دعا القرآن إلى التدبر في مواضع كثيرة، وحثَّ عليه، وتفنن في ذلك غاية التفنن، وحَرَّكَ القلوبَ والعقولَ إلى تأمل المعاني، والاتعاظ والاستبصار بما جاء من الله تعالى من التخويف والترهيب والترغيب، وما ذكر من مصير الأمم السالفة، حين استجابوا أو كذَّبوا الرسل عليهم الصلاة والسلام.
لذلك فإن المواضعَ التي يذكر فيها القرآنُ القَصَصَ، والأمثالَ، والتي يذكر فيها الحثَّ على: التَعَقُّلِ، والتَّذَكُّرِ، والتَّفَكُّرِ، والتقوى، والإيمان، والرؤية والإبصار، والسماع؛ فإنما يدعو فيها إلى تدبر القرآن، والتأمل فيما فيه من المواعظ والآيات، القائدِ بعد ذلك إلى التصديق والإيمان واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تنوعت الأساليب التي دعا فيها القرآن إلى التدبر، ويمكن بيان بعض تلك الأساليب فيما يأتي :
الأسلوب الأول: الحث المباشر على التدبر العام للقرآن ، وقد ورد ذلك في عدد من الآيات الكريمات منها:
أ ـ قوله تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
ب ـ قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
ج ـ قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 68].
د ـ قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: 29].
فقد دعا القرآن هنا إلى التدبر دعوة مباشرة صريحة، وأبان أنَّ عِلَّةَ إنزال القرآن؛ التدبرُ، ولا شكَّ أنها علةٌ عظيمةٌ قائدةٌ إلى كلِّ فلاحٍ وفوزٍ في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].
الأسلوب الثاني : توجيه الخطاب لأصحاب العقول والنهى (1):
فقد ورد توجيه الخطاب في القرآن الكريم إلى أصحاب العقول، والألباب، والنهى. وسرُّ ذلك: حثُّ أصحاب تلك العقول والألباب إلى استعمالها في تدبر النص القرآني، والاهتداء بما فيه، ومن تلك الآيات:
أ ـ قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) [آل عمران: 190].
ب ـ وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) [يوسف: 111].
ج ـ وقوله تعالى: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) [طه: 54].
د ـ وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) [طه: 128].
قال ابن جرير الطبري: "وخصَّ ــ تعالى ذكرُه ــ بأنَّ ذلك آياتٌ لأولي النُّهَى؛ لأنهم أهل التفكُّر والاعتبار، وأهل التدبر والاتعاظ" (2) .
وقال في تفسير الآية الثالثة: "إن فيما وصفتُ في هذه الآية من قدرة ربكم، وعظيم سلطانه لآيات: يعني لدلالات وعلامات تدلّ على وحدانية ربكم، وأن لا إله لكم غيره" (3) .
الأسلوب الثالث: ضَرْبُ الأمثال بقصد التفكر والتذكر:
فقد ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن الكريم، وحث على تأملها وتذكرها، في آيات عديدة، وفي مجالات متعددة، فضرب الله الأمثال: للإيمان، والكفر، والعلم النافع، وفضح النفاق، والحث على الإنفاق، والترغيب في الخير، والتنديد بالشر، وتصوير الطيب والخبيث، والصالح والطالح، ولإقامة الأدلة والبراهين، وبيان خيري الدنيا والآخرة . (4)
وقد قال الله تعالى في بيان الهدف من تلك الأمثال: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 25]، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]، وقال: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].
وأبان القرآنُ مصيرَ مَنْ لم ينتفع بتلك الأمثال كما قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا* فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا*وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا* وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا*وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان: 35 - 39].
قال ابْنُ جرير الطبري: "يقول تعالى ذكرُه: وكلَّ هذه الأمم التي أهلكناها، التي سمَّيْناها أو لم نسمِّها، (ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ) يقول: مثَّلْنا له الأمثالَ، ونبَّهْناها على حججنا عليها، وأعذرنا إليها بالعبر والمواعظ، فلم نُهْلِكْ منهم أمةً إلا بعد الإبلاغ إليهم في المعذرة" (5)
الأسلوب الرابع: تعليلُ الآياتِ وختمُها بما يدعو إلى التدبر:
فإن كثيراً من الآيات قد خُتِمَتْ بعلل تدعو إلى التدبر والتفكر، كما في قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 129]، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [البقرة: 221]، وقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 266]، وقوله تعالى: (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 65]، وقوله تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176]، وقوله تعالى: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 25]، وقوله: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) [طه: 113]، وقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [السجدة: 3]، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 27- 28]، وقوله تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان: 58]، وغيرها من الآيات الكثيرة.
ولا شكَّ أنَّ المؤمن يسعى لتحقيق تلك الغايات التي نزلتْ من أجلها الآياتُ، ولا يكون ذلك إلا بتدبر القرآن والتأمل فيه والعمل بما يتضمنه من أوامر وتوجيهات.
وقد أخبر الله تعالى أن الغافلين والكافرين والمتكبرين والمكذبين؛ مصروفون عن تدبر آياته وفهمها والانتفاع بها ــ ومنها القرآن ــ كما قال جل وعلا: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].
قال سفيان بن عيينة: "أنزعُ عنهم فهمَ القرآن، وأصرفُهم عن آياتي" (6) .
وقال ابنُ جرير الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، وغير ذلك من فرائضه . والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه؛ فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم" (7) .
الأسلوب الخامس: ذكر القصص القرآني للتفكر والعبرة:
قال تعالى: (ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 176 - 177].
وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
فقد صرَّحَ القرآنُ بأن في تلك القصص عبرةً، وطريق الاعتبار بتلك القصص هو تدبر القرآن.
وقد أحسن الإمام أبو جعفر الطبري ــ رحمه الله ــ عند تفسير آية الأعراف السابقة حيث كان عمله مثالاً يُحْتذى للتدبر فقال: " وأما قوله: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاقصص ــ يا محمد ــ هذا القصص، الذي اقتصصته عليك من نبأ الذي آتيناه آياتنا، وأخبارَ الأمم التي أخبرتك أخبارهم في هذه السورة، واقتصَصْت عليك نبأهم ونبأ أشباههم، وما حلّ بهم من عقوبتنا، ونزل بهم حين كذبوا رُسُلَنا من نقمتنا؛ على قومك من قريش، ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل، ليتفكروا في ذلك، فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا، لئلا يحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النّقم والمثلات، ويتدبَّره اليهود من بني إسرائيل، فيعلموا حقيقةَ أمرك وصحَّة نبوّتك، إذ كان نبأ (الذي آتيناه آياتنا) من خفيّ علومهم، ومكنون أخبارهم، لا يعلمه إلا أحبارُهم، ومن قرأ الكُتب ودرسها منهم . وفي علمك بذلك ــ وأنت أميٌّ لا تكتب، ولا تقرأ، ولا تدرس الكتب، ولم تجالس أهل العلم ــ الحُجَّة البينة لك عليهم بأنك لله رسول، وأنك لم تعلم ما علِمت من ذلك، وحالُك الحال التي أنت بها، إلا بوحي من السماء" (8) .
وبهذا يتبين أثر قصص القرآن في الهداية والإيمان واليقين عند التدبر الصحيح والتأمل بقصد الاعتبار والاستبصار.
--------------------------------------
1- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن السعدي
2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، دار هجر، ط1، 1422هـ.
3- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، راجعه وضبطه وعلق عليه: الدكتور محمد إبراهيم الحفناوي وخرج أحاديثه: الدكتور محمود حامد عثمان، دار الحديث القاهرة، ط2، 1416هـ.
4- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام السيوطي، صححه وخرج أحاديثه: الشيخ نجدت نجيب، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1421هـ.
5- زاد المسير في علم التفسير، للإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، دار ابن حزم، ط1، 1423هـ.
6- السلسلة الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ.
7- سنن ابن ماجه، المطبوع ضمن موسوعة الحديث الشريف الكتب الستة، بإشراف فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار السلام، ط3، 1421هـ.
8- سنن أبي داود، المطبوع ضمن موسوعة الحديث الشريف الكتب الستة، بإشراف فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار السلام، ط3، 1421هـ.
-----------------------------------
* من بحث بعنوان : تدبر القرآن الكريم (مفهومه ـ أساليبه ـ أسبابه ـ آثاره)
المصدر / موقع الد. فهد بن مبارك الوهبي
http://www.alwahbi.net/articles.php?ID=126&do=view
لذلك فإن المواضعَ التي يذكر فيها القرآنُ القَصَصَ، والأمثالَ، والتي يذكر فيها الحثَّ على: التَعَقُّلِ، والتَّذَكُّرِ، والتَّفَكُّرِ، والتقوى، والإيمان، والرؤية والإبصار، والسماع؛ فإنما يدعو فيها إلى تدبر القرآن، والتأمل فيما فيه من المواعظ والآيات، القائدِ بعد ذلك إلى التصديق والإيمان واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تنوعت الأساليب التي دعا فيها القرآن إلى التدبر، ويمكن بيان بعض تلك الأساليب فيما يأتي :
الأسلوب الأول: الحث المباشر على التدبر العام للقرآن ، وقد ورد ذلك في عدد من الآيات الكريمات منها:
أ ـ قوله تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
ب ـ قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
ج ـ قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 68].
د ـ قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: 29].
فقد دعا القرآن هنا إلى التدبر دعوة مباشرة صريحة، وأبان أنَّ عِلَّةَ إنزال القرآن؛ التدبرُ، ولا شكَّ أنها علةٌ عظيمةٌ قائدةٌ إلى كلِّ فلاحٍ وفوزٍ في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].
الأسلوب الثاني : توجيه الخطاب لأصحاب العقول والنهى (1):
فقد ورد توجيه الخطاب في القرآن الكريم إلى أصحاب العقول، والألباب، والنهى. وسرُّ ذلك: حثُّ أصحاب تلك العقول والألباب إلى استعمالها في تدبر النص القرآني، والاهتداء بما فيه، ومن تلك الآيات:
أ ـ قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) [آل عمران: 190].
ب ـ وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) [يوسف: 111].
ج ـ وقوله تعالى: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) [طه: 54].
د ـ وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) [طه: 128].
قال ابن جرير الطبري: "وخصَّ ــ تعالى ذكرُه ــ بأنَّ ذلك آياتٌ لأولي النُّهَى؛ لأنهم أهل التفكُّر والاعتبار، وأهل التدبر والاتعاظ" (2) .
وقال في تفسير الآية الثالثة: "إن فيما وصفتُ في هذه الآية من قدرة ربكم، وعظيم سلطانه لآيات: يعني لدلالات وعلامات تدلّ على وحدانية ربكم، وأن لا إله لكم غيره" (3) .
الأسلوب الثالث: ضَرْبُ الأمثال بقصد التفكر والتذكر:
فقد ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن الكريم، وحث على تأملها وتذكرها، في آيات عديدة، وفي مجالات متعددة، فضرب الله الأمثال: للإيمان، والكفر، والعلم النافع، وفضح النفاق، والحث على الإنفاق، والترغيب في الخير، والتنديد بالشر، وتصوير الطيب والخبيث، والصالح والطالح، ولإقامة الأدلة والبراهين، وبيان خيري الدنيا والآخرة . (4)
وقد قال الله تعالى في بيان الهدف من تلك الأمثال: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 25]، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]، وقال: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].
وأبان القرآنُ مصيرَ مَنْ لم ينتفع بتلك الأمثال كما قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا* فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا*وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا* وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا*وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان: 35 - 39].
قال ابْنُ جرير الطبري: "يقول تعالى ذكرُه: وكلَّ هذه الأمم التي أهلكناها، التي سمَّيْناها أو لم نسمِّها، (ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ) يقول: مثَّلْنا له الأمثالَ، ونبَّهْناها على حججنا عليها، وأعذرنا إليها بالعبر والمواعظ، فلم نُهْلِكْ منهم أمةً إلا بعد الإبلاغ إليهم في المعذرة" (5)
الأسلوب الرابع: تعليلُ الآياتِ وختمُها بما يدعو إلى التدبر:
فإن كثيراً من الآيات قد خُتِمَتْ بعلل تدعو إلى التدبر والتفكر، كما في قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 129]، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [البقرة: 221]، وقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 266]، وقوله تعالى: (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 65]، وقوله تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176]، وقوله تعالى: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 25]، وقوله: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) [طه: 113]، وقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [السجدة: 3]، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 27- 28]، وقوله تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان: 58]، وغيرها من الآيات الكثيرة.
ولا شكَّ أنَّ المؤمن يسعى لتحقيق تلك الغايات التي نزلتْ من أجلها الآياتُ، ولا يكون ذلك إلا بتدبر القرآن والتأمل فيه والعمل بما يتضمنه من أوامر وتوجيهات.
وقد أخبر الله تعالى أن الغافلين والكافرين والمتكبرين والمكذبين؛ مصروفون عن تدبر آياته وفهمها والانتفاع بها ــ ومنها القرآن ــ كما قال جل وعلا: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].
قال سفيان بن عيينة: "أنزعُ عنهم فهمَ القرآن، وأصرفُهم عن آياتي" (6) .
وقال ابنُ جرير الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، وغير ذلك من فرائضه . والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه؛ فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم" (7) .
الأسلوب الخامس: ذكر القصص القرآني للتفكر والعبرة:
قال تعالى: (ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 176 - 177].
وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
فقد صرَّحَ القرآنُ بأن في تلك القصص عبرةً، وطريق الاعتبار بتلك القصص هو تدبر القرآن.
وقد أحسن الإمام أبو جعفر الطبري ــ رحمه الله ــ عند تفسير آية الأعراف السابقة حيث كان عمله مثالاً يُحْتذى للتدبر فقال: " وأما قوله: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاقصص ــ يا محمد ــ هذا القصص، الذي اقتصصته عليك من نبأ الذي آتيناه آياتنا، وأخبارَ الأمم التي أخبرتك أخبارهم في هذه السورة، واقتصَصْت عليك نبأهم ونبأ أشباههم، وما حلّ بهم من عقوبتنا، ونزل بهم حين كذبوا رُسُلَنا من نقمتنا؛ على قومك من قريش، ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل، ليتفكروا في ذلك، فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا، لئلا يحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النّقم والمثلات، ويتدبَّره اليهود من بني إسرائيل، فيعلموا حقيقةَ أمرك وصحَّة نبوّتك، إذ كان نبأ (الذي آتيناه آياتنا) من خفيّ علومهم، ومكنون أخبارهم، لا يعلمه إلا أحبارُهم، ومن قرأ الكُتب ودرسها منهم . وفي علمك بذلك ــ وأنت أميٌّ لا تكتب، ولا تقرأ، ولا تدرس الكتب، ولم تجالس أهل العلم ــ الحُجَّة البينة لك عليهم بأنك لله رسول، وأنك لم تعلم ما علِمت من ذلك، وحالُك الحال التي أنت بها، إلا بوحي من السماء" (8) .
وبهذا يتبين أثر قصص القرآن في الهداية والإيمان واليقين عند التدبر الصحيح والتأمل بقصد الاعتبار والاستبصار.
--------------------------------------
1- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن السعدي
2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، دار هجر، ط1، 1422هـ.
3- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، راجعه وضبطه وعلق عليه: الدكتور محمد إبراهيم الحفناوي وخرج أحاديثه: الدكتور محمود حامد عثمان، دار الحديث القاهرة، ط2، 1416هـ.
4- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام السيوطي، صححه وخرج أحاديثه: الشيخ نجدت نجيب، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1421هـ.
5- زاد المسير في علم التفسير، للإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، دار ابن حزم، ط1، 1423هـ.
6- السلسلة الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ.
7- سنن ابن ماجه، المطبوع ضمن موسوعة الحديث الشريف الكتب الستة، بإشراف فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار السلام، ط3، 1421هـ.
8- سنن أبي داود، المطبوع ضمن موسوعة الحديث الشريف الكتب الستة، بإشراف فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار السلام، ط3، 1421هـ.
-----------------------------------
* من بحث بعنوان : تدبر القرآن الكريم (مفهومه ـ أساليبه ـ أسبابه ـ آثاره)
المصدر / موقع الد. فهد بن مبارك الوهبي
http://www.alwahbi.net/articles.php?ID=126&do=view
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق