بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهلا بكم إلى حلقة جديدة في آيات الحجّ في القرآن الكريم مع ضيفنا الشيخ صالح بن عواد المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء، والذي نرحب به مع مطلع هذه الحلقة فأهلا بكم فضيلة الشيخ .
الآية التي معنا في هذه الحلقة هي قوله تعالى (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) .
أولا: إذا أذنتم المقصود (فيه) في المسجد الحرام ؟ نبدأ بهذا .
الشيخ : الآية التي قبلها (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ*فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) الكعبة والمسجد الذي حولها ، هذا المقصود ببيت الله الحرام ، فـ (فيه) عائدة إلى مفهوم أوسع قليلا ، على الكعبة وما حولها بدليل أن الله قال (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) فمقام إبراهيم - يقينا - ليس من الكعبة فهذا دليل على أن المقصود بها المسجد .
أما أعظم الآيات البيّنات التي في هذه الكعبة فالحجر الأسود .
لماذا قلنا الآية البيّنة ؟
الآية في اللغة : العلامة ، ولها معانٍ كثيرة في القرآن الكريم كقوله - جل وعلا - ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) أي لعبرة لكن هنا (آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي أمور تلفت الأنظار غير ما تعارف الناس عليه ، فالحجر في أصله علامة قسوة ، فالصخور توصف بأنها صلباء لكن هذا الحجر من دلائل احترامه شرعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّله وبدأ به في الطواف من دون أركان الكعبة كلها ، على هذا نحرر المسألة على النحو التالي :
نستصحب قول الله - جل وعلا - (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) فشعائر الله يجب أن تُعظم ، هذا عموما . السؤال المطروح هنا علميا : كيف تُعظم ؟
لا سبيل لمعرفة كيفية تعظيمها إلا بمعرفة كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معها ، وإذا جاء سيل الله بطل سيل معد ، والعلم والدين يؤخذ من أنبياء الله ، ونحن مطالبون بالاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
تأتي هنا أخطاء من هنا وهناك حول هذه المسائل فمثلا : النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون تعظيمه ؟ ننظر إلى الصحابة كيف تعاملوا معه فنعرف تعظيمه فهم لم يتخذوه وسيلة بينهم وبين الله ، فلا يأتينا أحد فيقول إن من تعظيمه اتخاذه وسيلة بيننا وبين الله في قضية الدعاء لأن الصحابة الذين أُنزل عليهم القرآن وهو كان حيا بين أظهرهم لم يصنعوا هذا ، كذلك الدين كل شعيرة من شعائر الدين لها نوع من التعظيم ، مثلا : الله يقول (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) نتساءل نحن كيف تعظيمها ؟ بأن تُقلّد وتُهدى إلى البيت وتُنحر ، فنحرها هديا بالغ الكعبة هذا من تعظيمها ، هذا من تعظيم شعائر الله ، استسمال الأضاحي هذا من تعظيم شعائر الله لكن لا يمكن أن نقول إن نحر الحجر أو استسماله من تعظيمه لا ، لأن الحجر ... فنلتفت كيف عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شعيرة الحجر ، بدأ به مُقبلا بوجهه ، من أخطائنا نأتي بجواره ونضعه على يسارنا ، منذ البداية ، يعني قبل الحجر بخطوات يأتي أحدنا وقد وضع الحجر على يساره ليبدأ ، وإنما الصواب أن يأتي الإنسان أول المطاف إلى الحجر مباشرة يقابله بوجهه فالنبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبّله - وفي رواية - سجد عليه ثم جعل الكعبة بعد ذلك على يساره قال جابر : استلم الحجر ثم جعل اليت عن يساره بعد أن استلم الحجر .
كيف تُعظم شعيرة الحجر ؟ باستلامها أو بتقبيلها ، إذا عجزنا فبالإشارة إليها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . هذا الحجر جاء في الأثر (نزل الحجر الأسود من السماء أشدّ بياضا من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم) هذا الموروث القديم حتى الجاهليون كانوا يعلمونه ولذلك اختصموا في قضية وضعه ، وقُدّر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يضعه في رداء ثم أخذت كل قبيلة بطرفه ، لو لم يكن لهذا الحجر قدر لما منّ الله على نبيه بأن يكون وضع الحجر على يديه لأن الله لا يختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل الذي يختصم فيه الناس ، ولو لم يكن للحجر شأن لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم به دون أركان الكعبة كلها ، ولو لم يكن للحجر شأن لما قبّله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعني هذا أن يفهم أحد أن لازم ذلك أن يعتقد أن الحجر يضر وينفع فإننا نعلم أن الحجارة لا تضر ولا تنفع ، بل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لا يضرّ ولا ينفع في أمور الدين والدنيا إلا ما جرت عادة البشر به لكن لا يملك أحد لأحد ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا هذا نفاه الله عن جميع خلقه ، لكن على ذلك ليس بلازم أننا قبلنا الحجر أننا نعتقد أنه ينفع أو يضر وإنما نحن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم .
المقدم : هذه أُثيرت قبل فترة لما أُثير في إحدى القنوات الفضائية مسالة الرموز الوثنية الموجودة عند المسلمين في الحجّ وكان التركيز على هذه القضية .
الشيخ : طبعا هذا من جهلهم ، مدخلكم الجيد يسوق إلى مسألة عجيبة جدا بقدر الله نبّه عليها رجل اسمه محمد الطاهر كردي المكي وهي قضية أن قريشا الوثنيين كانوا يعظمون الأوثان والحجارة ويختلقون الأصنام ( هبل - اللات - مناة - العزى ) ما هي إلا أوثان ، حجارة ، ومع ذلك صرفهم الله أن يعبدوا الحجر الأسود أو يعبدوا المقام رغم أنه موجود بين أظهرهم ، لماذا ؟ لأنه سبق في علم الله أنه سيأتي في دين الله تعظيم الحجر وتعظيم المقام بما يناسبهما ، فو قُدر أن قريشا كانت تعظمهما وتعبدهما لقال القرشيون أبقى محمد على شيء من ديننا لكن الله صرفهم تماما على أن يعبدوا الحجر أو المقام ، لأنه سبق في علم الله وكل شيء بقضاء وقدر والله يعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن ، صرفهم بالكلية عن عبادة الحجر والمقام حتى يكون في دين محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إظهار للتعظيم . وهذا ملحظ عظيم وأظن ان بركة العلم لها دور كبير في استنباط هذه المسائل والتنبيه إليها وتذكير الناس بها حتى يكون هناك حياة الاجتهاد في الأمة منبعثة ، منبثقة ، باقية فالدين أجلّ وأكبر من أن يحوي صدر رجل واحد .
ونقله عنه سائد بكداش في كتابه (فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم ) وهو كتاب تاريخي فقهي مطبوع موجود في الأسواق .
طبعا الحجر من أعظم ما تعرض له تاريخيا قضية القرامطة ، وأن القرامطة نزعوا الحجر وحملوه إلى هجر وكان هذا في أوائل القرن الرابع ومكث هناك عشرين سنة .
المقدم : هذا الحدث حُمّل أكثر مما يحتمل فيعتقد بعض الناس عند قراءة التاريخ أن الكعبة عُطلت في هذا الزمن ، وأن القرامطة كأنهم نفوا وجود المسلمين في فترة معينة .
الشيخ : هذا شابه شيء لكن مجمله يدل على أن قوما أُعطوا جرأة في سفك الدماء جاؤا للكعبة والناس يحُجّون ، والحجّ قائم والشعيرة ظاهرة وعرفة مزدحم فيها الموقف فأخذوا الحجر معهم دون أن يهدموا الكعبة وإنما نزعوا الحجر إنتزاعا فمكث الناس عشرين عاما - كما قال أهل التاريخ - إنما يشيرون إلى موضع الحجر في طوافهم ، الطواف قائم والأمور قائمة ، ثم رُدّ بعد عشرين عاما إلا ثلاثة أيام تقريبا ، والآن الذي يتأمل في الحجر هو إناء فضي داخله مادة لزجة تجمع قطع الحجر ، عدد قطع الحجر الموجود الآن ثمانِ قطع على هيئة ثمرات منها الكبير ومنها الصغير متلاصقة بعضها ببعض ، هذا هو الحجر المقصود أصلا بالحجر الأسود .
المقدم : طبعا إما أن يُقبل وإن لم يستطع يمسه مسا - يمسح عليه - وإن لم يستطع يشير إليه
الشيخ : يشير إليه لكن إذا كان معه شيء يستلم به الحجر مثل ما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم المحجن ولم يستطع أن يستلمه بيده فاستلمه بعصا أو نحوها جاز له أن يُقبل ذلك الذي استلم به فالنبي عليه الصلاة والسلام مسه بالمحجن ثم قبّل المحجن .
المقدم : والركن اليماني ؟
الشيخ : الركن اليماني (يحط الخطايا حطا) كما في الحديث ، يُستلم ويُقبل لكنه لا يُشير إليه عند قول ، فيه قول للمذهب الشافعي رحمة الله عليه بالإشارة إليه والمسألة فيها خلاف لكن الأرجح - والعلم عند الله - أنه إما أن يُستلم وإما أن يُترك .
وكلاهما في الجنوب من الكعبة لهما من الكعبة ركناها أي أهل اليمن والنبي عليه الصلاة والسلام يقول (الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية) ومما يُمدح لأهل اليمن أن ركنا الكعبة تجاه اليمن .
المقدم : الأركان الأربعة ؟
الشيخ : الحجر الأسود والركن اليماني تسمية شرعية عن الصحابة ، بقية الركنين ، الركنان الشاميان - جهة الشام - ليسا ظاهرين فقواعد إبراهيم داخل الحِجر ، باقي الآن الحِجر ، ما يُسمى بحِجر إسماعيل وهو من الكعبة بالاتفاق لكنه لم يُبنَ فالركنان الشاميان لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم قال العلماء : هذه العلة في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلمهما .
المقدم : الصلاة داخل هذا الحِجر أو ما يُسمى بحِجر إسماعيل ؟
الشيخ : الصلاة فيه كالصلاة داخل الكعبة لذلك يحسُن بالمؤمن أن يُصلي فيه وليس له إلا إتجاه واحد إذا صلى فيه وهو الاتجاه جنوبا لأنه لو صلى شمالا يأتي إشكال في قضية أن جدار الكعبة ليس أمامه ، يعني جدار الكعبة ليس مبنيا لأن الحِجر بناؤه قصير جدا .
المقدم : من الآيات أيضا وهي التي نُصّ عليها في الآية ، سبب النصّ عليها (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) ؟
الشيخ : هذا تخليد لذكرى خليل الله وهذا من الثناء الذي وعده الله نبيه حين قال في دعائه (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) ، إنما الخلاف بين العلماء في هذا المقام هل مكانه الحالي هو مكانه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ والمسألة فيها أقوال عديدة تصل إلى أربعة :
- منهم من قال إن مكانه الحالي هو المكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين ، هذا قول .
- وقال آخرون إن المقام كان ملتصقا بالكعبة وأُخر إلى هذا الموضع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مروي عن مجاهد .
- وقال آخرون إنه كان ملتصقا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخره إلى هذا الموضع عمر - رضي الله عنه - . وقيل غير ذلك .
والذي يظهر لي أن هذا المكان مقامه منذ أن كان النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن قول مجاهد إنه كان ملتصق بالكعبة كذلك له وجه من القوة لكن الذين نقلو حجّة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا لنا أن النبي أخره لكن نقبل قول مجاهد لماذا ؟ لأنه لابد أن يكون المقام ملتصقا بالكعبة حتى يستفيد منه إبراهيم فيرتقي عليه لأنه إذا كان بعيدا لن يستفيد منه لأن المقام وضع حتى يرقى إبراهيم عليه ويبني الكعبة .
المقدم : ماقصة المقام ؟
الشيخ : قصة المقام أنه حجر ارتقى عليه إبراهيم حتى يُكمل ما ارتفع من بناء الكعبة .
المقدم : الآن يتخيل الناس أن المقام هو قبة فقط .
الشيخ : هذه القبة موضوعة حديثا لكن المقام صخرة فيها آثار إبراهيم منذ أن كان ، قال أبو طالب في لاميته :
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ** على قدميه حافيا غير ناعلِ
الذي يهمّ المؤمن هنا : أن الإنسان في كل أحواله عبد لله فلما ألان إبراهيم لله قلبه ألان الله الصخر تحت قدميه . وإلا نعلم جميعا أنه من المحال أن يأتي الإنسان ويرقى على صخر ثم يصعد وينزل منه ويبقى أثر قدميه على الصخر ، محال تبقى ظاهرة واضحة جلية على مرّ الدهور ، هذا مُحال . لكن هذا مقام إبراهيم جعله الله - جل وعلا - مكانا للصلاة فقال (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ) وقد ثبت في حجّة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت ثم أتى المقام وتلا قول الله - جل وعلا - (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ) وصلى خلف المقام مستقبلا البيت - صلوات الله وسلامه عليه - .
يمكن الإشارة هنا إلى أن الأصل في صحن الكعبة أو المطاف ، الأصل فيه أنه للطائفين لأنهم قُدموا في الآية (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فإذا ازدحم الأمران إما يكون للطائفين أو المصلين نؤخر المصلين ونُبقي الطائفين . فالأصل أن ما كان ملتصقا بالكعبة الطواف ، فمن الخطأ أن يأتي أقوام ويحولوا بين الناس وبين الكعبة في الجلوس لإنتظار الصلاة إنما الانتظار يكون متأخرا - كما هو حاصل الآن - لكن يأتي بعض الفضلاء من الأجهزة الأمنية ممن يعلم أن المحراب سيُقدم والشرطة الذين يحرسون الإمام فيتقدمون فيفقه الناس أن الإمام سيتقدم فيأتي أقوام يصفّون مقابل الكعبة ويأتي صف ثاني وثالث ورابع وخامس ، فيأتي الطائف يصعب عليه الطواف وإنما الأصل يأخرون فإذا أُقيمت الصلاة يتوقف الطائفون وكل يصلي في مكانه .
المقدم : يُلحظ مسألة إقامة الدروس في صحن الكعبة ، الحقيقة أنه لاشك في النفع في إقامة هذه الدروس لكننا نقدم مصلحة (لِلطَّائِفِينَ) ويُلحظ أن الدروس في العشر الأواخر من رمضان بالذات تُعيق الطائفين .
الشيخ : تُعيق الطائفين والحق الأول لهم فإذا قُدّم الطائفون على المصلين فمن باب أولى أن يُقدموا على من يستمعون الدرس .
المقدم : الأثر الموجود في الصخرة هو هو لم يتغير ؟
الشيخ : تغير كثيرا وقد نبّه إلى هذا بعض الحُفّاظ من شُرّاح الأحاديث وقالوا إن كثرة استلام الناس له أذهبت كثيرا منه .
المقدم : أتوقع أن قدم إبراهيم كان أضخم وأكبر .
الشيخ : طبعا كان الناس ضخاما (مازال الناس ينقصون) يقول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، وقد قال بعضهم في روايات تُذكر لمن لهم في القيافة رأى قدمي إبراهيم في الصخر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي يلعب فقال إن هذه الأقدام شبيهة جدا بالتي في الصخر وهذا يؤيده قول النبي عليه الصلاة والسلام في رحلته للمعراج قال (فرأيت رجلا ما رأيت أحدا أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم) يقصد عظيم شبهه عليه الصلاة والسلام بأبيه خليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق