الأحد، 24 يونيو 2012

الدرس السابع : بيان معنى العبادة وأنواعها (2/3)

1- قوله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60] . دَاخِرِينَ صاغرين. هذا أمر من الله بدعائه وهو يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، والاستجابة لدعاء المسألة تكون بإعطاء المسؤول سؤله. والاستجابة لدعاء العبادة بقبولها والإثابة عليها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "ومن ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ) فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ؛ ولهذا أعقبه : (إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي) الآية . ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا ".
 وقال ابن القيم : "والدعاء نوعان : دعاء عبادة ودعاء مسألة، والعابد داع كما أن السائل داعٍ، وبهما فسر قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ)، قيل: أطيعوني أثِبكم، وقيل: سلوني أعطِكم، وفُسِّرَ بهما قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) " .
روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي في سننه من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أنه قال: ((مَن لم يسأل الله غضب الله عليه)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهو سبحانه كما أخبر عن نفسه (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) وقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((ما مِن داع يدعو الله بدعوة ليس فيها ظلم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدّخِر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه مِن الشر مثلها)). فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب بها أو مثله وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا أو مفسدا للداعي أو لغيره، والداعي جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى".
2- قَوْلُهُ تَعَالى: (إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175] يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ أي يعظمهم في نفوسكم حتى تخافوهم. فهذا الخوف من أولياء الشيطان محرم لا يجوز. بل قد يصل الخوف من غير الله تعالى بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله ؛ كمن يحمله الخوف على الرضا بالكفر واختياره خوفاً وجبناً كما قال الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وهذا هو أصل خوف الأتباع من المتبوعين من أئمة الكفر كما قال الله تعالى فيهم : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
 وقال تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) فهؤلاء حملهم خوفهم الطبيعي على الكفر والعياذ بالله.
3- قَوْلُهُ تَعَالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبهِ أَحَداً) [الكهف: 110] . الرجاء نقيض اليأس، وهو طمع القلب في حصول منفعة. قال الله تعالى: (وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين) وقال عن أوليائه المتقين: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) والرجاء على قسمين:
القسم الأول : رجاء العبادة.
 القسم الثاني : رجاء نفع الأسباب.
- فرجاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله ، ومن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك لأنه يحمل معاني العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والانقياد واعتقاد النفع والضر وتفويض الأمر وتعلق القلب والتقرب إلى المعبود ، وهذه كلها عبادات عظيمة تقتضيها عبادة الرجاء فمن صرفها لغير الله فهو مشرك كافر. وهذا كرجاء المشركين في آلهتهم التي يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم عند الله أو أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وكرجاء بعض عباد الأولياء والقبور بأنهم ينجونهم من الكربات ويدفعون عنهم البلاء ويجلبون لهم النفع ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
 - رجاء نفع الأسباب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله . وهذا على ثلاث درجات:
/ الدرجة الأولى : رجاء جائز، وهو رجاء نفع الأسباب المشروعة مع عدم تعلق القلب بها، فهذا جائز ، وليس بشرك ، وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قال: ((خيركم من يُرجى خيره ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيره ولا يُؤمن شره)) . وإسناده صحيح. فهذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة، وإنما هو رجاء نفع السبب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله .
 / الدرجة الثانية : رجاء محرم، وهو الرجاء في الأسباب المحرمة ليستعين بها على معصية الله .
/ الدرجة الثالثة : شرك أصغر، وهو تعلق القلب بالأسباب؛ كتعلق بعض المرضى بالرقاة والأطباء تعلقاً قلبياً يغفلون معه عن أن الشفاء بيد الله ؛ فهذا من شرك الأسباب كما تقدم شرحه. وهذه العبادات قاعدتها واحدة من فقهها سهل عليه معرفة هذه التقسيمات وتيسر له ضبط مسائلها إن شاء الله تعالى .
وهو أن هذه الألفاظ : المحبة والخوف والرجاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والرغبة والرهبة والخشية ونحوها تطلق في النصوص على معنيين:
/ المعنى الأول : ما كان يحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والانقياد واعتقاد النفع والضر فتكون حينئذ عبادة من صرفها لغير الله فقد أشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويكون بذلك كافراً خارجاً عن الملة. وإذا أردت أن تعرف هذا المعنى فانظر إلى ما يفعله مَن أثنى الله عليهم من الموحدين في هذه العبادات، وما يفعله مَن ذمهم الله من المشركين بهذه العبادات. وبذلك تعرف المعنى التعبدي فيها الذي لا يجوز صرفه لغير الله .
/ المعنى الثاني : ما ليس فيه معنى العبادة ، وإنما هو سبب من الأسباب فهذا حكمه بحسب ما يترتب عليه فإن استعين به على طاعة الله فهو طاعة وقربة، وإن استعين به على محرم فهو حرام، وإن حمل على فعل محرم أو ترك واجب لا يعذر بتركه فهو محرم؛ فأما إن تعلق القلب بالسبب وصار فيه نوع تذلل له مصحوب بخوف ورجاء فيكون حينئذ شركاً أصغر، وهو من شرك الأسباب كما سبق بيانه في الدرس السابق.
 لم يذكر المؤلف (المحبة) وهي عبادة من أجل العبادات، بل هي أصل هذه العبادات، وأعلاها شأناً وقد قال الله تعالى : (والذين آمنوا أشد حباً لله) والمحبة العظيمة التي تحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والتعظيم والانقياد لا يجوز صرفها لغير الله . وسبق بيان القاعدة في هذا الباب.
 واعلم أن هذه العبادات الثلاثة : المحبة والخوف والرجاء هي أصول العبادات وعليها مدارها. قال ابن القيم : " القلب في سيره إلى الله عز و جل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر". وبيان ذلك أن ما يدفع القلب للعمل ثلاثة أمور: المحبة ، والخوف ، والرجاء فمن أحب الله أطاعه ، ومن خاف الله أطاعه، ومن رجا ثواب الله أطاعه فمن المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله محبة له، مع خوفه من الله ورجائه له ، لكن الذي يغلب على قلبه المحبة وصدق التقرب إلى الله .
 ومن المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله فيطيع الله خوفاً منه ، سواء خاف عقابه الدنيوي أو عقابه الأخروي؛ فالذي يحمله غالبا على فعل الطاعات واجتناب المحرمات خوفه من الله.
ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أن أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله. والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة ، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه ، ورجاء لثوابه وفضله.
 المحبة أعلى مرتبة من مرتبة الخوف والرجاء إذا أردنا المفاضلة بينها ، لأن المحبة تبقى في الدنيا والآخرة ، وأما الخوف فإنه يزول في الآخرة. والجمع بين هذه الثلاثة هو منهج السلف الصالح وهو الذي عليه هدي النبي وقال بعض ضلال الصوفية بالتفريق بينها وزعموا أن من يعبد الله محبة له فقط أعلى وأكمل ممن يعبد الله رجاء لثوابه أو خوفاً من عقابه ، حتى كان بعضهم يدعو: " اللهم إن كنت تعلم أني أطيعك رغبة في جنتك فاحرمني منها!!" وهذا ضلال مبين وخسران عظيم - إن لم ي لجهله وقلة عقله - فإن الله أمر بسؤاله من فضله ورغَّب في ثوابه فمن ترك رجاء الله فقد عصى الله. وحذر الله من عقابه وعذابه فمن لم يخف الله فقد عصى الله. والمقصود أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه الجمع بين هذه العبادات العظيمة فيعبدون الله محبة له كما وصفهم الله بقوله: (والذين آمنوا أشد حباً لله) ويعبدون الله خوفاً من عقابه كما أمرهم الله بقوله: (وخافون إن كنتم مؤمنين) وجعل صفة الرجاء فرقاناً بين المؤمنين والكافرين فقال: (وترجون من الله ما لا يرجون) ورغَّبهم في ثوابه وأمرهم بسؤاله من فضله فقال تعالى : (واسألوا الله من فضله) . فاللهم إنا نسألك من فضلك يا ذا الفضل العظيم.
 ولتوضيح منازل هذه العبادات العظيمة والتلازم الشرعي بينها ، وحاجة المؤمن إليها جميعاً في سلوكه الصراط المستقيم يقال:
إن من أحب الله سار إليه وتقرب إليه ، والسير إليه يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فهو سير معنوي على الصراط المستقيم الذي هو الطريق إلى المحبوب الأعظم. فمحبة الله تدفع العبد إلى التقرب إليه، وعلى حسب قوة المحبة وضعفها تكون مسارعة العبد في الطاعات ومسارعته في الكف عن المحرمات. وخوفه من الله يمنعه من الانحراف عن الصراط المستقيم فلا يتعدى حدود الله وهو يخاف عقاب الله. ورجاؤه لفضل الله يحفزه لفعل الطاعات ويؤمله لقاء الله تعالى والفوز بقربه والتنعم بعظيم ثوابه. نسأل الله تعالى من فضله وبركاته.
 4- قَوْلُهُ تَعَالى: (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23]
وَقَوْلُهُ تَعَالى: (ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3] .
التوكل : طلب الوكالة من الوكيل ، والوكيل والمتوكل بالأمر هو الذي يضمن القيام به. فالوكيل هو الذي يُسند إليه الأمر ويُفوَّضُ إليه ويعتمد عليه فيه. والمتوكِّل هو المعتمِد والمفوِّض. فالتوكُّل على الله تعالى حقيقته : الاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه ثقة في حسن تدبيره واعتقاداً بأن النفع والضر بيده وحده سبحانه.
 - قال الله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) فقدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، كما صرح به في قوله تعالى: (ولا تتخذوا من دوني وكيلا) .
 - وقال تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) .
- وقال: (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)
- وقال: (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)
- وقال الله تعالى: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) قال الإمام أحمد: "التوكل عمل القلب" وثواب التوكل على الله عظيم جليل جزيل إذ جعل الله ثواب المتوكل أن الله هو حسبه وكافيه وفي ذلك غَناء له عن كل ما تتطلبه النفس، فليس وراء الله مذهب، ولا بعده مطلب. قال الله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) فجعل هذا من ثواب التقوى وهو تفريج الشدة وحصول الرزق أيا كان نوعه، أما التوكل فثوابه أعظم : (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). وقد أثنى الله تعالى على نفسه بأنه نعم الوكيل وهذا الثناء يفتح لأولي الألباب أبواباً من المعاني الجليلة التي يستلزمها هذا الثناء الجميل فيثمر التفكر فيها من اليقين والإيمان ما يحمل العبد على الثقة بالله . فكونه نعم الوكيل يستلزم علمه بحاجة من اتخذه وكيلاً، وعلمه بما يرجوه ويخافه كما قال الله تعالى (والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيرا) ويستلزم قدرته على تحقيق ما ينفع عبده ودفع ما يضره، ويستلزم نصره لعبده، ولطفه به ورحمته وإحسانه إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي يكفي فيها وصف نعم الوكيل ليحصل للنفس المؤمنة من اليقين والسكينة، والأمن والطمأنينة، والثقة العظيمة بالله ما لا تقوم له هموم الدنيا لو اجتمعت. ولذلك تجد هذه العبارة "حسبنا الله ونعم الوكيل" يقولها أناس فتبلغ بهم من رضوان الله والقرب منه والزلفى لديه منزلاً عالياً جداً، ويقولها أقوام لا تجاوز حناجرهم . وسر ذلك ما وقر في القلب من أنواع العبودية لله . يقولها أقوام وهمهم النكاية بآخرين لأمر من أمور الدنيا غضبوا لأجله، وقد يكون هذا الأمر محرماً في أصله أو في التعلق به، وقد يكونون هم الظالمين المسيئين، ويقولها أقوام وهمهم إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وتحقيق العبودية له وطلب كفايته والاستغناء به والأنس به وعبادته على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأن يكفيهم ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا . فالتوكل على الله تعالى لا يختص بالأمور الدنيوية كما يتوهمه بعض الجهال، بل التوكل على الله في الأمور الدينية من أداء واجبات العبودية لله تعالى والجهاد في سبيله في جميع مراتب الجهاد والتوكل عليه في طلب الهداية في جميع الأمور كبيرها وصغيرها أولى وأعظم. وإن كان التوكل على الله في المصالح الدنيوية مطلوباً ومثاباً عليه بل قد يجب أحياناً، لكن التوكل على الله في أمور الدين أعظم وأنفع. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - "التوكل على الله نوعان :
 أحدهما : توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني : التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
وَبَيْنَ النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله؛ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه.
- فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم" ا.هـ.
5- قول الله تعالى : (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 131-134].
تأملوا التأكيد على أن لله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات في هذه الآيات، والتأكيد على غناه بأكثر من وجه، وترغيبه عباده أن يسألوه من خير الدنيا والآخرة، وما في ضمن ذلك من وعده الكريم بتحقيق ما يأملون إن هم استجابوا له واتبعوا هديه، وأنه لن يضيع شيئاً من دعائهم ولا يفوته شيء من ذلك فهو السميع البصير. كل هذه المعاني إذا تأملها المؤمن أورثته يقيناً وإيماناً وإخباتاً وإنابة لله . وعلم أن الله تعالى هو نعم الوكيل وكفى بالله وكيلا.
------------------------------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق