الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لقاؤنا هذه الليلة سيكون حول سورة الزلزلة . نتحدث أولا عن موضوعات حول السورة وبعد ذلك ندخل فيما يخص السورة من تحليل دلالي .
هذه السورة عدد آياتها ثمان آيات .
علاقتها بالسورة التي قبلها وهي سورة البينة :
تحدثت سورة البينة عن أخذ أو ترك البينة الظاهرة ، والدلالة والحجة الظاهرة أو تركها ، فالذين أخذوا بها نجو وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم في آخر السورة ، والذين تركوا وكذبوا بالبيّنة ذكر الله - عز وجل - أيضا حالهم . وكان في ذكر هذين الحالين سواء للمؤمنين أو للكفار إشارة إلى الموقع أو المكان الذي سيظهر فيه أثرالأخذ بهذه الحجة من عدمها ، قد لايكون ذلك ظاهرا في الدنيا ، قد يكون هناك علو للكفار ، وقد لا يكون هناك شأن كبير للمؤمنين في كل أزمانهم ولكن الوقت الذي تظهر فيه حقائق الأمور هو ليس هذا الوقت الدنيوي إنما هو وقت أخروي ، هذا الوقت أو هذا الحدث أو هذا الزمن تكلمت عنه سورة الزلزلة فقال الله - عز وجل - (يَوْمَئِذٍ) أي هذا اليوم الذي تتحدث عنه سورة الزلزلة وأن الناس سيفترقون فيه فمنهم من يعمل صالح ومنهم من يكون غير ذلك ، ومنهم من يرضى الله - عز وجل - عنه ومنهم من يُعذبه الله سبحانه وتعالى سيظهر شأن هؤلاء وهؤلاء في يوم ، أين هذا اليوم ؟ هو اليوم الذي ذكر في قوله تعالى (يَوْمَئِذٍ) . ولما كان الاهتمام هو بذلك اليوم ذكر الله قبله ما يُعظمه فقال (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا*وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) حتى يكون عند الإنسان تعظيم لهذا الحدث الذي سيحصل ثم بعد ذلك يذكر الله سبحانه وتعالى اليوم الذي يتمايز فيه الناس ، هذا من جانب .
أيضا يمكننا النظر على أن بداية سورة الزلزلة كانت (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) وختامها كان (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ولأن هاتين الآيتين متعادلتان فلابد من التحدث عنهما معا لأننا لا نستطيع أن نتحدث عن آية دون الأخرى وقد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - أي سمى هاتين الآيتين آية يعني كأنها آية واحدة ونعتها - صلى الله عليه وسلم - بالفاذّة ، وهذا في صحيح البخاري ولعلنا نأتي عليه في حينه .
لماذا بُدأت السورة بالزلزلة وخُتمت بمثقال الذرة سواء في الخير أو الشر ؟
قد يكون من ملامح ذلك أن الزلزلة تعني الهزّ الشديد وهذا الهزّ الشديد سيُحدث في هذا المخلوق شروخا وصدوعا وتشققات وتفصيلا لأجزائه حتى ربما يكون بعضها كالهباءة من الصِغر، والهباءة في اللغة : هي الذرة ، والهباءة هي التي نراها إذا دخلت علينا شمس من نافذة نرى في داخلها أشياء وإذا ذهب النور لا نراها من صِغرها هذه في اللغة تُسمى ذرة ، وهذا اللون بالذات أوهذا الشكل من الأشياء يحدث عند الانفجارات وعند الزلازل يحدث شيء من هذا الغبش أو الغبار الصغير الذي لا يُرى إلا في مكان مُظلم ويدخل فيه شيء مُضيء . فلما كان ذِكر الزلزلة التي هي تفتيت هذا الجسم أو هذا الجرم العظيم الذي هو الأرض التي نحن عليها ونجلس عليها ونأمن عليها وننام عليها ونسير عليها وأعظم هول يمكن أن يُصيبها ويضرنا هو زلزلتها ، أي شيء آخر يمكن يكون أقل من هذا لكن أعظم شيء ممكن يهول الناس هو تحريك هذه الأرض وزلزلتها عند ذلك يعُمّ الهول والخوف الجميع فلما كان هذا الأمر الذي هو الزلزلة قد يُحدث هذا الا نشراخ ووجود هذه الأجزاء التي قد يتناهى صِغرها إلى أن تكون كالهباءة ، لما كانت هذه الهباءة مستحقرة عند الناس لا يهتمون بها ولا يُلقون لها بالاً رُغم أنها قد تكون أحيانا أثرا لحدث عظيم والذي هو مثل الزلزلة وغيرها ، لما كان ذلك كذلك ذكر الله سبحانه وتعالى مقياسا دقيقا حقيرا فقال سبحانه في نهاية السورة كأنه شيء يُجمل لنا موضوع السورة فقال (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
لما كان الناس قد يعملون العمل سواء كان خيرا أو شرا فإذا كان صغير أو لا يأبه به الناس لا يعتني به الإنسان فذكر الله لنا أنه هذا اليوم الذي سيحدث فيه الزلزال الأكبر، العظيم ، العادة لما يحدث شيء كبير وانهيار كبير - العادة - أن الإنسان يريد أن ينجو ، إن كان فيه شيء يريد أن يحصل عليه أو يأخذه هل سيبحث عن دقائق الأشياء وأجزاء الأشياء أو يبحث عن أنفس الأشياء والذي يستطيع أن يأخذه يأخذه ؟ في الغالب الشيء الذي يغيب عن ذهنه في مثل هذا الحدث هو الأشياء الصغيرة ، أصلا إما لا يراها أو لا تخطر على باله أو إن خطرت على باله ليس هذا الوقت للاهتمام بها فيقول الله - سبحانه وتعالى - وإن حدث هذا الأمر العظيم الذي هو أكبر مما تتصورون فإن الله - سبحانه وتعالى - سيُحاسب على هذه الصغيرة التي هي مقدار الذرة من الأعمال إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
لاحظو كيف بدأت السورة وكيف انتهت ، إذا كان ذلك مع هذا الحدث العظيم فما بالك إذا في راحة الناس وفي سعة بالهم وفي فسحة عيشهم كيف سيكون الحال ؟ لذلك لما سمع أعرابي هذه السورة - هو لم يكن مسلما - لكن لما سمع هذه السورة قال : هذا مقياس دقيق وأمر عجيب وأسلم من فوره . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن الحُمُر هل نزل فيها شيء ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ( ما نزل فيها شيء ولا أعلم في ذلك إلا الآية الفاذّة وذكر قوله تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) . وحتى لو كانت الذرة بالمعنى الآخر وهو بمعنى الدويبة الصغيرة أو النملة الصغيرة أيضا هو كله هذا من باب أن الناس في الأحداث الكبيرة يحتقرون الأشياء الصغيرة ولا ينتبهون بها فنُبه في هذه السورة من مطلعها إلى مقطعها ، يعني من أولها إلى آخرها ، إلى أن هذه الأشياء الصغيرة من الأعمال لا يمكن أن تذهب في زحمة الأحداث الكبيرة كما نتصور نحن . الآن في الأحداث العادية في المحاسبة إذا أرُيد أن يُحاسب الإنسان عن أمر أو يسأل عن شيء إن حدث أمر عظيم هذا الحدث بالنسبة له هو مغنم لأنه يقول أن من سيحاسبه التهى عنه بما هو أهمّ ، هذا لن يحدث يوم القيامة إنما كل شيء سيُحاسب عليه الإنسان صغيرا أو كبيرا ، من خير أو شر . هذا حقيقة نستطيع أن نجمله من خلال مناسبة السورة لما قبلها ومناسبة المطلع للمقطع .
/ موضوع السورة : أثر العمل أو دقة الحساب أو دقة المحاسبة في العمل ودلائل ذلك كثيرة :
- ذكر الذرة وتكرارها أكثر من مرة
- تكرار كلمة العمل أكثر من مرة
- ذكر كلمة المثقال
- ذكر الرؤية أكثر من مرة
كل هذا يجعلنا ندرك أن السورة تدور حول العمل ودقة العمل ووجوب العناية بالعمل .
إذا دخلنا على السورة سنجد أنها بدأت بالزمن فقال الله - سبحانه وتعالى - (إذا) و "إذا" حرف شرط غير جازم يدل على المستقبل من الزمان (إِذَا زُلْزِلَتِ) أي ليس الآن ، سيأتي زمن تحصل فيه الزلزلة لكنها الآن غير حاصلة وبالتالي أي زلزال تسمع عنه في هذه الدنيا ، تسمع أنه قتل عشرين شخص أو عشرين مليون شخص أو مئة ألف شخص هو زلزال بسيط ، زلزال يسير بالنسبة لذلك الزلزال لأن هذا أمر مستقبلي كما في قوله تعالى (إِذَا زُلْزِلَتِ) هي لم تُزلزل إلى الآن .
لو حصل بمقياس رختر - كما يقولون - عدة درجات لرأيت هولاً وضياعا لأهم حقوق الإنسان أو تضييعا لها من زلزال يسير حتى الأم تترك ولدها وتخرج يمكن بدون ملابسها ، والرجل يترك أولاده ، وقد حدث هذا في تبوك منذ فترة من الزمن فما بالك بزلزال هذا لا يُعد معه شيئا بدليل قوله تعالى (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) هذه الإضافة لها معنى خاص فلم يقل إذا زلزلت الأرض زلزالا ، قال (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أي زلزالها الأكبر الذي لا يُعدّ ما قبله وما بعده شيئا في الزلازل . فلو حدث هذا !! إذا كنا نخاف ويُصيب الناس رعب من زلزال دنيوي يسير ربما لا يُشكل إلا منطقة يسيرة فما بالك بالذي سيحدث من هذا الوصف الرباني الآن (إِذَا زُلْزِلَتِ).
إذا كنا نشعر بهذا الحدث على عِظمه فاعلم أن الله قال (إِذَا زُلْزِلَتِ) وما قال الله " إذا زلزل الله الأرض" فلماذا بُني الفعل لغير الفاعل ؟ لم يذكر الفاعل هنا ، سر ذكر الفعل بدون فاعل دلالات ذلك الآتي :
1- معلوم أن من يفعل ذلك هو الله ولا قدرة لغير الله بذلك وإذا تمحّض الفعل بفاعل واحد يحسُن في هذه الحالة أن يُحذف الفاعل تنبيها على أن مثل هذا الفعل لا يمكن أن يكون إلا من هذا الفاعل مثل (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) معلوم أنه لن يخلق أحد هذا الإنسان إلا الله .
2- إذا ذُكر الفعل دون ذكر الفاعل هذا دليل على أن المراد لفت النظر للفعل وأن المطلوب هو الاهتمام بالفعل أكثر من الاهتمام بالفاعل خصوصا إذا كان الفاعل معروفا ومعلوما فالمطلوب الآن استشعار الفعل وهو الزلزلة نفسها .
3- أن بناء الفعل وعدم ذكر الفاعل دليل على إحداث هذا الفعل عند ذلك الفاعل وكأنه لا يحتاج أن يُنسب إلى الله من سهولته ومن هونه لا يحتاج أن ينسب إلى الله - سبحانه وتعالى - وهذا أيضا من دلالات بناء الفعل لغير الفاعل . وهذا منتشر في القرآن كثيرا أن يُذكر الفعل بدون فاعل .
/ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) ذِكر الأرض هنا دون أجزاء الأرض بمعنى أنه كان يمكن أن يُقال إذا زلزلت الجبال ، زلزلت البحار ، زلزلت الصحاري ، لماذا الأرض ؟ لأن الأرض هي موطن سُكنانا والأصل فيها أنها ساكنة ولولا أنها ساكنة ما استطعنا أن نعيش عليها ، (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) فلما كانت هي موطن معيشتنا ، معيشة البشر كان أخوف حدث يمكن يحصل عليها ليس الطوفان ولا نزول الماء ولا خروج الماء منها ، أخطر شيء يحصل فيها وأعظم ما يخيف الناس - الذين هم سكان الأرض - هو تحريكها ، زلزلتها أعظم شيء وهذا مشاهد كيف يصيب الناس الهلع لو تحركت عدة ثواني ، أحيانا يحصل الزلزال في أزماننا هذه عدة ثواني .
هذه السورة عدد آياتها ثمان آيات .
علاقتها بالسورة التي قبلها وهي سورة البينة :
تحدثت سورة البينة عن أخذ أو ترك البينة الظاهرة ، والدلالة والحجة الظاهرة أو تركها ، فالذين أخذوا بها نجو وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم في آخر السورة ، والذين تركوا وكذبوا بالبيّنة ذكر الله - عز وجل - أيضا حالهم . وكان في ذكر هذين الحالين سواء للمؤمنين أو للكفار إشارة إلى الموقع أو المكان الذي سيظهر فيه أثرالأخذ بهذه الحجة من عدمها ، قد لايكون ذلك ظاهرا في الدنيا ، قد يكون هناك علو للكفار ، وقد لا يكون هناك شأن كبير للمؤمنين في كل أزمانهم ولكن الوقت الذي تظهر فيه حقائق الأمور هو ليس هذا الوقت الدنيوي إنما هو وقت أخروي ، هذا الوقت أو هذا الحدث أو هذا الزمن تكلمت عنه سورة الزلزلة فقال الله - عز وجل - (يَوْمَئِذٍ) أي هذا اليوم الذي تتحدث عنه سورة الزلزلة وأن الناس سيفترقون فيه فمنهم من يعمل صالح ومنهم من يكون غير ذلك ، ومنهم من يرضى الله - عز وجل - عنه ومنهم من يُعذبه الله سبحانه وتعالى سيظهر شأن هؤلاء وهؤلاء في يوم ، أين هذا اليوم ؟ هو اليوم الذي ذكر في قوله تعالى (يَوْمَئِذٍ) . ولما كان الاهتمام هو بذلك اليوم ذكر الله قبله ما يُعظمه فقال (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا*وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) حتى يكون عند الإنسان تعظيم لهذا الحدث الذي سيحصل ثم بعد ذلك يذكر الله سبحانه وتعالى اليوم الذي يتمايز فيه الناس ، هذا من جانب .
أيضا يمكننا النظر على أن بداية سورة الزلزلة كانت (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) وختامها كان (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ولأن هاتين الآيتين متعادلتان فلابد من التحدث عنهما معا لأننا لا نستطيع أن نتحدث عن آية دون الأخرى وقد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - أي سمى هاتين الآيتين آية يعني كأنها آية واحدة ونعتها - صلى الله عليه وسلم - بالفاذّة ، وهذا في صحيح البخاري ولعلنا نأتي عليه في حينه .
لماذا بُدأت السورة بالزلزلة وخُتمت بمثقال الذرة سواء في الخير أو الشر ؟
قد يكون من ملامح ذلك أن الزلزلة تعني الهزّ الشديد وهذا الهزّ الشديد سيُحدث في هذا المخلوق شروخا وصدوعا وتشققات وتفصيلا لأجزائه حتى ربما يكون بعضها كالهباءة من الصِغر، والهباءة في اللغة : هي الذرة ، والهباءة هي التي نراها إذا دخلت علينا شمس من نافذة نرى في داخلها أشياء وإذا ذهب النور لا نراها من صِغرها هذه في اللغة تُسمى ذرة ، وهذا اللون بالذات أوهذا الشكل من الأشياء يحدث عند الانفجارات وعند الزلازل يحدث شيء من هذا الغبش أو الغبار الصغير الذي لا يُرى إلا في مكان مُظلم ويدخل فيه شيء مُضيء . فلما كان ذِكر الزلزلة التي هي تفتيت هذا الجسم أو هذا الجرم العظيم الذي هو الأرض التي نحن عليها ونجلس عليها ونأمن عليها وننام عليها ونسير عليها وأعظم هول يمكن أن يُصيبها ويضرنا هو زلزلتها ، أي شيء آخر يمكن يكون أقل من هذا لكن أعظم شيء ممكن يهول الناس هو تحريك هذه الأرض وزلزلتها عند ذلك يعُمّ الهول والخوف الجميع فلما كان هذا الأمر الذي هو الزلزلة قد يُحدث هذا الا نشراخ ووجود هذه الأجزاء التي قد يتناهى صِغرها إلى أن تكون كالهباءة ، لما كانت هذه الهباءة مستحقرة عند الناس لا يهتمون بها ولا يُلقون لها بالاً رُغم أنها قد تكون أحيانا أثرا لحدث عظيم والذي هو مثل الزلزلة وغيرها ، لما كان ذلك كذلك ذكر الله سبحانه وتعالى مقياسا دقيقا حقيرا فقال سبحانه في نهاية السورة كأنه شيء يُجمل لنا موضوع السورة فقال (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
لما كان الناس قد يعملون العمل سواء كان خيرا أو شرا فإذا كان صغير أو لا يأبه به الناس لا يعتني به الإنسان فذكر الله لنا أنه هذا اليوم الذي سيحدث فيه الزلزال الأكبر، العظيم ، العادة لما يحدث شيء كبير وانهيار كبير - العادة - أن الإنسان يريد أن ينجو ، إن كان فيه شيء يريد أن يحصل عليه أو يأخذه هل سيبحث عن دقائق الأشياء وأجزاء الأشياء أو يبحث عن أنفس الأشياء والذي يستطيع أن يأخذه يأخذه ؟ في الغالب الشيء الذي يغيب عن ذهنه في مثل هذا الحدث هو الأشياء الصغيرة ، أصلا إما لا يراها أو لا تخطر على باله أو إن خطرت على باله ليس هذا الوقت للاهتمام بها فيقول الله - سبحانه وتعالى - وإن حدث هذا الأمر العظيم الذي هو أكبر مما تتصورون فإن الله - سبحانه وتعالى - سيُحاسب على هذه الصغيرة التي هي مقدار الذرة من الأعمال إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
لاحظو كيف بدأت السورة وكيف انتهت ، إذا كان ذلك مع هذا الحدث العظيم فما بالك إذا في راحة الناس وفي سعة بالهم وفي فسحة عيشهم كيف سيكون الحال ؟ لذلك لما سمع أعرابي هذه السورة - هو لم يكن مسلما - لكن لما سمع هذه السورة قال : هذا مقياس دقيق وأمر عجيب وأسلم من فوره . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن الحُمُر هل نزل فيها شيء ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ( ما نزل فيها شيء ولا أعلم في ذلك إلا الآية الفاذّة وذكر قوله تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) . وحتى لو كانت الذرة بالمعنى الآخر وهو بمعنى الدويبة الصغيرة أو النملة الصغيرة أيضا هو كله هذا من باب أن الناس في الأحداث الكبيرة يحتقرون الأشياء الصغيرة ولا ينتبهون بها فنُبه في هذه السورة من مطلعها إلى مقطعها ، يعني من أولها إلى آخرها ، إلى أن هذه الأشياء الصغيرة من الأعمال لا يمكن أن تذهب في زحمة الأحداث الكبيرة كما نتصور نحن . الآن في الأحداث العادية في المحاسبة إذا أرُيد أن يُحاسب الإنسان عن أمر أو يسأل عن شيء إن حدث أمر عظيم هذا الحدث بالنسبة له هو مغنم لأنه يقول أن من سيحاسبه التهى عنه بما هو أهمّ ، هذا لن يحدث يوم القيامة إنما كل شيء سيُحاسب عليه الإنسان صغيرا أو كبيرا ، من خير أو شر . هذا حقيقة نستطيع أن نجمله من خلال مناسبة السورة لما قبلها ومناسبة المطلع للمقطع .
/ موضوع السورة : أثر العمل أو دقة الحساب أو دقة المحاسبة في العمل ودلائل ذلك كثيرة :
- ذكر الذرة وتكرارها أكثر من مرة
- تكرار كلمة العمل أكثر من مرة
- ذكر كلمة المثقال
- ذكر الرؤية أكثر من مرة
كل هذا يجعلنا ندرك أن السورة تدور حول العمل ودقة العمل ووجوب العناية بالعمل .
إذا دخلنا على السورة سنجد أنها بدأت بالزمن فقال الله - سبحانه وتعالى - (إذا) و "إذا" حرف شرط غير جازم يدل على المستقبل من الزمان (إِذَا زُلْزِلَتِ) أي ليس الآن ، سيأتي زمن تحصل فيه الزلزلة لكنها الآن غير حاصلة وبالتالي أي زلزال تسمع عنه في هذه الدنيا ، تسمع أنه قتل عشرين شخص أو عشرين مليون شخص أو مئة ألف شخص هو زلزال بسيط ، زلزال يسير بالنسبة لذلك الزلزال لأن هذا أمر مستقبلي كما في قوله تعالى (إِذَا زُلْزِلَتِ) هي لم تُزلزل إلى الآن .
لو حصل بمقياس رختر - كما يقولون - عدة درجات لرأيت هولاً وضياعا لأهم حقوق الإنسان أو تضييعا لها من زلزال يسير حتى الأم تترك ولدها وتخرج يمكن بدون ملابسها ، والرجل يترك أولاده ، وقد حدث هذا في تبوك منذ فترة من الزمن فما بالك بزلزال هذا لا يُعد معه شيئا بدليل قوله تعالى (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) هذه الإضافة لها معنى خاص فلم يقل إذا زلزلت الأرض زلزالا ، قال (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أي زلزالها الأكبر الذي لا يُعدّ ما قبله وما بعده شيئا في الزلازل . فلو حدث هذا !! إذا كنا نخاف ويُصيب الناس رعب من زلزال دنيوي يسير ربما لا يُشكل إلا منطقة يسيرة فما بالك بالذي سيحدث من هذا الوصف الرباني الآن (إِذَا زُلْزِلَتِ).
إذا كنا نشعر بهذا الحدث على عِظمه فاعلم أن الله قال (إِذَا زُلْزِلَتِ) وما قال الله " إذا زلزل الله الأرض" فلماذا بُني الفعل لغير الفاعل ؟ لم يذكر الفاعل هنا ، سر ذكر الفعل بدون فاعل دلالات ذلك الآتي :
1- معلوم أن من يفعل ذلك هو الله ولا قدرة لغير الله بذلك وإذا تمحّض الفعل بفاعل واحد يحسُن في هذه الحالة أن يُحذف الفاعل تنبيها على أن مثل هذا الفعل لا يمكن أن يكون إلا من هذا الفاعل مثل (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) معلوم أنه لن يخلق أحد هذا الإنسان إلا الله .
2- إذا ذُكر الفعل دون ذكر الفاعل هذا دليل على أن المراد لفت النظر للفعل وأن المطلوب هو الاهتمام بالفعل أكثر من الاهتمام بالفاعل خصوصا إذا كان الفاعل معروفا ومعلوما فالمطلوب الآن استشعار الفعل وهو الزلزلة نفسها .
3- أن بناء الفعل وعدم ذكر الفاعل دليل على إحداث هذا الفعل عند ذلك الفاعل وكأنه لا يحتاج أن يُنسب إلى الله من سهولته ومن هونه لا يحتاج أن ينسب إلى الله - سبحانه وتعالى - وهذا أيضا من دلالات بناء الفعل لغير الفاعل . وهذا منتشر في القرآن كثيرا أن يُذكر الفعل بدون فاعل .
/ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) ذِكر الأرض هنا دون أجزاء الأرض بمعنى أنه كان يمكن أن يُقال إذا زلزلت الجبال ، زلزلت البحار ، زلزلت الصحاري ، لماذا الأرض ؟ لأن الأرض هي موطن سُكنانا والأصل فيها أنها ساكنة ولولا أنها ساكنة ما استطعنا أن نعيش عليها ، (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) فلما كانت هي موطن معيشتنا ، معيشة البشر كان أخوف حدث يمكن يحصل عليها ليس الطوفان ولا نزول الماء ولا خروج الماء منها ، أخطر شيء يحصل فيها وأعظم ما يخيف الناس - الذين هم سكان الأرض - هو تحريكها ، زلزلتها أعظم شيء وهذا مشاهد كيف يصيب الناس الهلع لو تحركت عدة ثواني ، أحيانا يحصل الزلزال في أزماننا هذه عدة ثواني .
ينتهي الزلزال تكون الحصيلة مئة ألف ماتوا ، ثواني ، فهذا زلزال يسير حصل في ثواني لجزء من هذه الأرض أنظر مالذي حصل ، فما بالك إذا كان الزلزال سيكون شاملا للأرض كلها .
والزلزلة إنما جاء الفعل "زلزل "، من قواعد اللغة أنه إذا تكررت الحروف في فعل أو في اسم أو في غير ذلك ، تكررت أكثر من مرة فأي تكرر ، أي تضعيف ، أي تكرير للحرف يعني تكرير للمعنى فحين أقول "صرّ" فليست كما أقول "صرصر" ، وحين أقول "زلّ" ليست كما أقول "زلزل" ولذلك بعض المفسرين ، بعض اللغويين رأى أن أصل الفعل "زلّ" ومأخوذ من زلل القدم فإن القدم تزِل أحينا أي تزلق عن مكانها فتذهب إلى مكان آخر فلما أُريد أن هذا الزلل يحدث أكثر من مرة بمعنى أن الشيء ، كل شيء على هذه الأرض سيكون في غير مكانه ناسب أن تُكرر الزاي وتُكرر اللام ، "دكّ" ليست مثل "دكدك" هذه شيء وهذه شيء ، "صفّ" ليست مثل "صفصف" هذه تدل على أن الفعل حدث مرة واحدة وهذه تدل على أن الفعل حدث أكثر من مرة ، فدلّ "زلزل" هنا على أن هذا الفعل وهو التحريك حدث أكثر من مرة ولاشك أنه حين يحدث أكثر من مرة ويتوالا يكون أعظم دمارا وأعظم تخويفا للناس . هذا ما يتعلق ببنية الكلمة . وقلنا لماذا الأرض ؟ لأن أعظم حدث ممكن أن يحصل عليها يُخيف الناس هو هذا الأمر .
ودليل على أن هذا الأمر مخوّف للغاية للبشر أنهم يخرجون بسببه من حالة العقل والوعي إلى حالة السُكر وعدم الوعي . ويدل لذلك أن الله تعالى يذكر لنا صورة حاصلة للناس يوم القيامة ، نحن لا نتصور كيف يكون الناس إذا تزلزلت الأرض ولكن إذا تزلزلت هذه الأرض وتحركت التحرك الذي نشرحه الآن ونتحدث عنه سيحصل للناس ذهول يخرجهم عن العقل الذي يعقلون به ويتصرفون من خلاله إلى حالة السُكر وعدم الوعي (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى) هم ليسوا بسكارى ، ليس هناك مُسكر شربوه حتى يكونوا سكارى وهذا يدل على أن تغطية عقل الإنسان ليس بالضرورة أن يكون سببها أنه شرب مُسكر ، قد يكون الحدث الذي أمام الإنسان من هوله يغطي عقل الإنسان أحيانا . هذا الحدث لن يغطي عقل شخص واحد حتى نقول واحد الذي تأثر ولا اثنين إنما هذا هو ديدن كل الناس الذين يعيشون ذلك الحدث (وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
/ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) تكرار كلمة الزلزلة مرة أخرى في صورة فعل مرة وفي صورة اسم مرة دليل على الاهتمام بحدث الزلزلة نفسه.
/ لماذا أضاف الله الزلزال للأرض فقال (زِلْزَالَهَا) ؟
هذا دليل على واحد من أمرين أو على الأمرين جميعا:
/ الأول : أن هذا الزلزال أعظم زلزال يحصل للأرض فيقول الله تعالى (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أي الأعظم ، زلزالها الأكبر ، زلزالها الذي لن يحدث لها مثله قط ولم يحدث لها مثله من قبل ، زلزالها الذي حين يُذكر يُنسب إليها . تقول : أكرمت فلان كرامته تعني كرامته اللائقة به التي لا تنصرف عند الذكر إلا إليه ، التي لم يحصل على مثلها من قبل فلا يُضاف الشيء إلى ضميره على هذه الصورة إلا إذا أريد أنها الخصيصة الخاصة لهذه الأرض أي هذه الزلزلة هي صورة خاصة لا تحدث لها إلا مرة واحدة ، هذا يدل على أن كل ما حدث من زلازل مهولة هي لا شيء في مقابل هذه الزلزلة العظيمة ، هذا من دلالات الإضافة .
/ من دلالات الإضافة أيضا التعميم ، فعندما يقول الله - سبحانه وتعالى - (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) يعني زلزالها الشامل لكل أجزائها ولو كان هذا الزلزال يصيب بعضها دون بعض لما ناسب أن يُقال (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) لو قال الله - سبحانه وتعالى - "إذا زلزلت الأرض زلزالا " كان يمكن أن يكون قد حدث هذا الزلزال في أعظم الأرض وفيه أجزاء ما صار فيها شيء لكن لما يقول (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) فهذا يعني شمول الزلزال لكل أجزائها فاتضح لنا من هذه الإضافة كلمة "زِلْزَالَهَا" دون أن يُقال إذا زلزلت الأرض زلزالا هكذا بدون إضافة دلالتين يمكن الأخذ بهما جميعا :
أولا : عِظم الزلزال وأنه لم يحدث للأرض مثله ولن يحدث لها بعده مثله .
الأمر الثاني : أنه يدل على شمول هذا التحريك العنيف لكل أجزاء الأرض .
/ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا*وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) ذِكر الإخراج ، فيه زلزلة والمُزلزل لها لم يُذكر لكن الإخراج نُسب إلى الأرض مباشرة ، الأرض هي التي تُخرج ، لا يُتحدث عن الإخراج إلا إذا كان الشيء المُخرج مُخفى لا يُرى وله ما يُحيط به ويحجبه فإذا أبعدنا عنه هذا الذي يحجبه نكون قد أخرجناه من داخل هذا الشيء الذي يحجبه فدل ذلك على أن الأشياء المُخرجه داخل الأرض هذه كانت محجوبة بالأرض نفسها ، طبعا لما يحدث في الأرض تشقق وزلزلة وخروج أشياء هو سيكون لاشك أنها ستنكسر هذه الحُجب وسيبين ما في داخل هذه الأرض ولذلك يقول الله (وَأَخْرَجَتِ) ونسب الإخراج إلى الأرض قد يكون فيها - والله أعلم - أنها في خلقها الدنيوي في الدنيا غير قادرة لأن الله لم يُمكّنها من ذلك ، غير قادرة على أن تُخرج كل ما في جوفها ، نعم الأرض بقدرة الله تُخرج بين الفينة والأخرى شيئا مما فيها ونرى ذلك في صورة زلازل وقد يخرج معها أحيانا أشياء من باطن الأرض وقد تصاحب الزلازل أحيانا براكين فتخرج من باطن الأرض أشياء عجيبة جدا وعظيمة جدا وهي تحمل دلالة الثُقل بما فيها من مكونات فقد لا تكون قادرة في الدنيا ، مرحلة الدنيا أن تُخرج كل ما فيها لذلك تبقى أثقالها ، لاحظ كلمة "أثقالها" أُضيفت إليها ، أثقالها الشاملة ، أثقالها العظمى ، نفس الدلالة التي قلناها في كلمة "زلزالها" لا تستطيع ذلك إلا إذا مكّنها الله يوم القيامة من ذلك ، بأمر الله سبحانه وتعالى يحدث فيها هذا التغيير الكبير الذي يُوجب أن يخرج كل شيء في بطنها ، من ضمن الأشياء الناس المقبورين فيها فيخرجون .
/ إذا (وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ) ذكر الأرض مرة أخرى مع أن المقتضى أنك إذا تحدثت عن شيء أنك لا تذكره مرة أخرى وإنما تُشير إليه بالضمير بمعنى أن يُقال : "إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها" دون أن يُقال وأخرجت الأرض لأنه معلوم أن الحديث عن الأرض . فما السر في ذكر الأرض مرة أخرى ؟
السر - والله أعلم - حتى تكون كل جملة من هاتين الجملتين قائمة برأسها فيكون هناك اهتمام بإظهار الزلزال للأرض واهتمام آخر بإظهار الإخراج أيضا للأرض حتى لا يُتوهم أن الزلزال حصل للأرض وأن الإخراج حصل من شيء آخر غير الأرض . الآن يُراد أن يُبيّن أن الزلزال حصل للأرض والإخراج حصل للأرض لأنه يا إخواني الكرام قد يتوهم متوهم أنه لما يسمع كلمة الزلزلة بالعادة إذا حصل زلزال يحصل تدمير فالأشياء تقع على بعضها فبدل أن يكون هناك إظهار للمخفي يحصل إخفاء للمُظهر ، الأشياء تُهدم بعضها على بعض فتذهب الأمور وتضيع لكن الله - عز وجل - يقول أن الذي سيحدث يوم القيامة شيء آخر لأن هذه الزلزلة مُقننة بقدرة الله فتحدث بطريقة تسمح إن كل ما في الأرض يخرج ويبين من ذلك جثث الناس وهذا ولاشك تقدير الله - سبحانه وتعالى - أن تخرج جثث الناس وإلا العادة أن جثث الناس تُدفن وتُغطى وتُستر بسبب الزلازل ، بعضهم يقول انتشلنا كم جثة والباقي لم نجد له أثر لكن الذي سيحصل يوم القيامة أن هذا الزلزال بأمر الله ، بتقدير الله ، سيكون بتقنين معين وبتقدير معين يتسبب في كشف كل مافي بطن هذه الأرض من أثقال . / ماهي الأثقال التي في الأرض ؟ اختلف المفسرون في هذا :
/ بعضهم قال : " الأثقال هي الكنوز المدفونة سواء التي دفنها البشر أو التي هي بطبيعتها موجودة في الأرض من مكونات الأرض تظهر يوم القيامة " وأخذوا ذلك من أن الأثقال جمع "ثَقَل" والـ"الثَقَل" - بالتحريك - هو المال النفيس فقالوا إذا الأشياء النفيسة هي هذه الأموال والجواهر والذهب فيوم القيامة تُخرجها ، ولكن الذي ورد أن الأرض هذه في آخر الزمان تقذف ما في بطنها من الذهب ، من هذه الأشياء التي يحبها الناس ويسعون إليها فيخرج الذهب أمثال الاسطوان في آخر مراحل الدنيا ، لذلك قالوا مرحلة إخراج الذهب أو الأموال أو ما شابه ذلك من النفائس لا يكون في هذه الزلزلة إنما يكون في آخر الدنيا فيمر الناس عليه والقيامة لم تقم بعد ، يمر الناس عليه وقد قذفت الأرض كل ما فيها ، خرج كل ما فيها فلا ينتبهون إليه من كثرته فيقول القاتل : في هذا قتلت ، ويقول القاطع في هذا قطعت ولا أحد يأخذ منه شيئا من كثرته فدل هذا على أن خروج هذه الأشياء لا يكون بعد الزلزلة إنما يكون بعدها .
بقي معنا شيء آخر : مالذي يمكن أن يكون يخرج ذاك اليوم ؟ قال : ممكن يخرج جثث الناس بحكم أن السياق كله من أجل بيان البعث وأن هذه الأرض هي التي أخفت أجساد الناس وبعد ذلك ستُخرج مافي بطنها ولعل أهم ما فيها هو أجساد هؤلاء الناس . ولاشك أن قبر هؤلاء البشر على توالي السنين يعتبر من الثقل الذي في بطنها سواء من الناحية الحسية حتى لو تلاشى هو يبقى شيء من مكونات هذه الأرض أو من الناحية المعنوية فإن المقبورين في هذه الأرض هم ثُقل عليها ولذلك من أثقل ما يكون على الأرض هو الكافر أو النافق والعاصي سواء كان على ظهرها أو كان على .... ، ولذلك تبقى هذه الأرض لنا فنحن عليها في فترة وفيها لفترة أخرى وسنخرج منها في فترة ثالثة فدل ذلك على أن هذه الأعداد الهائلة من البشر لما تكون تحت أطباق الثرى هي ثُقل ولاشك ، ثُقل من ناحية أنها كأنها مؤتمنة عليه ستخرجه لله يوم القيامة والأمانة ثُقل من هذه الناحية ، ثُقل حسي أن هذه الأجساد أو العظام أو ما تبقى منها هي ثُقل على الأرض ، زيادة فيها ، أيضا أنه قد يكون من منظورنا هذا أن هذه الأجساد وما حملت والأرواح وما حملت من ذنوب هي ثُقل على هذه الأرض فإذا قلنا بهذا يمكن أن يكون المقصود بها إخراج الأجساد ويمكن أن يكون أيضا إخراج كل شيء ثقيل في داخل الأرض ، والله أعلم ستُخرج هذه الأرض كل شيء ثقيل فيها وإخراج الشيء الثقيل يدل من باب أولى على إخراج ما كان خفيفا وهذه دلالة الأولى . بالعادة أنه إذا تحطم شيء أو تكسر شيء الذي يتطاير
والذي يظهر والذي يمكن أن نراه هو الأشياء الخفيفة ، أما الأشياء الثقيلة في الغالب تسقط إلى الأسفل ولا تُرى فالله - عز وجل - يقول لا ، هذه الأرض ستُخرج أثقالها .
بما أنها أخرجت أثقل ما فيها أيا كان هذا الأثفل قد لا نستطيع أن نحدده بشيء معين هوكل شيء ثقيل فيها ستُخرجه إما من صخور أو من أشياء مصهورة أومن حديد أو من شيء ، الله أعلم ما نوع هذا الثقل الذي سيخرج لكن هناك أشياء ثقيلة وبما أن الأثقال هي التي ستخرج فمن باب أولى سيخرج الشيء الخفيف . وأضيفت الأثقال إلى الأرض إما لعظم الأثقال وضخامتها وكِبرها أو أنها أثقال خاصة بها أو أن يكون المقصود أن جميع الأثقال بمعنى أنه تكون إحاطة بإخراج جميع الأثقال التي في باطن الأرض ومن باب أولى أن تُخرج الشيء الخفيف .
إذا حصل هذان الأمران الزلزلة والإخراج لاشك أنه إذا حصل مثل هذا المنظر التحطم من جهة ، التزلزل من جهة ، الهزة العنيفة من جهة ، الإخراج من جهة أنا أظن أنه سيجتمع أمور رهيبة جدا ، إذا كنا نخشى من البراكين لأنها تُخرج مافي الأرض من حِمم وأمور ثقيلة وتنفثها وتطردها خارجا ، هذا أمر مروع ، والزلازل بالعادة تبتلع ، والذي سيحصل في هذا الحدث هو الجمع بين الأمرين المخوفين المروعين جميعا التحطم والتزلزل والإخراج ونفث هذه الأشياء ، هذا كله يدعو إلى أن ينظر الإنسان إلى هذا المنظر بذهول عظيم قال الله - عز وجل - فيه (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا) .
كان يمكن أن يوصف حال الإنسان وصفا فقط لكن الله - عز وجل - ما وصفه وصفا بل ذكر لنا ماذا سيقول وجاءت كلمة الإنسان لتعم كل فرد أي أن هذه المقولة هي مقولة كل إنسان ولذلك لم يقل الله - سبحانه وتعالى - وقال الناس حتى لا يُظن أنها مجموعات فقط التي ستقول هذا بل جاءت كلمة الإنسان ودخلت عليها "أل" الدالة للجنس بمعنى أن كل جنس الإنسان سيقول هذا الأمر لأنه أمر مخوف ، مروع ، فوق طاقة الإنسان فيقول (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا) فالله ذكر لنا ماذا سيقول ماالذي سيتفوه به .
لماذا الإنسان قال "مالها" ؟
الإنسان لا يسأل هذا السؤال ولا يقول هذه العبارة "ما لك" ، "ما الذي حصل" ؟ إلا إذا كان الحدث الذي حصل مُخالف للمتوقع أو حصل بطريقة غريبة خارجة عن النطاق المألوف عند ذلك يسأل : ماله ؟ فلما كان الحدث الذي يحصل خارجا عن مألوف الناس وعن منظورهم وعن متوقعهم وخارج عن تصور عقولهم قال الله - عز وجل - ذاكرا حال الإنسان الممثل لكل الناس قال الإنسان "ما لها" ؟
ما شأنها مالذي حدث لها حتى تحطمت كل هذا التحطم ، لماذا هي تقذف كل ما فيها ويسأل عن هذا " ما لها " .
هذا السؤال يوجب استشراف وتشوق للجواب مالها ؟ ما الذي حصل لها ؟ لماذا حصل منها هذا التغير وهذا القذف وغير ذلك ؟ فجاء الجواب الذي هو أصلا جواب الشرط (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) يقول الله - عز وجل - (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) .
كان المتوقع أن يُقال (وقال الإنسان مالها) فيكون الجواب: إنها تُحدث أخبارها حتى يكون فيه توافق بين السؤال والجواب إنما هنا ليس سؤالا يُراد منه جواب بل هو سؤال فقط يُراد منه التعجب والاستعظام .
ولذلك اختلف المفسرون هل الذي سيقول هذه المقولة هو المؤمن والكافر على حد سواء ؟ بمعنى أنه جنس الإنسان بغض النظر عن إيمانه وكفره ، أم أن الذي سيقول هذا الحدث هو الذي لا يؤمن أصلا بهذا الحدث ؟ اختلفوا على هذا الأمر :
/ بعضهم قال : المؤمن يعرف هذا ويؤمن به ولذلك حتى لو حدث الحدث لن يحدث له شيء ولن يتعاظم هذا الأمر والذي يقول هذا القول هو الكافر .
والذي يظهر - والله أعلم - أن الكلمة دالة على الصنفين وليست القضية هنا قضية إيمان أو كفر إنما القضية قضية استعظام للحدث وهذا قد يحصل للمؤمن وهو مؤمن بالله أنه لما يرى زلزال أو يرى شيء عظيم أمر عادي أن يتأثر بهذا ، لو رأى خسوفا أو كسوفا أو فيضانا أو بروق ورعود وغير ذلك فطبيعة الإنسان أن يتأثر بهذا فحمل الآية على عموم الإنسان - في نظري أولى من حملها على الكافر دون المؤمن لأنه لا يوجد شيء صريح يدل على ذلك .
/ (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا*يَوْمَئِذٍ) أي هذا الحدث الكبير (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) بعضهم ربط (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) بالزلزال نفسه وبالأثقال فجعل إخراج الأثقال ، إخراج الناس من بطنها هو تحديث بالأخبار، بمعنى تحديث بالفعل وليس بالكلام .
وبعضهم حملها على أنه تحديث بالقول كما نتحدث نحن الآن كما لو تسمع خبرا تُحدث به وبهذا قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - ، وفي نظري لا مانع من الأمرين وإن كنا دائما نقول أن الآيات التي وردت عن الله - سبحانه وتعالى - تدل على أن المخلوقات تتحدث أو تتكلم أو تقول (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا ) هنا نسبة واضحة للقول أن السماء والأرض تتكلم ، لا يأتي أحد ويقول لا ليس من المعقول أنها تتكلم ، فإذا سألناه لماذا غير معقول ؟ قال لأني لا أسمعها ولا قد رأينا أرض تتكلم ، ومن قال لك أصلا أن المطلوب أن تعلم حتى تؤمن بهذا ، أنت أصلا محكوم عليك بأنك لن تستطيع أن تعلم ذلك أصلا ، يقول الله - عز وجل - (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) دلالة واضحة على التعيين الشامل مافيه شيء في الكون إلا ويسبح بحمد الله ، ثم يقول الله - عز وجل - حتى لا نستعجب ولا نستعظم ولا نستغرب (وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) أنتم لاتدركون كيف تسبح هذه المخلوقات ، فدل ذلك على أن هناك أشياء كثيرة تحدث في الكون نحن لا ندركها على حقائقها فإذا قال الله ذلك نؤمن به ، نعم ستتكلم هذه الأرض وتُحدث بما فيها لا إشكال في ذلك ، ولذلك الطبري ذكر القولين واختار أيضا أن يكون إلقاؤها لما فيها من حِمم وأجساد وما فيها من موتى هو تحديث بالأخبار فلا مانع من أن يكون التحديث بالأخبار منها بشيء فعلي حادث ولا مانع أيضا أن يكون بمنطوق بمعنى أنها تتحدث ، لا مانع من ذلك فقدرة الله - عز وجل - فوق ذلك كله ، الله - عز وجل - مُستطيع أن يجعلها تتحدث ولذلك بعضهم قال (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) تُحدث أنباءها بمعنى أن المقصود أن هذا التحديث يحصل من الدلائل التي تُخرجها الأرض من بطنها فهي بذلك كأنها تحدثت عنها ووصفتها ، هذا الذين يقولون أن التحديث ليس المقصود أنها تتكلم ، ولكن حملها على أنها تتحدث كما أمر الله - سبحانه وتعالى - هذا أيضا مطلوب .
/ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) المتوقع أن يُقال تحدث بأخبارها أي تقول حدثت بالخبر أي تكلمت بالخبر لكن الله - عز وجل - قال (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) وقد يُتبادر للذهن أن معناها أن الأرض تُحدث الأخبار ، تتحدث مع الأخبار يعني ؟ كما أقول لك حدثت الناس أي أنني تحدثت معهم ، حدثتهم بشيء ، هل المقصود (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) بمعنى أنها تتحدث مع أخبارها ؟ لا ليس هذا المقصود إنما تحدث أخبارها ، الفعل "حدّث" يصلح أن ينتقل للكلمة التي بعدها بالباء فتقول : حدثت بكذا ولك أن تقول : حذّث الخبر بمعنى تكلم به ، سواء هذا أو هذا ولعل المقصود هنا كأنه قيل تنقل أو تنشر أو تُظهر أخبارها ، فحتى يتم هذا المعنى وهو قضية النشر والإظهار لم تدخل الباء لأن الباء تُشعر بالقُرب ، فدائما الباء تدل على الملابسة ، تدل على المقاربة ، تدل على المصاحبة ، تدل على القُرب ، فلما أُريد أن أخبار هذه الأرض ستشيع وتظهر وتبين ناسب هنا ألاّ تُذكر معها الباء حتى يكون انتشارها أعظم وأبعد من أن تلتصق بها .
/ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) أيضا نسبة الأخبار إليها أيضا دليل على أن هذه الأخبار هي الأهم والأعظم من جهة ، ومن جهة الشمولية أنه جميع الأخبار ، جميع ما يُمكن أن تُخبر به سيظهر لن يكون هناك أي خبر أو أي شيء مطلوب إظهاره لابد أن يظهر .
/ (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا*بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) الباء هنا قد تكون للمصاحبة وقد تكون للسببية ، حتى السببية عائدة إلى المصاحبة أي بسبب أن الله أوحى لها وهذا دليل على أنها في الدنيا ما فعلت ذلك إنما فعلت ذلك لما أراد الله لها أن تفعل فهذا دليل على أن هذا الكوكب العظيم ، هذا الجرم الكبير هو يمضي بمراد الله ، إذا أراد الله أن يُخرج أخرج ، إذا أراد الله أن يتكلم تكلم لذلك لما نُسب إليها حدث كبير إخراج ، تحدث ، قد يُتبادر إلى الذهن كل هذا يحدث من هذا الكوكب ؟ فحتى لا ينصرف التعظيم إلى الكوكب أو إلى الجرم ذكر الله - سبحانه وتعالى - أن هذا الأمر كله إلى الله ولن يحدث إلا بوحي من الله - سبحانه وتعالى - . / (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) ذكر الرب هنا للتدليل على الملكية فرب البيت أي مالكه ، رب الدار مالكها ، الحاكم فيها ، المسيطر فيها ، الآمر والناهي ...الخ لأن الموقف هنا موقف سيطرة ، موقف قوة ، موقف مُلك ، فحتى يُعلم أن هذا الجُرم العظيم الذي بغى فيه الناس وعملوا وتجبروا وأسسوا وفعلوا وحدث منه هذا الحدث هو كله تحت سيطرة قدرة الله - سبحانه وتعالى - وتحت ملك الله - عز وجل - لذلك ناسب ذكر الرب.
/ (أَوْحَى لَهَا) لماذا ذكر الوحي ولم يقل قال الله ؟ لماذا ذكر الوحي ؟ قد يكون فيه جانب اللطافة والخفاء هذا من جهة .
الأمر الثاني : عِظم التأثير ، مع أنه خفي ولطيف إلا أنه عظيم التأثير لأنه من الله - سبحانه وتعالى - رغم أنها في صورة وحي وليس أمر ولا قضاء ولا قول إنما في صورة وحي مع هذا حدث كل هذا الحدث ، وهو وإن كان وحيا أي خبرا لطيفا إلا أنك أنظر ما هو أثره على هذه الأرض العظيمة .
لماذا قال (أَوْحَى لَهَا) ولم يقل "أوحى إليها" ؟ لو كان قال "أوحى إليها" لكان قد يكون هذا الوحي ممتد وزمن طويل وأثره قد يتأخر لكن "لها" هذا دليل أولا على المقصد أن هذا الوحي وحي خاص بها لأن اللام تعني الاختصاص وتعني المُلك ، الملك هنا ماله وجود لأن هي لا تملك إنما الدلالة الأظهر هنا : أن هذا وحي خاص بها ، وكونها تُخصص بوحي من الله - سبحانه وتعالى - أيضا هذا دليل على عناية ربانية بهذا الحدث وبما يحصل لهذا الجرم العظيم .
والزلزلة إنما جاء الفعل "زلزل "، من قواعد اللغة أنه إذا تكررت الحروف في فعل أو في اسم أو في غير ذلك ، تكررت أكثر من مرة فأي تكرر ، أي تضعيف ، أي تكرير للحرف يعني تكرير للمعنى فحين أقول "صرّ" فليست كما أقول "صرصر" ، وحين أقول "زلّ" ليست كما أقول "زلزل" ولذلك بعض المفسرين ، بعض اللغويين رأى أن أصل الفعل "زلّ" ومأخوذ من زلل القدم فإن القدم تزِل أحينا أي تزلق عن مكانها فتذهب إلى مكان آخر فلما أُريد أن هذا الزلل يحدث أكثر من مرة بمعنى أن الشيء ، كل شيء على هذه الأرض سيكون في غير مكانه ناسب أن تُكرر الزاي وتُكرر اللام ، "دكّ" ليست مثل "دكدك" هذه شيء وهذه شيء ، "صفّ" ليست مثل "صفصف" هذه تدل على أن الفعل حدث مرة واحدة وهذه تدل على أن الفعل حدث أكثر من مرة ، فدلّ "زلزل" هنا على أن هذا الفعل وهو التحريك حدث أكثر من مرة ولاشك أنه حين يحدث أكثر من مرة ويتوالا يكون أعظم دمارا وأعظم تخويفا للناس . هذا ما يتعلق ببنية الكلمة . وقلنا لماذا الأرض ؟ لأن أعظم حدث ممكن أن يحصل عليها يُخيف الناس هو هذا الأمر .
ودليل على أن هذا الأمر مخوّف للغاية للبشر أنهم يخرجون بسببه من حالة العقل والوعي إلى حالة السُكر وعدم الوعي . ويدل لذلك أن الله تعالى يذكر لنا صورة حاصلة للناس يوم القيامة ، نحن لا نتصور كيف يكون الناس إذا تزلزلت الأرض ولكن إذا تزلزلت هذه الأرض وتحركت التحرك الذي نشرحه الآن ونتحدث عنه سيحصل للناس ذهول يخرجهم عن العقل الذي يعقلون به ويتصرفون من خلاله إلى حالة السُكر وعدم الوعي (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى) هم ليسوا بسكارى ، ليس هناك مُسكر شربوه حتى يكونوا سكارى وهذا يدل على أن تغطية عقل الإنسان ليس بالضرورة أن يكون سببها أنه شرب مُسكر ، قد يكون الحدث الذي أمام الإنسان من هوله يغطي عقل الإنسان أحيانا . هذا الحدث لن يغطي عقل شخص واحد حتى نقول واحد الذي تأثر ولا اثنين إنما هذا هو ديدن كل الناس الذين يعيشون ذلك الحدث (وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
/ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) تكرار كلمة الزلزلة مرة أخرى في صورة فعل مرة وفي صورة اسم مرة دليل على الاهتمام بحدث الزلزلة نفسه.
/ لماذا أضاف الله الزلزال للأرض فقال (زِلْزَالَهَا) ؟
هذا دليل على واحد من أمرين أو على الأمرين جميعا:
/ الأول : أن هذا الزلزال أعظم زلزال يحصل للأرض فيقول الله تعالى (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أي الأعظم ، زلزالها الأكبر ، زلزالها الذي لن يحدث لها مثله قط ولم يحدث لها مثله من قبل ، زلزالها الذي حين يُذكر يُنسب إليها . تقول : أكرمت فلان كرامته تعني كرامته اللائقة به التي لا تنصرف عند الذكر إلا إليه ، التي لم يحصل على مثلها من قبل فلا يُضاف الشيء إلى ضميره على هذه الصورة إلا إذا أريد أنها الخصيصة الخاصة لهذه الأرض أي هذه الزلزلة هي صورة خاصة لا تحدث لها إلا مرة واحدة ، هذا يدل على أن كل ما حدث من زلازل مهولة هي لا شيء في مقابل هذه الزلزلة العظيمة ، هذا من دلالات الإضافة .
/ من دلالات الإضافة أيضا التعميم ، فعندما يقول الله - سبحانه وتعالى - (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) يعني زلزالها الشامل لكل أجزائها ولو كان هذا الزلزال يصيب بعضها دون بعض لما ناسب أن يُقال (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) لو قال الله - سبحانه وتعالى - "إذا زلزلت الأرض زلزالا " كان يمكن أن يكون قد حدث هذا الزلزال في أعظم الأرض وفيه أجزاء ما صار فيها شيء لكن لما يقول (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) فهذا يعني شمول الزلزال لكل أجزائها فاتضح لنا من هذه الإضافة كلمة "زِلْزَالَهَا" دون أن يُقال إذا زلزلت الأرض زلزالا هكذا بدون إضافة دلالتين يمكن الأخذ بهما جميعا :
أولا : عِظم الزلزال وأنه لم يحدث للأرض مثله ولن يحدث لها بعده مثله .
الأمر الثاني : أنه يدل على شمول هذا التحريك العنيف لكل أجزاء الأرض .
/ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا*وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) ذِكر الإخراج ، فيه زلزلة والمُزلزل لها لم يُذكر لكن الإخراج نُسب إلى الأرض مباشرة ، الأرض هي التي تُخرج ، لا يُتحدث عن الإخراج إلا إذا كان الشيء المُخرج مُخفى لا يُرى وله ما يُحيط به ويحجبه فإذا أبعدنا عنه هذا الذي يحجبه نكون قد أخرجناه من داخل هذا الشيء الذي يحجبه فدل ذلك على أن الأشياء المُخرجه داخل الأرض هذه كانت محجوبة بالأرض نفسها ، طبعا لما يحدث في الأرض تشقق وزلزلة وخروج أشياء هو سيكون لاشك أنها ستنكسر هذه الحُجب وسيبين ما في داخل هذه الأرض ولذلك يقول الله (وَأَخْرَجَتِ) ونسب الإخراج إلى الأرض قد يكون فيها - والله أعلم - أنها في خلقها الدنيوي في الدنيا غير قادرة لأن الله لم يُمكّنها من ذلك ، غير قادرة على أن تُخرج كل ما في جوفها ، نعم الأرض بقدرة الله تُخرج بين الفينة والأخرى شيئا مما فيها ونرى ذلك في صورة زلازل وقد يخرج معها أحيانا أشياء من باطن الأرض وقد تصاحب الزلازل أحيانا براكين فتخرج من باطن الأرض أشياء عجيبة جدا وعظيمة جدا وهي تحمل دلالة الثُقل بما فيها من مكونات فقد لا تكون قادرة في الدنيا ، مرحلة الدنيا أن تُخرج كل ما فيها لذلك تبقى أثقالها ، لاحظ كلمة "أثقالها" أُضيفت إليها ، أثقالها الشاملة ، أثقالها العظمى ، نفس الدلالة التي قلناها في كلمة "زلزالها" لا تستطيع ذلك إلا إذا مكّنها الله يوم القيامة من ذلك ، بأمر الله سبحانه وتعالى يحدث فيها هذا التغيير الكبير الذي يُوجب أن يخرج كل شيء في بطنها ، من ضمن الأشياء الناس المقبورين فيها فيخرجون .
/ إذا (وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ) ذكر الأرض مرة أخرى مع أن المقتضى أنك إذا تحدثت عن شيء أنك لا تذكره مرة أخرى وإنما تُشير إليه بالضمير بمعنى أن يُقال : "إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها" دون أن يُقال وأخرجت الأرض لأنه معلوم أن الحديث عن الأرض . فما السر في ذكر الأرض مرة أخرى ؟
السر - والله أعلم - حتى تكون كل جملة من هاتين الجملتين قائمة برأسها فيكون هناك اهتمام بإظهار الزلزال للأرض واهتمام آخر بإظهار الإخراج أيضا للأرض حتى لا يُتوهم أن الزلزال حصل للأرض وأن الإخراج حصل من شيء آخر غير الأرض . الآن يُراد أن يُبيّن أن الزلزال حصل للأرض والإخراج حصل للأرض لأنه يا إخواني الكرام قد يتوهم متوهم أنه لما يسمع كلمة الزلزلة بالعادة إذا حصل زلزال يحصل تدمير فالأشياء تقع على بعضها فبدل أن يكون هناك إظهار للمخفي يحصل إخفاء للمُظهر ، الأشياء تُهدم بعضها على بعض فتذهب الأمور وتضيع لكن الله - عز وجل - يقول أن الذي سيحدث يوم القيامة شيء آخر لأن هذه الزلزلة مُقننة بقدرة الله فتحدث بطريقة تسمح إن كل ما في الأرض يخرج ويبين من ذلك جثث الناس وهذا ولاشك تقدير الله - سبحانه وتعالى - أن تخرج جثث الناس وإلا العادة أن جثث الناس تُدفن وتُغطى وتُستر بسبب الزلازل ، بعضهم يقول انتشلنا كم جثة والباقي لم نجد له أثر لكن الذي سيحصل يوم القيامة أن هذا الزلزال بأمر الله ، بتقدير الله ، سيكون بتقنين معين وبتقدير معين يتسبب في كشف كل مافي بطن هذه الأرض من أثقال . / ماهي الأثقال التي في الأرض ؟ اختلف المفسرون في هذا :
/ بعضهم قال : " الأثقال هي الكنوز المدفونة سواء التي دفنها البشر أو التي هي بطبيعتها موجودة في الأرض من مكونات الأرض تظهر يوم القيامة " وأخذوا ذلك من أن الأثقال جمع "ثَقَل" والـ"الثَقَل" - بالتحريك - هو المال النفيس فقالوا إذا الأشياء النفيسة هي هذه الأموال والجواهر والذهب فيوم القيامة تُخرجها ، ولكن الذي ورد أن الأرض هذه في آخر الزمان تقذف ما في بطنها من الذهب ، من هذه الأشياء التي يحبها الناس ويسعون إليها فيخرج الذهب أمثال الاسطوان في آخر مراحل الدنيا ، لذلك قالوا مرحلة إخراج الذهب أو الأموال أو ما شابه ذلك من النفائس لا يكون في هذه الزلزلة إنما يكون في آخر الدنيا فيمر الناس عليه والقيامة لم تقم بعد ، يمر الناس عليه وقد قذفت الأرض كل ما فيها ، خرج كل ما فيها فلا ينتبهون إليه من كثرته فيقول القاتل : في هذا قتلت ، ويقول القاطع في هذا قطعت ولا أحد يأخذ منه شيئا من كثرته فدل هذا على أن خروج هذه الأشياء لا يكون بعد الزلزلة إنما يكون بعدها .
بقي معنا شيء آخر : مالذي يمكن أن يكون يخرج ذاك اليوم ؟ قال : ممكن يخرج جثث الناس بحكم أن السياق كله من أجل بيان البعث وأن هذه الأرض هي التي أخفت أجساد الناس وبعد ذلك ستُخرج مافي بطنها ولعل أهم ما فيها هو أجساد هؤلاء الناس . ولاشك أن قبر هؤلاء البشر على توالي السنين يعتبر من الثقل الذي في بطنها سواء من الناحية الحسية حتى لو تلاشى هو يبقى شيء من مكونات هذه الأرض أو من الناحية المعنوية فإن المقبورين في هذه الأرض هم ثُقل عليها ولذلك من أثقل ما يكون على الأرض هو الكافر أو النافق والعاصي سواء كان على ظهرها أو كان على .... ، ولذلك تبقى هذه الأرض لنا فنحن عليها في فترة وفيها لفترة أخرى وسنخرج منها في فترة ثالثة فدل ذلك على أن هذه الأعداد الهائلة من البشر لما تكون تحت أطباق الثرى هي ثُقل ولاشك ، ثُقل من ناحية أنها كأنها مؤتمنة عليه ستخرجه لله يوم القيامة والأمانة ثُقل من هذه الناحية ، ثُقل حسي أن هذه الأجساد أو العظام أو ما تبقى منها هي ثُقل على الأرض ، زيادة فيها ، أيضا أنه قد يكون من منظورنا هذا أن هذه الأجساد وما حملت والأرواح وما حملت من ذنوب هي ثُقل على هذه الأرض فإذا قلنا بهذا يمكن أن يكون المقصود بها إخراج الأجساد ويمكن أن يكون أيضا إخراج كل شيء ثقيل في داخل الأرض ، والله أعلم ستُخرج هذه الأرض كل شيء ثقيل فيها وإخراج الشيء الثقيل يدل من باب أولى على إخراج ما كان خفيفا وهذه دلالة الأولى . بالعادة أنه إذا تحطم شيء أو تكسر شيء الذي يتطاير
والذي يظهر والذي يمكن أن نراه هو الأشياء الخفيفة ، أما الأشياء الثقيلة في الغالب تسقط إلى الأسفل ولا تُرى فالله - عز وجل - يقول لا ، هذه الأرض ستُخرج أثقالها .
بما أنها أخرجت أثقل ما فيها أيا كان هذا الأثفل قد لا نستطيع أن نحدده بشيء معين هوكل شيء ثقيل فيها ستُخرجه إما من صخور أو من أشياء مصهورة أومن حديد أو من شيء ، الله أعلم ما نوع هذا الثقل الذي سيخرج لكن هناك أشياء ثقيلة وبما أن الأثقال هي التي ستخرج فمن باب أولى سيخرج الشيء الخفيف . وأضيفت الأثقال إلى الأرض إما لعظم الأثقال وضخامتها وكِبرها أو أنها أثقال خاصة بها أو أن يكون المقصود أن جميع الأثقال بمعنى أنه تكون إحاطة بإخراج جميع الأثقال التي في باطن الأرض ومن باب أولى أن تُخرج الشيء الخفيف .
إذا حصل هذان الأمران الزلزلة والإخراج لاشك أنه إذا حصل مثل هذا المنظر التحطم من جهة ، التزلزل من جهة ، الهزة العنيفة من جهة ، الإخراج من جهة أنا أظن أنه سيجتمع أمور رهيبة جدا ، إذا كنا نخشى من البراكين لأنها تُخرج مافي الأرض من حِمم وأمور ثقيلة وتنفثها وتطردها خارجا ، هذا أمر مروع ، والزلازل بالعادة تبتلع ، والذي سيحصل في هذا الحدث هو الجمع بين الأمرين المخوفين المروعين جميعا التحطم والتزلزل والإخراج ونفث هذه الأشياء ، هذا كله يدعو إلى أن ينظر الإنسان إلى هذا المنظر بذهول عظيم قال الله - عز وجل - فيه (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا) .
كان يمكن أن يوصف حال الإنسان وصفا فقط لكن الله - عز وجل - ما وصفه وصفا بل ذكر لنا ماذا سيقول وجاءت كلمة الإنسان لتعم كل فرد أي أن هذه المقولة هي مقولة كل إنسان ولذلك لم يقل الله - سبحانه وتعالى - وقال الناس حتى لا يُظن أنها مجموعات فقط التي ستقول هذا بل جاءت كلمة الإنسان ودخلت عليها "أل" الدالة للجنس بمعنى أن كل جنس الإنسان سيقول هذا الأمر لأنه أمر مخوف ، مروع ، فوق طاقة الإنسان فيقول (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا) فالله ذكر لنا ماذا سيقول ماالذي سيتفوه به .
لماذا الإنسان قال "مالها" ؟
الإنسان لا يسأل هذا السؤال ولا يقول هذه العبارة "ما لك" ، "ما الذي حصل" ؟ إلا إذا كان الحدث الذي حصل مُخالف للمتوقع أو حصل بطريقة غريبة خارجة عن النطاق المألوف عند ذلك يسأل : ماله ؟ فلما كان الحدث الذي يحصل خارجا عن مألوف الناس وعن منظورهم وعن متوقعهم وخارج عن تصور عقولهم قال الله - عز وجل - ذاكرا حال الإنسان الممثل لكل الناس قال الإنسان "ما لها" ؟
ما شأنها مالذي حدث لها حتى تحطمت كل هذا التحطم ، لماذا هي تقذف كل ما فيها ويسأل عن هذا " ما لها " .
هذا السؤال يوجب استشراف وتشوق للجواب مالها ؟ ما الذي حصل لها ؟ لماذا حصل منها هذا التغير وهذا القذف وغير ذلك ؟ فجاء الجواب الذي هو أصلا جواب الشرط (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) يقول الله - عز وجل - (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) .
كان المتوقع أن يُقال (وقال الإنسان مالها) فيكون الجواب: إنها تُحدث أخبارها حتى يكون فيه توافق بين السؤال والجواب إنما هنا ليس سؤالا يُراد منه جواب بل هو سؤال فقط يُراد منه التعجب والاستعظام .
ولذلك اختلف المفسرون هل الذي سيقول هذه المقولة هو المؤمن والكافر على حد سواء ؟ بمعنى أنه جنس الإنسان بغض النظر عن إيمانه وكفره ، أم أن الذي سيقول هذا الحدث هو الذي لا يؤمن أصلا بهذا الحدث ؟ اختلفوا على هذا الأمر :
/ بعضهم قال : المؤمن يعرف هذا ويؤمن به ولذلك حتى لو حدث الحدث لن يحدث له شيء ولن يتعاظم هذا الأمر والذي يقول هذا القول هو الكافر .
والذي يظهر - والله أعلم - أن الكلمة دالة على الصنفين وليست القضية هنا قضية إيمان أو كفر إنما القضية قضية استعظام للحدث وهذا قد يحصل للمؤمن وهو مؤمن بالله أنه لما يرى زلزال أو يرى شيء عظيم أمر عادي أن يتأثر بهذا ، لو رأى خسوفا أو كسوفا أو فيضانا أو بروق ورعود وغير ذلك فطبيعة الإنسان أن يتأثر بهذا فحمل الآية على عموم الإنسان - في نظري أولى من حملها على الكافر دون المؤمن لأنه لا يوجد شيء صريح يدل على ذلك .
/ (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا*يَوْمَئِذٍ) أي هذا الحدث الكبير (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) بعضهم ربط (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) بالزلزال نفسه وبالأثقال فجعل إخراج الأثقال ، إخراج الناس من بطنها هو تحديث بالأخبار، بمعنى تحديث بالفعل وليس بالكلام .
وبعضهم حملها على أنه تحديث بالقول كما نتحدث نحن الآن كما لو تسمع خبرا تُحدث به وبهذا قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - ، وفي نظري لا مانع من الأمرين وإن كنا دائما نقول أن الآيات التي وردت عن الله - سبحانه وتعالى - تدل على أن المخلوقات تتحدث أو تتكلم أو تقول (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا ) هنا نسبة واضحة للقول أن السماء والأرض تتكلم ، لا يأتي أحد ويقول لا ليس من المعقول أنها تتكلم ، فإذا سألناه لماذا غير معقول ؟ قال لأني لا أسمعها ولا قد رأينا أرض تتكلم ، ومن قال لك أصلا أن المطلوب أن تعلم حتى تؤمن بهذا ، أنت أصلا محكوم عليك بأنك لن تستطيع أن تعلم ذلك أصلا ، يقول الله - عز وجل - (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) دلالة واضحة على التعيين الشامل مافيه شيء في الكون إلا ويسبح بحمد الله ، ثم يقول الله - عز وجل - حتى لا نستعجب ولا نستعظم ولا نستغرب (وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) أنتم لاتدركون كيف تسبح هذه المخلوقات ، فدل ذلك على أن هناك أشياء كثيرة تحدث في الكون نحن لا ندركها على حقائقها فإذا قال الله ذلك نؤمن به ، نعم ستتكلم هذه الأرض وتُحدث بما فيها لا إشكال في ذلك ، ولذلك الطبري ذكر القولين واختار أيضا أن يكون إلقاؤها لما فيها من حِمم وأجساد وما فيها من موتى هو تحديث بالأخبار فلا مانع من أن يكون التحديث بالأخبار منها بشيء فعلي حادث ولا مانع أيضا أن يكون بمنطوق بمعنى أنها تتحدث ، لا مانع من ذلك فقدرة الله - عز وجل - فوق ذلك كله ، الله - عز وجل - مُستطيع أن يجعلها تتحدث ولذلك بعضهم قال (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) تُحدث أنباءها بمعنى أن المقصود أن هذا التحديث يحصل من الدلائل التي تُخرجها الأرض من بطنها فهي بذلك كأنها تحدثت عنها ووصفتها ، هذا الذين يقولون أن التحديث ليس المقصود أنها تتكلم ، ولكن حملها على أنها تتحدث كما أمر الله - سبحانه وتعالى - هذا أيضا مطلوب .
/ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) المتوقع أن يُقال تحدث بأخبارها أي تقول حدثت بالخبر أي تكلمت بالخبر لكن الله - عز وجل - قال (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) وقد يُتبادر للذهن أن معناها أن الأرض تُحدث الأخبار ، تتحدث مع الأخبار يعني ؟ كما أقول لك حدثت الناس أي أنني تحدثت معهم ، حدثتهم بشيء ، هل المقصود (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) بمعنى أنها تتحدث مع أخبارها ؟ لا ليس هذا المقصود إنما تحدث أخبارها ، الفعل "حدّث" يصلح أن ينتقل للكلمة التي بعدها بالباء فتقول : حدثت بكذا ولك أن تقول : حذّث الخبر بمعنى تكلم به ، سواء هذا أو هذا ولعل المقصود هنا كأنه قيل تنقل أو تنشر أو تُظهر أخبارها ، فحتى يتم هذا المعنى وهو قضية النشر والإظهار لم تدخل الباء لأن الباء تُشعر بالقُرب ، فدائما الباء تدل على الملابسة ، تدل على المقاربة ، تدل على المصاحبة ، تدل على القُرب ، فلما أُريد أن أخبار هذه الأرض ستشيع وتظهر وتبين ناسب هنا ألاّ تُذكر معها الباء حتى يكون انتشارها أعظم وأبعد من أن تلتصق بها .
/ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) أيضا نسبة الأخبار إليها أيضا دليل على أن هذه الأخبار هي الأهم والأعظم من جهة ، ومن جهة الشمولية أنه جميع الأخبار ، جميع ما يُمكن أن تُخبر به سيظهر لن يكون هناك أي خبر أو أي شيء مطلوب إظهاره لابد أن يظهر .
/ (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا*بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) الباء هنا قد تكون للمصاحبة وقد تكون للسببية ، حتى السببية عائدة إلى المصاحبة أي بسبب أن الله أوحى لها وهذا دليل على أنها في الدنيا ما فعلت ذلك إنما فعلت ذلك لما أراد الله لها أن تفعل فهذا دليل على أن هذا الكوكب العظيم ، هذا الجرم الكبير هو يمضي بمراد الله ، إذا أراد الله أن يُخرج أخرج ، إذا أراد الله أن يتكلم تكلم لذلك لما نُسب إليها حدث كبير إخراج ، تحدث ، قد يُتبادر إلى الذهن كل هذا يحدث من هذا الكوكب ؟ فحتى لا ينصرف التعظيم إلى الكوكب أو إلى الجرم ذكر الله - سبحانه وتعالى - أن هذا الأمر كله إلى الله ولن يحدث إلا بوحي من الله - سبحانه وتعالى - . / (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) ذكر الرب هنا للتدليل على الملكية فرب البيت أي مالكه ، رب الدار مالكها ، الحاكم فيها ، المسيطر فيها ، الآمر والناهي ...الخ لأن الموقف هنا موقف سيطرة ، موقف قوة ، موقف مُلك ، فحتى يُعلم أن هذا الجُرم العظيم الذي بغى فيه الناس وعملوا وتجبروا وأسسوا وفعلوا وحدث منه هذا الحدث هو كله تحت سيطرة قدرة الله - سبحانه وتعالى - وتحت ملك الله - عز وجل - لذلك ناسب ذكر الرب.
/ (أَوْحَى لَهَا) لماذا ذكر الوحي ولم يقل قال الله ؟ لماذا ذكر الوحي ؟ قد يكون فيه جانب اللطافة والخفاء هذا من جهة .
الأمر الثاني : عِظم التأثير ، مع أنه خفي ولطيف إلا أنه عظيم التأثير لأنه من الله - سبحانه وتعالى - رغم أنها في صورة وحي وليس أمر ولا قضاء ولا قول إنما في صورة وحي مع هذا حدث كل هذا الحدث ، وهو وإن كان وحيا أي خبرا لطيفا إلا أنك أنظر ما هو أثره على هذه الأرض العظيمة .
لماذا قال (أَوْحَى لَهَا) ولم يقل "أوحى إليها" ؟ لو كان قال "أوحى إليها" لكان قد يكون هذا الوحي ممتد وزمن طويل وأثره قد يتأخر لكن "لها" هذا دليل أولا على المقصد أن هذا الوحي وحي خاص بها لأن اللام تعني الاختصاص وتعني المُلك ، الملك هنا ماله وجود لأن هي لا تملك إنما الدلالة الأظهر هنا : أن هذا وحي خاص بها ، وكونها تُخصص بوحي من الله - سبحانه وتعالى - أيضا هذا دليل على عناية ربانية بهذا الحدث وبما يحصل لهذا الجرم العظيم .
تكرار "يومئذ" فيها دليل على أن كل ما ذُكر من قضية الزلزلة والإخرج والثُقل ...الخ ، كل هذا الوصف العظيم المخيف ليس المقصود منه هو الوصف نفسه ، إنما المقصود منه تعظيم ذلك اليوم . دائما تُذكر الأحداث لأجل شيء يحصل فيها ، لأجل زمن تحصل فيه ، فيقول الله - عز وجل - مرة أخرى "يومئذ" أي هذا اليوم الذي سمعتم عنه وتُحدث فيه الأرض أخبارها ويحصل فيه هذا الزلزال العظيم هو نفسه (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) ، هؤلاء الناس الذين قذفتهم الأرض سيحيون بقدرة الله - سبحانه وتعالى - ، يُبعثون ويصدرون ، والصدور هو : العودة من مكان فيه تجمع مثل الماء ، الماء يعتبر مصدر، مكان صدور من جهة ومكان ورود من جهة ، إذا كان الإنسان متجه إليه فهو ورود ، إذا كان ذهب من عنده فهو مكان صدور . فلما كانت هذه الأرض هي مكان تجمعهم في الأصل عُبّر عن خروجهم منها بالصدور لأن هذا مكانهم فهم في الأصل كانوا أحياء على ظهرها ثم بعد ذلك ذهبوا إلى مكان فوردوه وهو بطنها ، بعد ذلك سيخرجون ، خروجهم منها صدور .
/ (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) هنا ذكر الناس ولم يذكر الإنسان ، سابقا (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا)!؟
الحدث الأول حدث كبير ، حدث خطير، بالعادة عندما يحدث حدث كبير وعظيم يكون الاندهاش فردي ، بمعنى أنا لا أنظر إلى زميلي وإلى صاحبي إذا اندهش اندهش مثله ، لا ، الحدث من قوة تأثيره يؤثر تأثيرا خاصا في كل إنسان بنفس الحجم الموجود عند الناس كلهم ولهذا ناسب أن يُذكر الإفراد حتى نعلم قدر التأثير في كل إنسان .
أما (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) فالإفراد هنا لا يُناسب الموقف أبدا لأنه لا يمكن أن يكون السياق يومئذ يصدر الإنسان أشتاتا لأن الموقف موقف تصوير جماعي ، ولأن الموقف موقف تفرق ، موقف التفرق هنا يتناسب معه ذكر الحالة التي يمكن أن تُجمل الناس .
والناس يوم القيامة على فريقين رئيسين ، كبيرين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، فريق مؤمن وفريق كافر، لا يوجد فريق ثالث كما يقول المعتزلة منزلة بين المنزلتين حتى في النار ، لا ، هو إما في الجنة أو في النار ولا يوجد مكان ثالث والآيات والأدلة واضحة في هذا .
فالناس يصدرون أشتاتا ، الشتيت هو دلالة على التفرق ، شتى : بعُد ، بعُد هذا في جهة وهذا في جهة فأشتات معناه أنهم يتفرقون . قد يكون أنهم يتفرقون في أعمالهم بمعنى مؤمن وكافر، أو قد يكون يتفرقون من تجمعهم هذا فكل يذهب من هول الموقف في جهة ، أو تكون على أصنافهم وأشكالهم فهؤلاء سود الوجوه ، وهؤلاء بيض الوجوه ، هؤلاء يُعطون بالأيمان وهؤلاء يُعطون بالشمال ، الله أعلم ، المهم أنهم سيتفرقون من مصدرهم هذا ، من مكان تجمعهم أشتاتا متفرقين .
/ (لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أي ليُريهم غيرهم أعمالهم ، إذا الأعمال تُعرض عليهم ، هم لا يرونها بمحضهم إنما يُرون هذه الأعمال ولذلك اختلفوا في الأعمال هل نفسها توزن ليراها الإنسان ، يرى الحسنات والسيئات في الميزان ؟ نعم ثبت إن فيه ميزان وتوضع فيه كفتان وتُوضع فيه الأعمال ولذلك قالوا : إما أن توزن الأعمال نفسها مثل ...
(لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) ، يرى عمله الإنسان من خير أو شر (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)..الخ ، أو يُوزن صاحب العمل نفسه - العامل نفسه - وهذا استدلوا عليه بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - لما كان في يوم من الأيام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت ريح ، وكان هو نحيف جدا حتى يقولون طوله عدة أشبار - قصير ونحيل القدمين - فلما هبت العاصفة كفأته - أسقطته من خفة جسده - فضحك الناس من هذا المنظر فقال - صلى الله عليه وسلم - : مِمّ تَضْحَكون؟ قالوا: من دِقّةِ ساقه، فقال: (هي أثقل في الميزان من أُحُد) لأنه هو يوزن ، هذا دليل .
وقيل : بل الأعمال تُشكل في صور وتُوزن هذه الصور وهذه ورد عليها الموت وهو أمر معنوي لا يُرى ولا يُمس ولا يُحس ولكن الله - عز وجل - يجعله على شكل كبش ويُذبح بين الجنة والنار. على كل حال الآية التي معنا واضحة الدلالة على أن التي تُوزن الأعمال والتي يراها الناس الأعمال . المعتزلة لا يرون أن الإنسان يرى عمله ولكن الصحيح أنه يرى عمله ، وأيضا ورد في حديث الصحيفة أصحاب السجلات الذي يأتي بسجلات مد البصر تُوزن ثم توزن مقابلها لا إله إلا الله فترجح بهن لا إله إلا الله ، هذا وزن أيضا للأعمال لكن هذا وزن لكتاب الأعمال فكل هذه دلائل على أن هذه الأشياء كلها تُوزن فنؤمن بها بأدلتها التي وردت كما جاء عن الله - عز وجل - وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
/ ( لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) فهم يروا أعمالهم ، لماذا يروا أعمالهم ؟
هذا من فضل الله وعدله وإلا لو أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يدخلهم جنة أو يدخلهم نار لأدخلهم ولكنه من عدله - سبحانه - يريهم أعمالهم ويسألهم عنها ويحاسبهم عليها ويُريهم نتائجهم إما إلى جنة وإما إلى نار ويعطيهم وثائقهم التي ينجون بها أو يهلكون بها بالكتب ، كل هذا صور عدل وهذا ما لا يعمل به - ولله المثل الأعلى - كثير من الخلق ، أحيانا كثير من الناس لا يأخذون حقوقهم ولا يُحكم بينهم بالعدل ولذلك يُستحسن بالإنسان أنه يُبين للإنسان عندما يُحكم عليه فيُعطى أكثر من غيره أو غير ذلك كيف تمّ هذا ، فهذا يرى عمله ويقتنع به .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) عندما يُروا أعمالهم قد يتبادر للذهن أنهم سيرون الأعمال العظيمة ، الأشياء الكبيرة لأن هذا الذي يأتي في العين وهو الذي يملأ العين وهو الذي يتبادر للذهن ، لكن لا يتبادر للذهن أنه سيكون الاهتمام بالأشياء الصغيرة ، وقد ورد هذا في آيات أخرى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً) ذكر أولا الصغيرة ثم ذكر الكبيرة (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) مع أن المقتضى ، المعرفة العادية عند الناس يبدأ بالكبيرة وبعد ذلك يذكر الصغيرة لأن الكبيرة أعلى وأهم ....الخ ولكن بُدء بالصغيرة للتدليل على أنه إذا كانت العناية بالصغيرة بهذا الحجم فمن باب أولى سيكون العناية بالكبيرة .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) هؤلاء الذين سيرون أعمالهم يتساءلون: رأينا أعمالنا ، ماالذي سيحصل ؟ وقد نتساءل نحن في الدنيا ماالذي سيحصل ؟
الذي سيحصل الآتي : (فَمَن يَعْمَلْ) وإن كان المقتضى أن يُقال فمن عمل لأن الحديث عن أمر مستقبلي ،وهذا الأمر وإن كان مستقبلي لكن الكلمة نفسها (فَمَن يَعْمَلْ) تحديث عن أمر سبق لأن الكلام سيكون يوم القيامة ، هذه الأحداث ستكون يوم القيامة فيكون الكلام " فمن عمل " حتى يتناسب أن هذا الكلام يوم القيامة قيل عن أمر في الدنيا "فمن عمل" ولكن من أجل شحذ الهمم للعمل جُعل الحديث في المستقبل وكأنه ما زالت الفرصة سانحة لك يا من تستمع لهذه الآية وسمعت الأحداث الكبيرة واتعظت بها ترى "من يعمل" إذا مازال الأمر مفتوح لك اعمل من الآن .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) جاءت هذه في صورة الشرط والجواب ، والشرط والجواب من أعظم الأساليب لربط الشيء بالشيء ، ربط الجواب بالشرط ، من يعمل يحصل على كذا ، من يذاكر ينجح ، فإذا أردت ترتب شيئين أحدهما على بعض تستخدم الشرط حتى يكون ذلك أقوى في ربط هذا بهذا، أنت الآن آمنت أنك سترى عملك ، ورؤية العمل ليست سارّة دائما ، أحيانا بعضهم يقول أتمنى أني لا أرى عملي ، أنا أخاف أن يراه الناس ، أنا ما أريد أن أراه أنا نفسي فما بالك إذا كانت الفضيحة أمام الخلائق أجمعين ، فليس كل شيء يراه الإنسان يحب أن يراه ، لا ، فالإنسان يرى يوم القيامة عمله ، فإذا أردت أن يكون عملك الذي تراه خيرا اعمل خيرا سترى خيرا .
/ يقول الله - عز وجل - (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ) والمثقال هو : الثُقل وهو نوع من أنواع الوزن ، والوزن دائما يستخدم فيه شيء ثقيل حتى يُوزن به فيوضع هذا في شيء وهذا في شيء ومازالت فكرة الثقل هي الميزان حتى في الموازين الحديثة وغير ذلك ، يبقى ثُقل الشيء قد يكون هو الجاذب أو يكون هذا الثقل يسحب الشيء الثاني إلى الأسفل ، كل أفكار الموازين مبنية على الثقل .
/ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الذرة لو أتيت بها ووضعتها في الميزان يمكن الموازين الحساسة جدا جدا الآن لا تبين لك شيء ، أساسا كيف يمكنك أن تحصل على هباءة ، ولو أتيتك بها واستطعت الإمساك بها ووضعتها على مقياس من المقاييس ، ولعل أحسن مقياس الآن الذهب ، فلو وضعتها فيه ما شعر بها أصلا ولن يظهر لك أي نتيجة ومع هذا سيكون الإحصاء يوم القيامة أدق من هذا الذي نحن لا نشعر به ، سيكون العمل وإن كان مثقال ذرة .
فإذا كان يا أخي ذلك كذلك فما أكثر الأعمال لن أقول الصغيرة التي هي أمثال الذر ، لكن الأعمال الظاهرة التي نتركها ، فنحن نفرط يوميا بأعمال كثيرة جدا جدا ، تفوت علينا وقد نمارس مقابلها أعمال سيئة لا نلقي لها بالا ، يوميا ، وقد يكون سببها اللسان أحيانا أو الأخلاق والسلوكيات ، ونحن نستطيع أن نفعل فمثلا وأنت ذاهب لعملك تستطيع أن تسبح وتهلل وتسلم على آدمي ، تستطيع أن ترى شيئا في ملكوت الله فتعظم الله - سبحانه وتعالى - ...الخ ولو ظللنا نعدد لوجدنا عشرات عشرات ، عشرات الفرص لزيادة العمل ، والعجيب أنه كلما زدت عمل الخير وإن كان مثقال ذرة هو في الحقيقة كسب من جهة أخرى لأنه ستقل عندك المساحة التي يمكن أن يكون فيها شر ، هذه طبيعة الإنسان إذا لم يشغل حواسه من يدين وأذنين وعينين بطاعة الله أو بشيء نافع فسينشغل تلقائيا إما بشيء لا فائدة منه أو بشيء يضره ، فأكثِر ولا يكون عندك توقف عند شيء ، فلنجعل من اليوم مقياس الذرة لنا فنبحث عن الأعمال الدقيقة ومن باب أولى نفعل الأشياء الأكبر من هذا .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) تقديم الخير على الشر الذي بعده هذا لأن سياق الآية سياق ترغيبي والمراد هو شحذ الهمة لعمل الخير ، وأيضا لأن الخير أفضل من الشر ، لاشك أن الخير أفضل وأعظم منزلة ، والشر أسوأ ، فالمطلوب هو تقديم هذا الأمر الخيري والحفز له ليعمل به الناس ، والعكس (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
مجيء الآيتين على نمط واحد في ترتيب الكلمات وفي نظمها ، نعم تغير في بعض الكلمات " خير ، شر " دليل على التباين الضخم بينهما لأن السياق واحد ، ترتيب الكلمات واحد ، فدليل على عِظم التباين بينهما ومن باب أولى تباين العامل بهما .
/ (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) هنا ذكر الناس ولم يذكر الإنسان ، سابقا (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا)!؟
الحدث الأول حدث كبير ، حدث خطير، بالعادة عندما يحدث حدث كبير وعظيم يكون الاندهاش فردي ، بمعنى أنا لا أنظر إلى زميلي وإلى صاحبي إذا اندهش اندهش مثله ، لا ، الحدث من قوة تأثيره يؤثر تأثيرا خاصا في كل إنسان بنفس الحجم الموجود عند الناس كلهم ولهذا ناسب أن يُذكر الإفراد حتى نعلم قدر التأثير في كل إنسان .
أما (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) فالإفراد هنا لا يُناسب الموقف أبدا لأنه لا يمكن أن يكون السياق يومئذ يصدر الإنسان أشتاتا لأن الموقف موقف تصوير جماعي ، ولأن الموقف موقف تفرق ، موقف التفرق هنا يتناسب معه ذكر الحالة التي يمكن أن تُجمل الناس .
والناس يوم القيامة على فريقين رئيسين ، كبيرين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، فريق مؤمن وفريق كافر، لا يوجد فريق ثالث كما يقول المعتزلة منزلة بين المنزلتين حتى في النار ، لا ، هو إما في الجنة أو في النار ولا يوجد مكان ثالث والآيات والأدلة واضحة في هذا .
فالناس يصدرون أشتاتا ، الشتيت هو دلالة على التفرق ، شتى : بعُد ، بعُد هذا في جهة وهذا في جهة فأشتات معناه أنهم يتفرقون . قد يكون أنهم يتفرقون في أعمالهم بمعنى مؤمن وكافر، أو قد يكون يتفرقون من تجمعهم هذا فكل يذهب من هول الموقف في جهة ، أو تكون على أصنافهم وأشكالهم فهؤلاء سود الوجوه ، وهؤلاء بيض الوجوه ، هؤلاء يُعطون بالأيمان وهؤلاء يُعطون بالشمال ، الله أعلم ، المهم أنهم سيتفرقون من مصدرهم هذا ، من مكان تجمعهم أشتاتا متفرقين .
/ (لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أي ليُريهم غيرهم أعمالهم ، إذا الأعمال تُعرض عليهم ، هم لا يرونها بمحضهم إنما يُرون هذه الأعمال ولذلك اختلفوا في الأعمال هل نفسها توزن ليراها الإنسان ، يرى الحسنات والسيئات في الميزان ؟ نعم ثبت إن فيه ميزان وتوضع فيه كفتان وتُوضع فيه الأعمال ولذلك قالوا : إما أن توزن الأعمال نفسها مثل ...
(لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) ، يرى عمله الإنسان من خير أو شر (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)..الخ ، أو يُوزن صاحب العمل نفسه - العامل نفسه - وهذا استدلوا عليه بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - لما كان في يوم من الأيام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت ريح ، وكان هو نحيف جدا حتى يقولون طوله عدة أشبار - قصير ونحيل القدمين - فلما هبت العاصفة كفأته - أسقطته من خفة جسده - فضحك الناس من هذا المنظر فقال - صلى الله عليه وسلم - : مِمّ تَضْحَكون؟ قالوا: من دِقّةِ ساقه، فقال: (هي أثقل في الميزان من أُحُد) لأنه هو يوزن ، هذا دليل .
وقيل : بل الأعمال تُشكل في صور وتُوزن هذه الصور وهذه ورد عليها الموت وهو أمر معنوي لا يُرى ولا يُمس ولا يُحس ولكن الله - عز وجل - يجعله على شكل كبش ويُذبح بين الجنة والنار. على كل حال الآية التي معنا واضحة الدلالة على أن التي تُوزن الأعمال والتي يراها الناس الأعمال . المعتزلة لا يرون أن الإنسان يرى عمله ولكن الصحيح أنه يرى عمله ، وأيضا ورد في حديث الصحيفة أصحاب السجلات الذي يأتي بسجلات مد البصر تُوزن ثم توزن مقابلها لا إله إلا الله فترجح بهن لا إله إلا الله ، هذا وزن أيضا للأعمال لكن هذا وزن لكتاب الأعمال فكل هذه دلائل على أن هذه الأشياء كلها تُوزن فنؤمن بها بأدلتها التي وردت كما جاء عن الله - عز وجل - وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
/ ( لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) فهم يروا أعمالهم ، لماذا يروا أعمالهم ؟
هذا من فضل الله وعدله وإلا لو أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يدخلهم جنة أو يدخلهم نار لأدخلهم ولكنه من عدله - سبحانه - يريهم أعمالهم ويسألهم عنها ويحاسبهم عليها ويُريهم نتائجهم إما إلى جنة وإما إلى نار ويعطيهم وثائقهم التي ينجون بها أو يهلكون بها بالكتب ، كل هذا صور عدل وهذا ما لا يعمل به - ولله المثل الأعلى - كثير من الخلق ، أحيانا كثير من الناس لا يأخذون حقوقهم ولا يُحكم بينهم بالعدل ولذلك يُستحسن بالإنسان أنه يُبين للإنسان عندما يُحكم عليه فيُعطى أكثر من غيره أو غير ذلك كيف تمّ هذا ، فهذا يرى عمله ويقتنع به .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) عندما يُروا أعمالهم قد يتبادر للذهن أنهم سيرون الأعمال العظيمة ، الأشياء الكبيرة لأن هذا الذي يأتي في العين وهو الذي يملأ العين وهو الذي يتبادر للذهن ، لكن لا يتبادر للذهن أنه سيكون الاهتمام بالأشياء الصغيرة ، وقد ورد هذا في آيات أخرى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً) ذكر أولا الصغيرة ثم ذكر الكبيرة (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) مع أن المقتضى ، المعرفة العادية عند الناس يبدأ بالكبيرة وبعد ذلك يذكر الصغيرة لأن الكبيرة أعلى وأهم ....الخ ولكن بُدء بالصغيرة للتدليل على أنه إذا كانت العناية بالصغيرة بهذا الحجم فمن باب أولى سيكون العناية بالكبيرة .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) هؤلاء الذين سيرون أعمالهم يتساءلون: رأينا أعمالنا ، ماالذي سيحصل ؟ وقد نتساءل نحن في الدنيا ماالذي سيحصل ؟
الذي سيحصل الآتي : (فَمَن يَعْمَلْ) وإن كان المقتضى أن يُقال فمن عمل لأن الحديث عن أمر مستقبلي ،وهذا الأمر وإن كان مستقبلي لكن الكلمة نفسها (فَمَن يَعْمَلْ) تحديث عن أمر سبق لأن الكلام سيكون يوم القيامة ، هذه الأحداث ستكون يوم القيامة فيكون الكلام " فمن عمل " حتى يتناسب أن هذا الكلام يوم القيامة قيل عن أمر في الدنيا "فمن عمل" ولكن من أجل شحذ الهمم للعمل جُعل الحديث في المستقبل وكأنه ما زالت الفرصة سانحة لك يا من تستمع لهذه الآية وسمعت الأحداث الكبيرة واتعظت بها ترى "من يعمل" إذا مازال الأمر مفتوح لك اعمل من الآن .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) جاءت هذه في صورة الشرط والجواب ، والشرط والجواب من أعظم الأساليب لربط الشيء بالشيء ، ربط الجواب بالشرط ، من يعمل يحصل على كذا ، من يذاكر ينجح ، فإذا أردت ترتب شيئين أحدهما على بعض تستخدم الشرط حتى يكون ذلك أقوى في ربط هذا بهذا، أنت الآن آمنت أنك سترى عملك ، ورؤية العمل ليست سارّة دائما ، أحيانا بعضهم يقول أتمنى أني لا أرى عملي ، أنا أخاف أن يراه الناس ، أنا ما أريد أن أراه أنا نفسي فما بالك إذا كانت الفضيحة أمام الخلائق أجمعين ، فليس كل شيء يراه الإنسان يحب أن يراه ، لا ، فالإنسان يرى يوم القيامة عمله ، فإذا أردت أن يكون عملك الذي تراه خيرا اعمل خيرا سترى خيرا .
/ يقول الله - عز وجل - (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ) والمثقال هو : الثُقل وهو نوع من أنواع الوزن ، والوزن دائما يستخدم فيه شيء ثقيل حتى يُوزن به فيوضع هذا في شيء وهذا في شيء ومازالت فكرة الثقل هي الميزان حتى في الموازين الحديثة وغير ذلك ، يبقى ثُقل الشيء قد يكون هو الجاذب أو يكون هذا الثقل يسحب الشيء الثاني إلى الأسفل ، كل أفكار الموازين مبنية على الثقل .
/ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الذرة لو أتيت بها ووضعتها في الميزان يمكن الموازين الحساسة جدا جدا الآن لا تبين لك شيء ، أساسا كيف يمكنك أن تحصل على هباءة ، ولو أتيتك بها واستطعت الإمساك بها ووضعتها على مقياس من المقاييس ، ولعل أحسن مقياس الآن الذهب ، فلو وضعتها فيه ما شعر بها أصلا ولن يظهر لك أي نتيجة ومع هذا سيكون الإحصاء يوم القيامة أدق من هذا الذي نحن لا نشعر به ، سيكون العمل وإن كان مثقال ذرة .
فإذا كان يا أخي ذلك كذلك فما أكثر الأعمال لن أقول الصغيرة التي هي أمثال الذر ، لكن الأعمال الظاهرة التي نتركها ، فنحن نفرط يوميا بأعمال كثيرة جدا جدا ، تفوت علينا وقد نمارس مقابلها أعمال سيئة لا نلقي لها بالا ، يوميا ، وقد يكون سببها اللسان أحيانا أو الأخلاق والسلوكيات ، ونحن نستطيع أن نفعل فمثلا وأنت ذاهب لعملك تستطيع أن تسبح وتهلل وتسلم على آدمي ، تستطيع أن ترى شيئا في ملكوت الله فتعظم الله - سبحانه وتعالى - ...الخ ولو ظللنا نعدد لوجدنا عشرات عشرات ، عشرات الفرص لزيادة العمل ، والعجيب أنه كلما زدت عمل الخير وإن كان مثقال ذرة هو في الحقيقة كسب من جهة أخرى لأنه ستقل عندك المساحة التي يمكن أن يكون فيها شر ، هذه طبيعة الإنسان إذا لم يشغل حواسه من يدين وأذنين وعينين بطاعة الله أو بشيء نافع فسينشغل تلقائيا إما بشيء لا فائدة منه أو بشيء يضره ، فأكثِر ولا يكون عندك توقف عند شيء ، فلنجعل من اليوم مقياس الذرة لنا فنبحث عن الأعمال الدقيقة ومن باب أولى نفعل الأشياء الأكبر من هذا .
/ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) تقديم الخير على الشر الذي بعده هذا لأن سياق الآية سياق ترغيبي والمراد هو شحذ الهمة لعمل الخير ، وأيضا لأن الخير أفضل من الشر ، لاشك أن الخير أفضل وأعظم منزلة ، والشر أسوأ ، فالمطلوب هو تقديم هذا الأمر الخيري والحفز له ليعمل به الناس ، والعكس (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
مجيء الآيتين على نمط واحد في ترتيب الكلمات وفي نظمها ، نعم تغير في بعض الكلمات " خير ، شر " دليل على التباين الضخم بينهما لأن السياق واحد ، ترتيب الكلمات واحد ، فدليل على عِظم التباين بينهما ومن باب أولى تباين العامل بهما .
مسألة جديرة بالاهتمام وهي :
هل سيرى الكافر عمله يوم القيامة ، بمعنى أنه كان في الدنيا يتصدق ، كفل مساكين ، وقف مع ناس ، كان صادقا وأمينا في عمله ، هذه أعمال طيبة ، هل سيراها يوم القيامة ؟
وإن كان هذا الأمر لا يعنينا كثيرا إنما الآية واضحة الدلالة المطلوب أن الإنسان يعمل الخير ويترك الشر ، ويعلم أنه محاسب على الخير وإن كان مثقال ذرة ، وأنه محاسب على الشر وإن كان مثقال ذرة ، هذه دلالة الآية واضحة لكن هذه أمور يذكرها بعض المفسرين في هذه القضية ، قالوا :
/ أما المؤمن فإنه يرى الخير وأما الذي ستره الله من الذنوب والمعاصي وغفر له فإنه لا يراه حتى لا يُحزنه ذلك ، وأما الكافر لا يرى الأعمال التي عملها في الدنيا بصفة الخير وإنما هذه أمور تُعجّل له في الدنيا ويُعطى ويستوفي حقه في الدنيا ، فتعجّل لهم حسناتهم في مقابل أعمالهم في الدنيا أما يوم القيامة فليس لهم شيء . والأدلة على هذا كثيرة أنه لا ينفعهم شيء ( إنها لم تقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) (لم يقل لا إله إلا الله) ، (لم يقل محمد رسول الله) ، هذه تدل على أنه ليس لهم شيء في الدنيا فدل على أنهم لا يرون هذه الأعمال .
/ وقال بعضهم : بل يرى ولكنها تذهب فتكون عليه حسرة . والمؤمن يرى فلما تُغفر له يزداد ...
على كل حال سواء دخل هذا في موضوع الآية أو لم يدخل المهم هو فهم الآية على هذه الصورة (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق