الجمعة، 15 يونيو 2012

الدرة القرآنيــ السادسة عشرــة / (22- 28) من سورة المطففين


نقول والله المستعان ما سنتحدث عنه اليوم من آيات هي قول الله - تبارك وتعالى - في سورة المطففين :
 (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ *خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )
(وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )هو ما سنقف عنده كثيرا .
هذه الآيات - كما تعلم أيها المبارك - من سورة المطففين يقول فيها الحق - جل شأنه - يخبر عن مآل الأبرارفي جنات النعيم قال ربنا (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) وهذا الأسلوب أسلوب تأكيد ، فيخبر - جل وعلا - أن مقر الأبرار ومآلهم إلى نعيمه ، إلى فضله ورحمته ، ثم ذكر بعض شأنهم قال (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) ولا ريب أن الإنسان حتى في الحياة الدنيا إذا بشر بخبر يسره أو أصابه مال أو نال حظوة أو ما شابه ذلك من متاع الدنيا ظهر ذلك جليا على وجهه ، فكل ما يغلب على الظن أنه مفرح يظهر ذلك على أسارير وجه الإنسان وهذا مما لا اختلاف فيه فكيف إذا كان الإنسان يومذاك - جعلني الله وإياكم من أهل طاعته - في ذلك النعيم المقيم مع لذة النظر إلى وجه ربنا الكريم - تبارك اسمه وجل ثناؤه - قال الله (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) .
 ثم قال - جل شأنه - وهذا موضع الشاهد والمقصود من الحديث هنا ، قال (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) يخبر ربنا أن الأبرار يسقون من رحيق مختوم هذا الرحيق ختامه مسك ، وقد مر معنا بيان ما معنى ختامه مسك إما أن يكون في أعلاه أو يكون في نهايته ليس هذا المقصود في هذه الحلقة . (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) ثم قال (وَمِزَاجُهُ) أي هذا الرحيق ، هذا الماء المخصص أصلا للأبرار مزاجه من تسنيم ، ما تسنيم يارب العالمين ؟ قال (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) ، سنبين بالماء هذا حتى تتضح الصورة .
 تسنيم هذه عين في أعلى الجنة ، هذه العين ينزل ماؤها إلى الأبرار ، هناك أبرار وهناك مقربون ، الأبرار لهم ماء ، ينزل الماء من تسنيم يُمزج بالماء الذي يشربه الأبرار ، إذا هؤلاء الأبرار لا يشربون من تسنيم شربا صرفا يعني خالصا من أي شيء . لا ، إنما يأخذون شيئا يسيرا من تسنيم فيمزجونه بمائهم قال أصدق القائلين وأحكم الحاكمين (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) أي ماء الأبرار ممزوج بتسنيم ، فماء الأبرار هو الأكثر لكن التسنيم يأتيهم يسيرا ليمزج مع مائهم ( وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) .
ثم قال : (عَيْنًا) أي أن تسنيم وصفها (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أما المقربون الذين هم في منزلة أعلى من الأبرار ، أعلى منزلة من أصحاب اليمين فهؤلاء يشربون من تسنيم شربا صرفا لا مزجا أي خالصا فكل شرابهم من تسنيم أما الأبرار فإنما يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) جملة إعتراضية للحث .
(وَمِزَاجُهُ) أي ومزاج مائهم من تسنيم (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) لعلي أوضح الصورة عمليا . شخص ما ذهب إلى مكة ، لما ذهب إلى مكة قدر له ، له علاقاته ، غرف له من زمزم ماء فوضعه في إناء ثم حمله إلى ديار أهله ، قال لأهل بيته ، لجيرانه : هذا الماء بيدي غرفته تناولته دلوا من زمزم ، قال له بعض الجيران : هب لنا من مائك هذا ، قال : ائتوني بماء لكم فأمزج ماءكم بزمزم فيبقى ماؤهم أكثر ويمزجه لهم بشيء من ماء زمزم . هذا يقرب لك معنى قول الله - جل وعلا - (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) وهذا يدلك على فضل الله ورحمته . وقد مر علينا قول بعض أهل العلم والصلاح "إن دخول الجنة بالفضل والمنازل فيها بالعدل" .
لاحظ قول الله - جل وعلا - (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) "المقربون" اسم مفعول مفرده مقرب أي قربهم الله ، فالفضل له - جل وعلا - في أنه أدناهم من رحمته وأعلا مقامهم بما كتب لهم في الدنيا من عمل صالح وبما وفقه لهم - جل وعلا - من عمل جليل يرضى عنه بهم ربهم - تبارك وتعالى - حتى أضحوا في منازل عالية والجنة منازل كما أخبر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - .
 قبل أن أطوي هذه الدرة أقول :
 سورة المطففين يأتي فيها مسألة نحوية لتقريب معنى : قال الله - جل وعلا - في أولها (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) معنى قوله - جل وعلا - (كالوهم) : كالوهم أصلها كالوا لهم طعاما ، كالوا لهم شيئا طعام أو غيره فالأصل الفعل "كالوا" وهو متعد بحرف الجر اللام و"هم" ضمير وقع مفعول به أول وإن قدرنا المفعول الثاني طعاما أو شيئا وقع مفعولا به ثاني ؛ أي أن "كال" تتعدى إلى مفعولين ، قلنا أصلها كالوا لهم لكنه حذفت اللام فأصبح الضمير "هم" ملتصقا بالفعل كالو لهم . هذا من كلام العرب ، جاء في شواهد العرب التي لا يُعرف قائلها قول القائل وهذا شاهد نحوي معروف يقول :
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا *** ولقد نهيتك عن بنات الأوبرِ
 معنى البيت : ولقد جنيت لك أكمؤا ، مثلها تماما قول الله - عز وجل - "كالوهم" أي كالوا لهم طعاما . في البيت : ولقد جنيت لك أكمؤا والبيت معناه : أن هذا يقول لصاحبه أن هناك كمأ جيد طيب وهو العساقل والكمأ وهناك رديء منه أمثال الحصى الصغير رديء الطعم وهذا يسمى بنات أوبر ، فليست بنات أوبر بنات عائلة معينة إنما هو نوع من الكمأة يشبه الحصى في حجمه ، صغير لكنه رديء الطعم فهو يعاتب صاحبه لا حاجة لك بهذا وقد جنيت لك كذا وكذا ، فالشاهد من الخبر كله أن الإطلاع على لغة العرب يعين على فهم القرآن ، فالشاهد فيه قوله : ولقد جنيتك أي جنيت لك أكمؤا فـ"جنى" فعل و"التاء" فاعل ، و"الكاف" مفعول به أول و"أكمؤا" مفعول به ثان ، و"عساقل" معطوفة عليها . وكذلك قول الله (كَالُوهُمْ) "كال" فعل و"الواو" فاعل ، و"هم" ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول ، والمفعول به الثاني مقدر طعاما أو شيئا . هذا استطراد نحوي أردت منه أن أشير إلى أن للغة العرب دورا كبيرا في فهم كلام الله - جل وعلا - .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق