الجمعة، 8 يونيو 2012

الحلقــــ التاسعة ـــة / سورة الكهف آاية (47)




الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على أشرف رسله وخير خلقه وبعد :
 فقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل ذكره (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) وبيّنا أن تسيير الجبال مرحلة من مراحل دكها وأن قول الله - جل وعلا - (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً) أي ظاهرة ليس على وجهها شيء لا شجر ولاحجر ولا مدر ، وقد دلت الأحاديث الصحاح على أن ليس على الأرض يومئذ معلم لأحد .
(وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ) أي جمعناهم (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) ، فقِهنا من الآيات أنها تتحدث عن اليوم الآخر .
 قال أصدق القائلين (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا)، العرض : إمرارُ الشيء ليُعرفَ كُنهُه وتُرى حاجته ويسمون مرور العسكر بين يدي الأمير أو الملك أو المسؤول يسمونه عرضا فيطّلِع على أحوالهم ويرى جاحتهم (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) ولم يقل - جل وعلا - صفوفاً ففهِمَ العلماء من هذا أن أهل الموقف يكون عرضهم بين يدي الله صفاً واحداً لايَحجُبُ أحدٌ أحدا يكون عرضهم بين يدي الله صفاً واحدا فنحن نقول للصفّ الذي في الصلاة نسميه صفّ وهذا الصفّ الناس فيه متجاورون لايوجد أحدٌ يحجبُ أحد يعني يجلس أويقف وراءه فالذي يظهر من ظاهر القرآن - والعلم عند الله - أن أهل الموقف يكونون جميعا صفاً واحدا قال اصدق القائلين (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) وهذا لايشعر بالتعدد لكن في قول الله جل وعلا عن الملائكة صفاً صفاً هذا يشعربالتعدد لكن الفرق أن الملائكة لايقفون موقف توبيخ أما أهل الموقف يقفون ليَعلمَ كل أحد أن أحدا لايَحجبُه فيزداد ضيق المقام على الناس ولهذا ثبت عن رسول الله في إحدى طرائق استفتاحه في قيام الليل أنه يكبر تكبيرة الإحرام ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه يكبر عشر تكبيرات غير تكبيرة الإحرام ثم يحمد الله عشر مرات ثم يسبح عشر مرات ثم يقول لا إله إلا الله عشر مرات ثم يستغفر عشر مرات ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه يقول (رب اغفر لي وارحمنى وعافني واهدني وارزقني) هذا تنقله عائشة ، قالت - وهذا موضع الشاهد - "ثم يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة " والعاقلُ اذا سمع هذا أول مايسمعه إذا أمسى ، إذا دخل عليه الليل وفرغ من صلاة العشاء في أول الليل أو في وسطه أو في آخره قام وكبر تكبيرة الإحرام وكبر عشراً وحمد الله عشراً وسبح عشراً وهلل عشراً واستغفرعشرا ثم قال : رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني ثم تعوّذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة كما كان - صلى الله عليه وسلم - يستفتح صلاته ثم يقرأ الفاتحة وماتيسر بعدها من آيات .
نعود لما نحن فيه قال ربنا (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا) يُخاطَبُون بهذا القول (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فسمى الله - جلّ وعلا - إعادة الخلق سماه خلقاً آخر ، خلقا جديدا ثانيا ، وهذا دلت عليه آية (ق) قال ربنا (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) فالخلق خلق آخر لكنه على مثال الخلق الأول فكما أُخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ليس معهم شيء يخرجون إلى أرض المحشر ليس معهم شيىء .
قال الله - جل وعلا - (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ) هذا خطاب لمنكري البعث (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) أي كنتم تقولون ، تتفوهون تزعمون في الدنيا ألاّ موعد بيننا وبينكم وألاّ حشر ولا عقاب ولا ثواب ولا حساب (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) قال - جل وعلا - هنا (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) .
/ (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) والمراد عند أكثر أهل العلم : جنس الكتاب وإلا لكل أحد كتابه (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) .
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) والإشفاق : الخوف من السوء في المستقبل (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا) هي أصلها يا ويل وجاءت هنا بالتأنيث بالتاء "ياويلتنا" فقال بعض أهل العلم إن التاء مزيدت هنا للمبالغة ، والذي يظهر - والعلم عند الله - أنها هنا يمكن أن تكون للمبالغة لكنها بمعنى الفضيحة ، ويدل على هذا المعنى قول امرئ القيس : قالت لك الويلات أنك مرجلي أي لك ان فضحتني بين الناس والمقصود : أن أهل الإجرام يقولون كما قال الله حكاية عنهم (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) مامعنى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ؟
 الآن ينزل مطر يجري السيل يمر السيل على الوادي السيل لا يبقى لأنه لو بقى أصبح نهرا ، يمضي السيل بعد ثلاثة أربعة أيام يطمئن الناس أن السيل انتهى ، فرغ ، يأتون إلى الوادي يجدون في الوادي غدران ماء فيجلسون عندها هذا يأتي بقهوته وهذا يأتي بشاهيه، هذا الذي جلسو عليه يسمى غدير، مامعنى غدير ؟ أن السيل مضى وتركه ، أي أن السيل غادره ولم يأخذه معه تركه باق فجاء الناس يجلسون عليه ، واضح هذا ؟
 أهل الإجرام يقولون يوم القيامة هذا الكتاب الذي بين أيدينا لم يترك شيئا مما كنا نصنعه كما أن السيل يتركُ بقيه من ماء ويمضي عنها لكن الكتاب لم يترك شئياً قال الله (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) لِمَ بدأ الله بالصغيرة ؟ حتى يظهر التعجب من الدقة في الإحصاء فإذا كانت صغائر الذنوب الخفية التي لا يظن أحدٌ أن أحدا علِم بها بل نسوها كما قال الله (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) يجدونها أمامهم فما بالك إذا بكبائر الذنوب . قال الله (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) وجيء بالكبيرة لإفادة التعميم . (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) والله منزه عن الذل جاء في المسند من حديث جابر أن جابرا - رضي الله عنه - سافر مسيرة شهر إلى عبد الله ابن أُنيس أحدِ الصحابة وقال لما دخل عليه ابتدره عبد الله فعانقه واعتنقه حتى أن عبد الله يطأ ثوبه فرحا بقدوم جابر عليه فقال جابر له حدثني حديثا سمعته من رسول الله في القصاص فقال عبد الله سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (يُحشر الناس حفاة عراة بُهما) قال جابر لعبد الله ما بُهما ؟  قال ليس معهم شيء (يحشر الناس حفاة عراة بُهما ثم يقول الله أنا الملك أنا الديّان بصوت يسمعه من بعُد كمن يسمعه من قَرُب انا الملك انا الديان لا ينبغي لاحد أن يدخل النار من أهل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه له ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله حق عند أهل النار حتى أقصّه له ولو كانت اللطمة قيل يارسول الله كيف ونحن نُحشر بُهما عراه قال بالحسنات والسئات) فالقصاص يوم القيامة بالحسنات والسئيات وهذا يجعل المرء يجعل هذا الحديث - وهو الصحيح بشواهده - نصب عينيه ويبتعد وينأى أكثر ما يبتعد عن أعراض الناس وعن دمائهم وعن أموالهم حتى يكتب الله له مع توحيده واتباعه النجاة يوم القيامة . فهذا مما يمكن أن يُذكر في الحديث عن قول الله - تبارك وتعالى - (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ) أي بين أعينهم لكن مع ذلك فليكن المؤمن حسن الظن بربه موقنا برحمة ربه - تبارك وتعالى - ولا يتكل المؤمن على شيء أعظم من رحمة الله قال ربنا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) وإن أمراً نزه الله مع قدرته ذاته العلية عنه ينبغي ألاّ يقربه أحد ، والظلم إما بان يكون بأن يُزاد على العبد بشيء لم يصنعه ، وإما ان ينقص من حسنة له صنعها وكل هذين رب العزة منزه عنه ، جاء في الأثر الصحيح عند مسلم من حديث أبي سعيد أن أهل الصراط عندما يجتازونه - جعلنا الله وإياكم ممن يجتازه - يقول فئة منهم ربنا إخواننا كانو يصلون معنا ويصومون معنا ويحجُّون معنا فيقول الله - عزوجل - ارجعو فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فاخرجوه فيُحرم الله صورهم على النار - صور المؤمنين الذين يريدون أن يُخرجوا من النار بعضَ أهلها - فيخرجون أقواما كثيرين ثم يقولون ربنا لم يبقَ فيها أحد ممن أمرتنا بإخراجه . الآن من الذي أُمرو بإخراجهم ؟ من في قلبهم مثقال دينار من إيمان .
 فيقول الله ارجعو فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرجوه فيعودون فيخرجون أقواما كثيرين يقولون ربنا لم يبقَ أحد ممن أمرتنا به فيقول الله ارجعو فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيعودون فيُخرجون أقواما فيقولون ربنا لم يبقَ فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول الله عزوجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقيت شفاعة أرحم الراحمون فيضع - جل وعلا - يده في النار فيخرج أقواما قد امتحشو - أي صاروا حِمما - ثم يُلقون على نهر عند باب الجنة يُقال له ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في محيل السيل ثم توضع على رقابهم الخواتيم ثم يُؤمر بهم إلى الجنة فإذا أقبلو على الجنة رأوا بعضها ، بعض شي فيها فيطمعون فيه فيسالونه الله فيقول الله - عزوجل- لهم : لكم هذا وعشر امثاله معه وهم لم يدخلو الجنة بعد يظنون هذا أعظم نعيم فيقولون ربنا لقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدا من خلقك فيقول الله - عزوجل - ألا أعطيكم أعظم من هذا ، قالو ربنا وأي شي أعظم من هذا قال : أُحِلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا .
 فماهو أعظم مطلوب ؟ رضوان رب العالمين - جل جلاله - قال الله (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) ، لكن العظة الحقيقية في هذه الآيات المباركات من سورة الكهف أن يعلم المؤمن أن من أعظم القربات حقيقة الإيمان باليوم الآخر ، والإيمان ليس بالتمني لكن المرء لو جعل بين عينيه ما يكون من الوقوف بين يدي الله في أرض المحشر بعد أن سمع قول الله (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) يجعل المرء كثيرا مما تُزيّنه نفسه له أن يقع فيه يُحجِم عنه سواء كان من ظلم العباد أو من الشهوات المُحرّمة أو غير ذلك مما نهى الله عنه كما تجعله يبادر ويسابق ويسارع في الخيرات رجاء أن تثبت قدماه يوم العرض على الله - تبارك وتعالى - ولاريب - وهذا لا يخفى على شريف علمكم - أنه ما من موقف أعظم مثل الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى فإذا كان أنبياء الله ورسله يقولون يوم القيامة اللهم سلم سلم ويقول نوح وآدم وموسى وعيسى وإبراهيم - عليهم جميعا السلام - لقد غضب ربنا غضبا لم يغضب قبله مثله ولا بعده مثله . كل هذا إذا استحضره المرء كثير مما زُيّن له يحجِم عنه ، وما قد بينا مرارا أنه والله ما أقضّ مضاجع الصالحين شيء من كيفيه القدوم والوفادة على الله ، وكلما تلبس المؤمن وأكثر من عملٍ من الصالحات غالبُ الأمر أنه يُختم عليه به فيفِد على الله بهذا العمل وهذا الأمر يحتاج إلى مطية عظيمة هي النية الصادقة مع الله والله لايخذلُ من صَدَقَ معه فقد كان بعض ممن لم ندرك قبلنا بجيل أو جيلين من مشايخنا في المدينة المنورة أعرف أحدهم - رحمه الله - مات بعد أن صلى العصر عند منبر رسول الله في الروضة وأنت تعلم أن هذا المقام جليل والصلاة التي فرغ منها الصلاة الوسطى والموت في مسجد رسول الله وعند منبره كل هذا ليس بالأمر الهين ، وقد لو قُدر أنه جئنا بشخص مريض يُشارف الموت وحملناه بشفاعة أحد الناس ووضعناه عند المنبر حتى يُختم له بهذا ربما يؤجل موته ولا يموت ويملّ حامله فيرده فيموت وإن كان هذا لا يتعلق به شيء لكن المقصود هي سرائر مكنونة في القلوب وأعمال صالحة ونور يقذفه الله في قلب من يشاء ، لكن العرب تقول "ومدمن القرع للأبواب أن يلج" يعني الذي يكثر قرع الباب يوشك أن يُفتح له فمن إدمان قرع الباب هنا أن يسارع الإنسان في الإكثار من الدعاء بأن يختم الله له بخير يكون همّه إذا أمسى وهمّه أن يصبح إذا أصبح كيف يفِد على رب العالمين - جل جلاله - ونحن نعلم يقينا أن احوالنا ، أعمالنا ، قلوبنا لا تؤهلنا البتة لشيء من هذا لكن المعتمد على رحمة الله - جل جلاله - .جعلني الله وإياكم ممن يمتع في الدنيا متاع الصالحين وممن يُختم له بخير والحمد لله رب العالمين ..
-------------------------------------------
الشكر موصول لللأخت أمل العطاء لتفريغها الحلقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق