الجمعة، 8 يونيو 2012

وصايـــ لقمان ــــا / الوصية الأولى

أ. نجلاء السبيل *
الوصية الأولى : (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)
بدأ لقمان في وصيته لابنه بأهم حق وأعظم حق ألا وهو حق الخالق - جل وعلا - التوحيد . قال - صلى الله عليه وسلم - : (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ : الله ورسوله أعلم . فقال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألاّ يعذب من لا يشرك به شيئًا) رواه البخاري ومسلم.
الشرك هو أظلم الظلم وأعظم الجرم وهو الذنب الذي لا يغفره الله (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء).
 هو الذنب الذي يحبط العمل ويهدم الحسنات ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) والتوحيد هو الأصل الذي ينبني عليه كل شيء لا يتحقق إلا إذا ابتعدت عن هذا الشرك بكل صوره، وطهّرت نفسك منه اعتقادًا وقولاً وعملاً، فمهما كان لديك من أعمال وصلاة وصيام وصدقات وحسنات كأمثال الجبال ثم أنت هادم لهذا التوحيد، هادم لركن شهادة ألاّ إله إلا الله وما زلت متعلقًا بالولي والقبر والضريح والسادة ، تذبح وتنذر وتطوف وتستعين وتستغيث وتتوسل بهم فكل أعمالك ستذهب هباءً منثورًا، كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءًا حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا... وتلك التمائم والعزائم والخيوط والحِلق والخرز والكف يعلقونها على الأبواب والسيارات وعلى الأيدي والرقاب يقصدون بها دفع البلاء والعين والحسد فما هي إلا صورة من صور الشرك . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (إن الرقى والتمائم والتوله شرك) رواه أحمد وأبو داوود.
السحر والسحرة والمشعوذين والكهنة والدجالين هي صورة أخرى من صور الشرك، قال - صلى الله عليه وسلم - : (من سحر فقد أشرك) أخرجه النسائي (4084).
 قراءة الفنجان والكف والودع والخط والأبراج والنجوم هي من الكهانة وادعاء علم الغيب والكهانة شرك، قال - صلى الله عليه وسلم - : (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد) رواه أبو داوود (3904) .
الطيرة والتشاؤم وقطع الأعمال وتركها بسبب هذا التشاؤم أيضًا من صور الشرك، قال - صلى الله عليه وسلم - : (الطيرة شرك) رواه أبو داوود والترمذي (3910) (1614) .
الحلف بغير الله - بالأمانة ، والذمة ، وحياة النبي ، وجاه النبي ، والكعبة ، وبركة فلان ، ورحمة فلان ... ونحوه - كلها ألفاظ شركية . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي (1535) .
وصور الشرك كثيرة وهو أعظم شر يُبتلى به العبد في الدنيا والآخرة، فكل الذنوب تقبل المغفرة والعفو إلاَّ الشرك وهذا كفيل بأن يكون موجبًا للخوف منه والحرص على معرفة أنواعه حتى لا يقع فيه . (يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة) .
 إبراهيم عليه السلام وهو سيد الحنفاء ما اتكل على توحيده وقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إبراهيم (35) . ثم أردف عليه السلام بعد خوفه على نفسه، خوفه على أبنائه فدعا لهم وأعاذهم من الشرك والوقوع فيه . وبهذا نخرج بتأصيل مهم في باب الخوف من الشرك : " إن من تحقيق التوحيد أن تبتعد عن الشرك ولن تبتعد عنه إلاّ إذا خفته وحقيقة خوفك منه هو تعلمه ومعرفة أسبابه ووسائله حتى لا تقع فيه " ومن أراد الاستزادة فليراجع كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ما زلنا مع المحور الثامن: وهو التعريف بحق الخالق (التوحيد) ولكن سنتناوله من جانب آخر.
 التوحيد متعلق بجانبين : تخلية وتحلية .
التخلية : هي التصفية والتطهير من جميع أنواع الشرك وصوره وألاّ تصرف أي عبادة إلا لله.
التحلية : أن تعمر قلبك بمعرفة الله وأسمائه وصفاته . فالقلوب إذا عُمرت بمعرفة الله زادت تعبدًا وتألهًا ومحبةً وتعظيمًا... هذه المعرفة هي أصل الدين فالإنسان إذا عرف ربه هُدي قلبه ، وإذا هُدي قلبه تزكت جوارحه ، معرفة الله بأسمائه وصفاته لها أثر كبير جدًا في صلاح العبد وصلاح قلبه وزيادة إيمانه وزيادة قربه من الله .
هذه المعرفة تزرع في القلب الحياء من الله فيصبح العبد عبداً حيياً يستحي من ربه، يراقب الله في خطراته ونظراته وسمعه وبصره وجوارحه، يستحي أن يراه ربه يفعل كذا أو يقول كذا يستحي أن يعصيه في الخلوات لأنه يعلم أن الله هو الباطن الذي ليس دونه شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء والمحيط الذي لن يخرج عن إحاطته مخلوق ، والسميع الذي وسع سمعه الأصوات كلها، وأن ما أخفاه عن أمةٍ بأكملها وعن أقرب الناس إليه فلن يستطيع أن يخفيه عن الله فالسر الذي في صدره علانية عن ربه... يعلم باطنه وداخله وهواجسه وخواطره، حتى اختلاسة نظرته وحركة قلبه (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) . يستشعر مراقبة الله له وإطلاعه عليه في كل أحواله وحركاته وسكناته فيُجلّ نظر الله إليه وهذه المراقبة هي مقام الإحسان الذي هو أعلى مقامات الدين (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
 وكما أن المعرفة تزرع التعظيم والخشية والمراقبة والخوف في قلب العبد فكذلك تزرع المحبة فيه . لما يعرف أن الله هو (الولي) الذي يتولى عباده ويتولى أمرهم ومن آثار هذه الولاية، أنه إذا تولاك دبّر أمرك وقضى حاجتك وما أذلك لمخلوق (إنه لا يذل من واليت) .
 الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة لما حضرته الوفاة أوصى ابنه عبد الله أن يقضي عنه دينه، وكان دين الزبير ألف ألف ومائتا ألف، أي- مليون ومائتي ألف - ثم قال لابنه : يا بنيّ إن عجزت عن شيء فاستعن عليه بمولاي!! قال: يا أبت ومن مولاك؟؟ فقال الزبير: الله فيقول عبد الله : والله ما وقعت في كربة من دينه إلاّ قلتُ يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه . القصة وردت في صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس- باب بركة الغازي في ماله حيًا وميتًا ص 273.
 الزبير رضي الله عنه لما توفى لم يترك سوى مزرعة وبعض البيوت في المدينة التي لا تفي بهذا الدين الكبير ولكنه لما طلب ولاية الله وفهم أن الله - جل وعلا - هو الولي الذي يتولى أمر عباده لم يخيبه الله، بارك له في ماله وقضى عنه دينه، وورثت كل زوجة من زوجاته الأربع ألف ألف درهم فضلاً عن بقية الورثة .
 فالله إذا تولاك بارك لك وإذا بارك لك فليس لبركته منتهى..
 * الله هو الرزاق وتأمل هذه القصة..
 عندما بدأ مشروع الاستفادة من لحوم الأضاحي بإرسالها للفقراء خارج المملكة أرسلت طائرة إلي من بلاد أفريقيا، بقدر الله يحصل عطل في الطائرة مما يضطر الكابتن أن يهبط في منطقة غير تلك التي يجب أن يتوجه إليها . اكتشف بعد نزول الطائرة أن هذه المنطقة مهددة بمجاعة تكاد تقضي عليهم ليسوا أهلها فقراء فقط بل كادوا يموتون جوعًا. (هذه القصة نقلاً عن أحد الدروس العلمية في قناة الرحمة).
 فمن الذي ساق لها رزقها؟؟ هذه البلد لا أحد يعرف عنهم شيئًا ولكن الله وحده يعلم بجوعهم وفقرهم فساق لهم رزقهم . (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) لو كان رزقك يا عبد بمقدار حبة الخردل المتناهية في الصغر والتي لا تُرى إلا مع شعاع الشمس وكانت في أعلى مكان في السماء أو في أدنى وأخفض مكان في الأرض وهي مكتوبة لك سيسوقها الله لك . ما كان لك سيأتيك على ضعفك وما لم يكن لك لن يأتيك على قوتك.
 نبينا صلى الله عليه وسلم رأى تمرةً ساقطة على الأرض ومر عليه مسكين فأعطاه إياها وقال: (أما إنك لو لم تأتها لأتتك) فالرزق يطلب العبد كما يطلبه أجله، والله قال عن نفسه (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أتخاف بعد هذا على رزقك؟؟ أولا تطمئن وتسكن وترتاح وتركن إلى ربك الرزّاق؟؟ الله سقى أمة بأكملها أصيبت بالجوع والقحط وقلة الأمطار بدعاء نملة!!! نملة رفعت إحدى قوائمها وقالت: (اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى لنا عن فضلك) فسقاهم الله وأمطرت السماء... فإذا كان الله استجاب لدعاء نملة فكيف بعبد مؤمن والمؤمن كريم على ربه ثم هو يرفع يديه ويقول: (يارب) يقولها بقلبه وقالبه، وهو صادق في يقينه، وصادق في انكساره وطمعه بربه فهل يرده الله؟؟؟
 نحن في الدنيا نقف أمام بعض المخلوقين لا نستطيع أن نظن فيهم إلا خيرًا - لما نرى من جميل أخلاقهم وكرمهم وسخاءهم هذا وهم مخلوقون تتقلب قلوبهم، فالله عز وجل وهو الصمد الذي يقصده أهل العالم العلوي والسفلي بحوائجهم وتصمد إليه الخلائق كلها والكريم الذي إذا أعطى تفضل، والوهاب الذي يعطي هبة من عنده، وإن عزت الأسباب وفقدت الأسباب فهو أولى بالجميل وأولى أن لا نظن به إلا خيرًا جل جلاله وتبارك اسمه .
 إذا أردت أن تتعامل مع الله فلا بد أن تعرف من هو الله... الله سبحانه وبحمده قال عن نفسه: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) يفرج همًا، ينفس كربًا، يشفي مريضًا، يعافي مبتلى، يقضي دينًا، يصلح فاسدًا، يرد غائبًا، يهدي ضالاً... فثق أنك لن تبقى على عسرك وشدتك وكرباتك وآلامك مهما طال البلاء ومهما اشتد العسر ومهما تأخر الفرج... سيجعل الله لك فرجًا ومخرجًا... قيل في الحكم : "من كان له أب فلا يحمل همًا فكيف بمن له ربًا" والكلام عن أسماء الله وصفاته له حلاوة وطراوة وفيه رقة وجمال ولذة ولطف ولكن المقام ليس مقام بسط . اللهم منّ علينا بمعرفتك وقربنا إليك وزدنا حبًا لك وتعظيمًا لك وذلاً بين يديك .
تابع المحور القادم قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) .
-----------------------------------------
*إحدى منسوبات جمعية تحفيظ القرآن بمحافظة جدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق