الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

المُلك




الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد الاّ إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
 أيها المباركون نستأنف دروسنا في هذا المسجد المبارك حول آيات ربنا - جل وعلا - في قرآنه العظيم ، وقد بيّنا مرارا أن كل حلقة أو لقاء يحمل عنوانا ، ولقاء هذا اليوم يحمل عنوان " المُلك " والمُلك فضل من الله - جل وعلا - واسع يؤتيه الله جل وعلا من يشاء وقد جاء ذكر كلمة الملك في القرآن كثيرا . وفي لقائنا هذا سنتدارس شيئا من ذلك إذ يصعب الإتيان على الجميع في لقاءات معدودة الأوقات .
 / الحقيقة الأولى : أن يُعلم أن الله قال - وقوله الحق - عن ذاته العلية (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) ومعنى (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي أن مُلك الله لا تخالطه شائبة عجز وليس فيه خضوع للغير البتة ، وهذا المُلك بهذا الوصف لا يكون إلا لله . هذا مما يمكن أن يُقال حول معنى قوله تعالى  (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) .
 / الثانية : أن حب التملك فُطر عليه بنو آدم مما قلّ أو كثر فإبليس لما أراد أن يغوي أبانا آدم جاءه من هذا الباب (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى) ومعنى قوله  (وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى) أي لانهاية له . والثوب إذا خلق وبلي لا يُلبس فهذا مستعار منه . (وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى) أي لا يكون أحد يأمرك ما الذي تأكله وما الذي تتركه في الجنة وهذا كان أحد ماجعل آدم عليه السلام يأكل من الشجرة . لأن أبانا آدم - عليه السلام - بقدر الله أكل من الشجرة لكن علّمنا الله من خطيئة أبينا عليه السلام أن الطرائق إلى الإغواء اثنتان :
 شيء من إبليس - من خارجك - وشيء من ضعف في داخلك ، فأما الضعف الذي في الداخل قال الله فيه (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) . وأما الذي هو ظاهر – خارج - فقول ربنا (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) وحديثنا على المُلك لكن هذا استطراد .
 / ثالثا : قال الله - جل وعلا - في كتابه العظيم : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
 "اللهم" عند النحويين يقولون أصلها "يا الله" وإنما حذفت الياء وعوضت عنها بالميم وقد مر معناها هذا كثيرا في دروس في أعوام سابقة ولا حاجة للوقوف عنده .  (مَالِكَ الْمُلْكِ)  أصلها "يا مالك الملك" وإنما نُصبت لأن المنادى هنا مضاف "يا مالك الملك" في غير القرآن .
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء) فالله وحده يُقدم من يشاء بفضله ، و  ( وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء)  فالله وحده يؤخر من يشاء بعدله ، فكما يقدم بفضله يؤخر بعدله ولا يظلم ربك أحدى . فما من أحد بُوأ ملكا إلا الله - جل وعلا - آتاه إياه ، وما من أحد ترك ملكه إلا والله - جل وعلا - نزعه منه إما عقوبة وإما ابتلاء ، ولا نقول في كلها عقوبة لأن أمير المؤمنين عثمان قتل فنزع منه ملكه ، وأمير المؤمنين عمر قتل فنزع منه ملكه ، وأمير المؤمنين علي قتل فنزع منه ملكه ، وهؤلاء خيار الناس . فالمقصود يُنزع عنه ملكه إما عقوبة وإما ابتلاء .
 قال ربنا جل وعلا :  ( تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء)  تجعله يَغلب فإذا غلب أوتي الملك فهذا معنى قوله جل وعلا :  (وَتُعِزُّ مَن تَشَاء)  أي تجعله يغلب ، ( وَتُذِلُّ مَن تَشَاء)  تجعله يُغلب فيقهر فتصيبه الذلة ، وقد يكون هذا في الدنيا دون الآخرة ، وقد يكون في الدنيا والآخرة كلاهما في العزة أو في الذلة .
 / ثم قال ربنا :  (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ، قدم الجار و المجرور لدلالة الحصر فيصبح المعنى : أن الخير ليس بيد أحد غير الله ، لكن يلحظ المؤمن وهو يقرأ الآيات أن الشر لم يذكر هنا ويقدر حذف الشر بثلاثة أمور :
 الأولى: إما أن يقال أن الشر حُذف لدلة المعنى عليه بمعنى أن الخير والشر قرينان والله - جل وعلا - قال (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وسكت ، ومعلوم أن السرابيل تقي الحر وتقي البرد وأنه ذكر أحدهما ولم يذكر الآخر لأن الأول يدل على الآخر فقالوا هذه نظير هذا بيدك الخير وبيدك الشر وإن كان في الأدب النبوي والشر ليس إليك . هذه الأولى .
 الثانية : أن يقال : إن قول الله - جل وعلا - (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي أن أي شر يخلقه الله - جل وعلا - فهو بالنسبة لقضاء الله متضمنا للخير وهذا أرجح بل أرجح الأقوال في المسألة . بقي قول ثالث وهو أن يقال : أن الخير ذكر هنا دون الشر لأن المقام مقام دعاء على أنه يحفظ عن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا دعى قال (الخير كله بيديك والشر ليس إليك) وهذا من أدب نبينا عليه الصلاة والسلام مع ربه .
 / كذلك مما قيل في المُلك أن الله - جل وعلا - قال عن نبيه داوود : (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) . فداوود بالاتفاق أحد أنبياء وملوك بني إسرائيل والله يقول عنه :  (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ). فالمُلك لابد أن يشد بأعوان ووزراء ورعية تحب واليها ووالي يحب الرعية ، هذا كله يمكن أن يقال عنه ما يلي :
 لابد للحاكم أن يحافظ على هيبته فلا يأتي ما يذهب هيبته من أعين الناس ولابد للرعية أن تراعي هيبة الحاكم وتبقي عليها ، فإذا قامت الرعية بمحاولة إذهاب هيبة الحاكم لم تكن رعية مسددة له وإذا أتى الحاكم من قِبل نفسه ما يذهب هيبته كان ذلك قرينة على أنه لا يصلح للملك . أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه تعالى وأرضاه - وهو هو في قامته المعروفة ، كان يطوف في المدينة في الليل ، فمر ذات يوم على خيمة قد نُصبت لم يرها في الليلة التي قد خلت فوقف عندها يسأل عن صاحبها فإذا هو أعرابي قد نصب الخيمة فسأله : من أنت ؟ فقال : أنا رجل من البادية جئت أصيب فضل أمير المؤمنين . والأعرابي لا يعرف أن هذا عمر . قال : ما الصوت الذي أسمعه ؟ قال : هذه امرأة في المخاض . أي في الولادة . قال : هل عندها من أحد ؟ قال : لا . فذهب أمير المؤمنين - رضي الله عنه - إلى بيته وكلّم زوجته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي يومئذ صغيرة فقال لها : هل لك في أجر ساقه الله إليك ؟ - فالناس لا يُساقون إلى المعروف سوقا - قالت : وما ذاك ؟ فأخبرها فقبلت فأمرها أن تحمل ما يصلح للمرأة من الحفة وغطاء وماشابه ذلك . وحمل معه قدرا فيه لحما و بُرا ومضى الزوج - وهو أمير المؤمنين وزوجته - حتى وصل إلى الخيمة فقال للمرأة : ادخلي فدخلت ، وقال للرجل : أوقد لي نارآ فأوقد له نارآ . فأخذ أمير المؤمنين يحاول أن ينضج الطعام وبينما هو يُنضج الطعام ولدت المرأة فقالت أم كلثوم لزوجها عمر : يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام . فلما سمع الرجل قول المرأة يا أمير المؤمنين ارتعد فقال له عمر : لا عليك وطمأنه ، وللقصة خاتمة معروفة وموضع الشاهد : هذه ليست أحاديث سمر هذه أخبار أصحاب سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - وموضع الشاهد أن أم كلثوم - رضوان الله عليها - لم تقل يا عمر ولم تقل يا أباحفص لأنها الآن تناديه خارج الدار فتُبقي على هيبته كأمير للمؤمنين حتى لا تذهب هيبته من أعين العامة ، فقالت له : يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام . وقطعآ لوكان في الدار لا يعقل أن زوجة تنادي زوجها بلقبه وهما على الفراش أو هما في إحدى حجرات البيت لكنها فرقت بين حاله في الدار وحاله خارج الدار فأبقت على هيبته في العيون . قالت : يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام, وهذا ما جعل الرجل يعرف أن هذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه - . فالمقصود : لا بد من إبقاء حبل الهيبة . وإنما يحتاج الحاكم أيا كان حاله في أي عصر أو مصر لزاما إلى العدل بين الناس وسيأتي لقاء خاص بالعدل.
 والمُلك علاقته بالدين أجملها عبد الله بن المعتز في جمله سابقة في معناها "الملك بالدين يبقى والدين بالملك يقوى" .
 "الملك بالدين يبقى" فكل حاكم يريد أن يحافظ على ملكه يحفظه له إقامة الصلة مع الله . و"الدين بالمُلك يقوى" فلا ريب الدين إذا حرسه ورعاه وقام بشعائره حاكم ، ملك ، أمير يقوى الدين وينتشر ويعم فلا بد للدعوة من سلطان يحميها بإتفاق العقلاء، هذا مايقال عن الملك عموماً.
 / كلمة "ملكوت" جاءت في القران، قال الله جل وعلا (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وقال ربنا (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) "ملكوت" مصدر من الفعل "مَلَكَ" زيدت فيه التاء للمبالغة لكن لا يُقال هذا اللفظ إلا فيما هو مختص بالله - جل وعلا - ، فلا يُقال في ملك أحد كائن من كان من الخلق هذا ملكوت ، وإنما يقال هذا ملكه، هذا مملكته، هذه إمرته ، لا يقال ملكوت إلا فيما هو ملك الله وكل شي ملك لله، هذه الحقيقة الرابعة أوالخامسة مما يستنبط من أيات القرآن المذكور فيها المُلك .
/ ذكر الله جل وعلا المُلك ونسبه إلى عباده قال (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا). أول ملوك المسلمين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه وأرضاه - ، أما الراشدون الأربعة الذين قبله فهم ملوك من حيث الحكم، لكنهم من حيث التسمية الشرعية يسمون خلفاء (أبو بكر،عمر، عثمان، علي) رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وعلى الصحابة كلهم بلا إستثناء. ثم آل الملك إلى معاوية ، ومعاوية - رضي الله عنه - من بني أمية وهو في صباه كا ن يمشي مع أمه هند فعثر فقالت له أمه :قم لا رفعك الله. فنظر إليها أعرابي وقال: لِمَ تقولين له ذلك؟ والله إني لأتفرس فيه أن يسود قومه. فقالت هند: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه. فكانت فراسة أمه فيه أعظم من فراسة الاعرابي فيه رضوان الله عليه. تزوج من امرأه اسمها ميسون بنت بحدل الكلبي وأنجب منها يزيد. وفي خبره معها يظهر لكل أحد أن بعض النفوس تملك من الحنين إلى الموطن الأول ما لا يُمكن أن يُتصور، فإن ميسون نشأت في البادية مع أهلها وقومها فتزوجها معاوية - رضي الله عنه - فأسكنها قصور دمشق - دار خلافته - ومع ذلك وقطعاً معاوية - رضي الله عنه - لم يكن ظالماً لها أو جباراً عليها ولا باخساً لها حق ومع ذلك ما أستطاعت أن تعيش معه بعيدة عن ديار قومها ولها في هذا أبيات شهيرة ، فلما سمع الأبيات وعرف حنينها إلى قومها قال لها : كُنتي فبِنتِي ، يعني كنت زوجة فأصبحت بائنة عني ، يعني بينونة طلاق، وهذا طلاق بائن طلقها، لكنه ملك لا يطيل في الكلام "كنتي فبنتي" ، هي من حنينها إلى قومها، لو كان غيرها لأحدث صوتاً وحزناً كيف تفارق قصور دمشق وتعود إلى البادية . أجابته منذ أن قال لها كُنتِي فبِنتِي، قالت "ما سُررنا إذ كنا ولا أسفنا إذ بِنا". "ما سُررنا إذ كُنا" يعني إذ كُنا زوجة لك، "وما أسفنا إذ بِنا" يعني إذا فارقناك وبهذا يُضرب المثل في حنين الإنسان إلى وطنه، إلى دياره، إلى من نشأ معهم صغيراً. وهذه إحدى طرائق الوفاء والعلم عند الله.
والمقصود : بدأنا بأول ملوك المسلمين معاوية ، ثم آتى الله - جل وعلا – ملكه من يشاء ونزع - جل وعلا - ملكه من يشاء والله الملك ملكه والخلق خلقه والأمر أمره يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد. هذا ما يمكن أن يقال لكننا نختم بأنه يبقى يوم حتى هذا المُلك الصوري الذي يملكه بعض ملوك الدنيا يزول، قال ربنا (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ*رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ*يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) .
 آمنا بالله وبأن الله هو الملِك الحق وأنه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
_________________________
الشكر موصول لمن قامت بتفريغ الحلقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق