1- قول الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 31-32] .
فالعابد مُحِبٌّ لمعبوده أشد المحبة؛ يقدِّم محبته على محبة النفس والأهل والولد والمال، لا يهنأ إلا بذكر محبوبه، ولا يأنس إلا بفعل ما يحبه، فذكره في قلبه ولسانه لا يكاد يكل ولا يمل من ذكره، بل يأنس بذكره في كل أحيانه، ويجتهد في كسب رضاه ومحبته، حتى لو بلغ الأمر به أن يضحي بنفسه في سبيله.
وهذه المرتبة من المحبة لا يستحقها أحد غير الله . وإذا عظمت محبة الله في قلب العبد قادته إلى الاستقامة على طاعة الله ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهو يطيعه محبة له ورغبة ورهبة كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} وهذه الآية يسميها العلماء آية الامتحان، فإن دعوى المحبة سهلة، ولكن صدقها يبين بهذا الامتحان وهو اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ومن اتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد أثبت صدق محبته لله تعالى، وأحبه الله وأفاض عليه من فضله ورحمته وأول ذلك مغفرته لذنوبه التي هي سبب الشقاء والعذاب.
2- قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} [يس: 60-64]. من شهد ألاّ إله إلا الله فقد عاهد الله أن يخلِص العبادة له وحده، وبهذا العهد يدخل في دين الإسلام ، وقد علمتَ معنى العبادة فيما سبق من الشرح والبيان. فإذا شهدت ألاّ إله إلا الله فاعلم أنك قد عاهدت الله أن تحبه المحبة الشديدة، وأن تعظمه، وأن تخضع له وتنقاد لأمره. ولذلك كانت (لا إله إلا الله) أعظم الحسنات، وأعلى شعب الإيمان، ومفتاح الجنة، وأفضل الذكر، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة.
وهذا العهد العظيم جزاء من وفى به أن يدخله الله الجنة، ومن خان هذا العهد وغدر ونقضه أدخله الله النار. فهذا العهد الذي بين العبد وربه بالتوحيد وإخلاص العبادة له هو أعظم العهود، وأعظم الأمانات. وجزاؤه وثوابه أعظم الجزاء والثواب. وعقاب نقضه ونكثه أعظم العقاب. ... وكل عبادة لغير الله تعالى فهي عبادة للشيطان لأنها طاعة له في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله وأعظم ما حرم الله تعالى هو الشرك، سواء شعر الإنسان أنه يطيع الشيطان أو لم يشعر. ... [والمقصود أن] العهد الذي بين العبد وربه أعظم العهود وهو معقد الامتحان ومناط الفوز والخسران، والشيطان أحرص ما يكون على أن ينقض العبد هذا العهد الذي بينه وبين ربه . وكل منفعة أو لذة يحصلها العبد بسبب نقضه لهذا العهد فهو ثمن قليل زائل ولو أعطي الدنيا بحذافيرها فإنها لا تساوي شيئاً في جنب ما أعده الله لعباده المؤمنين ولا تدفع عن هذا الخاسر العذاب الأليم المقيم في نار جهنم والعياذ بالله . فكيف وهو لا يعطى من الدنيا إلا ما قدر له ، ومع هذا فمتاع الدنيا كثير النكد سريع الزوال وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} فضمِن الله لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات أعظم الثواب في الدنيا والآخرة ففي الدنيا لهم الحياة الطيبة التي لا أفضل منها، وفي الآخرة يجزيهم الله أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل قال: «كنتُ رِدْفَ رسولِ الله -- على حمار يقال له : عُفَير ، فقال: يا معاذ ، هل تدري ما حقُّ الله على العباد ، وما حقُّ العباد على الله ؟ قلتُ : الله ورسوله أعلم. قال : فإن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقُّ العباد على الله : أن لا يعذِّب مَن لا يشرِك به شيئا. فقلتُ : يا رسول الله : أفلا أبشِّرُ الناس ، قال : لا تبشِّرْهم فيتَّكِلُوا». وفي رواية: (فأخبر بها معاذ عند موته تأثُّما). تأثماً أي: تحرجاً من خشية كسب الإثم بكتمان العلم .
فشأن هذا العهد عظيم، ولذلك شرع أن يجدده العبد في اليوم والليلة مراراً حتى لا ينساه أو يغفل عنه. وكُرِّرَ في الأذان للصلوات الخمس في جميع الأوقات في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. وكرر في الإقامة عند الحضور للصلاة واجتماع المصلين. ويكرره العبد في صلواته فلا تصح الصلاة بغير التشهد، وكان النبي يعلم أصحابه التشهد في الصلاة كما يعلمهم السورة من القرآن. وهذا العهد تضمنه سيد الاستغفار الذي يستحب للعبد أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى ورُتِّبَ على قوله الثواب العظيم، كما في صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عَنِ النَّبِىِّ - قال: « سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرَّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، اغْفِرْ لِى، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ » . قَالَ « وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ » ولذلك كان الشيطان حريصاً على أن لا يفي العبد بهذا العهد، فيوسوس له، ويمنيه، ويثبطه عن الوفاء بهذا العهد العظيم، ويزين له الذنوب والمعاصي التي يقدح فعلها في الوفاء بهذا العهد العظيم، ولا يزال حريصاً على أن ينقض العبد هذا العهد الذي بينه وبين الله نقضاً تاماً، فينقض عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل؛ فيرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام ينقضه به هذا العهد فيموت العبد كافراً والعياذ بالله . فهذه غاية الشيطان التي أقسم عليها كما بين الله تعالى ذلك بقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبَّكَ وَكِيلًا}. فمن حقق العبودية لله تعالى لم يكن للشيطان عليه سلطان . ومعنى لأحتنكن: أي لأستولين عليهم ولأقودنهم إلى المعاصي كما يقود الرجل دابته فيلقي على حنكها حبلاً يحتنكها به ويقودها به إلى حيث يشاء.
فإذا علمت ذلك فأكرم نفسك عن أن تكون دابة لإبليس يلقي عليك حبله ويحتنكك كما تحتنك الدابة، فتسلَّم له القياد، يقودك إلى المعاصي والفواحش، ويوردك المهالك، ويخدعك بما يزينه لك من زخرف القول الذي لا يغني عنك من الله شيئاً، حتى إذا جاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت رسل ربك لتقبض روحك تبرَّأَ منك، ولا تجد من تلوم إلا نفسك التي ظلمتها ظلماً عظيماً وفرطت في الثواب العظيم الذي جعله الله لمن وفى بعهده، وصدق بوعده.
3- قال الله تعالى في حكاية قسم الشيطان لربه : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46)} [الحجر: 39-46] . فضمن الله تعالى لعباده المخلصين ألا يتسلط عليهم الشيطان، وبين أن الشيطان لا يتسلط إلا على أتباعه الغاوين وتسلط الشيطان على الإنسان ومحاولة تسلطه على ثلاث درجات :
/ الدرجة الأولى : التسلط التام ، وهذا إنما هو على المشركين والمنافقين، لأن اتباعهم للشيطان اتباع كامل فاستحقوا التسلط التام. قال الله تعالى في المنافقين: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقال تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فهذا السلطان التام إنما هو على أوليائه الذين تولوه ودخلوا في حزبه وأشركوا به؛ فهم خارجون عن دين الإسلام وعن ولاية الله وحزبه.
/ الدرجة الثانية : التسلط الناقص وهو باستزلال الشيطان للإنسان ، وهذا لا يكون تاماً على المسلمين ، بل هو نوع تسلط يقوى ويضعف بحسب درجة اتباع العبد لخطوات الشيطان فكلما كان اتباعه أكثر كان تسلط الشيطان عليه أكبر، وقد يحرم العبد التوفيق لبعض الطاعات بسبب اتباعه لخطوات الشيطان كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 201-202] فالاستزلال سببه اتباع خطوات الشيطان، ومن اتبع خطوات الشيطان كان على خطر أن يزله الشيطان، وأصحاب هذه الدرجة من المسلمين لا يتمكن الشيطان منهم تمكناً تاماً فيستحوذ عليهم ولا يسلمون منه سلامة تامة بسبب اتباعه لخطواته فهم وإياه في جهاد، ومن تهاون منهم في اتباع خطواته كان على خطر أن يستزله الشيطان حتى يستحوذ عليه والعياذ بالله.
/ الدرجة الثالثة : النزغ ، وهذا ليس تسلطاً وإنما هو محاولة من الشيطان لاستجراء العبد ليتبع خطواته فإن اتبع خطواته استزله، وإن استعاذ العبد بالله عصم منه . قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} - والاستعاذة التامة تكون بالقلب والقول والعمل ، ومن كملت استعاذته كملت إعاذته وعصم من كيد الشيطان، ومن كانت استعاذته ناقصة لم يكن له عهد بأن يعصم من كيد الشيطان العصمة التامة التي ينجو بها من آثار نزغه. فقد يعصمه الله تفضلاً منه وكرماً وإثابة له على حسنات سابقة ، وقد يصيبه من الشر بقدر ما نقص من واجب الاستعاذة .
فالاستعاذة بالقلب تكون بصدق الالتجاء إلى الله تعالى من كيد الشيطان واليقين بأنه إن لم يعصمه الله من كيده ضل وخسر.
والاستعاذة بالقول تكون بذكر ما ورد من الاستعاذة من الشيطان الرجيم ، ويتأكد ذلك عند قراءة القرآن وعند خشية تسلط الشيطان بسبب غضب أو فزع أو غفلة ، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}ذلك أن كتاب الله تعالى هو الدليل إلى الفلاح والفضل العظيم في الدنيا والآخرة ، وهو ميسر للذكر والحفظ والفهم والامتثال فإذا قرأه المسلم قاصداً الاهتداء بما فيه من الهدى دله على فلاحه وسبل سعادته في الدنيا والآخرة؛ فيكون الشيطان أحرص ما يكون على حجبه عن معالم الهداية في القرآن العظيم حتى يضل عنها ، حتى يظلّ العبد يقرأ صفحات من القرآن وهو لا يدري ما قرأ.
والاستعاذة بالعمل تكون باتباع هدى الله فيما وصى به من الأمور التي تعصم من كيد الشيطان ، فمن اتبع هدى الله ضمن الله له أن لايضل ولا يشقى، ولا يخاف ولا يحزن، وأن يهديه سبل السلام ويخرجه من الظلمات إلى النور، وأن ينجيه وييسر أمره ويجعل العاقبة له ، كل ذلك ببركة اتباع هدى الله . فمن كملت استعاذته بالقلب والقول والعمل فقد تكفل الله له بالإعاذة .
في ختم آيتي الاستعاذة من نزغ الشيطان باسمين من الأسماء الحسنى دليل على إرادة مقتضاهما قال الله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال في الآية الأخرى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}فختم الآية باسمين جليلين من الأسماء الحسنى وهما السميع العليم؛ فهو السَّمِيعُ لاستعاذتهم ودعائهم إياه، وهو الْعَلِيمُ بما قلوبهم من صدق الالتجاء إليه، والعليم بأعمالهم في اتباع هديه .
وسأضرب لكم مثلاً لبيان هذا المعنى : لو أن رجلاً يسير في فلاة فسمع صوت سباع وخاف منها، ورأى حصناً قريباً ونادى صاحبَ الحصن أني أخاف من السباع ؛ فقال له صاحب الحصن : ادخل إلى الحصن من بابه؛ فإن دخلت فإنك في مأمن. فلم يستجب هذا المستنجد لصاحب الحصن، ولم يمتثل وصيته؛ فهل تنفعه استعاذته بلسانه ؟ وهل يعتبر صادقاً في استعاذته ؟ فإن من كان صادقاً في طلب الالتجاء لا بد له من امتثال الهدي؛ فإن خالف الهدي لم يكن مستعيذاً صادقاً في الاستعاذة.
4- قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] . من تعلق شيئاً دون الله وكل إليه، ومن أحب شيئاً من دون الله حتى يعصي الله بسببه عذب به. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي قال: (( تعِسَ عَبدُ الدِّينار وعَبدُ الدرهم وعبد الخميصة إن أُعْطي رضِي وإن لم يُعطَ سخط تعِسَ وانتكَس وإذا شيك فلا انتقش)). وهذا دعاء عليه من النبي بالتعاسة والانتكاسة ، فكلما قام من سقطة وقع في أخرى، وإذا أصيب ببلاء لم يهتد للخروج منه، وسبب ذلك عبوديته للدنيا ، وغفلته عن الله . وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الضابط في ذلك فقال: ((إذا أعطِي منها رضي وإن لم يُعط سَخط)). فإذا كان العبد همته للدنيا إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط ظل ساخطاً على قضاء الله وقدره متبرماً منه لم يكن قلبه سليماً لله بل فيه عبودية لغير الله . وهذا من شأن المنافقين كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله . ومن كان هذا حاله فهو لم يحقق العبودية الواجبة لله تعالى . وهذا أمر تشاهد آثاره فيمن تعلق قلبه بمال أو رئاسة أو شخص يحبه حتى يعصي الله لأجله فيكون في قلبه رق لما أحبه وتعلق به وعصى الله لأجله. قال ابن تيمية : "كل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لأمورهم متصرفاً بهم فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر؛ فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تَحَكُّم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها؛ فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم؛ فإنَّ أَسْرَ القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئناً ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص . وأما إذا كان القلب الذي هو مَلِكُ الجسم رقيقاً مستعبَدا متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب".
قال: "وهذا لعمرو الله إذا كان قد استعبد قلبَه صورة مباحة؛ فأما من استعبد قلبَه صورةٌ محرمةٌ امرأة أو صبي فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب . وهؤلاء عشاق الصور، من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا ، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقا بها مستعبدا لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه".
قال: "ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفا من مكروه فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو بالخوف من الضرر . قال تعالى في حق يوسف:{كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}".ا.هـ.
وإذا كان القلب أسيراً لشيء من هذه المحبوبات لم يكن خالصاً لله ، ولم يأت صاحبه بالعبودية الواجبة. بل يكون في قلبه ذلٌّ لها مصحوب بخوف ورجاء وهذا هو معنى العبادة التي يجب إخلاصها لله ، ولذلك سماه النبي عبداً للمال ، وإن كانت هذه العبودية ليست تامة بحيث تفضي به إلى الشرك الأكبر إلا من بلغت به عبوديته للدنيا أن يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام والعياذ بالله. ... والله تعالى قد جعل من ابتلائه لعباده أن يحوجهم إلى ما تقوم به مصالحهم من المطعم والمشرب والملبس والمنكح وغيرها. وهذه الأمور التي أحوج الله عباده إليها أمرهم أن يطلبوها منه وأن يرضوا بما يعطيهم منها وأن يتبعوا هداه في ابتغائها بما شرع الله وأذن فيه من الأسباب. فإن أعطوا منها رضوا وشكروا، وإن لم يعطوا صبروا ورجو ثواب ربهم وحسن تعويضه لهم. ومن كان هذا حاله أعطي خيراً مما حُرم كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَىٰ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ...} والمقصود أن المؤمن المتقي محقق لدرجة العبودية الواجبة لله تعالى فإن أعطاه الله قبل ورضي وشكر ، وإن ابتلي بتأخير ما يطلب لم يحمله ذلك على التسخط والجزع والتبرم من قضاء الله وقدره كما يفعل أهل النفاق.
5- قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22] . [فمن كان يحب لأجل الله، ويبغض لأجل الله ، ويعطي ويمنع لأجل الله فهو مؤمن كامل الإيمان، نسأل الله من فضله. ومن كان هذا حاله فقد أسلم قصده لله تعالى واستمسك بالعروة الوثقى التي لا أوثق منها كما قال الله تعالى : {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} الوثقى صيغة مبالغة، يقال: عروة وثيقة أي شديدة متينة مأمونة، وعروة أوثق من عروة، والعروة الوثقى أي التي لا أوثق منها. والعروة هي ما يستمسك به للنجاة؛ فإذا كانت العروة وثقى، والاستمساك قوياً نجا العبد مما يخاف.
6- قَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} [الجن:18] . وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى : {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] . [ذكر الشيخ أصول العبادات وأهم أنواعها، وبَيَّن أن] هذه العبادات يجب إفراد الله تعالى بها، وأن مَن صرَف شيئاً منها لغير الله تعالى فهو مشرك كافر والعياذ بالله. واستدل لذلك بقول الله تعالى : {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَـرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} هذه الآية فيها وصف من دعا غير الله بأنه كافر. وقوله (لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ) هذا وصف كاشف للعلة اللازمة لكل ما يعبد من دون الله تعالى وهو أنه لا برهان لأحد بأن الله تعالى قد أذن بعبادة إله من دونه.
------------------------------------------------
المصدر: ملتقى أهل التفسير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق