الأحد، 10 يونيو 2012

وصايـــ لقمان ــــا / الوصية الثالثة

أ. نجلاء السبيل *

الوصية الثالثة :
{ يا بُنيَّ إنَّها إن تكُ مِثقَالَ حبةٍ مِن خَردلٍ فتَكُن في صخرةٍ أو في السَّمَاواتِ أو في الأرضِ يَأتِ بها الله إنَّ الله لطيفٌ خبير }.
بعد أن غرسَ لقمان الإيمان والاعتقاد الصحيح في قلب ابنه ، التفتَ إلى إصلاح قلب هذا الابن ، لأن القلب هو أنفس وأغلى وأشرف وأعظم مُضغة عند الإنسان .. ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلُحت صلُح الجسدُ كلهُ وإذا فسُدت فسُد الجسدُ كله ألا وهي القلب )[1]. فلا يمكن أن ينصلح حال الإنسان ومعاملاته وسلوكياته إلا إذا انصلحَ قلبه ، إذا استقام القلب استقامت الجوارح ، وإذا طابَ القلب طابت الجوارح وهذه القلوب ماهي إلا أوعية منها السليم ومنها السقيم ، وفيها العذبُ وفيها الأُجاج وكُل إناءٍ بما فيه ينضح .
هذا القلب السليم الذي سلِمَ من الآفات والأمراض ومن زحمة الشهوات وضجيج الهوى والتعلقات هو بذاته مطلب وغاية يسعى الإنسان لتحصيلها فلن يصل إلى الله تعالى إلا صاحب القلب السليم : { يوم لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنوُن * إلا مَن أَتى اللهَ بِقلبٍ سَلِيم }[2]. والنبي صلى الله عليه وسلم كان من دُعائه :( و أسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً ).
 مثل هذا القلب يحمل صاحبه ويُعينه لا يتثاقل به ولا يخذله :{ يَا أيُها الذيِن آمنُوا مَالكُم إِذا قِيل لَكُم انفِروا فِي سَبيلِ اللهِ اثَّاقلْتُم إلى الأرضِ أَرَضِيتُم بِالحياةِ الدُّنيَا مِنَ الآخِرَةِ ..}[3].
 - قيل أن ابن لقمان قال لأبـيه : " يا أبـتِ أرأيت لو كانت حبةَ في قعرِ البحر أكان الله يعلمها ؟؟ فأجابهُ بهذه الآية .."[4].
 فأرادَ لقمان بهذه الوصية أن يملأ قلب ابنه بتعظيم الله ومراقبته وخشيته ، وهذا من أعظم أساليب التربية والتوجيه أن تغرس تعظيم الله في نفوس الخلق . و القلب إذا امتلأ بهذا التعظيم تبدلت أحوال العبد وأصبح الواعظ الذي بداخل نفسه أو الضاغط الذي يضغط عليه فيحجزه عن المعصية مستمر معه على كل حال سواء كان منفرداً أم مع الناس ومن يُرد الله به خيراً يجعل له واعظاً من نفسه ، فتراه ليس من السهل كلما تزينت له معصية طار معها ووقع فيها : { إنِّي أَخَافُ إِن عَصيتُ رَبي عَذابَ يومٍ عظيِم } ، نعم قد يقع وقد تزلُّ قدمه لكن بعد مدٍ وجزر ، وأخذٍ وعطاء ، وتقدُمٍ وتأخر ، تنازعهُ نفسه وتُجاذبه وتُناوشه ثم قد تغلبه لكن سرعان ما يندم ويضربه قلبه بسياطٍ هي أشد تأثيراً من سياط البدن . وهذه كلها مؤشرات أن هذا القلب امتلأ خشيةً وتعظيماً ومراقبة لله عزوجل. وختمت الآية بقوله :{ إنَّ الله لطيفٌ خَبِير }وهو مناسبٌ غاية المناسبة لما ورد في الآية . قال الزجاج : " لطيف باستخراجها خبيرٌ بمكانها " . والمرادُ أن الله تعالى يأتي بأعمال العباد يوم القيامة لو كانت أعمالهم بمقدار حبة الخردل المتناهية في الصِغر والتي لا تكاد أن تُرى ولو كانت مخبوءة في داخل صخرةٍ صماء أو في أعلى قمةٍ في السماء أو في أخفض مكان في الأرض يأتِ بها الله لا تُعجِزهُ ولا تخفى عليه وهذا كله يدلك على سعة علم الله وقدرته عزوجل ... وأن الله قد لَطُف في عِلمه فعلِم ما خفي ودقَّ وغمُض فيمتلئ قلبك تعظيماً وخشية ومراقبةً له جل جلاله وهذا هو المعنى الأول الذي يدور حوله معنى اسم الله " اللطيف ".
وأما المعنى الثاني بهذا الاسم : هو أن الله لطُف بعباده المؤمنين أي يُوصل لهم مصالحهم بلطف من حيث لا يشعرون . " يُوصل لك ما تُحب في رفق ".
تأمل قول الله تعالى :{ ألم تَرَ أنَّ اللهَ أنزلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فتُصبِحُ الأرضُ مُخضَرَّةً إنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِير }[5]. سياق الآيات جاء في مقام إخراج الزرع ، فمن لُطفهِ تبارك وتعالى أنه يعلم مواقع بذور الأرض في باطنها فيسوق الماء إلى ذلك البذر الذي خفي عن علم الخلائق فإذا وصل إليه الماء خرج منه خيطاً دقيقاً رفيعاً لا يكاد يُرى ، يشق الأرض فما يزال يكبر ويكبر حتى يكون شجرة وهذه الشجرة تطرح ثمراً ونباتاً مختلفٌ ألوانه ، فالله لطيف بعباده يجري عليهم من الأقدار وإن كان في ظاهرها أنها بلاء ومحنة وألم ومشقة إلاّ أن الله يسوق لهم مصالحهم في داخل هذه الأقدار من حيث لا يشعرون . فما من قدر نزل على العبد إلاّ وفيه لطف الله ، فقدر الله لا ينفك عن لطفه ، ولطفه لا ينفك عن قدره ، والله سبحانه خبيرٌ بك وبحالك وبقلبك فيسوق لك مصالحك بلطف كما قال ابن السعدي - رحمه الله - في مبحث عظيم جليل له كتبه في لطف الله بعبده – في كتابه – " المواهب الربانية " وهو مبحثٌ عظيم الفائدة كبير النفع . وسأنقل شيئاً من صور اللطف التي ذكرها .. قال رحمه الله : " إذا يسر الله لعبده وسهل له طريق الخير وأعانه عليه فقد لطف به . وإذا قيَّض الله له أسباباً خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه فقد لطُف له ، ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه السلام تلك الأحوال وتطورت به الأطوار من رؤياه وحسد إخوته له وسعيهم في إبعاده واختصاصهم بأبيهم ، ثم محنته بالنسوة ، ثم بالسجن ، ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة وانفراده تعبيرها ، وتبوءه من الأرض حيث يشاء وحصول ما حصل لأبيه من الامتحان والابتلاء ، ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار وإزالة الأكدار وصلاح الحال ، عرف يوسف - عليه السلام - أن هذا من لطف الله به فقال:{ إنَّ رَبّي لَطِيفٌ لما يَشَاءُ إنَّهُ هُو العَليمُ الحَكِيم } [6] . أي لطفه خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلاً لذلك وأهلاً له فلا يضعه إلا في محله. ومن لطفه بعباده أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء التي هذا طبعها وديدنُها فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوء والفحشاء بعد أن توجد أسباب الفتنة وجواذب المعصية فيرسل عليها برهان لطفه فيدعونها منشرحة لتركها صدورهم . ومن لطفه أن يبتلي عبده ببعض المصائب فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها فيُنيلهُ درجات عالية لا يُدركها بعمله. ومن لطفه بعبده أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه ، فييسر عليه التعلم من كتاب أو معلم يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل ...
---------------------------------------------------------
 [1] الحديث.
 [2] الشعراء (88-89).
 [3] التوبة (38).
[4] زاد المسير ص1101
[5] الحج (63).
[6] يوسف (100).
*إحدى منسوبات جمعية تحفيظ القرآن بمحافظة جدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق