الأربعاء، 14 مارس 2012

الحلقـــ الخامسةــــة في تفسير الآية (١٦٩ – ١٧٠) من سورة آل عمران




الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف رسله ،وبعد كنا قد وعدنا في اللقاء الماضي أننا سنكمل الحديث عن قول الله جل وعلا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ .. ) إلى آخر الآيات المتضمنة لهذا السياق المبارك .
وبينا في اللقاء الأول أن الله جل وعلا بعد أن بين ما كان من حال المنافقين وتثبيطهم الناس بحجة الموت ذكر هنا كما سيأتي قال جل ذكره (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) اللام هنا "لا" الناهية بالاتفاق ، و"تَحْسَبَنَّ" هذا الفعل أصله "حسِب" هذا مضارع منه والعرب تزعم أو النحاة يقولون إن الأفعال الناسخة للمبتدأ والخبر ثلاثة أقسام : كان وأخواتها ثم أفعال المقاربة والرجاء والشروع وهي الثانية والثالثة ما يعرف بـ"ظن" وأخواتها ، ويقولون إن ظن وأخواتها هذه تنقسم إلى قسمين أفعال قلوب وأفعال تحويل، و أفعال القلوب تنقسم كذلك هي نفسها إلى قسمين أفعال يقين وأفعال تدل على الرجحان، فـ"حسِب" بمقتضى كلام العرب تدل على الرجحان لكنها هنا تبين الأمر بجلاء يقول رب العالمين (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء) ، "بل" - قبل أن نأتي للمعنى - تسمى عند العرب أداة إضراب وإذا كان ما بعدها جملة فهي إضراب على كل حال إن كان ما بعدها مفردا أو جملة لكن إما أن تكون إضراب إبطال وإما أن تكون إضراب انتقال ،من هذا التأصيل النحو نأتي لمعنى الآية.
/ قال اصدق القائلين (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) تلحظ أن الله جل وعلا أثبت لهم الوفاة والموت في قوله (قُتِلُواْ) واثبت لهم الحياة بقوله (أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فعندما يقال إن فلان مات ويورث ، تتزوج زوجته من بعده ويُدفن في الأرض هذا بمقتضى قول الله - جل وعلا - (قُتِلُواْ) ، وعندما يقول قائل إن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين فهذا بمقتضى قول الله - جل وعلا - (بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) وهذا خبر عن الشهداء على خلاف بين العلماء هؤلاء الشهداء شهداء ماذا؟ هل الآية نزلت في شهداء بدر أو في شهداء أحد أو في شهداء بئر معونة ؟ والصواب أنها إلى شهداء أحد اقرب لكنها تعُمّ كل شهيد قتل في أرض المعركة وأراد بحربه إعلاء كلمة الله ، أراد بحربة وجه الله .
/ قال ربنا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الروح أيها المبارك لا تفنى إنما موتها أن تنفك عن الجسد ، وأرواح المؤمنين حية لكن حياة أرواح الشهداء أعلى مقاما من حياة أرواح من مات من المؤمنين لهذا خصها الله - جل وعلا - بالذكر وإلا لو كانت أرواحُ الشهداء مثلَ أرواح غيرهم لما أصبح للآية معنى لكن قول الله جل وعلا ( بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) المعنى بل هم أحياء عند ربهم يرزقون ، وجيء بقول الله - جل وعلا - (عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) لتأكيد أن هناك حياة حقيقة لهم ، حياة أرواح لكننا نجهل كنهها !! وإن جُلُّ ما ورد أنهم في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش ، تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش وتسرح في الجنة وتأكل من ثمارها وهذا مما أعده الله جل وعلا للشهداء لأن الشهادة ليست بالأمر الهين، الله يقول (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) ، خالد - رضي الله عنه وأرضاه - حارب مئات المعارك وما كتب الله له أن يموت شهيدا .
/ قال الله - جل وعلا - ( بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ)
الفرح قسمان : فرحٌ يتعلق بالملذات الأخروية وهذا محمود على كل حال وهو المراد بالآية .
وفرح دنيوي في الملذات الدنيوية وهذا ينقسم إلى قسمين : ملذات دنيوية تعين على الطاعة فهذا محمود وهو المراد بقول الله (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) وفرح لا يتعلق بِه فضل من الله وعون على الطاعة فهذا مذموم وهو المراد من قول الله في القصص (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) فالله جل وعلا هنا يقول ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) من هم الفرحون؟ الشهداء .
(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) هذه الآية فيها معنى خفي حتى تلحظون :
الآن نحن نرجح أن الحديث عن شهداء أُحد ، شهداء أُحد خرجوا جمعاً مع المسلمين منهم طائفة قُتلت - استشهدت - وطائفة بقيت أحياء هؤلاء الشهداء أنعم الله عليهم عندما قال (عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) مع الرزق الحسي الذي أعطاهم الله - جل وعلا - إياه إلا أن حياة المؤمن الحقة في عالم الأرواح ، في عالم الفهم ، في عالم العقول المدركة عن الله كلامه فجمع الله لهم مابين المتاع الحسي والمتاع العقلي ، أين المتاع العقلي ؟ أطلعهم الله جل وعلا - أي الشهداء - على ما سيكون من أمر إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم في الدنيا فعلموا مما أطلعهم الله عليه أن هؤلاء المؤمنين الذين كانوا مع النبي في أحد لا تصيبهم نكبة بعد اليوم فبلّغ الله عنهم هذا الكلِم - كما في الحديث - فقال الله جل وعلا عنهم (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم) من الذين لم يلحقوا بهم ؟ إخوانهم من الصحابة ، (أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) أي أن المؤمنين بعد أُحد لن تصيبهم نكبة .
والآن ابسط يد التاريخ لم يهزم المسلمون بعد أُحد إلى أن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كل الثُلة المباركة التي كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد لم تصبها فاجعة في الجيش حتى قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الثُلة نفسها خرجت في الخندق خرجت في معركة خيبر خرجت في تبوك خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجت في فتح مكة ولم تنكب .
/ قال الله جل وعلا (أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) نحرر ما معنى الخوف والحزن هنا :
الخوف : غم يصيب الإنسان خوف سوء عاقبة ، هذا يسمى خوف إذا هو في المستقبل .
الحزن : غم يصيب الإنسان إما لفوات نافع أو لحصول ضار إذا هو في ماذا في الماضي غم يصيب الإنسان إما لفوات نافع أو لحصول ضار فيصيبه حُزن ، نطبق : النبي عليه الصلاة والسلام لما مات إبراهيم هذا فوات نافع أو حصول ضار يأتي للاثنين قال (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن) الفائدة من السياق - وهو المهم - : أن من أحسن الاتجار مع الله بالإيمان والعمل الصالح لا يصيبه خوف ولا حزن لِمَ ؟
الجواب : قلنا الخوف غم يصيبك من حلول سوء عاقبة ، ولا يمكن لمن كان صادقا في نيته ، صالحاً في سريرته ، له من الأعمال الصالحة أن يصيبه سوء عاقبة ، إذاً انتفى الخوف ، وما دام صالحاً سيُقبل على نعمة الله ، سيدخل الجنة ،ولا يمكن أن يحزن احدُ على شيء من الدنيا فاته والله قد كتب له الجنة ، محال أن يحزن هذا معنى (أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) .
(يَسْتَبْشِرُونَ) الله جل وعلى يقول (بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) والفرق بين الإستبشارين :
الاستبشار الأول استبشار للغير لأن الله قال ( بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم) .
الاستبشار الثاني بحصول المسرة (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) ومن يريد أن يبقى ثابتا في الدين فليجعل بين عينيه هذا الجزء من الآية (وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) فالنفس إقبال وإدبار ، وإقدام وإحجام ، وقد تأتيك نفسك ، زوجتك و، لدك ، يثبطك عن العمل الصالح وإنما يُنتصر على هوى النفس وعلى ما تقوله الزوجة ويبتغيه الولد ويُمليه القرين بقول الله - جل وعلا - (وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) فمن يتاجر مع الله لا يمكن أن يخسر ، والمتاجرة مع الله - جل وعلا - إنما تكون على الإيمان والعمل الصالح ، وهؤلاء الشهداء ومن معهم من المجاهدين وكل من آمن وعمل صالحا إنما تاجروا مع الله في أعظم شي وهو النفس (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هذا ما يمكن أن يقال حول قول الله - جلا وعلا - (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) .
على أن الذين قُتلوا في سبيل الله من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير لكن ممن حفظ لنا التاريخ قول النبي - عليه الصلاة والسلام - (سيد الشهداء حمزة) ، وحمزة كنيته أبو عَماره وهو أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاع واستشهد يوم أُحد قتله وحشي كما مر معنا في دروس سابقه وهو - رضوان الله تعالى عليه - كان له أعظم البأس يوم بدر ، وممن استشهد مع رسول الله مصعب بن عمير وخلق كثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي النبي وفياً لهم فلما أنزل الله عليه قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) - نبيكم نبي وأيّ نبي - بدأ بالأقرب نزلت في عرفة فبدأ بمن حول الناقة يقول (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) يودعهم ، ثم أتى المدينة فبدأ بالأكثر والذين ماتوا من غير شهادة أكثر ممن ماتوا شهادةً فأتى البقيع وودع أهله ثم رقى المنبر ، قبل أن يرقى المنبرعلم الأنصار بمرضه فجلسوا في ناحية يتباكون فجاءهم الصديق والفاروق يسألانهم عن سبب بكائهم فاخبروهم بمرض رسول الله وشفقتهم من أن يموت فعاد الصديق والفاروق فاخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد المنبر وعليه عصابة يعصب بها رأسه قال الراوي من الصحابة : وما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر بعدها ، أي أنها في آخر أيام حياته الآن هي طرائق وفاء فقال : أوصيكم بالأنصار خيرا فإنهم كرشي و عيبتي و أثنى عليهم ، ثم نزل قبلها وهذا موضوع الشاهد في سياق الحديث ذهب إلى أُحد فأتى الشهداء الذين ماتوا في أُحد فسلم عليهم وأستغفر لهم وصلى عليهم ودعا لهم يودعهم ، بقي أنا وأنت لم نره ولم يودعنا ولم نودعه لكن بيننا وبينه موعد هو حوضه ، فمن رضي بالله ربا واطمأنت نفسه أن الله لا رب غيره ولا شريك معه وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله حقا بعثه بالهدى ودين الحق فأحبّ رسول الله وسعى جاهدا أن يستقيم وإن كانت له عثرات وزلات ، لكنه يتبع الخطيئة بالاستغفار ثم لم يقع منه أذى للناس سلَّم الله قلبه ولسانه من أن يأتي أحدا من الناس يذمه ولو قُدرأن أحدا في أي زمان ممن عُرف بالصلاح قال قولا فقهيا غير مقبول فإن القول الفقهي يُبين للناس بدليله نصحا للدين ، لكن القائل لا يجوز لأحد أن يمس عرضه بطرف لأن عرضه محفوظ بقواطع الشرع (إن دمائكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) فلا يجوز أبداً لاي لأحد كائنا من كان أن يمس عرضه ولو بمثقال ذرة لأن المحفوظ بنص قطعي لا يُقبل القدح فيه إلا بنص قطعي بقدر والكلام في الصفات غير الكلام في الذوات فالكلام في الذوات لأحد بعينه إنما هذا لأهل القضاء ليس لعامة المسلمين ولا لعلمائهم فالإنسان إذا راعى هذا بفقه أين مصلحة الدين وأين عرض أخيه مع محبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع توحيده الذي هو أعظم ما افترضه الله على عباده فهذا يرجى أن يقدُم على الحوض ويُسقى من يد محمد - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذا وإن كان سهلا هينا قوله لكن الثبات عليه دونه خرط القتاد لكن يثبت الله من يشاء وهو يسيرعلى من يسره الله عليه .
متعنا الله وإياكم متاع الصالحين هذا والله أعلم والحمد لله رب العالمين ....

---------------------------------------
قامت بتفريغ الحلقة الأخت : التواقة جزاها الله خيرا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق