الخميس، 17 مايو 2012

تفسير سورة البقرة (282 ) إلى نهاية السورة / من دورة الأترجة

الشيخ د. أحمد بن محمد البريدي


 آية الدَّين:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَارَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًاإِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَاتَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍعَلِيمٌ (282) وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
بعد ما ذكر الله عزوجل آيات الرِّبا ذكر بعدها آية الدَّين وقد تقدّمت المناسبة في هذا الترتيب ، وآية الدَّين هذه أطول آية في القرآن , وتُسمّى آية الدين , وقد روى ابن جرير عن سعيد بن المسيب أنّه بلغ أنّ أحدث القرآن بالعرش آية الدين , وقد تمَّ الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بحمد الله , وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس انّه قال لمّا نزلت آية الدَّين قال رسول الله ( إنّ أول من جحد آدم - عليه السلام - أنّ الله لمّا خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلاً , قال أي رب من هذا؟! قال: هو ابنك داود قال رب كم عمره؟! قال: ستون عاماً, قال: ربي زد في عمره , قال: لا إلا أن أزيده من عمرك , وكان عمر آدم ألف سنة , - وهذا من الغيبات التي أظهرها أنّ عمر آدم ألف سنة - , فزاده أربعين عاماً , - زاد داود واُخذ من عمر آدم أربعين عاماً , فصار 960 عمر آدم - , فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة , فلمّا احتضر آدم وأتته الملائكة , قال: قد بقي من عمري أربعين سنة , فقيل: إنك قد وهبتها لابنك داود , قال: ما فعلت – نسي آدم - قال: فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة ) .  ولذلك الكتابة والإشهاد يا إخواني مهمة كما سيأتينا, والدَّين هو : كل ما ثبت في الذمّة من ثمن بيعٍ أو أجرةٍ أو صداق أو غير ذلك , كل ما ثبت في الذمّة يسمّى ديناً .
(تَدَايَنتُم) قال الزجاج : يقال داينتَ الرجل إذا عامَلته , فأخذتَ منه بدينٍ وأعطيته , إذا المداينة هي المعاملة [1] نادى الله النَّاس كذلك بالإيمان كما ناداهم في الربا , فقال - سبحانه - ( يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا) يقول ابن مسعود: " إذا سمعت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) فأرعِ لها سمعك , فإمّا خيرٌ تُؤمر به أو شرٌ تُنهى عنه " .
وتتبّعوا يا إخواني نداءات القرآن ولو كُتب فيها كتاباُ لكان رائع من منطلق قول ابن مسعود إمّا خيرٌ تُؤمر به أو شرٌ تُنهى عنه .
/ ( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) يعني إذا تداينتم بشيء مستقبل فاكتبوه, وهذا إرشاد من الله لعباده ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها , فإنّ الناس ربّما يختلفون غالباُ في وقت حلول هذا الدين , وربما يختلفون في مقداره ( في كميته ) .
قوله (فَاكْتُبُوهُ) أمرٌ منه بالكتابة للتوثقة والحفظ، ، فَإِن قيل ثبت في الصَّحيحين عن عبد الله بن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ( إنّا أُمّةٌ أُميّة لا نكتُب ولا نحسُب )[2] فما الجمع؟
هذا يُسمّونه العلماء ظَاهرُ التّعارضبين القرآن والسُّنة. ظاهر أيّ فيما ظهر لك.في الحقيقة لا يوجد تعارض أبداً لا بين القرآن نفسه، ولا بين القُرآن والسُّنة.
فالجواب:
القول الأوّل : أنَّ الدِّين من حيث هُوَ غير مفتقــِر إلى كتابةٍ أَصلاً، لأنَّ كتاب الله قد سهَّله الله، ويسَّر حفظه على النّاس والسُّنَن كذلك محفوظة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والذِّي أُمِر بكتابته هي أشياء جُزئية تقع بين النّاس فأُمِرُوا أمر إرشاد لا أمر إيجاب ، (فاكتبوه) هذا أمر إرشاد.  وهو قول جماهير المفسّرين.
القول الثّاني : أنَّ الأمر بِالكتابة أمر إيجاب وهو رأي الطّبري حيث قال إنَّ كَتبَ الدُّيون واجبٌ على أربابها، وفرضٌ بهذه الآية والصَّحيح هو القول الأوّل أنِّ الكتابة هي من قبيل الإرشاد والنَّدب لا من قبيل الإيجاب .
/ ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) أيّ بالقِسط والحقّ، ولا يجُر في كتابته على أحد ، ولا يكتُب إلاّ ما اتّفقوا عليه من غير زيادةٍ ولا نقصان.
/ ( ولَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ) هذا إرشاد، لأنَّ الكِتابة في وقت نزول الوحي قليلة ، وكان الكُتَّاب قِلَّة فكان النّاس يأتُونَ إليهم. فقال الله عزّوجل ( ولَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ) لماذا؟
 الله هو الذّي علّمه، هذا جاهل لا يكتب. فمن زكاة هذا العلم أن تُؤدِّيه كما قال النّبي - صلى الله عليه وسلّم - ( إنَّ من الصَّدقة أن تُعين صانعاً أو تصنع لأخرق ) [3] .
/ ثـُمَّ قَال الله - عزّوجل - ( فَلْيَكْتُبْ ) وهذا توكيد معنوي لقوله أن يكتب. وقيل بل هي تأسيس معنى جديد تُفِيد الأَمر بالمبادرة إلى الكتابة. .
( ولَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ) سياق الآية تقول " وَليُملِل الذِّي عليه الحقّ" فيكون الكلام متَّسِقاً فلماذا إذاً أعاد الأمر بالكتابة؟
قال بعض العُلماء أنّه توكيد للكِتابة ، وقال بعض العُلماء بل هُو تأسيس معنى جديد وهو الكتابة، الأولى قوله ( ولَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ ) أمر بالكتابة مطلقا  ، ( فليكتُب ) دَعوة للمبادرة في الكِتابة . وهذه قاعدة في التّفسير : إذا دار المعنى بين التَّوكيد والتأسيس، نحمل المعنى على التَّأسيس  لأنّه يحمل معنىً جديد.
/ قال الله ( فاكتبوه ) هذا أمرٌ للدَّائــِنين وقلنا أنّه أمر إرشاد وقال الطَّبري الأمر إيجاب.
وأمَّا الكَاتب قال بعضُ أهل العلم : أنّه يجب عليه أن يكتُب خاصَّةً إذا توقَّف ثُبُوتَ الحقّ على الكِتابة ، وهذا رأي الطَّبري متَّسِق فجعل الأوامر كلَّها هُنا في هذه الآية من باب الوجوب  ، وأمّا ابنُ العَربيّ في كتابه أحكام القُرآن فيراهُ أمرَ إرشاد [4].
إلاَّ إذا تعيَّن على الكاتب يعني أنت أتيت إليَّ وأنا مشغول وأعرف أنَّك ستجد كاتباً آخر، فهل يجب عليّ أن أترك أعمالي وأكتب لك؟ أم أَدُّلك على شخص آخر تذهب إليه؟ قد يقول قائل: لا أريد ان يكتب أحداً لي إلا أنت! وأنت تقول له يوجد غيري، ولكن يقول لك لا أكتب لي أنت، الله أَمَرك أن تكتب لي ، هذا امتحان للنّاس؟ ولذلك الصَّحيح أنّه أمرَ إرشاد لا أمر إيجاب، إلاّ إذا لم يوجد غيره فهنا يتعيّن عليه الكتابة. ويجوز له أخذ الأجرة على ذلك لأنَّ الكتابة صَنعَة.
/ قال الله - عز وجل - ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ) من هُو الذِّي عليه الحقّ؟
الذِّي عليه الدَّين هو الذِّي يُملل، أيّ وليُملـِل المدين على الكاتب ما في ذِمَّته من الدَّين، وليتَّق الله في ذلك.
/ ثمّ قال الله ( وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) لـَــمَّا جـَعَل الله عزّوجل لك الإِملاء وهو :أن تقول والكَاتب يكتُب. فقال الله بعدها ( وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) أي لا يَنقُص في كمِيَّته ، ولا في كيفيته ، ولا في نوعه، ولا في وقته.
/ ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا ) -أيّ صاحب الدّين - يعني مَحجوراً عليه بتبذير ونحوه ، لا يعرف ( أَوْضَعِيفًا ) والضَّعف يشمل ضَعفَ الجِسم، وضَعف العَقل إما أن يكون صغيراً أو مجنوناً . ( أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ ) يُملّه يعني يُملي الكتابة قال الله - عز وجل - ( فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ) أيّ وليّ هذا الرّجل إمّا السَّفيه، أو الضّعيف أو الذّي لا يستطيع إمّا أخرس ، أو فيه جهل ما يعرف يكتُب أو لا يستطيع التَّعبير أو غير ذلك . ( فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) أي وليّ صاحب الدّين بالعدل ، كذلك أمره بما أمر به صاحب العدل.
فالقُصُور إذاً ثلاثة :
- السَّفه
- الضَّعف سواءَ ضَعف الجسم أو العقل .
- عدم الاستطاعة لأيِّ سبب من الأسباب .
/ ثمّ قال الله - عزّوجل - ( فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعَدل ) الضَّمير في " وليُّه " عائدٌ على من؟
قال بعضُ أهل العلم أنَّ الضَّمير عائدٌ على الحقّ أيّ وليَّ الحقّ وصاحبه وهُو رأي الطبري ، وضَعَّفَ هذا الزَّجاج والقُرطبي، وقال إنَّ الضمير عائدٌ إلى الذّي عليه الحقّ ، وهو الصّحيح .
 / ثمّ قال الله - عزّوجل - ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) أمرٌ بالإِشهَاد مَع الكِتابة وهذا أمرٌ زائدٌ على الكِتابة لأنّك تكتب ثمّ تُشهد وهذا قد جرت العادةً عليه عند النّاس كذلك يكتُبُون ثمّ الشَّاهد الأوّل والثّاني .
( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) هل يصلح أربع نِساء ؟
لابد معهُنّ رجل بنصِّ القُرآن ، قال الله - عزّوجل - ( فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) وهذا إنّما يكون في الأموال وما يقصُد به المال.
 وإنـّما أُقيمت المرأتان مقام الرَّجل لنقصان عقلها كما روى مسلم عن أبي هريرةعن النَّبي - صلى الله عليه وسلّم - ( يا مَعشَرَ النِّساء تصَدَّقن وأكثرن الاستغفار فَإنّي رأيتُكُنّ أكثر أهل النَّار. فقالت امرأةٌ منهُنّ جَزلة، قالت: ومالنا يا رسول الله أكثر أهل النّار، قال : تُكثرنَ اللّعن وتكفُرنَ العَشِير.ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودِين أغلب لِذِي لُبٍّ- أيّ لِذِي عَقلٍ - منكُنّ ، قالت : يارسول الله ما نُقصَان العَقل والدِّين؟ قال : أمَّا نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدِل شهادة رجل فهذا نُــقصَان العقل ، وتمكُث اللّيالي لا تُصلّي وتُفطــِر في رمضان بسبب حيضٍ أو نفاس ، فهذا نقصان الدِّين ) [5]
وقد جعل الله المرأة على النَّصف من الرَّجل في عدّة أحكام : هُنا في الإشهاد ، في الميراث ، في العـقيقة فإنَّ الولد يُعَــقّ عنه شاتان والبنت يُعقّ عنها شاة واحدة.
/ ثمّ قال الله - سبحانه وتعالى - ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ) فيه دلالة على قبول أي شاهد فلم يُحدِّد الشاهد وجعَلها للعُرف  ولذلك قَــال السَّعدي - رحمه الله - : " والعَدالة يُشترَطُ فيها العُرف في كُلِّ زمانٍ ومكان ، فكُلُّ من كان مرضيِّاً مُعتَبَراً عند النَّاس قَبِلنا شهادته " [6] فلا نشتَـرِط ونقول لا يشهد إلا حافظ القُرآن! وإنَّـمَا نترك الأمر إلى ما تعارفَ عليه النَّاس إن كان هذاالرَّجُل مَرضِي شهادته ويُؤَدِّيها كما هُي نقبل شهادته ، وهذا من رحمة الله بالعِباد لو اشترط علينا شروط لصَعُبَ علينا هذا الأمر ، وقال ابن كثير : " هذامقيِّد حَكَمَ به الشَّافعي على كُلّ مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غيراشتراط ".[7]
( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ) "أن تضلّ" بمعنى أن تنسى ، "إِحْدَاهُمَا" أيّ إحدى المرأتين ، ( فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ) أي تُخبرها وتقول لها لقد شَهِدنا.
وقد أَبعَد كُلَّ البُعد من قال فتُذَّكِر من الذُّكورة بمعنى أنّ المرأتين يُصبحان رجُلاً واحداً ! وهذا قِيل في التَّفسير بل هَذَا ضَعيف.
" فَتُذَكِّرَ" من التَّذكير وليست من الذُّكُورة، وهو من غَرائب التّفسير. وهذا ليس بصحيح، إذ لو كان هذا المعنى لصحّ أربع نساء، ولكن القرآن لم يُرد هذا وإنّما قال " فَتُذَكِّرَ " من التذكير رجُل واحد، وامرأتان فقط .
/ ( وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ ) فيها معنيان:
- الأوّل : إذا دُعُوا للتَّحمُّل فعليهم الإجابة ، بمعنى أنه إذا قلت لك اشهد تشهد
- الثَّاني : - وهو مَذهب الجُمهور - أنّ المراد هو الأداء .
 / مَا الفَرق بين المعنيين؟ مالمراد بـ "إذا دعوا" ؟
المعنى الأول المراد به : أيّ دُعُوا للتَّحمُل، الآن أصلاً لا تُوجد شهادة فإذا دعوتُكَ لتشهَد، فيقول الله هنا ( وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا ) .
المعنى الثاني - وهو قول جُمهورالمفسِّرين - :  أنّ المراد بها ليست دعوة الشَّهادة، وإِنَّما دعوة الأداء أنَّك شهدت وانتهيت، فاحتاج صاحبُ الدَّين أن تُدلِي بشَهَادَتِك فلا تَأبى ، لأنَّ إثبات حقَّه مُتَوَّقِفٌ على دعوته. أيُّهما أصحّ؟
 كُلَّها صحيحة، الآية تحتمل هذا وتحتمل هذا.  فليس بينهما تعارُض. وهنا قاعدة في التَّفسير: إذااستطَعنا أن نحمل الآية على كُلِّ المعاني التِّي قِيلت فيها فهُوَ أولى من حَصرهاعلى معنىً واحد بشرط أنّها لا تتعارض هذه المعاني .
 هل هُناك تَعارُض بين تَحمُّل الشَّهادة وبين أَدَائِهَا ؟ لا. إذاً نقول الآية تحتمل المعنييين.
/ ( وَلَا تَسْأَمُوا ) هذا إرشادٌ آخر ( أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ) وهذا من تـَمَام الإِرشاد . " لا تَسأَمُوا "  أيّ : لا تَــمُلُّوا أن تكتُبُوا الحقّ على أيّ حال كان من القِلَّة إلى أجله ، ( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ) الضمير "ذالكم" يرجع لكل الآداب التِّي ذُكِرت في الآية الكِتَابة ، والإرشاد ، وتحمُّل الشَّهادة وأدَائها .
/ ( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ) أقسَط أيّ أعدل، وأقوم للشّهادة : أثبَت للشَّاهد إذا وضع خَطّه ثمّ رآه تذَكَّرَ به الشّهادة .
 / (إِلَّا) استثناء ، ( أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ) إذاً إذا كان البيع حاضراً يداً بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور.
/ ثمّ قال الله - عَزّوجل - (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) الشّهادة الأولى للدِّين المؤجّل. والشَّهادة هنا للبيع الحاضر.
لماذا أُعفِيَ من الكتابة، وطُلِبَ منه الشَّهادة ؟
الإشهاد  في المبايعات الحاضرة - الصَّحيح - أنَّه أمر إرشاد للاحتياط فقط .
 ولِذلك قَال القُرطبي كلام نَـفِيس في هذا الباب قال: " ما زَال النّاس يَتَبَايَعُون حَضَراً، وسَفَراً ، وبَرّاً ، وبحراً، وسَهلاً ، وجَبلَاً من غير إشهاد من غير نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النّكير على تاركه ) [8] إذاً كُلَّها آداب في الآية.
/ ثمّ قال الله - عز وجل - ( وَلَا يُضَارَّكَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ) الضَّرر واقِعٌ على من ؟ ما معناه؟
 قال بعض العُلماء: أيّ لا يَضُرّ الكَاتب والشَّهيد صَاحب الحَقّ .
القول الثَّاني : ولا يَضُرّ صاحب الحقّ الكاتب والشَّاهد . بأيّ صورة من صُوَرالــمُضارَّة.
إذاً يحتمل عندنا أحد أمرين :
- إمّا أنّ الضَرر واقع على صَاحِب الحقّ، وفاعل الضّرر الكاتب والشّاهد.
- ولا يُضار صاحب الحق الكاتب والشّاهد. 
وكِلا المعنيين صحيح . اُنظر إلى بلاغة القرآن، ولماذا قال العلماء أنّه يَحتمِل المعنيين ؟
 لأنَّ "يُضَارّ" يَصِح أن تكون بالفتح مِن " يُضارَر" الكاتب والشَّهيد ، أو " يُضَارِر" الكَاتب والشَّهِيد فَأَتت على ما لم يُسمِّى فاعله، فأتت تحتمل كِلاَ الـمَعنيين ، ولِذَا الصَّحيح أنَّ كِلا القولين صحيح والحمدلله .
/ ( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) أي تفعلوا الـــمُضَارَّة ، أيّ إِن خَالفتُم ما أُمرتـُم بِهِ، وفَعلتُم مانُهيتم عنه، ( فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ )
 ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أيّ خَافوه ورَاقِبُوه، واتّبَعُوا أمره ، واتركُوا زجره . ( وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) مثل قوله تعالى ( يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ) [9] وكقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) [10] فتَقوى الله عزّوجل من أَعظم أسباب العلم . 
 / ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أيّ عالِـــمٌ بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل عِلمُه محيطٌ بجميع الكائنات.
/ ثمّ قال الله - عزّوجل - ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) السَّفرهو:  مُفارقة محلّ الإقامة ، ( ولم تجِدُوا كاتباً ) يَكتُب لكم . قال ابن عبّاس: "وإن وَجَدُوه ولكن لم يجدوا قرطاساً أو دَواةً" ، فالمعنى تعذَّرت الكتابة ، قال الله ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) الرّهن لغةً : الحبس ، وشرعاً : هو توثقة دين بعين يُـمكن استِيفَاؤه - أي الدين - أو بعضه منها. مثال: أن تَبيع مبايعة وترهن بيتك، أو سيَّارتك، أوأيّ شيء آخر.
 ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) أيّ فَليَكُن بَدل الكِتابة رهانٌ مقبوضة ييد صاحب الحقّ . وقد استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض ، أي لابد أن يكون الرهن مقبوضا كما هو مذهب الشَّافعي والجُمهور . 
واستدلّ آخرون على أنّه لابُدَّ ان يكون الرَّهن مقبوضاً في يد الــمُرتَهِن وهو رواية عن الإمام أحمد وذَهَب إليه طائفة.
والقول الثّالث: أنَّ قبض الرَّهن ليس بشرط لا للصِّحة ولا للزُّوم ، فهل يلزم إذا أَرهنتك بيتي أن أخرج وأمَّكِنَك من بيتي ؟
فيه ثلاثة أقوال لأهل العُلم والصَّحيح أنّه لا يلزم القبض، وأنّ الرَّهن يلزم بمجرَّد كِتابة هذا الرّهن ، أنَّه رَهَنَ لك هذا الأرض يلزم وما زال النّاس يتَبايعون يرهنُون بيوتهم وسياراتهم ويمشون على ذلك. وإن لم أستطع أن أُوَّفيّ الحقّ مكنّتك من الرَّهن. وهَذا هُوالقَول الصَّحيح .  الله لم يُبيِّن في هذه الآية كيفية القبض فنرجع في ذلك إلى العُرف ، وهذه قاعدة : كُلّ ما لم يُبيَّن كيفيّتُه فيُرجَع فيه إلى عُرف النّاس . ولذلك دائماً التَّعاملات المالية يُرجَع فيها إلى العُرف.
/ قال الله - عز وجل - ( وإن كُنتُم على سفر) فهل يجوز الرَّهن في الحَضَر؟ نعم
لكن الله قال ( وإن كُنتُم على سفر ) ؟ لأن هذا في غالب الأحوال ألاّ تتوفَّرالكتابة ، وإلاّ فإنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلّم - مات ودرعه مرهُونة عند يَهُوديّ فصحّ على أنّ الرّهن يجوز في الحَضَر والسَّفر.
/ ثمّ قال الله ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ) يعني لا يلزم الرَّهن إذا حصلت الأمانة ، وإنّما الرَّهن لِزيادة توثقة.
قال الشَّعبي : "إذا ائتمَنَ بعضُكُم بعضاً فَلا بأسَ ألاَّ تكتبُوا أوّ لا تُشهِدُوا" [11]
(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) - يعني المؤتَمن- كما جَاء في الحديث عن سمُرَة عن النَّبي - صلى الله عليه وسلّم - (على اليَدِ ما أخذت حتّى تُؤَّدِيَه) [12] . ( وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ) أيّ لا تُخفُوها. قال ابن عبَّاس: " شَهادَةُ الزُّور من أكبر الكبائر وكُتمَانُها كذلك " .
/ يقول الله - عزّوجل - (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ) قال السُّدِّي : "أيّ فاجرٌقلبُه"  وهذا مثل قوله تعالى ( ولا نكتُم شَهَادَة الله إنّا إذاً لَمِنَ الآثمين ) [13] وهنا قال ( ومن يكتُمها فإنّه آثمٌ قلبُه ) وهذا من تفسير القرآن بالقُرآن.
/ ثمّ قال الله ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْتُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن ومابينهنّ، وأنه المطَّلِع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السَّرائر والضَّمائر وإن دقَّت وخفيت وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال سبحانه  (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . [14] وكما قال في آية أخرى ( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) [15] .
وقد أخبر في هذه بـمزيدٍ على العلم وهو المحاسبة على ذلك ، الله يعلم وكما يعلم يُحاسِب . روى الإمام أحمد عن أبى هريرة: قال : لما نزلت على رسول الله - انظروا لأهل الإيمان الصّحابة - لما نزلت ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْتُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ ) اشتد ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلّم - ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجثوا على الرُّكب، وقالوا: يا رسول الله! كُلِّفْنَا من الأعمال ما نُطِيق الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصّدقة ؛ وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤدِّبهم يُربِيهُم - : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قَبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فقالوا كما أمرهم النّبي - صلى الله عليه وسلّم - ، لماذا كان الصّحابة أفضل النّاس ؟ لماذا أصبحوا خير القُرون ؟ بهذه الــمُمِّيزات، فلما أقَرَّ بها القَوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنرَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) يُثني عليهم ربُّهم جلّ وعلا. ، فلمَّا فعلوا ذلك نَسَخَها الله عزّوجل بقوله ( لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) فَامتنّ الله عزّوجل على هذه الأُمّة أنّهم أطاعوه ولم يَقُولوا سمعنا وعصينا كاليهود . أضِف إلى ذلك أنّ الله عزّوجل خفّفَ عليهم.
ومن العلماء من قال : أن لا نسخ وهذا هو الصّحيح . وأنّه لا يَلزم من المُحاسبة المعاقبة ، وهناك قاعدة لابد من بيانها وهو: أنّه يكثر في كتب التّفسير أنّ هذه الآية منسوخة ،بل آية السّيف - آية التَّوبة - قالوا نَسَخَت أربع عشر ومائة آية .
ولذلك ينبغي أن نعلم أنّه لا يوجد من القُرآن المنسوخ – على التَّحقِيق – إلاَّ آيات لا تتجاوز عدد أَصابع اليدين . لو حقَّقنا المَسائل الأخيرة في النَّسخ لا يصح منها، والبَاقي يصلُح الجمع . مثل ما جمعنا في هذه الآية، وأنَّ المحاسبة لا يلزم منها الــمُعاقبة . أَضِف إلى ذلك أنَّ السّلف عندما يُعبِّرون بالنّسخ فإنّهم يَعنُون النَّسخ بمعناه العَام فَيدخُل فيه تقييد المطلق، وتخصيص العام ، ويدخُل فيه النَّسخ الشرعي . نقف عند (آمَنَ الرَّسُولُ ) أسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقطع الأخير من سورة البقرة :
{وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285) لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)} [16]
بقيَ في هذه الآية مسألة يسيرة وهي قول الله في خاتمتها:
 (فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لماذا خُتمت الآية بالقدرة ولم تُختم بالمغفرة والرحمة؟!
غالباً عندما تأتي مثل هذه الآيات يقول والله ماذا؟! (فيغفر لمن يشاء ويُعذّب من يشاء والله غفور رحيم) لماذا خُتمت بالقدرة ولم تُختم بالرحمة أو بالعقوبة التي أُشير إليها في هذه الآية ؟!
 والجواب: أنّ المحاسبة إنّما تكون بعد البعث, أيّ بعد بعث الناس, لا يُحاسَب الناس إلا بعد موتهم ثم بعثهم , والبعث يدلّ على القدرة , وهذا هو الأقرب .
 وهناك تخريجٌ آخر وهو أن نقول : لو أنّ الآية خُتمت بالرحمة وفيها التعذيب لم يكن هناك تناسب . ولو خُتمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك تناسب . والقدرة تناسب كِلا الأمرين , فالمغفرة والتعذيب لا يكون إلا عن قدرة .
/ ثم قال الله - تبارك وتعالى -  (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) ورد في هذه الآيتين جملة من الفضائل وهي معروفة بحمد الله - تبارك وتعالى - منها:
 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح ( من قرأ بالآيتين من آخر سُورة البقرة في ليلةٍ كفتاه ) [17] ولم يذكر النبيّ - صلى الله عليه وسلم -  المَكفِيّ فدلّ على العموم .  وقال أبو بكر النَّقاش معنى كفتاه أيّ : كفتاه عن قيام الليل , والأَولى إبقائها على عمومها.
- وجاء في الحديث الصحيح كذلك قال : ( أُعطي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً : الصلوات الخمس، وأُعطيَ خواتيم سورة البقرة – التي هي هاتان الآيتين – وغُفِرَ لمن لم يُشرِك بالله من أمته شيئا المُقحمات ) [18] .
 فقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ) إخبارٌ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك , وقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطفٌ على الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -  , ثم أخبر عن الجميع بقوله (كُلٌّ) أيّ الرسول وأتباعه وهم المؤمنون (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) فالمُؤمنون يؤمنون بأنّ الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا ربَّ سواه , ويصدّقون بجميع الأنبياء والرسل , والكتب المُنزّلة من السَّماء على عباد الله المرسلين , لا يُفرّقون بين أحدٍ منهم فيؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم بل يؤمنون بالكل الرَّسول المُرسل والكتاب المنزل .
وهنا فائدة : 
 قال الله - عزوجل - (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) هنا يُسمِّيه أهل العلم إظهارٌ في موضع الإضمار , السياق يقتضي أن يقول: "كلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ منهم" , فالتفتَ هنا من الغَيبةِ إلى التَّكلم لفائدة الانتباه , أيّ أنَّ التفريق بينهم يُنافي مقتضى الإيمان بهم. (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أيّ سمعنا قولك يا ربّنا وفهمناه وقُمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه .(غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) سؤال للمغفرة والرحمة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قول الله - تبارك وتعالى - (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) قال: " قد غفرتُ لكم " وهذا وإن كان موقوفاً على ابن عباس فإنّ له حكم الرَّفع إذ لا مجال للرأي فيه. [19]
وجاء في الحديث الآخر المرفوع أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قد فعلت ) ـ نسأل الله من فضله ـ إذا قال العبد وهو يقرأها (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال الله عزوجل: قد فعلت . (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآب يوم يقوم الحساب .
/  ثم قال الله - عزوجل - (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) الوُسع هو : الطاقة , أي لا يكلّف أحداً فوق طاقته وهذا من لُطف الله تعالى بخلقه، ورأفته بهم وإحسانه إليهم .
 (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من خير (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) من شر , وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التَّكليف , أما التي لا تدخل تحت التكليف فالله لا يكلّفنا , ولذلك من قواعد أهل العلم التكليف بما يُطاق, ولذلك قال الله عزّوجل - في الكفر - (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) من عُرِض على السَّيف فله أن يتكلم بالكفر لينجوَ منه لأنَّ هذا تكليفٌ بما لا يطاق، لكن بشرط أن يكون القلب مطمئنّ فإنّ الذي أٌجيز للإنسان هو الظاهر أمّا الباطن فيبقى لله  - تبارك وتعالى - .
 ثم أرشد الله عباده (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا) أي إن تركنا فرضاً على جهة النسيان أو فعلنا حراماً كذلك (أَوْ أَخْطَأْنَا) أي الصَّواب في العمل جهلاً مِنّا بوجهه الشرعي , قال السعدي - رحمه الله - : " الفرق بين النسيان والخطأ أنّ النسيان ذهول القلب عمّا أُمر به فيتركه نسياناً , والخطأ أن يقصد شيئاً يجوزله قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله " [20] .
/ ثم قال الله - عزوجل - (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) الإصر هو : الشيء الثقيل الشاقّ , أيّ لا تكلّفنا من الأعمال الشاقّة وإن أطقناها , وهذه مرحلة دون المرحلة الأولى التي هي التكليف بما لا يُطاق , ربنا ولا تحمِلنا حتى على الشّيء الشاقّ , كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم  , ولذلك من رحمة الله بهذه الأمة أنَّ الله وضع عنهم الأصرار , إذا تاب المُذنب في بني إسرائيل يلزمه القتل , وإذا جاء على بدنه أو ثوبه نجاسة ففيها القَطع (القَرص) , لكنّ الله وضع برحمته عن هذه الأمة الآصار كما قال الله في الحديث القدسي :( قد فعلت) . لمّا قال المؤمنون : (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) قال الله : (قد فعلت) ، وهذا من رحمة الله تعالى بنا .
(رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) من التَّكليف والمصائب والبلاء لا تبتلينا بما لا قِبلَ لنا به (وَاعْفُ عَنَّا) أي فيما بيننا وبينك ممّا تعلمه من تقصيرنا وزللنا (وَاغْفِرْ لَنَا ) أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تُظهرهم على مساوئنا وأعمالنا القبيحة ( وَارْحَمْنَا ) أي فيما يُستقبَل , فلا توقعنا في ذنب آخر , فدعوا أنّ الله يغفر لهم ما سلف ، وأن يرحمهم فلا يقعوا في الذنب فيما يُستقبل. ولذلك يُقال إنّ المذنب يحتاج إلى ثلاثة أشياء:
- أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه .
- وأن يستره عن عباده فلا يفضحه بينهم .
- وأن يَعصِمَه فلا يُوقعه في ذنب آخر .
 هذا المُذنب يحتاج إلى هذه الثلاثة الأشياء أنّ الله يعفو عنه، وأن يَستره وأن يعصمه من الوُقوع في الذنب مرةً أخرى , وقد جاء في الحديث القدسي أنّ الله - تبارك وتعالى - قال (قد فعلت) .
(أَنتَ مَوْلاَنَا) أنت وليّنا وناصرنا وعليك توكلنا وأنت المستعان ولا حول ولا قوة لنا إلا بك (فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أيّ الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك وعبدوا غيرك . قال السِّعدي : " العفو والمغفرة يحصل بهما دفع المَكاره والشُّرور ثمّ قال الله (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا) ثم قال الله (وَارْحَمْنَا) والرحمة يحصُل بها صَلاح الأمور , فإذا دعا الإنسان بهذا الشَّيء فإنه قد دعا بجوامع الكلم ". [21] ولذلك حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قراءتها كل ليلة , فاستشعروا أيّها الإخوة حينما تقرؤون هذه الآية هذه المعاني العظيمة التي اشتملت عليها هاتان الآيتان .
قال الزَّجاج - رحمه الله - في خاتمة تفسيره لهذه السورة : " لمّا ذكر الله ما تشتمل عليه هذه السُّورة من القَصص والأحكام ختمها بتصديق نبيّه والمُؤمنين "  يعني خَاتمة السُّورة مناسبة لمضمونها .
وبهذا نكون بحمد الله قد انتهينا من تفسير سورة البقرة، ونبدأ الآن بتفسير سورة آل عمران , وهُما دائماً مقرونان كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ( الزهراوان البقرة وآل عِمران تأتيَان يوم القيامة تُحاجّان عن صاحبهما ) [22] .
------------------------------
 [1] زاد المسير
[2]صحيح البخاري باب قَوْلِ النَّبِىِّ - - « لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ » .
[3] الراوي: - المحدث: أحمد شاكر - المصدر: عمدة التفسير - الصفحة أو الرقم: 1/339، خلاصة حكم المحدث: لم أجده بهذا اللفظ
[4] قال ابن العربي في أحكام القرآن : (لْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى فَاكْتُبُوهُ يُرِيدُ يَكُونُ صَكًّا لِيَسْتَذْكِرَ بِهِ عِنْدَ أَجَلِهِ ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعَامَلَةِ وَبَيْنَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَالنِّسْيَانُ مُوَكَّلٌ بِالْإِنْسَانِ ، وَالشَّيْطَانُ رُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَالْعَوَارِضُ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ تَطْرَأُ ؛ فَشُرِعَ الْكِتَابُ وَالْإِشْهَادُ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ جَحَدَ آدَم قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ ، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا ابْنُك دَاوُد .
قَالَ : كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ : سِتُّونَ سَنَةً . قَالَ : رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ . قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِك فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ ، فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ قَالَ : بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً . فَقِيلَ لَهُ : إنَّك قَدْ جَعَلْتهَا لِابْنِك دَاوُد . قَالَ : فَجَحَدَ آدَم . قَالَ : فَأُخْرِجَ إلَيْهِ الْكِتَابُ ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ ، وَأَتَمَّ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : فَاكْتُبُوهُ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى أَنَّهُ يَكْتُبُهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْمُبَيَّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا يَحْكُمُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِمَا إلَيْهِ ).
[5] صحيح مسلم باب بَيَانِ نُقْصَانِ الإِيمَانِ بِنَقْصِ الطَّاعَاتِ وَبَيَانِ إِطْلاَقِ لَفْظِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ كَكُفْرِ النِّعْمَةِ وَالْحُقُوقِ.
[6] تفسير السعدي
[7] وقوله: ممن ترضون من الشهداء فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود, وهذا مقيد حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط وقد استدل من رد المستور بهذه الاَية الدالة على أن يكون الشاهد عدلاً مرضياً. وقوله: أن تضل إحداهما يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة فتذكر إحداهما الأخرى أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد, وبهذا قرأ آخرون فتذكر بالتشديد من التذكار, ومن قال: إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر فقد أبعد. والصحيح الأول, والله أعلم.
[8] تفسير القرطبي
[9] الأنفال29
[10] الحديد28
[11] تفسير ابن كثير
[12] سنن ابن ماجة باب الْعَارِيَةِ.
[13] تفسير ابن كثير
[14] آل عمران29
[15] طه7
[16] البقرة 286
[17] صحيح البخاري باب فَضْلُ الْبَقَرَةِ .
[18] صحيح مسلم باب فِى ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
[19] تفسير ابن كثير .
[20] تفسير السعدي .
[21] تفسير السعدي .
[22] صحيح مسلم باب فَضْلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ.
/ مصدر التفريغ : ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق