د.أحمد بن محمد البريدي
<الحمد الله رب العالمين ,,وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ,,وعلى آله وصحبه أجمعين .. حيّاكم الله جميعاأيها الإخوة ..وأسأل الله - عزَّ وجل - أن يجعل اجتماعنا اجتماعا ًمرحوما, ويجعل تفرّقنا بعده تفرقا ًمعصوما..
أيها الإخوة سأتدارس أنا وإيّاكم ـ بمشيئة الله تبارك وتعالى ـ مقدمة التفسير لابن تيمية - رحمه الله - وسنعرضها بمشيئة الله في أربع مجالس ,وأنا أعلم أن هذه المجالس ربما تكون قصيرة لشرح مثل هذه المقدمة ,لكن سنستعين الله وسنحرص حرصا ًتامّا ًأن نوصل فكرة شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذه المقدمة إليكم ,,
مقدمــــــــــة في أصـــول التفسيــــــــــــر أصـــــول التفسير جملة مركبة من كلمتين ،كلمة أصول وكلمة التفسير ,والأصل هو ما يُبنى عليه غيره وقد يُطلق في اللغة ويُراد به القاعدة . أما التفسير في اللغة : فهو الكشف والبيان ,وفي الاصطلاح له تعاريف كثيرة عرّفها من أجملها تعريف الشيخ محمد ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ بقوله " بيان معاني القرآن" وهو مأخوذ من المعنى اللغوي لكلمة التفسير.
أمّا أصـــول االتفسيــــــــر: فهي القواعد و الأسس التي تُعين على بيان القرآن .
وغاية أصول التفسير هو الفهم الصحيح لمعاني القرآن ,لذلك أحسن الإخوة أيما إحسان حينما افتتحوا هذه الدورة بمتن في أصول التفسير, بما أن هذه الدورة ستكون في تفسير كتاب الله تبارك تعالى فمن المهم لطالب العلم أن يأخذ بعض أصول هذا العلم ,خاصة وأنهم اختاروا هذه المقدمة وهي مقدمة شهيرة وفيها أشياء مهمّة جدّا ً لطالب علم التفسيـــــــــر .
وقد ألّف شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ هذه المقدمة كما سمعتم من القارئ الكريم أنه سأله بعض إخوانه ـ يعني احتاجوا أن يكتب لهم شيئا ًفي أصول التفسيرفسأله فكتب هذه المقدمة ـوهذا العنوان "مقدمة التفسير"تجدون بعض الطبعات تكتب"مقدمة التفسير لابن تيمية"و"مقدمة في أصول التفسير" السبب في هذا التفاوت أن هذا الاسم مأخوذ من كلمة "شيخ الإسلام" ولم يسمِّ شيخ الإسلام كتابه وإنما قال : " سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة " فأخذوا منها هذا العنوان , وأنبّه إلى ان ابن قاسم صاحب "حاشية الروض" و "جامع الفتاوى" له كتاب اسمه "حاشية مقدمة التفسير"يظن بعض الإخوة إنها من شروح هذه المقدمة ,والواقع أن المقدمة والحاشية كلاهما لابن قاسم عليه رحمة الله.
المقدمة هذه لها شروح كثيرة جدا ً,شرحها كثير من المشايخ في تسجيلات مسموعة وبعضها مرئية ,والموجود منها الأن المطبوع منهاـ فيما أعلم ـ كتابان أول كتاب طُبع لشرح هذه المقدمة هو شرح الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه , وهناك شرح نزل أخيرًا ًوهو شرح للدكتور مساعد الطيّار, وشرحها جملة من الفضلاء .
شيخ الإسلام قسّم هذه المقدمة إلى فاتحة ، يعني التركيز يا إخواني الأن مهم لنا عندما يستطرد شيخ الإسلام ,شيخ الإسلام تعرفون أنه يغرف من بحر ,وبالتالي تتزاحم عنده العروض فإذا بدأ يتكلم أو يكتب فإن العلوم تتزاحم عنده ,وبذلك استطرد شيخ الإسلام في هذه المقدمة . فكوننا نلخص الفكرة التي أوردها شيخ الإسلام هنا في هذه المقدمة يعيننا على ضبط المسار الذي نريده ونُأمّل ـ إن شاء الله تعالى ـ في هذه الدروس الأربعة ..
إذا هذه المقدمة تشتمل كما قسّمها شيخ الإسلام إلى فاتحة لهذه المقدمة و خمسة فصول وخاتمة،وسنتكلم بعد قليل عن الفاتحة .
وأما الفصول فإني أذكرها كما رتّبها شيخ الإسلام :
الفصـــــــــل الأول :ــ أن النبي بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه, هذا هو الفصل الأول.
الفصل الثاني: الخلاف الواقع في التفسير
الفصل الثالث: اختلاف المفسرين والذي مستنده النقل .
الفصل الرابع: اختلاف المفسرين الذي مستنده الاستدلال .
الفصل الخامس: أفضل طرق التفسير .
ثم ختم هذه المقدمة بالحديث عن تفسير القرآن بالرأي وحكمه وجملة من أقوال السلف عليهم رحمة الله في القول في التفسير .
نستعين الله تعالى ونبدأ الآن في المقدمة وقد قرأ القارىء وفقه الله وحتى لا نعيد ما قرأ الأخ الفاضل,قال شيخ الإسلام : " فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كليّة تعين على فهم القرآن " إذا هو هذا هدف المقدمة ُتعين على ماذا ؟ " على فهم القرآن و معرفة تفسيره ومعانيه ,و التمييز في منقول ذلك ومعقوله " وهذا يدل على أن التفسير ينقسم إلى قسمين :
منقول: وهو المسمّى بالتفسير بالمأثور.
والمعقول : وهو المسمّى بالتفسير بالرأي .
ثم قال شيخ الإسلام : " فإن الكتب المصنّفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين والباطل الواضح والحق المبين " يعني فيها هذا وهذا ,بحسب توجه المؤلف ,بحسب طريقة المؤلف ,بل كما سيثبت شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذه المقدمة أن توجّهات و معتقدات المؤلف له أثر حينما يكتب تفسيره ,و سيبين لنا شيخ الإسلام أمثـــــــلة لذلك .
هناك جُمل ستمر علينا في هذه المقدمة من المهم استظهارها لطالب العلم ,وسأشير إليها في أماكنها ,منها ما سيذكره الآن قال :
" والعلم - هذه قاعدة مهمّة وفائدة نفيسة - إمّا نقل مُصدّق عن معصوم - يعني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبياء الله - وإمّا قول عليه دليل معلوم,وما سوى ذلك فإمّا مزيّف مربوط وإما موقوف لا يُعلم أنه بهرج ولا منقوت " هذه كلمة نفيسة في بيان العلم النافع , العلم النافع وبيان ما هو العلم الذي يطلبه طالب العلم . نقول دائما ًطالب العلم ,ماذا تطلب يا طالب العلم ؟!! يقول شيخ الإسلام : " العلم إمّا نقل مُصدّق عن معصوم وإمّا قول عليه دليل معلوم " أمّا سوى ذلك فلا ينبغي أن يشغل به طالب العلم ,لا ينبغي أن يلتفت طالب العلم لما سوى ذلك , وشيخ الإسلام يشير إلى علم الكتاب والسُنّة .
ثم قال " وحاجة الأمة ماسّة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم و الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ,ولا يخلق على كثرة الرد ,ولا تنقضي عجائبه ... " إلى آخره. ثم استشهد شيخ الإسلام بجملة من الآيات .
إذا فاتحة الكتاب كما قلنا اشتملت على أمرين بارزين : أشرنا إلى أن شيخ الإسلام قسّم كتابه إلى فاتحة وخمسة فصول وخاتمة ،الفاتحة اشتملت على أمرين بارزين
الأمر الأول : السبب الباعث على كتابة المقدمة وهي ثلاثة أشياء :
1ـ سؤال بعض إخوانه له أن يكتب لهم قواعد كليّة في تفسير كلام الله .
2ـ أن الكتب المصنّفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين .
3ـ الحاجة الماسّة إلى فهم تدبر كتاب الله تبارك وتعالى .
فقول شيخ الإسلام " العلم إما نقل مصدّق عن معصوم وإما قول عليه دليل معلوم " كما قلنا بيان للعلم النافع ,إذ إنّ كتب التفسير فيها أشياء كثيرة أدخلت في علم التفسير ليست منه كما فعل الفلاسفة ,وفيه رد على الصوفية كذلك الذين يجعلون التفسير بالمكاشفة أو الباطنية الذين يجعلون للقرءان ظاهر وباطن ,ظاهر تعرفه العامّة وباطن تعرفه الخاصّة ,أو الرافضة الذين أوّلوا الآيات على ما يريدون.
الأمر الثاني الذي اتسمت به هذه المقدمة: أنها مختصرة.
ولذلك قال : " قد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد والله الهادي إلى سواء الرشاد " الأمر الثاني أنه أملاها من فؤاده,وهذه سمة أغلب كتب ابن تيمية وقول شيخ الإسلام "من إملاء الفؤاد" كأنه يعتذر لنفسه عمّا وقع فيه من بعض الأوهام التي سنُنبّه عليها إن شاء الله في هذه المقدمة ,فإن الإنسان يسبق إلى ذهنه الشيء أليس كذلك ؟وينسى, ولذلك وقع شيخ الإسلام في إحالة بعض الأشياء سنُنبّه عليها أثناء الشرح . هذا ما يتعلّق بالمقدمة أو الفاتحة .
الفصــــــــــل الأول من هذه المقدمة وقد اشتمل على الأمور التالـــية :ـــ
الأول : البيان النبوي للقرءان .
الثاني ً: إهتمام الصحابة بتعلم معاني القرآن .
الثالث: قلّة النزاع بين الصحابة .
الرابع : تلقّي بعض التابعين جميع التفسير عن الصحابة كمجاهد .
الخامس : أن التابعين قد يتكلّمون في التفسير بالاستنباط والاستدلال .
فقول شيخ الإسلام " يجب أن يُعلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه " هذه إحدى القواعد الكليّة التي ذكرها شيخ الإسلام واستشهد لها بستة أدلّة ,استشهد لهذه القضية بستة أدلّة: الدليل الأول : لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم , ووجه الاستدلال قال : " فإنه يتناول هذا وهذأي يتناول المعاني كما يتناول الألفاظ " .
الدليل الثاني : قول أبي عبد الرحمن السُلمي :حدثنا الّذين كانوا يقرأون القرآن , وقول أنس وفعل ابن عمر.
الدليل الثالث: قول الله (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) وآيات التدبر , ثم قال شيخ الإسلام وجه الاستدلال " وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن " الدليل الرابع : ( إنّا أنزلناه قرءانا ًعربيا ًلعلّكم تعقلون ) ,وجه الاستدلال قال: " عقُل الكلام متضمّن لفهمه " الدليل الخامس: " من المعلوم أن كل كلام المقصود منه فهم معانيه دون مجرّد ألفاظه ,فالقرآن أولى بذلك ".
الدليل السادس : " العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاب في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه , فكيف بكلام الله " .
دعونا نقف مع قول شيخ الإسلام " يجب أن يُعلم أن النبي بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه " هل نفهم من هذا أن النبي بيّن كل القرآن ؟! من مقولة شيخ الإسلام نعم نفهم
هل نفهم أنه قد أُثر على النبي تفسير القرآن آية آية ؟؟! لا ،هذا غير موجود حتى في السنن ولا بالمسانيد ولا في الصحاح . ولذلك الذي منكم قرأ كتاب" التفسير والمفسّرون" أو الّذين يتكلمون عن التفسير النبوي يوردون هنا مسألة مهمّة أنا أنبّه عليها وهو المقدار الذي بيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في التفسير ,ويجعلون المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول: أن النبي بيّن جميع معاني القرآن ,وينسبون هذا القول لابن تيمية من أين أخذوه ؟ من كلامه المتقدّم .
القول الثاني : يقولون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن آيات قليلة من القرآن ,ويستدلون بقول عائشة :[لم يُبيّن النبي إلاّ آيات بعدد] وهذا الحديث ضعيف فيه محمد ابن جعفر الزبيري متروك .
القول الثالث : أن النبي بيّن الكثير من آيات القرآن وهو رأي الزركشي في "البرهان في علوم القرآن " .
والواقع أن عرض المسألة بهذه الطريقة غير صحيح لماذا ؟؟ لأن جعل قول شيخ الإسلام قولا ًمستقلّاً في هذه المسألة خطأ ، فإن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة، لا يمكن أن يتصور أن شيخ الإسلام العارف بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول أن النبي بيّن القرآن البيان القولي ,والمسألة التي يوردونها بين الزركشي والسيوطي أوغيرهم من العلماء إنما يتكلمون عن الأحاديث المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التفسير، فجعل شيخ الإسلام في هذه المسألة وقول شيخ الإسلام في هذه المسألة خطأ ,ذلك أن شيخ الإسلام - رحمه الله - يرى ويقصد البيان العام أو بمعناه العام ,فيدخل فيه البيان القولي ويدخل فيه البيان الفعلي ويدخل فيه تقريرات النبي صلى الله عليه وسلم .
قد يتساءل أحدكم كيف تقول على شيخ الإسلام هذا الكلام و نص واضح أنه يقول يجب أن يُعلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، نعلم أن طريق القرآن من ؟! النبي - صلى الله عليه وسلم - ,وبالتالي كيف تقول أن شيخ الإسلام يقصد البيان العام عن التقرير ؟
نقول حتى في هذه المقدمة يدل على كلام شيخ الإسلام ,ألم يقل في طرق التفسير في آخر فصل "عليك بالقرآن فإن أعياك فعليك بالسنة فإن أعياك فعليك بأقوال الصحابة " ...معناه كيف يقول هذا الكلام وهو يقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن كل معاني القرآن بيانا ًقوليا ً, هذا لا يمكن أن يتصور لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ .
هذه المسألة أتمنى أن تكون ظاهرة لأنها تُحكى في الكتب بهذه الطريقة، ولذلك فنوجه كلام شيخ الإسلام ونقول : إن شيخ الإسلام يريد بالبيان البيان العام ,أو يقصد بيان ما يحتاج إلى بيان من مشكل, وهذا تحرير محل النزاع في هذه المسألة ,خاصة وأنه أورد أثر ابن عباس في آخر المقدمة وقال إن التفسير على أربعة أنواع وذكر منه :
*تفسير تعرفه العامة ما يحتاج أصلا ًإلى تفسير.
*وتفسير استقل بمعرفته العرب في لغتها.
*وتفسير تعرفه العلماء .
*وتعريف استأثر الله بعلمه كحقائق الصفات والأمور الغيبية .
وبالتالي فجعل شيخ الإسلام أو جعل قول مستقل لشيخ الإسلام في هذه المسألة هو خطأ ,وسبب الخطأ هو عدم التفريق بين البيان القولي والبيان بمعناه العام.
لعل سائل يسأل ويقول: لماذا أورد شيخ الإسلام هذه المسألة ؟؟ كيف تحمس شيخ الإسلام وقال: " يجب أن يُعلم أن النبي بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه " ؟
أراد بها الرد على أهل الفلسفة والإلحاد في عصره , الّذين زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ معاني كلام ربه بلاغا ًمبيّنا ًسوى الألفاظ ,بل منهم من صرّح بذلك وقال : إن المصلحة كانت في كتمان معاني هذه الألفاظ وعدم تبليغها للأمة,فأراد شيخ الإسلام أن يرد عليهم ويقول : لا يوجد شيء في القرآن تحتاجه الأمة ولم يمت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد تركها على المحجّة البيضاء,ولذلك لا يمكن لأحد أن يأتي ويقول إن القرآن أراد كذا كما يفعله أهل الباطنية يقول : إن هذا ظاهر القرآن للعامّة وباطنه تفسيره بكذا وكذا أبدا ً، وأما ما سيأتي من اختلافات المفسّرين فلها مأخذها ولها أسبابها .إذاً هذا الفصل عقده شيخ الإسلام للرّد على أهل الفلسفة والباطنية الّذين يرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين معاني القرآن .
من الألفاظ التي ذكرها شيخ الإسلام وهي على القاعدة التي قلتم ينبغي أن تُستظهر حفظا ً, يقول : " كلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والإئتلاف والعلم والبيان فيه أكثر" وهذا صحيح ,يشهد لهذه القاعدة أمران:
الأول : الخبــــــــر وهو ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الناس قرني ) الثاني : النظـــــــر وأن شرف كل عصر بشرف أهله ,وأشرف العصور هي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصر أصحابه ,ثم من تعلّموا من الصحابة ولهذا فإن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق .
قال مجاهد : "عرضت المصحف على ابن عباس ,أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها " مراد مجاهد هنا السؤال عن المُشكل أو المُجمل ,لأن السلف كانوا لا يهتمّون بتفسير كل شيء كحالنا لعلمهم بالعربية ,فكانوا لا يسألون إلا عمّا أشكل عليهم.
قوله : " والمقصود أن التابعين تلقّوا التفسير عن الصحابة" يعني به جملتهم أو المشتغلون بعلم التفسير ,لا يقصد كل التابعين .
هنا مسألة استطرادية لما قال : "وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن" بعض الإخوة يستشكل عليه يقول : كيف أحفظ القرآن ؟
أقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين ، وهذه دائما ًتثار في مجالس تحفيظ القرآن بعضهم يقول كيف تحفظ؟ احفظ وجه واحد وادرس تفسيره ثم احفظ الذي بعده ، ولذلك هذه المسألة ليس قصد ابن عمرـ رضي الله عنه ـ بهذا أن لا يحفظ الإنسان البتة , وإنما ينبغي ان يشتغل بفهم ما يحفظ , فإن مجرد الحفظ يا إخواني غير مقصود وإن كان في القرآن مقصود لذاته, وتعرفون حديث (إقرأ وارقى ورتل كما كنت ترتل في الدنيا) ولذلك أورد العلماء :هل يجوز أن يحفظ الإنسان القرآن دون تدبره ,ودون مثلا الاشتغال بتفسيره؟
الجمهور ورأي المذاهب الأربعة جواز ذلك ,وعليه عمل الناس إلى يومنا هذا, لكن نقول حثاً للحافظين : إذا أردتم أن تنتفعوا بما حفظتم فعليكم بفهم ما حفظتم.
الأن ننتقل إلى الفصــــــل الثــاني من فصول هذه المقدمة وهو: اختلاف السلف في التفسير . وهذا الفصــل من أهم فصــــــــول هذه المقدمة خاصّة للذين سيشاركوننا الاستمرار في هذه الدورة .
كثير من الإخوة يقول : والله يا أخي التفسير صعب ,يا جماعة والله أنا أحب التفسير,أريد أنا أقرأ في التفسير لكن صعب ,أذهب إلى زاد المسير لابن الجوزي أجد في كلمة واحدة سبعة أقوال ,وكثرة خلافات ، هذا الفصل سيحل الإشكال وسيجيب عن هذه المسألة , وسيقرر شيخ الإسلام ـرحمه الله ـ أن أغلب هذه الخلافات هي من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، و سأبيّن لكم إن شاء الله تعالى بعض الأمثلة, وأرجو إن شاء الله من المشايخ الكرام وهم إن شاء الله تعالى سينتبهون لهذه القضية عند شرح أو بداية تفسير القرآن أن يُشيروا دائما ًإلى اختلاف التنوع في هذه المسألة ليسهل على طالب العلم تناول علم التفسير .صعُب علم التفسير على طلاب العلم لأن الناس صعّبوه , وإلا هو في الحقيقة سهل بل لذيذ ,ذلك أن أغلب الّذين يكتبون في التفسير يصب اهتماماته في كتابه , فالنحوي تجده يشتغل بعلوم العربية ,والبلاغي تجده يهتم بمسائل البلاغة ,والفقيه يصب كل علمه في التفسير , والواقع أن التفسير ما يوجد في كتب التفسير شيء فيه تفسير ,وهناك أشياء خارجة عن حد التفسير هي فوائد, هي مُلحقات في التفسير, هي داخلة في معنى الآية ,لكن لا يتوقف عليها فهم الآية . ولذلك مهم الوصول إلى مرتبة فهم الآية .
هذه قاعدة من قواعد هذه المقدمة : الخلاف بين السلف في التفسير قليل ..هذه أولاً, خلافهم في الأحكام في المسائل الفقهية أكثر,وهذا كلام العارف ليس كلام إنسان عادي هوكلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول " وغالب ما يصح " وضع تحت ما يصح ما شئت من الخطوط ( ما يصح) ليس كل ما يورد في التفسير من مأثور صحيح عن السلف "يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ."
قوله : "وذلك صنفان" الواقع إن شيخ الإسلام أورد أربعة أصناف وسنبّينها ـ إن شاء الله ـ لكنه ذكر الصنف الثالث والرابع استطرادًا وقال : أنها ربما تُلحق في الصنف الأول ,وفي الواقع أنها حقيقة أربعة أصناف .
" أحدهما أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة" يعني طويلة العبارة أليس كذلك ؟ واحد يقول : والله طويلة عبارة شيخ الإسلام!
يعني هذا النوع الأول من اختلاف التنوع نقول : " أن يعبر كل واحد منهم - يعني كل واحد من السلف في التفسير - عن المراد - يعني عن الشيء المراد - بعبارة - هي مجرد اختلاف في العبارات - تدل على معنى في المسمى - أي الشيء المفسر - غير المعنى الآخر - الذي أورده المُفسِر الآخر - مع اتحادٍ في المسمى "
أنا ألخّص لكم هذه العبارة بسطرين بالعبارة التالية ,اكتبوا عندها " أن يُعبِّروا عن المعنى الواحد بأكثر من لفظ " يعني هذه هي فحوى كلام شيخ الإسلام , أو ملخص كلام شيخ الإسلام ، أو نقول: " اتحاد المسمّى واختلاف العبارة الدالّة عليها " ,سواءً أخذت العبارة الأولى أو العبارة الثانية فهي تلخيص لهذه العبارة الطويلة لشيخ الإسلام .
الآن سيثبت لك شيخ الإسلام ـ رحمه الله - هذه القضية :
"بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة, كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهنّد ,و ذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله ـ ـ وأسماء القرآن ,فإن أسماء الله كلها تدل على مسمّىً واحد ,فليس دعاءه باسم من أسماءه الحسنى مضادا ً لدعائه باسم آخر ,بل الأمر كما قال الله تعالى(قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنى) وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسمّاه ,وعلى الصفة التي تضمّنها الأسم كالعليم يدل على الذات والعلم ,والقدير يدل على الذات والقدرة ,والرحيم يدل على الذات والرحمة , ومن أنكر دلالة أسماءه على صفاته ممن يدّعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة, اللذين يقولون "لا يقال هو حي ولا ليس بحي" بل ينفون عنه النقيضين فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما ًهو علم محض كالمضمرات ,وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات ,فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقا ًلغلاة الباطنية في ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك " .
من أراد البسط فعليه برسالة التدمرية لشيخ الإسلام فقد بسط في هذه المسألة وأطال فيها .
إذا..الفصل الأول كما قلنا اختلاف التنوع, وقد أشار إلى هذا إسحاق وسفيان ابن عيينة والحسن ,واعتبره الشاطبي من قسم الخلاف الذي لايُعتد به , فهوحقيقة ليس خلافا ًوإنما هو خلاف لفظي لكن في الواقع إنه ليس خلاف.
شيخ الإسلام قسّم اختلاف التنوع إلى أربعة أنواع ,هناك تقسيم آخر للشيخ محمد بن عثيمين في رسالته الماتعة الجميلة التي ألّفها لطلاب المعهد العلمي "أصول في التفسير" وهي جميلة وتستحق الشرح.
قسّم اختلاف التنوع والتضاد إلى ثلاثة أقسام : *اختلاف في اللفظ دون المعنى وهو الذي أشار إليه الأن شيخ الإسلام بأقسامه .
*اختلاف في اللفظ والمعنى ,والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد بينهما فتحمل الآية عليهما وتُفسّر بهما
*اختلاف في اللفظ والمعنى ,والآية لا تحتمل المعنيين معا ًللتضاد بينهما فتُحمل الآية على الأرجح منهما بإحدى قواعد الترجيح .
ما مــعنى اختــلاف التنـــوع ..وما مـــعنى اختـــلاف التضـــــــــاد ؟؟! اختلاف التنوع: هو أن يصح حمل الآية على كل المعاني التي قيلت فيها ,هذا مراد اختلاف التنوع ,أن يصح أن تقول أن الآية كل هذه الخلافات وهذه الأقوال داخلة في معنى الآية ,فهل هناك خلاف ,هل يُعتبر خلاف حقيقي ..لا , كما عبّر شيخ الإسلام قلنا (أن يعبروا عن المعنى الواحد بأكثر من لفظ) نرى بعض المفسّرين والذي منكم يقرأ في كتب التفسير ,يجد أن هناك اختلاف تنوع وتجد بعض المفسّرين ينص على الراجح يقولون "هذا القول أولى وهذا القول أشمل يقصدون أنه من باب الأولى وإلّا كل المعاني داخلة فيه.
اختلاف التضـــــاد :هما القولان المتنافيان الذي لا يصح أن تُحمل الآية على كلا القولين ,فإذا قيل بأحدهما لزم نفي الآخر ,إذا قيل بأحد هذه الأقوال لزم نفي الآخر. وهذا قليل كما قرر شيخ الإسلام قليل ,أنا أعرف يا إخواني أن بعض الإخوة ربما يستغرب يقول: كيف قليل ؟ هذا تنظير إقرأ في كتب التفسير تجد الخلافات العظيمة . نقول لو قرأها إنسان يستطيع أن يجمع بين هذا وبين اختلاف التنوع فقط واختلاف التضاد لهان على كثير من طالب العلم علم التفسير .
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - " بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباين " هذه ألفاظ منطقية ، وتعريف المتكافئ هو : يعبّر عن مسمّى بلفظين مختلفين في المعنى وينطبقان على جميع أفراد المسمّى التي بين المترادفة والمتباينة .
الراغب الأصفهاني لخّص اللفظ مع المعنى وقال أن له خمسة أحوال هي تبيّن لنا هذه الألفاظ :
يقول الراغب الأصفهاني ـ رحمه الله ـ أن اللفظ مع المعنى له خمسة أحوال: أولها :أن يتفقا في اللفظ والمعنى ، بما أن شيخ الإسلام في هذا الفصل سيستطرد في ذكر التواطئ ,التباين ,الترادف ,المتكافئ ذكره هنا ,فجيّد أننا نشير إليها بعبارات ليست بعبارات المناطقة,لكن عبارة تقربها للذهن.
يقول الراغب : أن يتفقا في اللفظ والمعنى , يعني اللفظ واحد والمعنى واحد ,هذا يسمّى عند العلماء المُتواطــــــئ,مثل الإنسان في زيد وعمرو , زيد إنسان وعمرو إنسان وخالد يشتركون في لفظ الإنسانية فهم واحد لفظهم ومعناهم واحد , لكن المسمى مختلف هذا زيد وهذا عمرووهذا خالد وهذا علي وهذا صالح ,لكن المسمّى أن كلهم إنسان لا يختلفون ,فهذا يسمى المتواطئ اتفاق اللفظ والمعنى .
الثاني : عكسه تماما ً: أن يختلفا في اللفظ والمعنى ,وهذا يسمّى المتبــــــــاين مثل رجل وفرس , اللفظ مختلف والمعنى مختلف ,هذا إنسان وهذا حيوان .
الثالث :أن يتفقا في المعنى ويختلفا في اللفظ ، وهذا يُسمّى المتــــــــرادف ,المعنى واحد لكن اللفظ مختلف نحو الحسام والصمصام والسيف والصارم ,كلها مسمى لشيء واحد .
الرابع : عكس الثالث أن يتفقا في اللفظ ويختلفا في المعنى ,ويسمى المشتـــــــــرك مثل العين تستعمل في العين الجارية وفي العين الباصرة وتستعمل كذلك في الجاسوس ,اللفظ واحد لكن المعنى يختلف بحسب السياق .
النوع الخامس :أن يتفقا في بعض اللفظ وبعض المعنى ويسمّى المُشتــــــــق نحو ضارب واضرب إلخ..
ذكر شيخ الإسلام قاعدة هنا ,وشرحها في رسالته التدمرية : " كل اسم من أسماءه يدل على الذات المسمّاة وعلى الصفة التي تضمّنها الاسم " . ومراد شيخ الإسلام أن أسماء الله أعلام وأوصاف.. فهي أعلام باعتبار دلالتها على الذات ,وأوصاف باعتبار ما دلّت عليه من المعاني . فهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد ,كالقدير والعليم والعزيز والغفور ,كلها تدل على ذات واحدة وهي الله - تبارك وتعالى - ، وبالاعتبار الثاني متباينة لدلالة كل واحد منهما على معناه الخاص , فالحياة تختلف عن القدرة عن العلم و السمع يختلف عن البصر إلخ ..
والفرق بين الترادف والتكافؤ دقيق جدّا ً ًكما نبّه على ذلك شيخ الإسلام يقول بالنسبة للأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة.
,يقول شيخ الإسلام : " ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون : لا يقال هو حي ولا ليس بحي بل ينفون عنه النقيضين " إذا كان الباطني يقول: لا نقول حي ولا ليس بحي ,إذا يكون ماذا ؟ لا يمكن أن تنفي عن شخص النقيضين. قالوا :إن الحياة والموت لا يصح نفيهما وإثباتهما إلا لمن هو قابل لذلك,ـ هذه شبهتهم ـ والله ليس بقابل للحياة ولا للموت ,ولهذا لا يوصف الجدار بأنه لا حي ولا ميت . هذه شبهة الباطنية ,والرد عليهم :أن دعواكم أن الحياة والموت لا يوصف بها إلا من كان قابلا ً مجرد دعوة افترضتموها في عقولكم ,وإلا فإن الله وصف الأصنام بأنهم أموات ونفى عنهم الحياة وهي أحجار فقال الله - عز وجل - ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)
ثم نقول لهم للرد عليهم وهذا محله كتب العقائد لكن هذا من باب استطراد شيخ الإسلام (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه) والله قد وصف نفسه بالحياة فقال: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ثم قال إنهم لا ينكرون علم محض كـ "هو هو" , كلمة "هو هو" لا تدل على شيء معين ,لا تدل على أي صفة لا نستطيع أن نأخذ من( هو هو ) شيء, لكن ينكرون شيء نستطيع أن نأخذ منه الصفات .
قال " وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم " مثال ذلك الخالق يدل على ذات الله تعالى, ويدل على صفة الخلق بالمطابقة ,ويدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمّن,ويدل على صفة العلم والقدرة بالإلتزام ,هي دلالة التزام لأنه لا يمكن أن يخلق إلا بعلم وقدرة .
ثم استطرد شيخ الإسلام " وكذلك أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب ,وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب وأمثال ذلك ,فإن كان مقصود السائل تعيين المسمّى عبّرنا عنه بأي اسم كان إذا عُرف مسمى هذا الاسم ,وقد يكون الاسم عَلَمَا ًوقد يكون صفة " . من هو الماحي ؟محمد - صلى الله عليه وسلم - من هو الحاشر ؟ محمد من هو العاقب ؟ ولذلك يقول شيخ الإسلام إذا كان مقصود السائل تعيين المسمّى عبّرنا عنه بأي اسم كان .
" وقد يكون الاسم علما ًوقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) ما ذكره ؟ فيقال له هو القرآن مثلا ً ,أو هو ما أنزله من الكتب فإن الذكر مصدرٌ والمصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول ,فإذا قيل ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يُذكر به مثل قول العبد "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه وهذا هو المراد في قوله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) لأنه قال قبل ذلك (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) وهداه هو ما أنزله من الذكر , وقال بعد ذلك (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًاقَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)
ضرب شيخ الإسلام مثال الآن لهذه القضية ,يعني أنت لما ترجع لكتب التفسير في هذه الآية لوجدت فيها هذه الأقوال (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) : قال بعضهم : القرآن وما أنزله من الكتب, بعضهم قال قول العبد"سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر", وآخر يقول :هي مسألة خلافية كثيرة , يقول شيخ الإسلام : لا , كل واحد عبّر بمفهوم ,يعني إنطلق بمفهوم معين له منطلقه ,صحيح بعضها أقوى من بعض وهو أن المراد بالذكر هنا القرآن لأنه يشتمل على الثاني بخلاف العكس , القرءان يشتمل على الذكر بمعناه العام " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " بخلاف الثاني , وبالتالي فكل واحد عبّر عن الذكر بأحد معانيه بعبارات "القرآن ,ما أنزله من الكتب"ما أنزله من الكتب منها القرآن ,كلها من ذكر الله - تبارك وتعالى - , قول "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" أليس من ذكر الله , فيظنّها بعض الناس اختلافا ًو الواقع أنه ليس باختلاف .
" والمقصود أن يُعرف أن الذكر هو كلامه المنزّل ,أو هو ذكر العبد له, فسواء قيل ذكري كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك فإن المسمّى واحد ,وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصّة "
إذا لو سألتكم يا إخواني كتطبيق عملي أيهما أرجح من هذه الأقوال "كتابي ,كلامي,هداي"أيهما أصح؟
كلها صحيحة ,وبالتالي خلاص سقط الخلاف في هذه المسألة تماما ً,من عبّر عن بهداي أو بكلامي أو بكتابي كلها داخلة في معنى الآية .
" وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به ,فلابد من قدر زائد على تعيين المسمّى مثل أن يسأل عن "القدّوس السلام المؤمن"وقد علم أنه الله ,لكنَّ مراده ما معنى كونه قدّوسا ً سلاما ً مؤمنا ًونحو ذلك " من هو القدّوس؟ الله , من هو السلام : الله ، ما معنى القدّوس ؟ أنا الأن سؤالي يختلف عن السؤال الأول , أنا أريد أن أعرف ما معنى لفظة القدّوس ,وهي الطاهر من كل عيب ونقص ,أو ما هو السلام أي السالم من الآفات التي تلحق البشر من نوم و عجزوغيرها , إذا منطلق السؤال لكن المؤدّى واحد القدّوس من ؟ الله ,و السلام من؟ الله ، كوني فسّرت القدّوس بأنه الطاهر من كل عيب ونقص .هل معنى هذا أنه خلاف في دلالة القدّوس على الله ؟ أبدًا .
" إذا عُرف هذا فالسلف كثيرا ًما يُعبّرون عن المسمّى بعبارة تدّل على عينه ,وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر ,كمن يقول أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب , والقدّوس هو الغفور والرحيم أي أن المسمّى واحد ,لا أن هذه الصفة هي هذه ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنّه بعض الناس ,مثال ذلك تفسيرهم للصراطالمستقيم فقال بعضهم: هو القرآن أي اتباعه , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي الذي رواه الترمذي ورواه أبو نُعيم من طرق متعدّدة :هو حبل الله المتين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم ,وقال بعضهم :هو الإسلام لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النوّاس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره ( ضرب الله مثلا ًصراطا ًمستقيما ًوعلى جنبتي الصراط سوران , وفي السورين أبواب مفتّحة , وعلى الأبواب ستور مرخاة , وداعٍ يدعو من فوق الصراط , وداعٍ يدعو على رأس الصراط ، قال : فالصراط المستقيم هو الإسلام , والسوران حدود الله , والأبواب المفتّحة محارم الله , والداعي على رأس الصراط كتاب الله , والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن ) فهذان القولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن, ولكن كل منهما نبّه على وصف غير الوصف الآخر, كما أن لفظ صراط يُشعر بوصف ثالث , وكذلك قول من قال: هو السُنّة , وكذلك قول من قال :هو السنة والجماعة ,وقول من قال :هو طريق العبودية ,وقول من قال :هو طاعة الله ورسوله وأمثال ذلك" .
كم قول ذكر الآن إذا ذهبت إلى طالب علم متحمّس ويريد أن يقرأ في التفسير , أو فتح كتاب من كتب التفسير وبدأ في إهدنا الصراط المستقيم , ووجد كم قول الآن ؟ الإسلام ، القرآن . ووصف ثالث يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - السُنّة والجماعة , طريق العبودية , طاعة الله ورسوله سبعة أقوال , قال هذه الآن آية والقرآن أكثرمن ستة آلاف آية ,وهذه كلمة واحدة , كيف أنا سأطلب علم التفسير !! لا ،من الأول أتركه.
لكن شيخ الإسلام يقول: لا . هذا ليس خلافا لكن السلف - رحمهم الله - من عادتهم لعلمهم بالعربية ,ولأنهم يُعبّرون بعبارات تدل على الذات فقط لا يقصدون أنه خلاف حقيقي .
دعونا نجمع بين هذه الأقوال ، هل هناك يا إخواني خلاف (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) عندما تقرأها ,عندما تقول إهدنا الإسلام , وهو أستشهد له بأدلة ,(اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) إهدنا إلى الإسلام ,هل يتعارض مع قولك إهدنا القرآن ؟ هل يتعارض مع قولك إهدنا طريق أهل السنة والجماعة ,هل يتعارض مع طريق العبودية , طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها تدل على طريق واحد وهو الإسلام , وبالتالي لابد أن ننتبه يا إخواني عند قراءة الخلاف في كتب التفسير .
استشهد شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في حديث علي وأنتم تعرفون أن هذا الحديث في سنده الحارث ابن الأعور وقد ضعّفه جمع من أهل العلم وهو قوله: (حبل الله المتين والذكر الحكيم) , لكن المراد أن مراد شيخ الإسلام يريد أن يقول لك أنه أحيانا كتب التفسير تذكر قول وتستشهد له ,فتجد أن هذا القول قوي جدا فترد غيره , يعني لو جاء واحد يقول لا يا أخي الإسلام أصح الأقوال , والدليل هو (حبل الله المتين والذكر الحكيم) , قال:لا يا أخي هذا الحديث ضعيف أصح منه القرآن ,أصح منه الإسلام لأنه حديث صححه جمع من أهل العلم ، نقول كلها صحيحة , وبقية الأقوال كلها في (إهدنا الصراط المستقيم) صحيحة .
" فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها .
الصنف الثاني : أن يذكركل منهم من الاسم العامّي بعض أنواعه على سبيل التمثيل ,وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه مثل سائل أعجمي سُئل عن مسمّى لفظ الخبز فاُريَ رغيفا وقيل له هذا , فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده "
وهذا من أهم اختلاف التنوع يا إخواني التفسير بمثال ,وهذا مشهور عند السلف ,كانوا يفسّرون بمثال يُشيرون بمثال واحد يدخل تحت هذه الجملة ويكتفون به ,ولذلك بعضهم يذكر أمثلة كثيرة جدا ً. يعني يا إخواني لو رجعنا إلى تفسير قول الله (ثم لتُسئَلُنَّ يومئذٍ عن النعيم) في سورة التكاثر تجد بعضهم قال النعيم هو : الماء البارد , وقال بعضهم الظل البارد ,وقال بعضهم الخبز, وقال بعضهم الخبز مع العسل ,وقال.... وقال ....,وبدأوا يُعدّدون من أنواع النعيم, فيظن من يقرأ والله ما أدري هل هو الخبز ؟ أو الماء البارد ، لا الماء البارد هو الماء الذي لا يستغني عنه الإنسان ،هذه كلها داخلة في مسمّى النعيم ، السلف أرادوا فقط يضربون لك مثلا للنعيم الذي يُسئل عنه الإنسان والذي هو داخل في معنى هذه الآية ، ولذلك مجاهد ورد عنه قول في هذه الآية تفسّر لك هذه الأقوال الكثيرة قال : "يُسئلون عن كل لذّة من لذّات الدنيا " ..هذا يجمع لك كل الأقوال .
ولذلك يا إخواني دائما ًينبغي لطالب العلم والقارئ في كتب التفسير أن ينتبه للتفسير بالمثال خاصّة لمن يقرأ في التفاسير التي تُعنى بتفسير السلف ,كابن جرير الطبري وابن كثير عليهم رحمة الله . والذي يقرأ في تفسير ابن جرير خاصة سيجد أن ابن جرير ينص على هذه المسألة كثيرا , يقول : "وكل هذه الأقوال محتملة , وكل هذه الأقوال داخلة في معنى هذه الآية" ,وكذلك ابن كثير رحمة الله عليه .
إذا التفسير بمثال ، واحد قال ياإخواني : أيش الخبز هذا ؟ - واحد أعجمي ما يعرف أيش الخبز- قال : خبز أيش معنى خبز؟ أريته رغيف , الأن هو عرف معنى الخبز ,أعجمي عرف إن هذا خبز , لكن هل لو اُوري خبز من نوع آخر هل هو ما يعرف إنّ هذا هو معنى الخبز ؟ هو جعل في مثاله إن هذا هو فقط الخبز إشارة إلى الرغيف و سيضرب شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ أمثلة من كتاب الله للسلف فسّروها بالمثال , وسيثبت لك أن كل هذه المعاني داخلة في الآية ومرادة بها.
" مثال ذلك ما نُقل في قوله (ثُمَّ أورَثنَا الكِتَابَ اللذين اصطَفَينَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَالِمٌ لِنفسِه ومِنهُم مُقتَصِد وَمِنهُم سَابِقٌ بِالخَيرَاتِ ) فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيّع للواجبات والمنتهك للمحرمات , والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات , والسابق يدخل فيه من سبق فتقرّب بالحسنات مع الواجبات , فالمقتصدون هم أصحاب اليمين (والسابقون السابقون أولئك المقرّبون) ,ثم إن كلا ً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل :السابق الذي يصلي في أول الوقت , والمقتصد الذي يصلي في أثناءه ,والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، أو يقول :السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة , فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا والعادل بالبيع , والناس في الأموال إمّا محسن وإمّا عادل وإمّا ظالم , فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات , والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة , والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا , وأمثال هذه الأقاويل . فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية وإنما ذُكر لتعريف المستمع بتناول الآية له , وتنبيه به على نظيره , فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق ,والعقل السليم يتفطّن للنوع كما يتفطّن إذا اُشير له إلى رغيف فقيل له هذا هو الخبز " .
إذا مثال شيخ الإسلام ظاهر ولا يحتاج إلى مزيد إيضاح فقد أوضح شيخ الإسلام ,أنتم لو رجعتم إلى كتب التفسير المطوّلة وجدتم أن هذه الآية فيها أقوال كثيرة (ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ الله) ذكر شيخ الإسلام كما قرأ الأخ الكريم ثم قال : "تنبيه ,ثم إن كل منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات" , ذكر معناها الإجمالي شيخ الإسلام , يقول لك " إن الظالم لنفسه يتناول المضيّع للواجبات والمنتهك للحرمات ,أمّا المقتصد فهو يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ,السابق يدخل فيه من سبق وتقرّب بالحسنات مع الواجبات , فالمقتصدون هم أصحاب اليمين (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) " هذا تفسير الآية بمعناها الإجمالي العام .
رجعنا إلى تفسير السلف هل يذكرون هذا الكلام ؟ لا, يذكرون أمثلة لهذه المعاني , كقول قائل : السابق الذي يصلي في أول الوقت ,أو بعبارة أدق لعلّنا نقول الذي يصلي على الوقت , لماذا قلنا الذي يصلي على الوقت أفضل من أن نقول الذي يصلي في أول الوقت ؟ حتى يدخل يشمل الذي يصليها في أول وقتها فيما يُسن تقديمه , ويشمل الذي يصليها ويؤخرها فيما يُسن تأخيره كصلاة العشاء أليس من السنة تأخيرها عند ثلث الليل ,أو عند الحر الشديد السنة كذلك الإبراد. لكن هذا المفسّر من السلف من الصحابة عندما قال : السابق الذي يصلي في أول الوقت هل يقصد فقط أن مراد الآية أن الذي يصلي في أول الوقت هو السابق فقط , لكن الذي يدفع الزكاة والذي يصوم رمضان احتسابا ًأو غيره غير داخل في السابق ؟ ماذا أراد هو ؟ أراد مثالا للسابق ,المقتصد الذي يصلي في أثنائه يعني يؤخر الصلاة , الظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار ,ربما المفسّر في ذلك الوقت كان في وقت العصر فأشار إلى ما يشعرون به الأن فقال الذي يؤخر .
هذا هو طريقة السلف في التفسيرلا يجعلون من التفسير علما صعبا ,أراد أن يبيّن لك أمثلة . أو يقول لك السابق والمقتصد والظالم كلهم في آخر سورة البقرة , فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا والعادل بالبيع , والناس في هذه الأموال إمّا محسن وإمّا عادل وإمّا ظالم ,فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات , والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة , والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا لكنه لا يتصدق هذا مقتصد . إذا المراد أن السلف عندما يفسّرون يذكرون مثالا ولا يقصدون حصر المعنى بما ذكروه ولذلك تعددت أقوالهم وتنوّعت فيظنّها بعض الناس اختلافا والواقع أنه ليس باختلاف والواقع أنه ليس باختلاف .
الآن بدأ شيخ الإسلام يستطرد ـ رحمه الله تعالى ـ لكنه هذه المرة استطرادا فيما نحن فيه قال: " وقد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم :هذه الآية نزلت في كذا " يقصد شيخ الإسلام - كما سأقرر بعد قليل - أن كثيرا من أسباب النزول تتعدد وتتنوع , ويظنّها بعض الناس يمكن لو تذكرون كتاب الواحدي لأسباب النزول تجد في الآية الواحدة أكثر من سبب وأغلبها ليست سببا بالمعنى الحقيقي وإنما هي داخلة في حكم الآية كما سنبيّنه.
/ " وقد يجيئ كثيرا ً من هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا ً كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس ابن الصامت ,وإن آية اللعان " في امرأة أوس ابن الصامت هذه في نسخة الفتاوى وفي بعض النسخة المطبوعة ,في نسخة عندكم بعض النسخة المطبوعة امرأة ثابت ابن قيس ابن شمّاس وهذا وَهَم ,ولذلك بعض النسخ أتت على .. فهل شيخ الإسلام وَهِمَ حقيقة هنا ؟ لأنه من إملاء فؤاده وكان سبق قلمأو أن هناك نسخ خطية اُثبت فيها كما في الفتاوى ,فما ندري ابن قاسم هو الذي عدّلها مثلا ًبينّها ، أو أنها لا، وجدها هكذا بالنسخة الخطية , لكن أكثر النسخ الخطية الموجودة في المقدّمة قوله نزلت في امرأة ثابت ابن قيس وهي وهم كما قرأ زميلكم بل هي امرأة أوس ابن الصامت وهي خولة أو خويلة بنت ثعلبة .
" وإن آية اللعان نزلت في عُمير العجلاني أو هلال ابن أمية , وإن آية الكلالة نزلت في جابر ابن عبد الله , وإن قوله (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) نزلت في بني قريظة والنظير ,وإن قوله (ومن يولهم يومئذ دبره) نزلت في بدر , وإن قوله (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) {المائدة106} نزلت في قضية تميم الداري وعدي ابن بدّاء, وقول أبي أيوب إن قوله (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ) نزلت فينا معشر الأنصار الحديث , ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من أهل مكة اليهود والنصارى ,أو في قوم من المؤمنين , فاللذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق " .
سبب النزول : هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه .
وهذا التعريف من أعدل التعريف في تعريف سبب النزول . لماذا قلنا وقت وقوعه ؟
لأن لو رجعتم إلى كتاب الواحدي عند سورة الفيل ما سبب نزول سورة الفيل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ1 أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ2 ) يقول الأخ أن سبب نزول سورة الفيل هو هدم الكعبة صحيح ؟ معنى هذا أن القرآن نزل يوم ولد النبي أو قبل أن يولد.هل هذا صحيح ؟ وهذا يورد ترى في أسباب النزول يقولون سبب نزول سورة يوسف قصة يوسف هو يوسف هذا غير صحيح , لماذا ؟ لأنه ليس وقت وقوعه .
سبب النزول هو أن تحصل الواقعة ثم ينزل كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى في أسباب النزول الصريحة وغير الصريحة , وخلافات كثيرة سنتبينّها إن شاء الله تعالى ,تعدد النزول , تعدد الأسباب , وعبارة في الصريح والجمع بين أسباب النزول إذا تعارضت لكن هذه القضية أحببت أن أشير إليها لأنه سيمر علينا إن شاء الله في التفسير سبب نزول هذه الآية كذا وكذا ، لكن السبب المعتبر هو السبب الذي نزل وقت وقوع أو القرآن الذي نزل وقت وقوع .. نعم . سورة الفيل أشارت إلى قصة أصحاب الفيل , وليست سببا للنزول , بالرغم من أن الواحدي ـ رحمه الله ـ وكتابه من أشهر كتب أسباب النزول, ذكر قصة الفيل من أسباب نزول سورة الفيل ,وتجدون في كتب التفسير بعضها يشيرون إلى هذا قصة يوسف ,كيف يكون سبب نزول قصة يوسف والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يولد أصلا ً, فدلّ على أن هناك تجاوز في اللفظ في قولهم سبب النزول.. سبب النزول يقصدون بها قصة النزول ,وهذا إن شاء الله تعالى سيريحنا من أشياء كثيرة جدا في الخلافات الواقعة في أسباب النزول .
لماذا شيخ الإسلام نصَّ على سبب النزول ؟؟
لأن سبب النزول طريقه واحد وهم الصحابة ,أسباب النزول طريقه الصحابة الّذين شاهدوا التنزيل..
قوله " وقد يجيئ كثيرا ًمن هذا الباب " ماذا يقصد بـ "من هذا الباب "؟ التفسير بالمثال. وقد يجيئ كثيرا ًمن هذا الباب : أي التفسير بالمثال , قولهم هذه الآية نزلت في كذا ,لاسيما إن كان المذكور شخصا ً كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت , وآية اللعان نزلت في عُويمر العجلاني وهلال ابن أمية , والعجيب أن آية اللعان يا إخواني وردت أسباب صريحة أن سبب آيات اللعان في سورة النور هي عُويمر العجلاني ووردت أحاديث صريحة أن سبب النزول هو هلال ابن أمية , وكلها في الصحاح , كلها في صحيح مسلم , فورد من رواية أنس ابن مالك عند مسلم : (وكان أول رجل في الإسلام هلال ابن أمية) نتيجة هذا الخلاف قال العلماء: إن آية النزول نزلت في هلال ابن أمية ثم حصلت القصة لعُويمر العجلاني فنزلت هذه الآية فمن الصحابة من قال أن سبب النزول عُويمر لأنه يعرف بقصة عويمر, ومنهم من قال أنه هلال ابن أمية . ومن العلماء ـ رحمهم الله ـ يرى أن القصة واحدة وأنها لعويمر العجلاني وأن ذكر هلال ابن أمية خطأ في الرواية , ويروى هذا عن السهيل ابن أبي الصهرة وابن المهلب والطبري والقاضي عياض والواحدي دليلهم أن في قصة هلال ـ هذا استطراد ـ في قصة هلال وقصة عويمر أوصاف الولد واحدة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصروا بها فإن أتت به كذا وكذا وكذا فهو لفلان ــــــ المتهم بالزنا , أوصاف الولد يا إخواني في قصة عويمر وفي قصة هلال واحدة , ولذلك بعض العلماء يرى أن ذكر هلال ابن أمية في هذا الباب خطأ من الراوي , لكن هل الخطأ في تفاصيل القصة يؤثر على صحة الحديث ؟ لا ،لا يؤثر ,وسيثبت لكم شيخ الإسلام في الفصل الثالث إن شاء الله الذي مستنده النقل سيذكر قصة جابر وهذه كلها وردت في الصحيح لكن لا يؤثر على صحة الحديث .
ومن العلماء وهذا هو سياق شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنها من باب تعدد السبب ,وأنها حصلت القصة لعويمر وحصلت لهلال فنزلت الآية سببا لعويمر ولهلال , أو أنها حصلت لعويمر العجلاني أو لهلال ثم حصلت قصة لأحدهما بعد ذلك فَذُكّر بهذه الآية.
قال : " وأن آية الكلالة نزلت في جابر رواه البخاري ومسلم :دخل عليَّ وأنا مريض لا أعقل فتوضأ فصبَّوا عليّ من وضوءه فقلت :يا رسول الله إنما أرث من كلالة , فنزلت آية الميراث ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ) في آخر سورة النساء ,أو نزلت في بني قريظة أو النظير( إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) يقول شيخ الإسلام : الشاهد من هذه الأمثلة كلها يقول لك " فالِّذين قالوا :نزلت في فلان ,أو نزلت في فلان أو نزلت في بني قريظة أو نزلت في اليهود لم يقصدوا أن حكم الآية مختصٌّ بأولئك الأعيان دون غيرهم .. " يعني هل يمكن يا إخوان أن نقول (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) نزلت في بني قريظة يعني لا نستطيع أن نعمل بهذه الآية في وقتنا لأنها نزلت في اليهود ؟؟! يقول شيخ الإسلام : "هذا لا يقوله مسـلم " , ثم استدرك ويقول : "ولا عاقل على الإطلاق ", لأن القرآن هل هو نزل للأفراد ؟ وإلّا نزل للأمة إلى قيام الساعة ؟ إذا عندما يذكر السلف أنها نزلت في فلان ماذا يقصدون ؟ يقصدون المثال , أن من نزلت بسببه مثال لهذه الآية , يعني استطراد شيخ الإسلام هنا يبيّن لك " وقد يجيئ كثير من هذا الباب " أي التفسير بالمثال أسباب النزول , فأسباب النزول غير محصورة في أصحابها , وإنما هم أمثلة يدخلون في حكم هذه الآية .
ولذلك العلماء وضعوا قاعدة وقالوا : "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" لكن قد يكون هناك قرائن لبعض الأدلة تفيد التخصيص ,لكن الأصل أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، في أمثلة ما يأتي فيها القرائن والأحوال وتفيد معنى تخصيص اللفظ العام حديث الخالة بمنزلة الأم , الخالة بمنزلة الأم, هل هي بمنزلة الأم في كل شيء ؟ لا، سياق الحديث يفيد أنها بمنزلتها في الحضانة فقط, في الميراث ليست الخالة ترث كميراث الأم ,إذا هناك من القرائن في بعض الأدلة , لكن الأصل أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
" والناس وإن تنازعوا في اللفظ العامّ الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا فلم يقل أحد من العلماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيّن ,وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعمُّ ما يشبهه ,ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ والآية التي لها سبب معيّن إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته , وإن كانت خبرا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته " .
يقول شيخ الإسلام : "والناس وإن تنازعوا في اللفظ العامي الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا ؟ فلم يقل أحد من العلماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيّن " هذه المسألة التي أشرت إليها قبل قليل فيها قولان لأهل العلم عند التحرير :
القول الأول : الجمهور يرون أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قررنا قبل قليل , فقول الله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) هذه نزلت في هلال لكن "الّذين" اسم موصول والموصول من صيغ العموم .
القول الثاني قالوا : أن العبرة بخصوص السبب ,هذا قول لبعض أهل العلم , لكن يفهمه بعض الناس على ظاهره وهو ليس على ظاهره, المراد به يقصدون بذلك أن لفظ الآية يكون مقصورا ًعلى الحادثة التي نزل من أجلها . أما أشباهها يعني يقولون (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) هذه تتناول هلال ابن أمية أو عُويمر العجلاني يقينا وحقيقةً وداخل هلال قطعا ً. من رمى زوجته مستقبلا ً وأراد اللعان يقولون : يدخل في حكم الآية قياسا ً,هم لا ينكرون ،لا يقول عاقل كما قال شيخ الإسلام : إن عمومات الكتاب والسنة تختص بشخص معيّن ولا تتعداه , لكن الخلاف هو خلاف أصولي .
الّذين يقولون "العبرة بعموم اللفظ" يقولون إن الآية تشمل هلال وتشمل غيره كذلك بالنص , فكل من لاعن زوجته دخل في ذلك .
القائلين بـ "العبرة بخصوص السبب" يقولون أنها يدخل فيها هلال يقينا ً, وغير هلال يدخل قياسا ًعلى هلال .
ثمـــــــرة الخلاف:
*أن دليل الجمهور قطعي الثبوت .
*أن الجمهور يتناول حكم جميع أفراد غير السبب ما دام لفظ تناوله , أما غيره فأنهم لا يسحبون إلّا على ما استوفى فيه شروط القياس.
والراجح : أن العبرة في عموم اللفظ لا بخصوص السبب ..
/ سبب النزول له صيغتان :
الصيغة الأولى : صيغة صريحة في التعبير عن صيغة النزول كقوله حصل كذا فأنزل الله كذا ,هذه صيغة صريحة لا تحتمل غير السببية .
الصيغة الثانية : صيغة غير صريحة كقوله نزلت الآية في كذا , فهي تحتمل أنها نزلت سببا ًلها , أو أن هذا السبب أو هذا الشيء داخل في حكم الآية . ولذلك فإن غالب ما يروى في باب أسباب النزول كما قررنا على كثرة اختلافه غالبه من قبيل اختلاف التنوع لا من قبيل اختلاف التضاد والتي هي الصيغ غير الصريحة.
أختم بهذه الفائـــدة : إذا تعددت الأسباب فالأصل أن نحملها كلها على الآية لأنها من باب التفسير بالمثال كما قررنا، لكن إذا كانت متعارضة فما الموقف ؟
نقول نتبع الخطوات الآتيـــــــــة :
أولاً : ننظر الصحيح منها فنقدمه .
الثاني : إن تساويا في الصحة فإننا ننظر إلى عباراته فنقدّم الصريح على غير الصريح . الثالث : إن تساويا في الصحة والصراحة فهنا اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : أن نحملها على تعدد السبب .
القول الثاني : أن نحملها على تعدد النزول ..
وسيُشير إلى هذه المسألة شيخ الإسلام ونتكلم عليها في حينها بمشيئة الله تعالى نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا ,,وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيــــــــــــن .
لتحميل المادة الصوتية :
لتحميل المادة الصوتية :
--------------------------------------------
مصدر التفريغ : ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق