الأحد، 3 يونيو 2012

الحلقــ الثامنةـــــة / سورة الكهف آاية (46)



الحمد لله الذي بنعمتة تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على من ختم الله به النبوة وأتم الله به الرسالات صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والمرواءت وبعد :
 أيها المباركون في هذا اللقاء المبارك من هذه الدروس في التفسير سنقف عند قول الله جل وعلا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) والآيات من سورة الكهف وفي لقاء بعدها إن شاء الله سنتمم ما بعدهن من الآيات .
/ أما قول ربنا جل وعلا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فإن الله جل وعلا كتب على بني آدم أن يحيوا في هذه الحياة الدنيا ثم زين لهم في قلوبهم أشياء فطرهم جل وعلا على حبها قال ربنا (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) وقال هنا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وهذا المفهوم أن المال والبنيين زينة الحياة الدنيا أمر شائع ذائع في الناس قبل الإسلام فطرفة ابن العبد مثلا وهو أحد شعراء المعلقات شاعر جاهلي يقول :
 فلو شاء ربي كنت قيس ابن عاصم *** ولو شاء ربي كنت عمر ابن مرثدِ
فأصبح لي مال كثيروطاف بـــــي *** بنون كرام سادة لمســـــــــــــودِ
 فهو حُرم هذا كله وظلمه قرابته فأضحى يقول يتمنى المال ويتمنى البنيين .
والمال جمال ونفع ، والبنون قوة ودفع . قدم الله المال على البنيين مع أن الأصل أن حب الإنسان لبنيه أكثر من حبه للمال لأنه يمكن أن تكون زينة للمرء بمال دون بنيين لكن لا تكون لرجل زينة ببنين دون مال ومن الدلائل على هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أهل الجنة فقال (أهل الجنة ثلاثة رجل ذو سلطان موفق مسدد ورجل ذكر أنه رقيق الحال كثير العيال) فقلّه المال مع كثرة البنين لا يمكن أن تسمى زينة بل إن الإنسان يتكلف ويصبح في حالة من الشقاء كثيرة لأنه يحمل هم قوتهم والمقصود لهذا قدم الله جل وعلا المال لكن إذا جُمع لرجل مال وبنون فهذا من عطاء الله وزينة الدنيا التي نصّ الله - جل وعلا - عليها في كتابه والسبب في ذلك أن الإنسان إذا أُضيم وغلب فإنما ينجو بأحد أمرين إما بفدية وإما بجند فلا فدية يمكن أن تقع إلا بمال ولا يمكن أن ينصر الإنسان أحد أكثر من أولاده وبنيه وهذا على سنن العرب في حياتها في الجاهلية قبل الإسلام وما زال الأمر متبعا ، ونحن نعلم أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما ردّه أهل الطائف ورجع إلى مكة ومنعته قريش أن يدخل دخل - صلى الله عليه وسلم - في جوار المُطعم ابن عدي ، مما أعان المُطعم ابن عدي أن يُجير رسول الله - عليه الصلاة  والسلام - أبناؤه فكان له أكثر من عشره فتقلدوا السيوف ووضعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم وأدخلوا رسول الله مكة وطاف بالبيت فكان أبناء المطعم يمنعونه . وعبد المطلب لما حفر بئر زمزم نازعته قريش فيها فعلم أن لو كان له أبناء كانوا يمنعونه وهذا من سُنن الله جل وعلا أن المرء كلما كانت له منعة كانت الناس تهابه أكثر ولهذا لما وقع ما وقع للوط عليه السلام ولم يكن من القوم الذين بعث فيهم قال (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري في الصحيح (فما بعث الله بعده نبيأ إلا في منعة من قومه) والمقصود في هذا حاجة الناس لمثل هذا .
/ قال ربنا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ) فأما المال فحاجة الناس له عظيمة لأن الإنسان غالبا لا يمكن أن يكون سيدا مطاعا يأتي الناس بيته إن لم يكن ذا مال ، لابد أن يكون كريما سخيا لكن لا يمكن أن يكون كريما سخيا ولا مال له وقد قال خالد ابن صفوان ينصح ابنه قال: "يا بني أوصيك باثنتين درهمك لمعاشك ودينك لمعادك" ، وقال إبراهيم الشيباني : "دخلت بيت المقدس ووجدت على جدار من جدرانه مكتوب بيتين بماء الذهب البيت الثاني منها :
 وكان بنو عمي يقولون مرحبا *** فلما رأوني مقترا مات مرحبا "
مقترا يعني فقيراً يعني لم يعد يرحبون بي لفقري ولعلمي أني ما قدمت إلا لأسألهم . ولهذا عني السلف كثيرا منهم بالمال حتى يستغنوا عن لئام الناس ، هذا ما يتعلق بالمال .
/ أما البنيين فإن الله لما ذكر نعمته للوليد قال (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا )والله قال - وقوله الحق - (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ) والصالحون من الخلق ومن قبلهم الأنبياء سألوا الله جل وعلا البنيين كما في خبر إبراهيم (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذا كثير مضطرد في القرآن لا يكاد يجهله أحد والمقصود من هذا كله أن الله جل وعلا جعل المال والبنين زينة في الحياة الدنيا لكنه بما أنه معلق بالحياة الدنيا فإنه مكتوب عليه أن يفنى ويفسد وينتهي إما أن تتركه وإما أن يتركك وسيأتي يوم لا أنت ولا هو موجود قال اصدق القائلين بعدها (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) الأصل تقديم الصالحات لأن الصالحات وصف للأعمال مضطرد في القرآن لا يجهله أحد لكن الله قدم الباقيات حتى يشعرك أن المقصود من ذم الأول أنه فان لهذا قدم الباقيات . قال الله جل وعلا والباقيات الصالحات والصواب : أن الباقيات الصالحات هي : كل عمل صالح أُريد به وجه الله وجاء وفق الشرع لكنه أول ما ينصرف إلى قول سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله اكبر, ولا حول ولا قوه إلا بالله ، دلت على ذلك آثار كُثر لكن كل عمل صالح أراد به العبد وجه الله فهو من الباقيات الصالحات .
ثم تأمل أسلوب القرآن قال الله (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ) كل شي محبوب تحتاجه ذات يوم لزاما تحتاج إلى من يحفظه لك فوالله لا يحفظ أحد العمل الصالح أعظم من الله يوفيك الله إياها يوم تلقاه جاء في الصحيح من حديث أُبيّ بن كعب - وهذا عندي من أعظم الأحاديث قدرا وأثرا - قال أُبيّ : " كان رجل من الأنصار لا تخطئه صلاة وكان أبعد الناس دارا عن المسجد - يعني مع أنه أبعد الناس دارا إلا أنه لا تخطئه صلاة ، لا يغيب – فقيل له لو اتخذت حمارا تركبه للظلماء وللرمضاء – يعني في النهار يكفيك الشمس وفي الليل يكفيك الظلمة وخشاخش الأرض- قال والله ما يسرني أن يكون بيتي قريبا من المسجد وإني لأحتسب عند الله ذهابي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله علية وسلم - فقال صلوات الله وسلامه عليه (قد حقق الله له رجاءه كله) أعطاه الله جل وعلا رجائه كله هذا الحديث إذا ضممته قول الله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) وسأضرب لكم مثلا من أنفسكم :
غدوتم إلى المسجد باختيارك وأتيتم إلى المسجد مررتم على أماكن وبين موقف سيارتك إلى المسجد خطوت خطوات مشيت لو عدت الآن تبحث عن خطواتك وآثارك لم تجدها إما لريح إما وطأها غيرك إما زالت إما تغيرت فالريح تمحو آثار خُطى بني آدم لكنها لا تستطيع أن تمحو ما كتبه الملك لك عند الله هذا معنى قول الله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) فإن دعتك نفسك إلى الكسل وأنت تسمع المؤذن فاخبرها بيقين أن الملك الذي على اليمين يكتب آثار هذه الخطوات إذا أرت بذهابك إلى المسجد أرضاء رب البريات جل جلاله ، وأنت غادا على مسجدك ، مسجد حيك مع صلاة الفجر إستصحب ان الملك يكتب هذه الخطوات فيحفظها الله جل وعلا لك يوم تلقاه ولهذا قال الله - جل وعلا - ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) والشاهد منه ان الله جل وعلا يحفظ لعباده أعمالهم ويوفيهم إياها يوم القيامة ويربيها لهم كالصدقه مثلا كما يربي أحدكم فُلُوَه ، و"الفلو" : الخيل ، المُهر وإنما سمي "فلو" لأنه يزداد وينمو يكبر سريعا فكذلك الصدقة على وجه الخصوص تُربى للعبد فيجدها الإنسان أمامه في حين أن زينه الحياة الدنيا الأولى المذكورة في الآيةة المال والبنون فإن طبعها كتب الله عليها الفناء لكن متى يستطيع الإنسان أن يجعل من المال والبنين من الباقيات الصالحات إذ كان أنفق من ماله وحسن به أن يربي أبناءه وبناته - وأن كان البنات غير مذكورين في الآية - أن يربي أبناءه على طاعة الله ، فإذا كان العبد ما جمعه من مال ينفقه يبتغي بذالك رضوان الله فأصبح المال خارج عن كونه من زينة الدنيا إلى كونه من الباقيات الصالحات والإبن إن تعاهدته بأن تُحّفظه القرآن ، تعلمه السنة تدله على الخير ترشده على الطاعة فهذا كله يجعله يخرج من كونه من زينة الدنيا إلى كونه من الباقيات الصالحات قال أصدق القائلين ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) وهذا كله يورث في المؤمن أن يسارع في الخيرات ، ينافس في الطاعات يسابق بها ، وأما زينة الدنيا فإن الإنسان يستعملها فيما يرضي الله جل وعلا فيما يحفظ عليه عرضه ، فيما يحفظ عليه مروءته ، يتقرب بها إلى قرابته ، يتقرب بها إلى من يؤذيه ، يُلجم بها أفواه حاسد ، يُهدي إلى من يشاء هذا أمر لا ينافي أن يكون للمرء باقيات صالحات . وسيأتي ان شاء الله لقاء خاص عن مُلك سليمان يمكن التوسع فيه في الحديث عما أفاء الله جل وعلا على بعض عباده لكن المقصود هنا إظهار معنى قول الله جل وعلا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وهذا يدل على أن للحياة زينة .
/ من الفوائد في الآيةيُعلم أن كلمة زينة في القرآن تدل على الشي الزائد على الأصل قال الله (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا) فالذي على الأرض غير الأرض ، وكذلك لما قال الله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) فالمراد هنا مواضع الزينة لان الزينة خارج عن الجسد إنما المراد هنا مواضعها والمقصود هذا مما يفهم من الناحية المعنوية ، ومن الناحية النحوية : فإن (الْمَالُ وَالْبَنُونَ) البنون معطوفه على المال وكلمة " بنون " يسميها النحاة مما يُلحق بجمع المذكر السالم مثل بنون وأرضون وغيرها من الأسماء فيجرون عليها أحكام جمع المذكر يرفعونها بالواو وينصبونها ويجرونها بالياء .
/ قال ربنا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) استخدام كلمة خير هنا ليس على إطلاقه في وجود خيريه للأول وهذا ينتبه له المرء في فهم القرآن وفهم السنة فمثلا قال الله جل وعلا (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) هذا لا يعني أن في النار خير لكن لما قال -عليه الصلاة والسلام - (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) يدل على أن في المؤمن الضعيف خير بدليل القرينة ما بعدها (وفي كل خير) فكلمة "خير" أحيانا يؤتى بها ويُراد الاتفاق في الأصل وهو الخيرية لكن أحدهما يفوق الآخر كقوله -عليه الصلاة والسلام - (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسع وعشرين درجة) ، فالخيرية موجودة في الإثنين لكن صلاة الجماعة أولى وأوجب ، لكن هنا كذلك الخيرية موجودة إذا قلنا أن المرء جعل المال والبنين في طاعة الله لكن ليس على إطلاقه كما بيّنا بدليل قول الله جل وعلى في الفرقان (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) وفهم هذه المسائل اللغوية والنحوية ودلالة الأسماء والظروف والأدوات يُعين طالب العلم على أن يفقه عن الله جل وعلا كلامه .
/  قال ربنا (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) "ثوابا" تنصب على أنها تمييز(وَخَيْرٌ أَمَلا)  كذلك "أملا" تنصب على أنها تمييز، والتمييز دائما منصوب وقد يأتي مجرورا اذا سبق بحرف الجر وله أحوال معروفة والعرب تقسِّمه - وهذا لطلبة العلم خاصة - إلى تمييز ملفوظ وتمييز ملحوظ .
/ قال اصدق القائلين بعدها (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) هذا إخبار بدنو الساعة وتسيير الجبال هو مرحلة من مراحل دكها دلت عليه آيات كُثر لأن الله قال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) ففهمنا من قول الله (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) أنها مرحلة ، (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً) أي ظاهره ليس على وجهها شيء لا شجر ولا حجر ولا نبات ولا غيره هذا معنى قول الله جل وعلا (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً) .(وَحَشَرْنَاهُمْ) أي جمعناهم ، فالحشر في لغة القرآن بمعنى الجمع قال ربنا (فَحَشَرَ فَنَادَى) أي فجمع ، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) .
ثم قال ربنا (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) إلى آخر الآيات هذا ما سيكون إن شاء الله إيضاحه في اللقاء الذي يليه هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم ، متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين.
------------------------------------
قامت بتفريغ الحلقة الأخت : التوّاقة / جزاها الله خيرا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق