السبت، 9 يونيو 2012

وصايـــ لقمان ــــا / الوصية الثانية

أ. نجلاء السبيل *
- الوصية الثانية : حق الوالدين
 قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) الآية ليس بعد حق الله وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم - حق أهم من حق الوالدين . جاء أثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وإن كان في سنده ضعف لكن المعنى الذي ورد فيه صحيح بالجملة أنه قال : "ما من مسلم له والدان مسلمان، يصبح إليهما محتسبًا، إلاّ فتح الله بابين- يعني من الجنة- وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرضَ الله عنه حتى يرضى عنه. قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه" الأدب المفرد ص7. الإمام البخاري وضع هذا الحديث تحت باب سماه (باب بر الوالدين وإن ظلما) . والذي يُفهم من هذه الترجمة أن الوالدين لو ظلما ابنهما أو ظلما غيره من الناس بمعنى أن الوالدين ظالمين، حتى لو كانا بهذه المنزلة من الظلم فإن حقهم في البر يبقى ثابتًا، فإذا كان الابن مأمور بمصاحبتهم بالمعروف حتى لو كانا في أعلى درجات الظلم وهو الشرك بالله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) . فمن باب أولى أن يكون مأمورًا باللين وحسن الصحبة والمعروف حتى لو ساءت أخلاقهم أو ساءت عشرتهم أو ساءت أفعالهم، فهذا لا يلغي حقهم أبدًا فحقهم في البر ثابت.
من فوائد الحديث :
 1) أنه ما من مسلم يستقبل يومه ويستفتحه بهذه النية - أن يكون محسنًا للوالدين - ويجعل عزمه ونيته ورغبته من باكورة يومه من الصباح أن يبرهما بطيب الفعال وطيب الكلام وحسن الخدمة، إلا كان هذا سببًا من أسباب توفيق الله له في يومه كله. البر هو الطريق الذي لا يخيب سالكه وطالما أن هناك بر فأبواب التوفيق مفتوحة تفتح للعبد بابًا تلو باب.
 2) ويفتح له من الصباح بابين إلى الجنة فإن غضب أحد الوالدين لم يرضَ الله عنه حتى يرضى والده عنه حتى وإن كان منهما شيء من الظلم والخطأ والتجاوز لا يلتفت الابن إلى هذا الخطأ بل يلتفت إلى الإحسان الكبير والمعروف العظيم الذي أولياهُ إياه وإلى الثواب الكبير المترتب على هذا البر وهذا الإحسان .
 3) وهذا هو سر الربط بين التوحيد وبين حق الوالدين في القرآن : وهو أن أعلى درجات البر وأشرفها وأكرمها أن تبر الوالدين إجلالاً لوصية الله، وتعظيمًا لله، وتقديمًا لمن قدم الله، فالله قدمهما والله وصى بهما وهما وصيةُ الله عندك والله - عز وجل - سيختبرك ويمتحنك ليرى ما أنت فاعل بوصيته (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) بغض النظر عن مشاعرك تجاه الوالدين تقدمت، تأخرت، تراجعت، أعطوك أم حرموك، قسوا عليك أم رحموك، فمن ينظر للوالدين بقلب عابد سيثبت بره ويزيد بره ويزيد إحسانه لأنه يتعامل مع ربه لا مع الوالدين ومن عظم الله عظم أوامره ووصاياه . هذا البر من أعظم مواطن تكفير السيئات ورفع الدرجات وهو من أكبر الحسنات الماحية.
 جاء رجل لابن عباس رضي الله عنهما فقال : إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرتُ عليها فقتلتها، فهل لي من توبة ؟؟ فقال: أمك حية ؟ قال: لا. قال: تب إلى الله - عز وجل - وتقرب إليه ما استطعت . فقيل لابن عباس: لمِ سألته عن حياة أمه ؟ (يعني ما العلاقة بين التوبة من القتل والقتل كبيرة من كبائر الذنوب وبين حياة الأم ووجودها؟؟؟) فقال ابن عباس: "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة" الأدب المفرد ص5.
 في كلام ابن عباس يظهر المسلك الصحيح لكل من أراد الغفران من الله عز وجل وأنه لا بد له من أمرين :
الأمر الأول : أن يتوب إلى الله من الذنب ويقلع عنه ولا يصر عليه ويعزم على أن لا يعود عليه ثم إلى جانب هذه التوبة يحتاج إلى الإكثار من الحسنات الماحية لأن الله تعالى يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (واتبع السيئة الحسنة تمحها) . وبما أن القتل كبيرة ومن السيئات العظيمة فيحتاج العبد أن يقدم حسنات عظيمة أيضًا تقابل هذا الذنب الكبير، فجاء البر وخاصة بر الأم فالله عز وجل قدم الأم على الأب بثلاث مراتب . لتعرف عظيم هذا العمل وعظيم ثوابه وكثرة بركته ورفع درجته وأنه من أعظم الحسنات الماحية.
4) واذكّر نفسي وإخوتي لأن باب البر من أسرع الأبواب قفلاً على العبد . على قاعدة "من زهد في الخير وتركه حُرم الانتفاع به" . فالإنسان إذا لم يعرف قدر الوالدين وقيمة أنهم ما زالوا أحياء وخاصة الأم وأنه ما زال هناك أكف ترفع في آخر الليل تدعو له، كم فرج الله عنه من هم؟ وكم ستر عليه من عيب؟ وكم قضى عنه من دين؟ ودفع عنه من بلاء؟ بسبب دعوة هذه الأم!! وهو على فراشه نائمًا . فإذا زهِد وتنازل وملّ وكلّ وتعب وترك فالنتيجة أنه ربما حال الله بينه وبين هذا الباب الذي كان مفتوحًا له وقُفل عليه وصُرف عنه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) الآية. خاب وخسر، خاب وخسر، خاب وخسر من أدرك والديه ثم ضيعهما ومن ضيع الوالدين ضيع أوسط أبواب الجنة.
5) لا تبحث عن بر لا مشقة فيه ولا كلفة ولا صبراً على المكاره ولا غضاً عن كلمات تسمعها من الوالدين ولا كظماً للغيظ ولا تمرير، فكيف يكون هذا برًا إذًا؟؟؟ ثق أنه ما من جهد بذلته أو معروف أو كظم للغيظ أو إحسان للوالدين إلا وسيجازيك الله به أعظم الجزاء. لن يضيع الله برك ومعروفك وصبرك وحسن صحبتك بل سيدخره الله لك ويجازيك عليه إذا وقفت بين يديه في يوم أنت أحوج ما تكون للحسنات والصالحات. ولن يجازيك عليه بقدرك أنت بل بقدره هو جل جلاله، والمكافأة والعطيةُ تأتي بقدر المُعطِي لا بقدر المُعطَى إليه. الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) .
6) هل برهما ينتهي بموتهما؟؟ لا. يبقى البر دين في عنق الأبناء، بل قد يكون الوالدين أحوج ما يكونون لهذا البر بعد موتهما وانقطاع أعمالهم وخروجهم من الدنيا ويُقال: أن الميت في قبره مثل الغريق يفرح بأي شيء يصل إليه (دعوة، استغفار، صدقة...) فيفرج الله عنهم وهم في قبورهم ويتغمدهم برحمته. وكلما كان الإنسان ذاكرًا لوالديه بعد وفاتهما فإن الله يسخر من يذكره بعد موته، الجزاء من جنس العمل، ومن وفَّى وفَّى الله له. رزقني الله وإياكم بر والدينا والإحسان إليهما وغفر لنا ولكم تقصيرنا في حقهما.
-------------------------------
*إحدى منسوبات جمعية تحفيظ القرآن بمحافظة جدة
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق