الأحد، 6 مايو 2012

تفسير سورة البقرة من الآية ( 275 - 281) من دورة الأترجة

د. أحمد بن محمد البريدي


بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربِّ العالمين,والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذا اليوم نلتقي نحن وإيّاكم على مائدة من موائدالقرآن لنتدارس بعض آياته, ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يُوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.
أيّها الإخوة قد جرّبتم في الأسابيع الماضية طول المقدار الذِّي يتمّ تفسيره في هذه الجلسات, ولذلك - سأحرَصُ بإذن الله - تبارك وتعالى - أن أكون وسطاً حال تفسير الآيات بلا إطالة حتى نتمَّكن إن شاء الله من إعطاء جميع الآيات حقّها، خاصةً وأنَّ هدفي في هذا اللقاء هو بيان كتاب الله - تبارك وتعالى - وبيان هذه الآيات وما يتعلق بهذه الآيات، وما يقرّب هذا البيان . أمّا الأشياء الزائدة والتي غالباً مايُلحِقُها أهل التفسير في تفاسيرهم فليس محلُّها هذه الدروس القليلة والتي جُعل فيهامقدار كبير جداً لتدرسيها. وأنتم تعلمون أنّا سندرس نحن وإيّاكم إن شاء الله ما يقرب من جزء كامل من القرآن.
المقطع الأول :
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَيَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281)}.
قال الله في محكم التنزيل, أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) هذه الآيات أتت بعد ماذا أيّها الإخوة ؟! بعد آية الصَّدقات . وما هي الآيات التي أتت بعدها ؟! آية الدَّين.
ما علاقة هذه المواضيع الثَّلاثة بعضها ببعض؟! هذا يُـسمُّوه أهل العلم "التَّـناسب بين الآيات " . نحن نعلم أنّ القرآن نزل ليس بهذا الترتيب، أليس كذلك؟!
القرآن نزل حسب الوقائع والأحداث ، فأوَّل سورة نزلت صَدر سورة "إقرأ" ومع ذلك نجدها في القرآن متأخرة لكن من الذي رتّب الآيات بهذا الترتيب؟!
 الجواب: النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث إذا نزلت الآية يقول: ضعوا هذهالآية في مكان كذا وكذا . ولذلك ترتيب الآيات إنّما هو - بإجماع أهل العلم - على هذاالترتيب , ولمَّا كان تر تيب الآيات هو من قبيل الوحي فإنَّ العُلماء تلَّمَسُوا هذه المناسبات, تظهر أحياناً وتخفى أحياناً، لكن ما ظهر لنا منها فإنّنا نؤمن به ونُظهِرُه, وما لم يظهر لنا فإنّنا نَكِل علمه إلى الله ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [1] وربَّما يأتي من يُظهره.
هذه المواضيع الثلاثة آيات الصدقات، ثم آيات الربا ثم آية الدَّين , ذكر ابن القيم المناسبة في هذه العبارات - قال ابن القيّم : "ذكر سبحانه المُحسِن وهو (المتصدق) ثم عقَّبه بالظَّالم (وهو المُرَابي) وهو على العكس" [2] .
المُتصدِّق يبذُل ماله في الظَّاهر أنّه ينقص لكنّ الله يُنمّيه , المُرابي يأخُذ المال زيادة في الظَّاهر أنّه زيادة، لكن في الواقع محق كما سيأتينا.
إذا قال ابن القيّم -على العكس تماماً- , يقول: ذكر سبحانه المُحسن وهو المُتصدِق ثم عقّبه بالظالم وهو المُرابي ثم ذكر الله العادل [3] .
العادل من هو؟! المراد الذي ذكره الله في آية الدين الذي ذكر الله عزوجل وهو الذي يأخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادةٍ ولا نقصان, إذا هناك ترابط جميل جداً، ترابط جيد.
وأنا أقول يا إخواني نحن في هذه الدروس سنحرص أن نُفسِّر، لكنِّني سأضيف إليها إن شاء الله أحياناً - بحسب ما يسمح الوقت- "صَنعة علم التَّفسير" وأنا أدعو الإخوة أن يجعلوا أحيانا ربّما في ثنايا الدورة، أو إذا كان هناك مجال ما يُسمى بــــ "صنعة علم التفسير" بمعنى أن يَجلِس المُلقِي، والشِّيخ مع بعض الطُّـلاب، ويأخذوا وجهاً واحداً ويتدربّوا عليه, بمعنى يقول:
 ما مناسبة هذه الآية ؟!
لماذا ذكـر الله هذه الكلمة ؟!
كيف ذُكرت هذه الكلمة ؟!
لماذا ختم الله بهذه الآية؟!
لماذا أظهر فيموضع الإضمار؟!
الذي يُسمّونه "صنعة علم التفسير" يتعلَّم الطالب علم التفسير, لأنَّ التفسير إمّا أن تتعلمّه، أو تتعلّم صنعته , وسأحاول أن أذكر لكم بعض الأشياء أثناء الشَّرح , لكن لأنّ الكمّية كبيرة فلا أستطيع أن آخذ وأعطي مع الإخوة وإلاَّ من طريقتي في التفسير ألاّ أجعل التَّفسير من طرفٍ واحد , وأن أجعل الإخوة المُتلقّين هم الذين يعطوننا أكثر الأشياء لأنّ الشي إذا حصل فيه أخذ وعطاء والإنسان استنبطه بنفسه يستفيد أكثر.
ولذلك يقول الشيخ ابن عثيمين- له منهج في التفسير- يقول: أول ما تنظُـر في الآية انظر لها بنفسك, لا تنظر لأحد , حاول أن تتدبّر تستنبط تتعلّم , ثم قيّد هذه الأشياء ثم ارجع إلى كتُب التفسير، ووازن مع نفسك, كيف هل أنت أصبت أو أخطأت ؟! تجد أنّك في الآية العاشرة تُصيب، أكثر مّما أخطأت في الآية الأولى وهكذا.
وهكذا علم التفسير علم طويل, وكتاب الله عزوجل أكثر من ستة آلاف آية , ولذلك تعلُّم صنعة علم التفسير من المهم , إذا ذكرنا الآن المناسبة يا إخواني بين هذه الآيات.
قال الله - تبارك وتعالى -  (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) الربا لغةً : الزيادة مطلقاً . وهو ينقسم إلى قسمين:
*ربا نسيئة: وهو التأخير .
*وربا فضل وهو الزيادة .
ورباالنسيئة : هو ربا الجاهلية الذي وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك حُرّم ربا النسيئة بالإجماع , وقد حصل خلافٌ يسيرٌ في ربا الفضل، والصّحيح من أقوال أهل العلم على أنّ الربا كله نسيئته وفضله كذلك مُحرّم .
قال الله - تبارك وتعالى - (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) كيف يأكلون الربا؟! الذين يشربون الربا؟! الذين يسكنون عن طريق الربا؟! لم يُذكروا في القرآن .
نقول: الله حرّم الربا بجميع وجوه وأنواع الانتفاع, لكن ذكر الأكل لماذا ؟! لأنّه أعمّ وجوه الانتفاع, دائماً إنما يأخذ الإنسان الربا لماذا؟! في الغَالب يأخذه ليأكله .ولذلك ذكر الله الربا في هذه الآية ذكر الأكل، وإلاَّ المحرم جميع وجوه الانتفاع أكلاً ، وشرباً وسكناً ، وغير ذلك , متى ما رابيتَ فهُـو محرّم وداخل في هذه الآية سواء كان أكلاً أو غير ذلك.
ولذلك من العجيب – أنّا لم أتوقع أنَّ أحداً تطوف عليه مثل هذه الأشياء - حتى كنت في الصَّيف الماضي مع أحد طلبة العلم في لندن، فتدارسنا بعض المواضيع ، قال : هل تعلم أنّ بعض المسلمين الآن يأخذون من البُنوك الربوية بيوتاً يُموِلّونها ليسكنوا، فيها؟!
فلمّا ناقشناهم قالوا: الله لم يحرّم إلا الأكل! . قلت: أصحيح ! هل وصَل بالنَّاس إلى هذا الفهم ؟! قال: إيّ والله ، بل إنّهم من الطيّبين أحيانا!. فاستغربت كثيراً ! قلت: كيف يغيب على الناس هذا المعنى؟! يقولون: الله ما حرّم إلا الأكل، أمّا في الشُّرب والأكل فتأخذ من البنوك الربوية ولا يَضُرُّك ! .وهذا من الجهل بكتاب الله تبارك وتعالى . إذا قلنا أنّ الله - عزّوجل - خصّ الأكل لأنّه أعمّ وجوه الانتفاع .

/ ثم قال الله - عزوجل - (لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) القيام هذا، أين محلّه ؟! هذا الذي نُسميّه "صنعة علم التفسير" أين محلّ هذاالقيام ؟ العلماء فيه على قولين:
*القول الأول: هو يوم القيامة ، وعلى هذا أكثرالمفسّرين، أيّ لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، إلا كما يقوم المصروع حال صرعه ، وتَخبُّط الشَّيطانِ له ، وذلك أنّه يقوم قياماً منكراً . ولذا قال ابن عباس: "آكل الربا يُبعث يوم القيامة مجنوناً يُخنَق" [4] وهذا لا مجال للرأي فيه, وهذا نُسمِّيه من المرفوع حكماً . وهناك رواية أخرى عن ابن عباس : "يُقال لآكل الرِّبا يوم القيامة خُذ سلاحك للحرب" لماذا؟ !.لأنـَّه سيأتينا في الآيات أن الله عزوجل قال: (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) يقول ابن عباس: "الذِّي يـَأكل الرِّبا في الدُّنيا، إذا بُعِثَ يوم القيامة، يقال له أوَّل ما يقوم خذ سلاحك للحرب، في الأصل أن الإنسان سينشغل في يوم القيامة من أهواله، ويريد أن يُنجّي نفسه من هذه الأهوال. وقد جاء هذا في أحاديث كثيرة, ولذلك تصوَّروا عظم أكل الربا.
يقول ابن عباس : "يُقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب"  [5] وقرأ آية البقرة وهذا القول الأول أنَّ القيام إنَّما يكون يوم القيامة.
القول الثاني : أنّ القيام هذا محلّه الدنيا, كيف محله الدنيا؟! يقول من قال به من أهل العلم أنّهم لشّدة شغفهم بالرِّبا، كأنَّما يتصرفون تصّرف المُتخبّط الذّي لا يَشعر لأنَّهم سُكارى بحُبِّهم للرِّبا , لماذا قال بعض أهل العلم إنَّ القيام هذا يكون في الدنيا؟!
قالوا: لأنّ يوم القيامة ليس له ذكر, لم يتقدم ذكر الذين يأكلون الربا يوم القيامة  (لاَيَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) ولذلك قالوا لم يجرِ له ذكر، ولذلك اخترنا أنَّ هذا القيام إنما هو في الدنيا, والأقرب والأولى أنَّ الصحيح هو القول الأول وأنّ القيام يوم القيامة ولا مانع أن نقول هناك إشارة لتخبّط أكلة الربا في الدنيا ، أنتم تعلمون الآن ما حصل بعد الاقتصاد العالمي عندما انهار، بدؤوا يتصارعون ! ومن عداوتهم للإسلام يعترفون, انظر لتخبّطهم للدنيا وصل بهم إلى أنّهم يقولون لن يُصلح أحوالنا إلا أن تكون الفائدة صفراً ,أكبر روؤساء البنوك العالمية يقول: لن يُصلِح أحوالنا من هذا الانهيار إلا أن تكون الفائدة صفراً -أي بمعنى لا نريد ربا- كما هو حال الإسلام , بل إنّهم قالوا لابد أن نُدخِل الاقتصاد الإسلامي باقتصادنا، وأن يُدرَّس الإسلام في اقتصادنا،لأنّه ثبت أنّ أقل من تأثّروا بالأزمة العالمية البنوك الإسلامية , انظروا لحكمة الله - عزوجل - في تحريم الربا, الله تعالى حرّم الرِّبا لِحكم عظيمة, لا تظهر من أول وهلة ، لكنَّ والله قد أعطانا الله عزوجل هذا الدَّرس العظيم في الأزمة العالمية حتى إنّ كبراءهم يُصرِّحُون يقولون والله لن يُصلح أحوال الغرب إلا بفعل الفائدة (الرِّبا) الذِّي يسمونه صفراً.
/ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) القياس ماذا يقول؟!
القياس يقول : إنَّما الربا مثل البيع!، لأنَّ البيع متعارف عليه أنّه حلال، فلماذا قالوا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ؟ عكسوا, الأصل أن يقولوا: إنّما الربا مثل البيع, لأنّهم أصلا لا يريدون القياس , إنّما يريدون مجرّد الاعتراض ولذلك لم يُدققوا حتى في صحة القياس, مجرّد أن يعترضوا على حكم الله , ولم يريدوا القياس أصلاً لأنَّ المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله - عزوجل - في القرآن .
/ ثم قال الله - تبارك وتعالى - (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) "الواو" هنا يُحتمل أنّها عاطفة يعني هذا من تمام كلامهم ، ويُحتمل أنها استئنافية من كلام الله - تبارك وتعالى - (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) .
/  (فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَاسَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ) أيّ من بلَغَـه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشَّرع إليه فله ما سلف من المعاملة وهذا من عدل الله , الآن أنت تبت لك ما سلف، كما قال الله عزوجل: (عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف) [6]
وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع: وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين وأول ربا أضع ربا العبّاس [7] ولم يأمرهم النبي بردّ الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عمَّا سلف كما قال الله تعالى: (فَلَهُ مَا سَلَفَ) أي ما كان أكل من الربا قبل التحريم , ثم قال الله متوعداً (وَمَنْ عَادَ) أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله له عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحُجّة, ولذلك ختم الآية بقوله: (فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . وقد روى أبوداود عن جابر- رضي الله عنه - قال : لمّا نزلت:(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَيَقُومونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من لم يَذرِ المُخابرة فليُؤذِن بحربٍ من لله ورسوله )[8]. وإنّما حُرِّمت المُخَابرة وهي المزارعة لبعض ما يخرج من الأرض، والمُزابنة وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض, والمُحاقلة وهي اشتراء الحبّ في سُنبله في الحقل بالحبً على وجه الأرض, إنَّما حُرّمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الرِّبا لأنّه لا يُعلَم تساوي الرُّطَب مع التمر اليابس قبل الجفاف, ولهذا وضع الفقهاء قاعدة: الجهل بالمُماثلة كحقيقة المُفاضلة , فعندما تزيد تقول: أُعطيك هذا عشرة بخمسة عشر, هذه حقيقة المُفاضلة الجهل كذلك في المُماثلة ، أن تجهل هل يمكن يكون هذا مثله أو أقلّ. وهذه قاعدة في الربا .
ولذلك الإسلام سدّ كل وسائل الربا, كل الأبواب أغلقها،لأنّ الربا عاقبته على الفرد والأمّة وخيمة, ومن هذا حرّموا أشياء بما فهِموا من
تضييق المسالك المُفضية إلى الربا والوسائل المُوصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم قال تعالى: (وفوق كل ذي علم عليم). ولذلك نجد بعض العلماء، يُجيز بعضا من الصُّور وبعض العلماء يُحرّمها, السَّبب في ذلك؟! أنّها من الوسائل المُفضية إلى الربا فاختلف نظر أهل العلم, وإلاّ لم يختلف أحد من أهل العلم بحرمة الربا.
ولذلك ذكر شيخ الإسلام أنه أشكل على بعض أهل العلم بعض أبواب الربا, وكان عمريقول: " ثلاثٌ، وددت أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهنّ عهداً ننتهي إليه الجدّ -أي ميراث الجدّ والكلالة - أيّ ميراث الكلالة - وأبواب من أبواب الربا"[9] يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا, والشريعة شاهدة بأنّ كل حرام فالوسيلة إليه مثله .
جاء عن ابن عباس أنّه قال : "آخر ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  آية الربا [10] ، وروى أحمد أنّ عمر قال: "من آخر ما نزل آية الربا , وإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبِضَ قبل أن يُفسّرها لنا فدعواالربا والريبة )[11]. وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله ( الربا ثلاث وسبعون باباً ) [12] وجاء عنه: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا ، قيل له: الناس كلهم؟! قال: من لم يأكله منهم ناله من غباره ) [13] - نسأل الله العافية والسَّلامة – .
آخر آية نزلت هي: آية الربا, هناك نص آخر سيأتينا أنّ آخر آية نزلت هي قول الله : (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [14] وسيأتينا إن شاء الله أنّ بعض السلف قالوا: أحدث آية في العرش هي آية الدين , يعني هي آخر ما نزل .
الآن عندنا في آخر ما نزل ثلاثة أقوال :
/ القول الأول: آية الربا.
/ القول الثاني: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ) .
/ القول الثالث:آية الدَّين .
/ القول الرابع :"اليوم أكملت لكم دينكم" لكن هذا ليس بصحيح ,نزلت في عرفة قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشهر , نزلت في حجة الوداع في عرفة.
الجمع بين هذه الأقوال سهل جداً نقول :
 هذه الآيات نزلت كترتيبها في المصحف, نزلت جميعاً فكل صحابي أخبر عن بعض ما نزل, آية الربا, ثم (واتقوا يوماً تُرجعون)  ثم آية الدين , فهي نزلت جميعاُ.
فصحابي قال: آخر ما نزل آية الربا .
وصحابي قال: (وَاتَّقُواْيَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ )
وصحابي قال: آية الدين .
نحن نقول إنّ آخر ما نزل آية الدَّين , معناه إنّ أكثر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الرِّبا موجود , هل مُهِّدَ له؟ نقول: نعم , فالشَّيء المتأصّل في الناس من حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يأتيهم بالتحريم مُطلقاً, فالخمر حُرّم على أربعة مراحل:
كما قالت عائشة: (والله لو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر , لقالوا لا ندع الخمر أبداً) [15] لأنّ الخمر كان متأصّل جداً عندهم ، فأول ما نزل التلميح دون التصريح وهي آية النحل (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) [16] فمن ثمرات النخيل والعنب الذي كان في ذلك الزمان"هو مادة الخمر " أو أغلب مادة الخمر عندهم (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) يعني تُخمّرونه حتى يُسكِروتتخذون منه
(رِزْقًاحَسَنًا) تأكلونه في موائدكم رزقاً حسناً , تُقدّم التمر , تُقدّم العنب , فكأنّ هذا مثل لفت النظر .
ثم أتت المرحلة الثانية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) [17] حتى الآن يُخاطب الجانب العقلي, التفكير , فكّر، فما دام أنّ فيه إثم كبير،فما فائدة الخمر؟!
المرحلة الثالثة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [18] فضيّق الوقت, فكان في ذلك الوقت لا يستطيع أحد أن يشرب بالخمر إلا في وقته، بعد الفجر لأنَّـه وقت طويل يستطيع أن يخمِّر، ويشرب ويصحو وبعد العشاء، بعد الفجر عادة الناس ماذا يفعلون؟! في العمل معناه أنّه ذهب عليه الوقت فإذا جاء في الليل هل الأفضل له أن ينام ليعمل غداً؟ أم يسهر بالليل وينام عن عمله صباحاً؟! فضُيّق هذا الوقت, فما بقي إلا قليل, أصحاب اليسار الغير مرتبطين بأعمال معيّنة, حتى نزلت: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [19] فقالوا انتهينا, انتهينا, وتابوا وسالت أزّقة المدينة بالخمر، متى؟! لمّا استقرّ الإيمان في قلوبهم , وهكذا لا بدّ أن تكون الدعوة .
الربا بعض أهل العلم يرى أنّه مرّ بمراحل كمراحل تحريم الخمر , لأنه متأصّل عندهم بل كانت قبائل تُرابي قبائل معروفة , قبيلة كاملة هي التي تعطي القبيلة الفلانية الربا , العباس عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشهور بقضية المراباة , ولذلك قال أول ربا أضعه ربا العباس .
مراحل تحريم الربا :
المرحلة الأولى : في سورة الروم , وآية الروم مكيّة (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [20] إشارة إلى التفريق بين الزكاة والربا, الزكاة هي النَّماء الحقيقي وهي المضاعفة الحقيقية بخلاف الربا , فهي إشارة إلى الربا أنّه لاينمو بخلاف قصد صاحبه, وهو يقابل آية تحريم الخمر آية النحل (ومن ثمرات النخيل) .
ثم أتت المرحلة الثانية : الإشارة إلى اليهود (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [21] فإذا كان حُرِّم على اليهود ألا يُمكن يُحرَّم على خير أمّة أُخرجت للناس،من باب أولى وهذه إشارة.
ثم أتت المرحلة الثالثة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْلاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [22] ما معنى أضعافاً مضاعفة؟! أي لا تأكلوا أكثر من ضِعف, هذا معنى الآية،بمعنى أنّ العشرة تكون عشرين, لا تكون أكثر من ضعف, فسقط جملة كبيرة من الربا أي ضيّق مادة الربا, بعض المُرابين الجشعين ضعف واحد لا يكفينا ، نريد أكثر.
ثم نزلت الآية الحاسمة للربا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَابَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [23] فحسم الله مادة الرِّبا قليله وكثيره، وإني أعجب من بعض المفُتين الذين أفتوا أنّه يجوز إلى الضعف استدلالاً بهذه الآية, إذاً لماذا لا ترد هذا إلى المُحكم الذي نزل بعده؟! يقول يجوز أن ترابي للضِّعف - نسأل الله العافية والسلامة – وهذا من الإيمان ببعض الكتاب والكُفر ببعضه , وإلا ما الذي جعلك تأخذ آية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) ولا تأخذ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) قليله وكثيره.
/ في الآية إثبات المَسّ وأنّه حقيقة أثبتها القرآن بخلاف من يُنكر صرع الجِنّي للإنسي وإلا ما ضُرب للمثل لأنَّ الله لا يضرب أمثال بما لا يعلمه النّاس، ولذلك لمَّا ذكره دلّ على أنّه حقيقة واقعة وهذا شيء مشاهد حتى بين الناس.
/ ثم قال الله : (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍأَثِيمٍ) [24] يمحق في اللغة : يُزيل , لكن كيف يمحق الله الربا؟! بعض الناس يقول والله أنا أرى البنوك كل يوم تزيد أرصدته! ، كيف تقولون أنّه يُمحَق؟ نقول المحق على وجهين:
الوجه الأول : زواله بالكلية من يد صاحبه .
الوجه الثاني : زوال بركته, فلا ينتفع به بل يُعذِّبه، ولذلك يُقال أنّ آكل الربا دائماً قلق على ماله, تجدعنده حب وجشع، وما أقدم على هذه الكبيرة العظيمة إلا من جشعه, فتجده قلق , بدل من أن يكون المال راحة للإنسان يكون سبباً لشقائه.
وقد قصَّ لي أحد الإخوة قصة عجيبة تعجبّت منها كثيرا , يقول أنّ أحد الإخوة من الطيَّبين، وهو صاحبنا الذّي قال لي عن الذين يأكلون الربا سكناً - قص لي قصة عن أحد الإخوة هناك يقول : إنّه كان من الإخوة ، وكان عنده مبلغ ثلاث مائة ألف جنيه إسترليني واشترى بيت من البنك , اشتراه بالربا. قلنا له: اشتري من مالك الموجود ؟ قال: لا , مالي هذا سأبيع واشتري فيه , هذه فرصة أشتري من البنك .
قلنا له : ربا . قال: لا , الله قال (يأكلون الربا) . يقول فاشترى من البنك , ويحدِّثني صاحبي يقول والله أعرفه كما أعرفك أنت , وكان هذا الرجل إقامته في البلد إقامة غير نظامية فلا يستطيع إيداع هذا المبلغ الكبير في البنك, فوضعه في بيته , فكأنَّ الله عزوجل أراد خُذلانه , فحدَّث بعض النَّاس أنّ عنده مبلغ من المال , فلمّا خرج أتى السُّراق وأخذوا الثلاث مائة ألف كلها , وحلَّت عليه أقساط البنك .
يقول: والله رأيت ذلك الرجل بعد أكله الربا يسير في الشارع والناس يضحكون عليه , تغيّررأيه من هول الصدمة .
الآن المال الذي جَمَعه طول عمره ذهب! , وبَقِي عليه أَقساط البنك, والبُنوك هناك لا ترحم يمكن أن يخلعوا الثوب الذي عليه ، وأن يحجروا عليه , فصَدق الله (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)
إذا يا إخوان المَحق إما يكون بـ :
* زواله بالكُلِّية كما حصل لصاحبه.
* أوذهاب بركته كما قال الله عزوجل : (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [25] . وقال تعالى: (لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [26] . وقال تعالى: (وَمَاآتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَا للَّهِ) [27] . وهذا من باب المعاملة بنقيض القصد كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنّ الربا وإن كثُر فإنّ عاقبته تصير إلى قُلّ) [28] يعني إلى قليل .
(وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وقُرِئ "ويُربّي" , أيّ يُكثّر، ويُنمِّي ، ويُضاعِـف، ويزيد كما قلنا أنّه بخلاف الظاهر، وأنَّ الربا ظاهره الزيادة وهو المحق, والصَّدقة ظاهرها النقص وهي زيادة.
(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الله - عزوجل - لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل, والكفّار مبالغةٌ من الكفر وهو الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم المبالغ في ارتكاب الإثم المُصرّ عليه .
/ ثم قال الله  - عزوجل - (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) قال ذلك - سبحانه وتعالى - مادحاً للمؤمنين بربهم ، المطيعين أمره , المُؤدِّين شكره , المحسنين إلى خلقه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، مُخبراً عمّا أعدّ لهم من الكرامة , وأنّهم يوم القيامة من التبِعات آمنون.
/ ثم قال الله - عزوجل - (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) أي خافوا الله - عزوجل - وراقبوه فيما تفعلون (وَذَرُواْمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وانظروا بداية الآية، وخاتمة الآية , لن يترك أحدٌ يا إخواني الربا إلا لإيمانه , لماذا ؟! لأنّه لو كان هناك شيء غير الإيمان لدعا الله - عزوجل - به عباده , قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْاللّهَ) دعاهم بالإيمان , وختم الآية بقوله: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) لأنّ النَّفس قد جُبلت على الجشع , جُبلت على حُبّ المال, والله لن يدع الربا أحد إلامن اجل إيمانه وخوفه من عقاب الله , وإلا الربا من أسهل ما يكون , تجعل المال في البنك وتأتيك زيادة مضمونة , خسر البنك , زاد , ما عليك منه , لكن لن يدع الربا إلامن دعاه إيمانه لترك الربا , ولذلك فُتحت الآية بالدعوة إلى الإيمان بصفة الإيمان وخُتمت كذلك به . (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) كما قال ابن عباس : "يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب" [29] . المسألة حرب, من يقدر على محاربة الله ورسوله ،  "فأذنوا" أيّ فاعلموا , فالأذان الإعلام , كما في أوقات الصلاة .
/ ثم قال الله - عزوجل - (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)
 هذه مسألة : 
 إذا تاب الإنسان من الربا , قال الله: (فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ) ما هو رأس المال ؟! يعني الإنسان بدأ الرِّبا ومعه عشرة آلاف ريال , وتاب وعنده مليون , وباقي عند الناس أموال , له العشرة ولا المليون؟! العشرة , هذا قول جماهير العلم , أنَّ رأس المال قبل الربا (فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ)  أيقبل الربا, ركِزّوا معي في هذه المسألة لأنَّ شيخ الإسلام أدرج هذه الآية في كتابه "تفسير آيات أشكلت على العلماء" وجعلها من الآيات المُشكِلة وقال الصواب ما ذكر, إذا أنتم تقولون أنّ رأس المال هو العشرة أي ما قبل الربا , شيخ الإسلام ابن تيمية له رأي آخر يقول : أنّ راس المال ما كان قبل التوبة .
والفرق بين القولين فرق كبير , بمعنى أنَّ الرَّجل الذي بدأ الربا عنده عشرة آلاف وتاب وعنده مليون , رأس ماله على قول شيخ الإسلام مليون , وعلى القول الآخر عشرة آلاف , الله قال (فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ) وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام , اختاره لماذا؟!
يقول شيخ الإسلام  - رحمه الله -"ومن تدبّر أُصُول الشرع عَلِمَ أنَّه يَتلطّف بالناس في التوبة بكل طريق" [30] إذا جئت للمُرابي وقد ضعُف إيمانه سابقاً ورابى, ثم جئت إليه وقلت تبّ إلى الله وعنده قصر وعنده خير, وهو يريد أن يتوب ، الله زرع في قلبه التوبة , ثمّ قلت له ارجع إلى الصِّفر! , فإنّ هذا مّما يُعين الشيطان عليه , لكن نحن نريد ماذا؟!
يقول شيخ الإسلام: "ومن تدبّر أصول الشرع علِمَ أنّه يتلطّف بالناس في التوبة بكل طريق" , ولذلك استدلّ شيخ الإسلام بادلّه كثيرة ، أي ليس هذا فقط ، ارجعوا إلى الكتاب المًشار إليه "تفسير آيات أشكلت على العلماء" ، لكن حال الرسول لمّاوضع الربا ما أمر النَّاس بردّ الزيادة , وضع الربا وسكتّ عمّا أخذوه .وهذا - والله أعلم - هو الصَّواب خاصّةً في زماننا الذِّي تعقدّت فيه المعاملات المالية .
الآن نرى – بفضل الله - تحوّل كثير من البنوك حتى في السعودية إلى المعاملات الإسلامية , فعلى هذا القول يُشجعهم ويُعينهم خاصّة وأنّ الآية تحتمل هذا الكلام , والنُّصوص الشَّرعية كذلك تؤيّد هذا الكلام , النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أمرهم بردّ الزيادة منذ أن رابوا, ولذلك الأقرب - والله أعلم -، والعلم عند الله أنّ رأس المال هو ما كان قبل التوبة .
لكن إنسان دخل في معاملة واستلم المليون وعنده قضايا ربوية خمس مائة ألف مثلاً ، يأخذها؟! لا يجوز ، لابد أن ينتهي , التوبة من الربا أن تتوب عمّا بقِي , والله - عزوجل - يتولّى أمرك فيما سلف , وعندنا نصوص شرعية أنّ الله يُبدّل الحسنات سيئات، ويُدعى التائب بكثرة الصدقة لعلّ الله - عزوجل - أن يتقبّل توبته , لكن في أحكام الدنيا هذا هو المراد.
/ الله عزوجل قال (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) لمّا وضع الله - عزوجل - الربا وطالب برأس المال , في أُناس حتى مايستطيعون ولا ردّ رأس المال فقال الله عزوجل: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) العُسرة : هي ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة . "فَنَظِرَةٌ" أي تأخير "إِلَى مَيْسَرَةٍ"  ، ثم دعاهم الله - عزوجل - إلى قوله: (وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) فهذه الآية اشتملت على أمرين:
الأمر الأول: الإنظار , إنظار المُعسِر وهذا واجب , يجب على كل من داين إنساناً مُعسراً أن يُنظره وقد ورد في الأحاديث الصحيحة على فضيلة الإنظار . منها ما جاء في الصحيح أنّ أبا قتادة كان له دينٌ على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه , فجاء ذات يوم فخرج صبيّ فسأل عنه فقالن عم، هو في البيت . فناداه قال يا فلان أُخرج فقد أُخبرت أنّك ها هنا فخرج إليه . فقال: ما يُغيّبك عنّي؟!
– بعض الأطفال أبوه يقوله قل لهم ما هو في البيت، فيأتي بالعبارة كاملة فيفضح والده، فهذا الصبي فضح والده أخبره أنّه في البيت -
فقال: أنا مُعسِر، وليس عندي قال له أبا قتادة: آلله، إنّك مُعسر - يعني استصعب على نفسه- أبا قتادة يُلاحق مُعسِراً ـ قال: نعم . فبكى أبا قتادة ثم قال سمعت رسول الله يقول: (من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظلّ العرش يوم القيامة) [31] فالإنظار يا إخواني واجب لكنّ الله دعانا إلى ما هو أفضل من الإنظار في الآية قال: (وَأَن تَصَدَّقُواْ) معناها تضعُوها عنه, أنت مُعسِر والله موسّع عليك , ولذلك أنا أستغرب من بعض أصحاب العقارات الهائلة الذين يُخرجون شاب فقير مسكين من بيته إذا عليه إيجار , تجد عنده عشر عمائر وعنده في العشر عمائر أربعين شقّة، وفي الشقة هذه فقير ما يستطيع أن يدفع إيجار البيت، فيأتي صاحب العمارة بالشرطة ليُخرِج هذا الفقير من البيت , يا أخي هذا مُعسِر، اصبر عليه , الله أنعم عليك بهذه النعم العظيمة, الله يقول (وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) ولذلك الصَّدقة سًنّة أمّا الإنظار واجب, فيجب عليك أن تُنظره إلى ميسرة ، وبقاء الحال من المُحال, إن شاء الله سيُغنيه ربّه عزوجل.
/ ثم قال الله عزّوجل واعظاً عباده مُذكراُ بزوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيره وإتيان الآخرة (وَاتَّقُواْيَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) يقول الله أنا أخبرتكم بحرمة الرّبا ،أخبرتكم بالصدقة أخبرتكم بكذا , لكن سيأتي يوم, وهو يوم الحصاد " (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) الله حَكَمٌ عَدل ، كُل ما ضاقت بك الدُّنيا تذكر أنّ الله لا يظلم أحداً . كل ما همّت نفسك بسوء تذكر أنّها ستُوفّى كل نفسٍ ما كسبت يوم القيامة. ولذلك قيل أنَّ هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن وقد تمّ الجمع قبل قليل بين هذا القول وقول آية الربا.
------------------------------
[1] يوسف76

[2] طريق الهجرتين فصل في مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيه

[3] المرجع السابق

[4] رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسدي، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.

[5] الراوي: - المحدث: أحمد شاكر - المصدر: عمدة التفسير - الصفحة أو الرقم: 1/330خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح

[6] المائدة95

[7] الراوي: عمرو بن الأحوص المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 3087
خلاصة حكم المحدث: حسن

[8] الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الضعيفة - الصفحة أو الرقم: 990
خلاصة حكم المحدث: ضعيف
لما نزلت : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال رسول الله : (منلميذرالمخابرة ، فليؤذن بحرب من الله ورسوله ) ،الراوي: جابر المحدث: أحمد شاكر - المصدر: عمدة التفسير - الصفحة أو الرقم: 1/331
خلاصة حكم المحدث: [أشار في المقدمة إلى صحته]

[9]صحيح البخاري باب مَا جَاءَ فِى أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ .

[10]باب ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )

[11]

[12] المستدرك على الصحيحين ، كتاب البيوع هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه
تعليق الذهبي قي التلخيص : على شرط البخاري ومسلم

[13]مسند الإمام أحمد تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده ضعيف عباد بن راشد ضعيف لكنه متابع

[14] البقرة281

[15]صحيح البخاري باب تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ .

[16] النحل67

[17] البقرة219

[18] النساء43

[19] المائدة90

[20] الروم39

[21] النساء160

[22] آل عمران130

[23] البقرة278

[24] البقرة276

[25] المائدة100

[26] الأنفال37

[27] الروم39

[29] سبق ذكره

[30]تفسير آيات أشكلت 2/ 595.

[31] مسند الإمام أحمدتعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح

/ مصدر التفريغ : ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق