القيامة ، فإذا أردت أن ترى مشهدا مصغرا ليوم القيامة انظر إلى الحاجّ منذ أن يخرج من بيته إلى يعود إلى بيته ، انظر إلى مسيرته هذه ، خذها خطوة خطوة ، مرحلة ، مرحلة ستجد أنك كأنك تنتقل إلى العالم الآخر وإلى الآخرة وإلى الجنة وإلى النار ، بعد ذلك عودة الإنسان إلى أهله إما محبورا مسرورا ، وإما خاسئا حسيرا .
أول نقطة ذكرتها السورة في الحديث عن الآخرة قضية الذهول (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ذكر الله - عز وجل - قضية الذهول في هذه اللحظة ممن لا يذهل عادة وهي "المرضعة" والمرضعة غير المرضع فـالمرضعة : هي التي كان ولدها يرضعها حين الكلام ، أي إذا كان الطفل قد التقم الثدي نسميها مُرضعة ، وإن كانت هذه السنة أو في هذه الحال وفي الأيام هذه هي مُرضع لكن هذه اللحظة لا تُرضع ولدها نسميها مُرضع ، فالله ذكر أشد الحالات التصاقا للجنين بأمه وهو أن يكون ثديها في فمه "مرضعة" بالتاء ، وأنا متأكد لو جاء الدارسون في علم النفس أو علم الاجتماع أو جميع علوم الدنيا ليُثبتوا أحدا أكثر التصاقا بالآخر وشعورا به لن يجدوا أكثر من التصاق الأم بجنينها والجنين بأمه ، وطبعا من جهة الأم أكثر ، والأم التي تُرضع أكثر حنانا والتصاقا بجنينها من الأم التي لا تُرضع وهذه ظاهرة اشتُهرت وعُرفت ، ولعلي أُعرج عليها بعد قليل .
قضية الذهول موجودة في الآخرة فهل هي موجودة في الحجّ ؟ نعم .
الذي ذهب إلى الحجّ منكم في وسط الزحام ألا تنكشف العورات ؟
أليست ملابس الناس هناك لا تستر العورات غالبا؟
ومع هذا لا تجد أحدا يبحث عن هذه الأشياء - سبحان الله - قالتها عائشة - رضي الله عنها - لما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (يُحشر الناس يوم القيامة حفاة عُراة غُرلا) لم تهتم عائشة بحفاة وغرلا ، اهتمت بـ(عُراة) فقالت : يارسول الله الرجال والنساء سواء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ( يا عائشة الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك) أي أنهم مشغولون بشيء فهذه الأشياء لم يهتموا فيها أبدا - سبحان الله - موضوع الحجّ أمر رباني وليس هو من الناس ، تجد الناس في الحجّ لا ينشغلوا بهذه الأشياء ولكن لو في غير الحجّ هم يفعلون أمورا - مع تستر الناس ولبسهم اللباس الكامل - ومع هذا تجدهم العين تذهب هنا وهناك ، هذه القضية أيضا ظاهرة في الحجّ ، الناس ينشغلون بأمور أخرى ، الزحام ، الناس ، الأعداد ، الكل يريد أن يعبد الله،الجو بشكل عام يعطيك هذه الروح الإيمانية تُخرجك من هذا النظر . هذه القضية الأولى وهي قضية الذهول .
قضية اللباس : صحيح أن السورة لم تتحدث عنها مباشرة لكن تحدثت عن مراحل خلق الإنسان ، ومراحل خلق الإنسان تبدأ من تراب ثم من نطفة ، ثم من علقة ثم من مضغة ثم يخرجه بعد ذلك طفلا ، ثم هذا الطفل يبقى أو يموت أو يشيخ أو يهرم هذا علمه عند الله - سبحانه وتعالى - لكن هذه المراحل التي يمر بها الإنسان من ضمن المراحل التي يمر بها هو يمر بمرحلة يُلبس لباسا معينا ومن ضمن الأشياء الدالة على قضية مراحل خلق الإنسان ذكر الموت ، والإنسان إذا مات لبس لباسا خاصا وهو "الكفن" هذا الكفن يُشبه إلى حد كبير حال الإنسان وهو محرم ولذلك سبحان الله حين ينظر الإنسان إلى مراحل الخلق هذه والإحياء والإماتة التي فيها وكيف أن الإنسان إذا مات لُف بشيء أبيض فكذلك المُحرم يُلف بهذا الإحرام فإذا ربطنا هذه المراحل بموضوع اللباس وجدنا الآتي : المحرم يخرج من بيته في المرحلة الأولى أو دعني أتحدث عن الإنسان في مراحله الأولى خُلق من نطفة ، من تراب إلى مرحلة النطفة هذه خلق آدم عليه السلام ، بعد ذلك يُخلق الناس بعده من نطفة ، من النطفة إلى أن يكون طفلا هذه مرحلة فيخرج إلى الدنيا ، بعد ذلك تكون هناك مرحلة من الطفولة إلى الكهولة أو الموت ، ثم بعد ذلك مرحلة من الموت إلى البعث وهي مرحلة القبر ، بعد ذلك البعث مرحلة الحساب ، بعد ذلك المكان الذي يستقر فيه الإنسان جنة أو نار . المحرم ماذا يفعل ؟ يخرج من بيته إلى أن يصل إلى الميقات (الإحرام) هذه المرحلة الأولى ، مازال بلباسه ، مازال يتطيب ويفعل ما يريد ، إذا وصل الإحرام كأنما حصلت الوفاة والموت لهذا الإنسان ، فهذا - المحرم - يخلع ملابسه أما الميت فتُخلع عنه ملابسه ، المحرم يلبس إحرامه والميت يُلبس الكفن وكلاهما يشبه بعض ، هذا يغتسل وهذا يُغسّل ، هذا يصلي وهذا يُصلى عليه . بعذ ذلك - إخواني الكرام - لاحظ هذه المرحلة : هذا يُذهب به إلى القبر - المقبرة ليبقى فيها - وذاك يذهب في رحلته إلى مكة . ولو لاحظت أيضا قبل قضية الإحرام يتطيب الإنسان في جسده ويأخذ من شعره ، وكذلذ هذا الميت يُطيب ويُقص ما طال من أظفاره ويُغسل ، بعد ذلك يذهب هذا المحرم إلى مكة لأداء هذه الشعائر ، وهذا يذهب حتى يحصد أعماله في القبر ، بعد ذلك يُبعث هذا وذاك يذهب إلى عرفات ، وعرفات أشبه يوم بيوم القيامة يقول فيه ابن القيم :
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي ** كموقف يوم الحشر بل ذاك أعظم
أي موقف عرفة يشبه موقف الحشر هذا خرج من قبره وحُشر استعدادا للحساب ، وهؤلاء ذهبوا في صباحية يوم عرفة - يوم التاسع - إلى عرفة ليتلقوا رحمة الله - سبحانه وتعالى - لا يعلمون بعد الغروب ما الذي سيحصل ، وألئك أيضا يُحاسبون في المحشر لا يدرون ماذا يُعمل بهم فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير ، وهؤلاء ينتظرون عفو الله لايدرون أينصرفون إلى مزدلفة مغفورا لهم ، أينصرفون وهم مأزورون أم وهم مأجورون الله أعلم ، فهذا الانصراف يشبه ذلك الانصراف .
/ كذلك تشبهه في النهاية، فإن النهاية بعد هذا الدعاء وهذا الاجتماع الضخك الموجود في عرفة أو الموجود في يوم القيامة في المحشر ، الناس بعد ذلك ينصرفون حسب ما أُعلن لهم إما جنة أو نار ، فإن كانت جنة يعود الإنسان إلى أهله مسرورا وكذلك الإنسان إذا رجع وقد يسر الله حجته وغفر ذنبه فعاد مسرورا إلى أهله ، أو يكون غير ذلك - عياذا بالله - . وهذه المسيرة أيضا لا غضاضة أن نجد ربطا بين موضوع الحجّ وبين موضوع أهوال يوم القيامة ، وإذا كنا نريد أن نستفيد - يا إخواني الكرام - نستفيد من هذه السورة الموجودة سواء عايشناها أو رأيناها فالواحد يتذكر الحال لو حصل يوم القيامة ، والله الواحد منا لو جاءه فقط ضغطة زحام بسيط وهو يطوف أو وهو يرمي الجمرات ما أطاق ذلك فكيف تُطيق زحام يوم القيامة ، الناس يوم القيامة يركب بعضهم بعضا كأنهم جراد منتشر والجراد معروف أنه بطريقة تجمعه يكون فوق بعضه من كثرته ، فهو زحام لا يشبه زحامنا إلا من أجل التقريب والتوضيح فإذا كنا لا نصبر على هذا الزحام البسيط فكيف نستعد لذلك الزحام الكبير يوم القيامة ، وإذا كنا لا نستطيع أن نصبر على الحر - وهذه لعلها والله أعلم من أسباب كون مكة دائما حر - حتى تشبه ذلك الموقف لأن موقف يوم القيامة حر ، شمس ، فتجد مكة ليست منطقة باردة هي من أحر بلاد الدنيا وأكثرها حرا ولذلك يموت بعض الناس من ضربات الشمس وغير ذلك ، فإذا كنا لا نتحمل هذا في الدنيا فكيف سنتحمله يوم القيامة فإذا أردنا أن نتحمله يوم القيامة فلنبحث عما يُظلنا الآن ، وفي هذه اللحظة أذكر قضية الصدقة وهي من اظلمور الظاهرة في قضية الحجّ وأيضا في سورة الحجّ على وجه الخصوص . هذا مناسبة بداية السورة في موضوعها واسم السورة .
الموضوعات الرئيسة التي تحدثت عنها سورة الحجّ :
الموضوع الأول الذي تحدثت عنه السورة بالتفصيل - غير موضوع العبودية العام - البعث وأهواله ، تحدثت هذه الآيات عن الأمور التالية :
- عِظم ما يراه الإنسان يوم القيامة بعينه
- أثر الشيطان في التشكيك في قضية القيامة ، كثير من الناس ليس لديه يقين والشيطان يُلهيك عن قضية تصور الحقيقة يوم القيامة ، بعض الناس لا يحب حتى أن يقرأ عن هذه الأشياء ، وهذا غير صحيح فإذا أراد الإنسان أن يكون عنده توازن في هذه الحياة ولا يكون مادي يكون يقرأ ، كما يقرأ عن الدنيا يقرأ عن الآخرة فيصبح عنده توازن يسميها أهل العلم الرقائق تجد فيها حديث عن القبر ، عن الآخرة هذه قضايا تجعل في الإنسان توازن ، أما الإنسان المنصرف إلى الدنيا يقسو قلبه ثم يدخل في الظُلم والتعدي والجور ، حدثني رجل بنفسه أن كفيله أخذ أمواله وظلمه وانتقل هو من الرياض إلى تبوك ، وسمع كلمة عن بعض أحوال يوم القيامة فأعجبته ودوّنها ثم أرسلها بالفاكس إلى كفيله في الرياض وقال : بيني وبينك يوم القيامة ، أرساها له في الصباح وقال أني سأشكوك لرب العالمين فاتصل عليه في الليل وقال له تعال غدا للرياض لأعطيك حقك كاملا ، قال له : ليس معي أوراق ، قال له لا تحتاج أوراق فأنا أعرف حقك ، فقال له ليس فقط أنت هناك 300 عمل غيرك كنت قد ظلمتهم ، تذكير . ولذلك تجد القرآن مليء بالإشارات ، ولذلك أي أنسان تمر عليه فترة طويلة لا يسمع شيئا عن الآخرة تجده يقسو ، يميل .. يميل ... يميل ، فإذا سمع شيئا رجع التزم ، إذا كان هناك خطأ بدأ يقل الخطأ ، هذا توازن ، خوف ورجاء لا هذا ولا هذا كجناحي طائر ، لأنك لو غلبت جانب الخوف فسينزوي الإنسان ولن يعمل ، فيه اتزان ، خوف ورجاء ، تخاف الله كأنك من أهل النار ، كأنك دخلت النار ، وترجو الله كأنك من أهل الجنة ، بهذا التوازن يمشي الإنسان ، ولذلك بعض الناس يؤسفنا كلما قالوا فيه قال الله غفور رحيم ، هذا يضحك على نفسه ، وهو يعرف أن الله شديد العقاب لكنه لا يريد أن يسمع هذه العبارة ، لا يريد أن يتصورها لكنه يغش نفسه وهذا من تغرير الشيطان .
الدليل على البعث من ضمن هذه الآيات وليس عرض البعث فقط ولا عرض لأهوال يوم القيامة فقط بل هناك تدليل عليها حتى نفهم ونشعر ، والعجيب في أدلة البعث أنها أدلة متجددة لا تنقضي أبدا ، وأدلة البعث التي ذكرها الله في القرآن كلها أدلة عقلية يُخاطب بها المسلم والكافر ، والعالم والجاهل ، والصغير والكبير ، في كل بيئة وفي كل زمان ، وهذا ما لا يقدر أن يقوله بشر ، وهنا أمامنا دليلان :
دليل فيك ، في خلقك أنت أيها الإنسان ، ودليل آخر خلق النبات ، فقد يغفل الإنسان عن ذاته لكنه لن يغفل عما يراه ، أما الدليل الأول المتعلق بالذات فهو: مراحل خلق الإنسان والله ذكر أن الإنسان يُخلق من تراب والتراب ليس فيه حياة بل ميّت ، بعد ذلك من نطفة والنطفة فيها حياة ، بعد ذلك يتحول لمضغة وعلقة ليس فيها حياة ثم تنفخ الروح ويصير فيها حياة ثم يموت فما يكون فيه حياة ، بعد ذلك يُبعث ، أصلا البعث موجود قبل قيام القيامة في مراحلك الأولى ، كل هذه دلائل على قدرة الله ، على الذي أنشأك في هذه المراحل أن يُنشأك بعد ذلك والإعادة أهون وكله هين على الله سبحانه وتعالى .
- الدليل الثاني : النبات الموجود في كل مكان وهو دليل على البعث لأن كل النبات يمر بمراحل حياة وموت ، حياة وموت ، حياة وموت ، شيء يتكرر بعضه يوميا وبعضه أسبوعيا وبعضه شهريا وبعضه سنويا ، والناس بطبيعتهم إذا نزل المطر قال : كيف الأرض ؟ قال : والله حية أبشرك ، يطلقون عليها"حية" ، وإذا مرت الأيام ذهب الربيع واصفرّت وراحت قالوا إنها ماتت "ميتة" ، ثم حيت ثم ماتت ثم حيت دليل مستمر على قدرة الله على الإحياء والبعث ، هذه قضية مهمة جدا ولذلك ذكر الله - سبحانه وتعالى - ذكر بعدها قضية إحياء الموتى .
من اللطائف المتعلقة بهذه القضية - قضية التدليل على البعث من خلال الموت - أن الله سبحانه وتعالى قال فيها (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ثم قال (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أن الذي قدر على هذا يقدر على هذا - سبحانه وتعالى - النقطة : أنه قال هنا في سورة الحجّ قال (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً) وفي سورة فصلت قال ( أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً) والسياق واحد أي الجملة شكلها واحد (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) ، وفي فصّلت ( أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) فالمقطع الأول متشابه تماما إلا في كلمة واحدة ، في الحجّ (هامدة) وفي فصّلت (خاشعة) والسبب : أن السياق في سورة الحجّ سياق عن الموت فالحديث الذي سبقه (وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) الحديث عن الموت فقال هذا ، والسياق في سورة فصّلت سياق عبادي يتحدث عن عبودية وعن سجود (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) السجود ، العبادة ، السياق العبادي لا يُناسبه الهمود فالمطلوب في العبادة الخشوع وليس الهمود ولكن ناسب كل مكان السياق الذي ورد فيه ، فلما كان السياق هناك يتحدث عن العبادة قال (أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً) صحيح أن هناك تواؤم بين الهمود والخشوع في أن كل منهما عدم حركة لكن لا يصلح أن أقول عن إنسان عابد - يصلي - أقول هامد السياق والموقف لا يناسب فهناك قال (خاشعة) لأن الحديث عن عبادة ، عن سجود فقال (خاشعة) وهنا الحديث عن موت فقال هامدة والناس يقولون "جثة هامدة" فعند الموت يُعبّر بالهمود وعند العبادة يُعبّر بالخشوع .
/ كذلك من الأشياء التي ذُكرت في قضية البعث ضعف اليقين بالبعث عند بعض الناس وهؤلاء هم الذين يعبدون الله على حرف فإنه كان من أهل البادية أو الأعراب كانوا يأتون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فينظر - فالمسألة تجريب - وهذا خطير جدا ، الدين لا تجرب فيه ، لا تقول والله أنا سأقرأ رقية ، أجرب إن شفاه الله وإلا لست بخاسر ، أنت لا تتعامل مع طبيب ولا مع دواء ، أنت تتعامل مع رب العالمين، إذا ما فيه يقين ، هذا هو السر "اليقين" ، لماذا بعض الناس لو قرأ على ولده شيء يُشفى ؟ القضية في اليقين وبعضهم يجرب تجريب ، ما ينفع ، الدعاء يجرب تجريب يقول أنا رحت للأطباء خليني أجرب الدعاء ، ما ينفع . ولذلك اليقين هنا بعض الناس كانوا يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرى بعضهم والله إن كان كثُر ماله وتحسنت صحته ودابته التي معه ولدت له شيئا - هم يبقون في المدينة فترة - وزاد ماله قال هذا دين حسن واستمر عليه ، وإن كان أصابه مرض وتغير عليه الجو وخسر في تجارته أو في شيء قال هذا دين سوء فهو يعبد الله على حرف ، وترى كثير من الناس عنده تزعزع وما عنده يقين كل مرة يميل ، لا ثق بالله - سبحانه وتعالى - اثبت فقد تأتي لحظة ينحرف فيها الإنسان (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ) فهذا عنده ضعف في اليقين في قضية البعث وما عند الله - سبحانه وتعالى - ، ثم في آخرها ذُكر المصير إما إلى الجنة وإما إلى النار وهذه استوعبت عدد كبير من الآيات إلى آية (25) تقريبا وهي تتحدث عن الآخرة بشكل عام .
/ كذلك من الأمور التي تحدثت نها السورة الحجّ ، جاء تقريبا من آية (26) إلى آية (38) والموضوعات التي ذُكرت في الحجّ غريبة وعجيبة ، يعني بما أنها سورة الحجّ ربما يتوقع الإنسان أنه سيجد فيها أحكام الحجّ ، العجيب أنه ليس فيها شيء من أحكام الحجّ إلا نزر يسير وأحكام الحجّ جاءت في سور أخرى ، بل حتى إيجاب الحجّ لم يأتِ فيها (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ليس فيها لكن العجيب أن كثير من أحكام الحجّ ارتبط التوجيه فيها بلفظ الناس لا بلفظ الإيمان والمؤمنين أو المتقين ، من ضمنها هنا الأشياء التي ذُكرت في قضية الحجّ مكان الحجّ ومكان البيت والمطلوب فعله حيال هذا المكان ، والأمر الثالث التأذين بالحج والدعوة إليه (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا) وأيضا ذُكر استثمار الحجّ في الانتفاع بما فيه من الخيرات ، وخامسا : ذُكر فيه تعظيم حرمات الله وشعائر الله وخصوصا بهيمة الأنعام ، قضية الذبح ، أكثر شيء تكرر هو الحديث عن بهيمة الأنعام والذبح في هذه السورة على وجه الخصوص ، فيما يخصّ الأحكام لم يتكرر إلا هذا الأمر .
في قضية الآيات التي تحدثت عن الحجّ لنا وقفات سريعة :
- يقول - سبحانه وتعالى - (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) "بوأنا" هيأنا أو جهّزنا أو دللنا (أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) لاحظ أول شيء ذُكر بعد تعريف إبراهيم بالبيت أو تهيئة هذا المكان ليكون هذا البيت أو دلالته عليه ، أول شيء نُبّه عليه ألاّ يُشرك مع الله غيره لماذا؟
لأن الشرك يرتبط دائما وأبدا بالمجسمات الثابتة ، دائما الشرك يأتي بتعظيم مكان ثم يذهب الناس الذين لهم معرفة به ثم يأتي ناس بعدهم لا يدرون لماذا عُظم فتأتي العبادات تزيد وتزيد إلى أن يُعبد من دون الله فنُبّه لأن كل الحجّ مبني على هذه الأشياء ، هناك جمرات ، هناك كعبة ، هناك أماكن معينة ، فيه جبل ، فهنا يكثُر ميل الناس للابتداع وظهور مثل هذه الأشياء فلذلك ذكر هذه القضية .
الأمر الثاني : قال (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) والمقصود بالتطهير قالوا : من الأوثان والرجس ولكن قالوا فيه أيضا ملمح لطيف وهو : إذا كان الله وهو رب العالمين أمر بأن يُطهّر بيته وهو الغني سبحانه وتعالى عن الناس للوافدين إليه قال فمن باب أولى أن يكون ذلك مع كل قادم لكل بيت ، ولذلك من حُسن الضيافة أن الإنسان إذا دعا أحدا إلى بيته أن يُطهره وينظفه ويُطيّبه حتى لو كان القادم أقلّ شأنا من صاحب البيت فإن هؤلاء مخلوقون وهذا خالق - سبحانه وتعالى - فبعض الناس لو جاءه إنسان ضعيف الحال البيت كما هو لا يهتم له ، لكن الأولى لكل قادم أن يُهيأ البيت ويُجهّز هذا من كرم الضيافة ، وهذه من الملامح التي أشار إليها أهل العلم ، من ضمن التطهير التنظيف ، التنظيف الحسي والمعنوي لكن الحسي لا يصلح أن تدعو إنسان إلى بيتك وهو قذر وغير مرتب ولا مُنظم ، هذا لا يصلح ، وهذه من تعاليم الإسلام .
/ (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) لماذا قدّم الطائفين والقائمين والركع السجود مع أنها كلها عبادات ، الناس يصلون وكل العبادات تُقام ؟
قال : لأن العبادة الأميز التي لا يُشارك فيها هذا المكان مكانا آخر هي الطواف ، السجود والقيام والركوع في كل مكان لكن الطواف فقط في هذا المكان ولذلك قدّمه لتميّزه .
/ لما قال (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) "أذّن" ولاحظ "في الناس" يعني الدعوة الموجهة في الحجّ لكل الناس ، لماذا ؟
/ بعضهم قال : حتى في الإيجاب قال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) ، طيب هؤلاء الناس بعضهم غير مسلم فكيف يجب عليه الحجّ مع أنه من شروط الحجّ الإسلام ، فكيف يأمرهم الله ويطلب منهم أن يحجّوا وهم غير مسلمين ؟ قال :
/ هذا الذي كان ينبغي عليهم - أن يحجّوا - وهم لن يحجّوا إلا بالإسلام فكأنما دعاهم إلى الإسلام. هذه واحدة .
الأمر الثاني : أنه قد يكون أظهر مظهر ندعو به إلى الإسلام هو مظهر الحجّ ، وهذا لم يستثمر من المسلمين حتى الآن ولذلك الآن بدون اهتمام من المسلمين ، يعني بدون قصد تنقل الفضائيات موضوع الحجّ فيُسلم بشر كثير نحن لا نعلمهم من هذا المنظر العجيب ، نحن لا نعلم بهم لكن الله يقول لنا أنه في موضوع الحجّ خاطب الناس ، اعرضوا هذا الحجّ للناس واجعلوا الناس تراه .
الأمر الثالث : أنه العبادة الوحيدة التي يتجمع فيها البشر من كل مكان ويؤدونها في مكان واحد فقط ، العبادات الأخرى تُؤديها في أي مكان لكن هذا تؤديه في مكان واحد والناس يأتون من كل حدب وصوب فهم في الحقيقة يمثلون الناس جميعا فالخطاب عالمي من هذه الناحية .
/ (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) التأذين هو : رفع الصوت والإعلام بشيء معين - بالحجّ - فنادى فقال يارب كيف أبلغهم - الناس كثيرون - ؟ قال : اصعد على جبل قبيس ، فصعد فنادى فبلّغ الله صوته كل أحد ، ثم قال الله - عز وجل - بعد ذلك (يَأْتُوكَ رِجَالا) مباشرة يأتوك ، "يأتوك" هذا الفعل جواب لـ"أذن" أي أنت تؤذن وهم يحصل منهم الإتيان وهذا دليل على أن هذه الاستجابة هي من الله سبحانه وتعالى ، سبحان الله الحجّ من العبادات التي تهفو إليها النفوس ، تجد الناس رغم الضيق والفقر والحاجة وبُعد المكان إلا أنه يعيش طول عمره يفكّر في الحجّ ، وبعضهم يخطط طول عمره للحجّ ، وبعضهم يجمع مالا لمدة أربعين سنة وثلاثين سنة من أجل أن يحجّ ، ولذلك الله - عز وجل - لما ذكر الحجّ أو ذكر مكة قال عنها ، وعبّر عنها بأنها تهوي إليها الأفئدة والقلوب والنفوس ، معناه أنك لا تملُك هذا ، تميل إليها النفوس رغم أنه - سبحان الله - لا يوجد في مكة أي مقوّم لجذب الناس ، العادة المكان الذي يجذب الناس إما مكان تجاري فيه النقود ، أو مكان للبحر الناس يأتون للماء ، أو مكان فيه نهر أو مكان فيه جو جميل ولطيف ، أو فيه خضرة ، لا ترى فيه شيء إلا جبال سود وحرارة وزحام ، في عُرف البشر هذا المكان طارد وليس جاذب لماذا ؟ قال : ليكون المجيء لله وحده وليس لجمال المكان ولا الموقع ، حتى يكون الإخلاص كاملا لله - عز وجل - .
/ من الأمور التي وردت في آيات الحجّ : ملمح التواضع ، هذا الملمح يمكن أن نجده ظاهرا في قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) صحيح أنها ما وردت في الحج لكنها أيضا من آيات الحجّ وحتى نعرف هذا لهذا الموضوع قصة وهو أنه كانت قريش تتميز عن العرب وتقول نحن أهل الحرم لن نخرج من الحرم أبدا ، ويرون لهم بذلك فضل على الناس وهنا نقطة الكِبر في مواطن التعبد ، لا يصلح ، العبادة ذُل ، إذا جاء معها الكِبر أفسدها ، فكانوا يذهبون ويصلون إلى حدود عرفة - عرفة في الحِل وليست في الحرم - فلا يذهبون مع الناس ويبقون إلى أن يفيض الناس وبعد ذلك هم يُفيضون ، لكن هم لا يخرجون ، هكذا يرون ، فلما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صبيحة يوم عرفة ظنوا - لأنه قرشي - ظنوا أنه سيضرب خيامه في هذا المكان ولا يمكن أن يتجاوزه فنحن أناس مميزون ، مختلفون عن غيرنا ، رعاع الناس والمساكين والأجناس الأخرى هم الذين يذهبون ، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضُربت له قُبة في نِمره ، ونمِره خارج الحرم فكبُر ذلك عليهم جدا فقال الله - عز وجل - (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أي لا تتميزوا في العبادات عن الناس ، أُنظر هم ناس ضعفاء جعل هؤلاء الأقوياء في نظر أنفسهم اذهبوا مع هؤلاء ، العمل مع الجماعة أفضل (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) لا تتميزوا عنهم بشيء ، حتى التميز في الحجّ يمكن يكون فيه هذا الملمح ، الإنسان لا يذهب إلى أماكن يتميز بها عن غيره وينفصل عنها ، ولذلك الثراء الموجود في الحجّ الآن والترفه هذا يُخالف هدفا من أهداف الحجّ ، أصلا أهداف الحجّ أن تشعر بالمشقة ، أن تشعر بالناس ، تصور إذا كان الملك وإلا الخليفة وإلا الأمير - اللي يكون - وإلا المسؤول حينما يعيش الحجّ حقيقة ، يشعر بالشمس والتعب ، يشعر بالزحام ، يشعر بالناس بعد ذلك ويكون الأمر مختلف ، لكن إذا كان الإنسان لا يشعر بشيء ، الآن أفراد الناس أصبحوا يذهبون في مخيمات خمس نجوم كأنما ذهبوا في فندق والله حتى حمامات السباحة يضعونها لهم ، أين الحجّ!!؟
جزء من الحجّ هو هذا ، أن يطول الشعر فلا تستطيع أن تقصه ، يطول الظفر فلا تستطيع أن تقصه ، تشعر بأن فيه شيء ، فيه تفث ، فيه قذر تريد أن تزيله لكن لا تستطيع فهنا ينغسل الكِبر الذي عندك في خمسة أيام ، تتغير ، تكون إنسان متواضع . دُفع عبد الله بن المبارك وكان معه الفضيل بن عياض - وهو المُسمّى بعابد الحرمين - دُفع عند زمزم أو في مكان فيه زحام فدفعه الناس وأسقطوه على الأرض ، وكان رجلا عالما عظيما ، ابن المبارك معروف ، وتاجرا وصاحب ثراء ، فسقط على الأرض وقام وهو يبتسم وقال : "والله ما أجمل هذا المكان لا يعرفون فيه أحد فلا يحترمون فيه أحد " . حينما يعيش الإنسان إنسانيته الطبيعية ، يشعر بما يشعر به الناس ويُحسّ بما يُحس به الناس يكون أقرب إلى الحكم الصحيح وهذا جزء من أهداف الحجّ.
/ في قوله تعالى (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) الاستجابة كانت عامّة وربانية من الله ، بل إن الله - عز وجل - قدم استجابة الذين يأتون على أقدامهم على الذين يأتون على رواكبهم فقال (يَأْتُوكَ رِجَالا) "رجالا" ليس المقصود نساء ورجالا(يَأْتُوكَ رِجَالا) أي يمشون على أرجلهم ، (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) يعني يركبون ، فقدّم استجابة الذين يمشون على أرجلهم قبل استجابة الذين يمشون على رواكبهم وأطال أهل العلم في هذا لماذا ؟
/ قال : لأنهم أكثر أجرا لأنهم أكثر مشقة فحقهم أن تُجبر خواطرهم بتقديمهم على غيرهم.
/ قال بعضهم : لا ، بل لأنهم أقرب مكانا فالعادة الأقرب مكانا يأتي على أقدامه والبعيد يركب فطبيعي جدا أن القريب هو الذي يستجيب أولا .
/ وقال بعضهم : (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أنه من تقديم الأولى فإذا كان قد استجاب الذين عليهم المشقة أكثر وهم الذين على أقدامهم لا يجدون شيء فمن باب أولى أن يستجيب من عنده راحلة .
لذلك يقول أهل العلم ّإذا كان عندك راحلة وقوت - مال يكفيك - وأنت فيك شروط الحجّ كاملة مستطيع ، هذه هي الاستطاعة الإيمانية والبدنية مستطيع وعندك قدرة يجب عليك الحجّ فورا ، الأمر ليس بسيطا ، صحيح فيه فضل عظيم لكنه ليس بسيطا ولذلك الحجّ رغم أنه عبادة واحدة لكنه يُعيد الإنسان كأنه وُلد الآن ، وقضية أنه يُعيد الإنسان كما كان الآن يعيدك إلى قضية المراحل التي تحدثنا عنها قبل قليل أن الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم ...ثم ...ثم ، تذكر هذه القضايا كيف تُربط مع بعضها البعض ولذلك عمر بن العاص مدّ يده للنبي - صلى الله عليه وسلم - يُبايعه ثم قبضها فقال : مالك يا ابن العاص ؟ قال : أُريد أن أشترط يا رسول الله ؟ - قبل أن أُسلم عندي شرط - ماهو شرطك ؟ قال: أن يغفر الله لي ذنوبي السابقة ، فقال : "يا ابن العاص أما علِمت أن التوبة - وفي رواية الإسلام - يهدم ما كان قبله ، أما علِمت أن الحجّ يهدم ما قبله" يهدم ، لا يُبقي شيء ، الحجّ وهو كم يوم رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ( من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) (من حجّ فلم يرفث ولم يفسق) هذه من أعاجيب الدلالات أنه رُتب الجزاء الأعظم في الحجّ لا على الشعائر الظاهرة رمي الجمرات والطواف إنما رُتب على الأخلاق في الحجّ ، الناس الذين يذهبون كل اهتماماتهم ماذا نعمل بعد الظهر ؟ متى نرمي ؟ ولا يهمه أن يكون سيء الخُلق يؤذي الناس ، لا يسابب أحد ، لا يهمّه ، لا ، الأخلاق .. الأخلاق ، الحجّ فيه تظهر التقوى ، الله قال عن الحجّ (وَتَزَوَّدُواْ) خذوا معكم تقوى حتى تطبقوها هناك ، طيب ماهي التقوى ؟ قالوا : عُدة المتقين ، من هم يارب ؟ قال (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء) إذا لم يظهر ذلك في الحجّ فمتى يظهر؟ والله بعض الناس يذهب ولا يُنفق ريالا ، يا أخي اشترِ للناس طعام وأطعمهم فرصتك الآن نفّذ التقوى (يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء) أنا لا أريدك تعطي الناس الذين يأتون للسؤال ويقولون أنا فقير ومحتاج ، اعمل شيء ، بعض الناس لا يعمل شيئا يذهب ويأتي يقول خلاص أنا دفعت للحملة ، ما دفعته للحملة هذا شيء آخر لكن انفع نفسك ، أخرج من المال ، اعمل شيء ، قدّم شيء ، اجعل اثنين أو ثلاثة يحجّون على حسابك ، بعض الناس الله مُنعِم عليهم ولا يُنفقون شيئا فالصفة الأولى عندهم من صفات المتقين صفر وهي أصعبها علينا جميعا فنصلي ونصوم لكن عند الفلوس لا ، والله هذه الصلاة لو كل واحد صلى صلاة يدفع خمس ريالات ما صلى واحد فأصعب شيء على الإنسان المال ، وكل من اختبرهم الله في القرآن في المال رسبوا - إلا ما رحم - خطير المال .
/ الأمر الثاني هنا في قضية (يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) رُغم البعد إلا أنها تأتي ، و"عميق" معناها : بعيد لكن كلمة عميق في اللغة لا تدل على البُعد ، تدل على النزول إلى أسفل فالبئر يُوصف بأنه عميق ولذلك - والله أعلم - أن مكة هذه حتى في شكل الكرة الأرضية كأنها فوق والناس يصعدون إليها من أسفل فهي أعلى وهي مركز الأرض وثبت ذلك في أبحاث كثيرة فكأنما هي فوق والناس يصعدون لها ، وكلما بعُد المكان كلما كان أعمق ، ولو كانت قضية المسافة لقيل بعيد فاللفظ القرآني دقيق (يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) المنافع كثيرة .
/ من ضمن الأشياء التي ذُكرت هنا : قضية الأنعام ، ذُكرت بهيمة الأنعام أو الأنعام ثلاث مرات وهي أكثر سورة ذُكرت فيها الأنعام - سورة الحجّ - السور التي ذُكرت فيها كلمة الأنعام عشر سور وهي أكثر سورة ذُكرت فيها لماذا ؟ لماذا في هذا الموطن بالذات ؟ وفي سورة الحجّ خصوصا ؟ ما علاقة الأنعام في الموضوع ؟
- الله أعلم - أن الأنعام رمز من رموز الشكر لله أو رمز من رموز الإحسان ، خصوصا أنك حين تتأمل لما يذكر الله الأنعام يقول (عَلَى مَا رَزَقَهُم) أي أن الله أحسن إليك (مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) ثم يقول (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) وفي الآية الثانية (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) أي سقطت (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) "أطعموا" لاحظ قضية الإطعام الموضوع الغائب عن الحجاج أحيانا ، هناك أناس يهتمون بالإطعام في الحجّ ، فكأن فيه إشارة إلى قضية الذبح الموجود ولو تلاحظ في الحجّ بالذات ليس أضاحي فقط ، هناك أضاحي وفيه دم جبران وفيه دم ... كل هذه .... تجد فيها قضية الذبح متعددة لماذا ؟ ليكون المُطعَم كثير فكأنه يُقال له كما أحسن الله إليك أحسن إلى الناس ، وإذا لم تقدر أن تقوم بهذا العمل في خمسة أيام ، تُجبر نفسك بأنك تدفع شيء من مالك وتُحسن إلى الناس فمتى تُحسن ؟ والناس كلهم حولك والبيئة مناسبة فمتى تُحسن ؟ ولذلك من الموضوع الرئيس الذي قلناه قضية العبودية من أعظم الأشياء التي تساعدك على استشعار عبودية الله أن تستشعر نعمة الله ودليل ذلك : أن أول سورة في القرآن والتي نرددها دائما وهي سورة الفاتحة فيها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فجاء الشكر لله قال (رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعني المُنعم فنحن نعبد الله لأنه مُنعم علينا ، واقرأ في الآيات تجد أي آية فيها أمر بالعبادة تجد فيها ذكر لِنعم الله على الإنسان فأي واحد منا تضعف عنده العبادة فقط يجلس مع نفسه ويتذكر نِعم الله عليه سواء في مأكله أو مشربه أو ملبسه أو ما حوله أو في جسده أو الكون الذي عنده سيعلم عندها يقينا أنه محتاج إلى رب العالمين فيعبد الله - سبحانه وتعالى - عن يقين .
/ من الأشياء التي نختم بها : قلنا الموضوعات الرئيسة البعث وأهواله ، الحجّ ، الجهاد والدعوة ، بيان قدرة الله سبحانه وتعالى ، تحقيق عبودية الله ، أخيرا سأختم بمعلومة حول قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) هذه صورة ذكرها الله سبحانه وتعالى ليعظنا ، الأم أكثر إنسانة في الدنيا تشعر بوليدها هي الأم ، الأب لا يصل إلى هذه المنزلة أبدا ولا ربعها ولا نصفها ولذلك قال بعضهم :" لا تلعن أم أحد أبدا فإن أسوأ أم في الدنيا لا تستحق اللعن " ، أسوأ واحدة التي لا خير فيها أبدا تظل أفضل من كثير من الناس لأنها أمّ ، يكفي أنها أمّ ، فهذه الأم يرتفع اهتمامها بوليدها في فترة الإرضاع ويشتد ذلك في لحظة الإرضاع ، يعني واضعة جنينها في حجرها وترضعه ، في هذه اللحظة لو قامت الدنيا كلها لما اهتمت بها ، لو تكسر البنيان ، شبّ حريق ، أهم شيء ولدها ، تجدها تنحرق ولا تشعر بشيء ولكن في ذلك الموقف هذه الإنسانة التي لا يمكن أن يتصور أحد أن تتخلى عن وليدها أبدا ، ليس تتخلى عنه فقط بل تذهل ، تنساه تماما فالذهول معناه أنك لا تشعر بشيء أصلا ، يعني ليس أنك لا تشعر به شعورا عاديا بل لا تتذكره ، لا تشعر به نهائيا ، يا الله ، الموقف عظيم وكبير مهما تخيلته لكن بهذه الصورة ممكن تتخيله ولهذا السبب قال أهل العلم : إن الله - عز وجل - أمر أم موسى أن تُرضعه وهو حتى يشتدّ ارتباطها به قال الله (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) موضوع الإرضاع موضوع عادي جدا يمر على أي إنسان في الدنيا وليس على موسى فقط فلماذا يُذكر إذا في تاريخ موسى - عليه السلام - يعني لماذا يُذكر أن الله قال لأمه أرضعيه أليست كل أم ستُرضع ؟ أليس هو أمر عادي والأمر العادي لا يُذكر لكن للتدليل على أن الله أراد لها أن تُرضعه لأنها في تلك اللحظة يمكن لا تهتم بالإرضاع فقال لها (أرضعيه) لأنها بمجرد أن تُرضعه ستختلف العلاقة بينها وبين طفلها ، ستكون أكثر اشتدادا والتصاقا به ، فإذا اشتدت والتصقت به يأمرها في هذه اللحظة أن ترميه ليكون الاختبار أعظم لها ، وتُلقيه في اليمّ ، واليمّ أسرع وسيلة لقتل الإنسان ، لو قال لها ضعيه في الصحراء كان أسهل لأنه سيبقى لفترة لكن في اليمّ لكن يبقى طويلا وخصوصا إذا كان طفلا ، وقال (في اليم) مع أنه نهر وليس بحر لكنه بالنسبة لطفل صغير يعتبر يمّا واليمّ هو البحر العظيم. فلاحظوا إخوتي الكرام ثم قال (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وفعلا صار هذا الرضاع سبب في عودته لأنه لما ذهب يريد أن يرضع من غير أمه ما قبِل المراضع وارتبط بأمه التي أرضعته .
/ دعوة للأمهات إذا كن يسمعن ، دعوة للأباء الكرام موضوع الإرضاع ليس موضوعا هامشيا في حياتنا ولو كان كذلك لما كان الإرضاع يُحرم ما يُحرم النسب ، القضية أكبر من قضية نقل لبن أو تلقي لبن ، القضية أبعد من هذا ، هي نقل شعور ، نقل أحكام ولذلك الأم المُرضعة التي تُرضع ولدها فترة كلملة تجد حنانها يختلف ، تجد شعورها بطفلها يختلف ، يكون في الشارع وهي في البيت تقوم من جانب الأب وهو لم يدرِ عن شيء فتجد ولدها في خطر فعلا هذه الأم ، بينما التي لا تُرضع والآن في زمننا هذا تجده في يد الخادمة 24 ساعة وحليب صناعي ، تجده يسقط من الدرج ويبكي فتقول للخادمة شيليه ، ارفعيه وكانها ليست بأم ، السبب الإرضاع أمر خطير . نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل خير وصلى الله وسلم على سيدنا محمد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق