الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ولواء ودثار أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المباركون في هذا اللقاء المبارك من تفسيرنا للقرآن العظيم سنتحدث معكم حول قول الله - جل وعلا - (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) الخ الآيات المتعلقة بهذا الموضوع ، ومعلوم أن هذه الآيات من سورة آل عمران وأنها تتحدث عن غزوة أحد لكننا لن نتحدث عنها ككونها مقطوعة من السيرة إنما نتحدث عنها ككونها تتعلق بكلام الله - جل وعلا - أي وفق منهج المفسرين.
أيها المباركون في هذا اللقاء المبارك من تفسيرنا للقرآن العظيم سنتحدث معكم حول قول الله - جل وعلا - (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) الخ الآيات المتعلقة بهذا الموضوع ، ومعلوم أن هذه الآيات من سورة آل عمران وأنها تتحدث عن غزوة أحد لكننا لن نتحدث عنها ككونها مقطوعة من السيرة إنما نتحدث عنها ككونها تتعلق بكلام الله - جل وعلا - أي وفق منهج المفسرين.
/ قال أصدق القائلين - جل ذكره وتبارك اسمه - (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) والخطاب للمؤمنين الذين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى : كل ما أصابكم يوم أُحد ، يوم التقى الجمعان ، جمع أهل الإشراك وجمع أهل الإيمان . وأُحد جبل في شمال المدينة سمي أحدا لتفرده عن الجبال وفيه ورد الحديث (أحد جبل يحبنا ونحبه) وكان هذا بعد وقعة بدر التي نصر الله - جل وعلا - فيها رسوله فلما ظهرت شوكة المسلمين في بدر ظهر النفاق في المدينة أي أن بعض من كان يُظهر كفره خاف من ظهور شوكة أهل الإسلام فأظهر النفاق وأبطن الكفر ، أظهر الإيمان وأبطن الكفر وهذا يسمى نفاقا . ومن العجيب أن القرآن جاءت فيه ثلاث سور : سورة اسمها سورة المؤمنون ، وسورة اسمها سورة الكافرون ، وسورة أخرى ثالثة اسمها سورة المنافقون ذكرت الطوائف كلها .
هنا قال الله - جل وعلا - (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) والمقصود من قول الله - جل وعلا - (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) حتى تطمئن قلوب أهل الإيمان وإن أصابهم ما أصابهم من القرح ومن الهزيمة ومن الجراح ومما أثخنهم رضوان الله تعالى عنهم يوم أُحد حتى إن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلى بهم بعد أحد قاعدا وصلوا وراءه قعودا ، والله قال لهم (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) وقال (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا) أي قتلتم منهم يوم بدر سبعين وأسرتم سبعين وهم في أُحد قتلوا منكم سبعين فأصبح الضعف بمعنى أن غلبتكم عليهم تعد اثنتين وهو معنى قول الله - جل وعلا - (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا) لكن نتكلم الآن عن قول الله (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) والقاعدة أن كل آية تكون مبدوءة بقول الله (ليعلم) المعنى ليظهر علم الله وإلا ربنا - جل وعلا - خلق ذلك وقدره وكتبه في الأزل قبل أن يقع .
قال الله - جل وعلا - بعدها معنى (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليمحصوا ويظهر الصابرون الثابتون على دينهم المحتسبون في تبليغ دعوة ربهم - جل وعلا - (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ) أي لتظهر حقيقة أهل النفاق ، وكان عبد الله بن أبي وهو من الخزرج قد خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر إلى أُحد ، وأُحد قلنا غير بعيد عن المدينة وجيش المسلمين يومئذ ألف ، كان الجيش ألفا ثم إن عبد الله بن أبي انهزم بثلث الجيش وهو يريد بذلك أن يضعف الناس ويثبطهم فقال له عبد الله بن حرام والد جابر ، يمر معاك في السيرة جابر بن عبد الله ، والده كان حيا يوم أُحد واستشهد في أول الناس يوم أُحد . عبد الله بن حرام قال يوم أُحد لعبد الله بن أبي يدعوه إلى أن يقاتل في سبيل الله - كما سيأتي - لكنه أبى ورجع فالله - جل وعلا - يقول (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ) الذي قال لهم عبد الله بن حرام(تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) أما ( قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) فظاهرة المعنى : أي تعالوا جاهدوا في سبيل الله ، لكن الإشكال في قوله - جل شأنه - (أَوِ ادْفَعُواْ) ما معناه ؟ وللعلماء فيها أقوال أرجحها - والعلم عند الله - : أنكم إن لم تقاتلوا إيمانا واحتسابا وإيمانا باليوم الآخر فلا أقل من أن تقاتلوا قومية ، أن تقاتلوا عن نسائكم وذراريكم وأهليكم الذين في المدينة ، حمية كحمية الجاهلية السابقة . فالأولى تتكلم عن الجهاد ، وأراد عبد الله بن حرام من ذلك أنهم وإن كانوا لا يثابون إلا أن في خروجهم تكثيرا لسواد المسلمين حتى لا ينهزم الناس (أَوِ ادْفَعُواْ) ماذا أجابوا ؟ (قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) . وقوله - جل شانه - (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) حكاية عن أهل النفاق تحتمل أقوالا ثلاثة :
- نبدأ بالأضعف : تحتمل قولهم لا نعرف القتال أي لا نجيده ، لا نحسن القتال فلماذا نذهب معكم . هذا وإن قال به بعض الأئمة إلا أنه مرجوح لأنه لا يمكن لعبد الله بن أبي أن يقول هذا ويزعم أنه لا يحسن القتال لأن هذا عار لا يتبناه عربي أصلا كافرا كان أو مؤمنا .
- والرأي الذي بعده أي : لا يغلب على الظن أن قريشا تريد قتالا ، أي لا حاجة لنا لأن نذهب معكم فلا قتال أصلا سيقع . وهذا يُدفع - وإن كان رأيا مجيدا - لكن يدفع في مناظرتهم بأنه لا يعقل أن قريشا تركت ذراريها وجاءت ببعض نسائها كما جاء أبو سفيان وغيره يوم أن كان مشركا جاؤوا بأزواجهم أنهم أرادوا سِلما ، إنما أرادوا حربا حتى إن هندا كانت تقول : "نحن بنات طارق إن تقبلوا نعانق وإن تدبروا نفارق" قصدي أخبار طويلة تحث فيها جيش زوجها أبي سفيان . المقصود هذا الرأي الثاني .
- الرأي الثالث - وهو الأرجح - : معنى قوله - جل ذكره - (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) يقولون هذا ليس بقتال ، هذه تهلكة ، تخرجون إلى قوم أكثر منكم عددا وأشد منكم قوة ، تتركون حصنكم ومدينتكم وتخرجون إليهم هذه تهلكة لا نقبل أن نلقي أنفسنا فيها . هذا المعنى الراجح لقوله تعالى (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) .
/ قال الله بعدها (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) هناك معنى وهناك فائدة : - أما المعنى من قوله - جل وعلا - (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) : هم منافقون على الدوام لكن أمارات الكفر والنفاق لا تظهر منهم فيما سبق إنما تجلى نفاقهم وكفرهم في يوم أُحد ، يوم أن تركوا النبي - عليه الصلاة والسلام - وخذلوه وامتنعوا عن الحرب معه ظهرت أمارات الكفر عليهم أكثر من ظهور أمارات الإيمان وإن كانوا منافقين من قبل لكنهم في الأول كانت علامات الكفر ، علامات النفاق غير بادية عليهم وعلى ما يقع منهم من فعل أو قول لكنهم في يوم أُحد كانوا في أجلى صورة تُظهر عورتهم وسوأتهم قال ربنا (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) .
قال بعض العلماء إن من معناها (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) يعني هم في نصرهم للكفر بصنيعهم هذا أكثر من نصرتهم لأهل الإيمان . لكني أرى أن الأول أرجح . - أما الفائدة : فهذا يدل - وهذا قال به بعض الأئمة - على أن القلوب لها أحوال وعلى أن الإنسان أحيانا - عياذا بالله - قد يكون قريبا من الكفر وإن كان مؤمنا ، ويكون في أحوال في رفيع الدرجات وعلوها ويدل على هذا ما وقع عن الصحابة - وهذا في حق أهل الإيمان لا في حق أهل الكفر - فكانوا يقولون يا نبي الله إننا إذا كنا عندك حصل لنا كذا وكذا من علو الإيمان فإذا فارقناك وعافسنا الأزواج والأولاد تعلقت قلوبنا بعض الشيء بالدنيا فقال -صلى الله عليه وسلم - وهذا هو التربية الحقيقية أن تعرف ضعف بشرية من أمامك ولا تبالغ في المثاليات ولا تبني قصرا على الرمال ، قال - عليه السلام - (لو أنكم تكونون في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة ، ولو لم تذنبوا لجاء الله بأقوام يذنبوا فيستغفروا فيغفر الله لهم) ولا يقول هذا إلا نبي كريم - صلوات الله وسلامه عليه - وأهم ما يمكن أن يرزقه من يريد أن يربي الناس ألا يتاجر بالدين ، إذا رزق العبد عدم المتاجرة بالدين وآتاه الله علما وفهما كان حقيقا أن يسوق الناس ويدلهم على الهدى . قال الله - جل وعلا - هنا (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) هنا يأتي سؤال ممن ينتصر لهم كيف تقولون إن هؤلاء كفار وهم يقولون آمنا بأفواههم ؟ جاء الجواب القرآني قبل أن يأتي السؤال (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وهذا قد يخدع به الناس لكن الله قال بعدها (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) فالله - جل وعلا - عليم بما تخفيه الصدور وإن استطاعوا أن يعيشوا في المدينة في أمن من غير أن تسلط على رقابهم السيوف لكفرهم ونفاقهم لما أظهروه من الإيمان إلا أن هذا لا يغني عنهم يوم القيامة شيئا فالله - جل وعلا - يقول (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) .
/ ثم قال - جل وعلا - (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) الذين قالوا المنافقون ، (لإخوانهم) هنا تتصور الآية جيدا ، لا يوجد مقابل شخص يتكلم وأحد مقابله فاللام في قوله - جل وعلا - (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ) ليست لام التعدية ، يعني لا يوجد إخوان لهم من عشيرتهم هم يخاطبونهم إنما يتحدثون عن موتى . حتى تفهم الأمر بجلاء : عبد الله بن أبي من الخزرج وأكثر من استشهد في أُحد من الخزرج ، وعبد الله بن الزبير- رضي الله عنه - قبل أن يسلم لما قال قصيدته التي يتهكم فيها بأهل الإيمان ذكر مقتل الخزرج دون غيرهم في أُحد لأن أكثر من قتل في أُحد كان من الخزرج
وسل المهراس ساكنه ** بين أقحاف وحام كالحجل
ليت أشياخي ببدرعلموا ** جزع الخزرج من وقع الأسد
فحدد الخزرج وعينهم دون غيرهم لأن أكثر من قتل يوم أُحد كانوا من الخزرج . يصبح معنى الآية : أن هؤلاء المنافقين يقولون من أجل إخوانهم الذين ماتوا (قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ) أي من أجل إخوانهم الذين ماتوا واستشهدوا ، (قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ) الواو هنا واو حال ، "قعدوا" فعل وفاعل جملة حالية من المنافقين ، من أصحاب القول أي أنهم قالوا هذا وهم قاعدون عن الجهاد لأنهم انهزموا بالناس (وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) والمعنى لو أطاعونا في عدم الخروج ، لو أضحوا مثلنا باقين في المدينة لم يخرجوا ما أصابهم قتل ولا غيره فجاء الجواب القرآني يكبتهم (قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) إن كنتم تزعمون أنكم تعلمون أين موارد الموت وماهي الطرائق الموصلة إليه فها أنتم إن كنتم صادقين في دعواكم ادفعوا عن أنفسكم الموت لكن الموت يقع على من غزى ومن لم يغزو ، ونجا ممن غزى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات ممن قعد ،وثمة بيت شهير يقول :
هنا قال الله - جل وعلا - (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) والمقصود من قول الله - جل وعلا - (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) حتى تطمئن قلوب أهل الإيمان وإن أصابهم ما أصابهم من القرح ومن الهزيمة ومن الجراح ومما أثخنهم رضوان الله تعالى عنهم يوم أُحد حتى إن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلى بهم بعد أحد قاعدا وصلوا وراءه قعودا ، والله قال لهم (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) وقال (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا) أي قتلتم منهم يوم بدر سبعين وأسرتم سبعين وهم في أُحد قتلوا منكم سبعين فأصبح الضعف بمعنى أن غلبتكم عليهم تعد اثنتين وهو معنى قول الله - جل وعلا - (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا) لكن نتكلم الآن عن قول الله (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) والقاعدة أن كل آية تكون مبدوءة بقول الله (ليعلم) المعنى ليظهر علم الله وإلا ربنا - جل وعلا - خلق ذلك وقدره وكتبه في الأزل قبل أن يقع .
قال الله - جل وعلا - بعدها معنى (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليمحصوا ويظهر الصابرون الثابتون على دينهم المحتسبون في تبليغ دعوة ربهم - جل وعلا - (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ) أي لتظهر حقيقة أهل النفاق ، وكان عبد الله بن أبي وهو من الخزرج قد خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر إلى أُحد ، وأُحد قلنا غير بعيد عن المدينة وجيش المسلمين يومئذ ألف ، كان الجيش ألفا ثم إن عبد الله بن أبي انهزم بثلث الجيش وهو يريد بذلك أن يضعف الناس ويثبطهم فقال له عبد الله بن حرام والد جابر ، يمر معاك في السيرة جابر بن عبد الله ، والده كان حيا يوم أُحد واستشهد في أول الناس يوم أُحد . عبد الله بن حرام قال يوم أُحد لعبد الله بن أبي يدعوه إلى أن يقاتل في سبيل الله - كما سيأتي - لكنه أبى ورجع فالله - جل وعلا - يقول (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ) الذي قال لهم عبد الله بن حرام(تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) أما ( قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) فظاهرة المعنى : أي تعالوا جاهدوا في سبيل الله ، لكن الإشكال في قوله - جل شأنه - (أَوِ ادْفَعُواْ) ما معناه ؟ وللعلماء فيها أقوال أرجحها - والعلم عند الله - : أنكم إن لم تقاتلوا إيمانا واحتسابا وإيمانا باليوم الآخر فلا أقل من أن تقاتلوا قومية ، أن تقاتلوا عن نسائكم وذراريكم وأهليكم الذين في المدينة ، حمية كحمية الجاهلية السابقة . فالأولى تتكلم عن الجهاد ، وأراد عبد الله بن حرام من ذلك أنهم وإن كانوا لا يثابون إلا أن في خروجهم تكثيرا لسواد المسلمين حتى لا ينهزم الناس (أَوِ ادْفَعُواْ) ماذا أجابوا ؟ (قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) . وقوله - جل شانه - (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) حكاية عن أهل النفاق تحتمل أقوالا ثلاثة :
- نبدأ بالأضعف : تحتمل قولهم لا نعرف القتال أي لا نجيده ، لا نحسن القتال فلماذا نذهب معكم . هذا وإن قال به بعض الأئمة إلا أنه مرجوح لأنه لا يمكن لعبد الله بن أبي أن يقول هذا ويزعم أنه لا يحسن القتال لأن هذا عار لا يتبناه عربي أصلا كافرا كان أو مؤمنا .
- والرأي الذي بعده أي : لا يغلب على الظن أن قريشا تريد قتالا ، أي لا حاجة لنا لأن نذهب معكم فلا قتال أصلا سيقع . وهذا يُدفع - وإن كان رأيا مجيدا - لكن يدفع في مناظرتهم بأنه لا يعقل أن قريشا تركت ذراريها وجاءت ببعض نسائها كما جاء أبو سفيان وغيره يوم أن كان مشركا جاؤوا بأزواجهم أنهم أرادوا سِلما ، إنما أرادوا حربا حتى إن هندا كانت تقول : "نحن بنات طارق إن تقبلوا نعانق وإن تدبروا نفارق" قصدي أخبار طويلة تحث فيها جيش زوجها أبي سفيان . المقصود هذا الرأي الثاني .
- الرأي الثالث - وهو الأرجح - : معنى قوله - جل ذكره - (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) يقولون هذا ليس بقتال ، هذه تهلكة ، تخرجون إلى قوم أكثر منكم عددا وأشد منكم قوة ، تتركون حصنكم ومدينتكم وتخرجون إليهم هذه تهلكة لا نقبل أن نلقي أنفسنا فيها . هذا المعنى الراجح لقوله تعالى (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) .
/ قال الله بعدها (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) هناك معنى وهناك فائدة : - أما المعنى من قوله - جل وعلا - (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) : هم منافقون على الدوام لكن أمارات الكفر والنفاق لا تظهر منهم فيما سبق إنما تجلى نفاقهم وكفرهم في يوم أُحد ، يوم أن تركوا النبي - عليه الصلاة والسلام - وخذلوه وامتنعوا عن الحرب معه ظهرت أمارات الكفر عليهم أكثر من ظهور أمارات الإيمان وإن كانوا منافقين من قبل لكنهم في الأول كانت علامات الكفر ، علامات النفاق غير بادية عليهم وعلى ما يقع منهم من فعل أو قول لكنهم في يوم أُحد كانوا في أجلى صورة تُظهر عورتهم وسوأتهم قال ربنا (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) .
قال بعض العلماء إن من معناها (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) يعني هم في نصرهم للكفر بصنيعهم هذا أكثر من نصرتهم لأهل الإيمان . لكني أرى أن الأول أرجح . - أما الفائدة : فهذا يدل - وهذا قال به بعض الأئمة - على أن القلوب لها أحوال وعلى أن الإنسان أحيانا - عياذا بالله - قد يكون قريبا من الكفر وإن كان مؤمنا ، ويكون في أحوال في رفيع الدرجات وعلوها ويدل على هذا ما وقع عن الصحابة - وهذا في حق أهل الإيمان لا في حق أهل الكفر - فكانوا يقولون يا نبي الله إننا إذا كنا عندك حصل لنا كذا وكذا من علو الإيمان فإذا فارقناك وعافسنا الأزواج والأولاد تعلقت قلوبنا بعض الشيء بالدنيا فقال -صلى الله عليه وسلم - وهذا هو التربية الحقيقية أن تعرف ضعف بشرية من أمامك ولا تبالغ في المثاليات ولا تبني قصرا على الرمال ، قال - عليه السلام - (لو أنكم تكونون في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة ، ولو لم تذنبوا لجاء الله بأقوام يذنبوا فيستغفروا فيغفر الله لهم) ولا يقول هذا إلا نبي كريم - صلوات الله وسلامه عليه - وأهم ما يمكن أن يرزقه من يريد أن يربي الناس ألا يتاجر بالدين ، إذا رزق العبد عدم المتاجرة بالدين وآتاه الله علما وفهما كان حقيقا أن يسوق الناس ويدلهم على الهدى . قال الله - جل وعلا - هنا (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) هنا يأتي سؤال ممن ينتصر لهم كيف تقولون إن هؤلاء كفار وهم يقولون آمنا بأفواههم ؟ جاء الجواب القرآني قبل أن يأتي السؤال (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وهذا قد يخدع به الناس لكن الله قال بعدها (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) فالله - جل وعلا - عليم بما تخفيه الصدور وإن استطاعوا أن يعيشوا في المدينة في أمن من غير أن تسلط على رقابهم السيوف لكفرهم ونفاقهم لما أظهروه من الإيمان إلا أن هذا لا يغني عنهم يوم القيامة شيئا فالله - جل وعلا - يقول (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) .
/ ثم قال - جل وعلا - (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) الذين قالوا المنافقون ، (لإخوانهم) هنا تتصور الآية جيدا ، لا يوجد مقابل شخص يتكلم وأحد مقابله فاللام في قوله - جل وعلا - (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ) ليست لام التعدية ، يعني لا يوجد إخوان لهم من عشيرتهم هم يخاطبونهم إنما يتحدثون عن موتى . حتى تفهم الأمر بجلاء : عبد الله بن أبي من الخزرج وأكثر من استشهد في أُحد من الخزرج ، وعبد الله بن الزبير- رضي الله عنه - قبل أن يسلم لما قال قصيدته التي يتهكم فيها بأهل الإيمان ذكر مقتل الخزرج دون غيرهم في أُحد لأن أكثر من قتل في أُحد كان من الخزرج
وسل المهراس ساكنه ** بين أقحاف وحام كالحجل
ليت أشياخي ببدرعلموا ** جزع الخزرج من وقع الأسد
فحدد الخزرج وعينهم دون غيرهم لأن أكثر من قتل يوم أُحد كانوا من الخزرج . يصبح معنى الآية : أن هؤلاء المنافقين يقولون من أجل إخوانهم الذين ماتوا (قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ) أي من أجل إخوانهم الذين ماتوا واستشهدوا ، (قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ) الواو هنا واو حال ، "قعدوا" فعل وفاعل جملة حالية من المنافقين ، من أصحاب القول أي أنهم قالوا هذا وهم قاعدون عن الجهاد لأنهم انهزموا بالناس (وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) والمعنى لو أطاعونا في عدم الخروج ، لو أضحوا مثلنا باقين في المدينة لم يخرجوا ما أصابهم قتل ولا غيره فجاء الجواب القرآني يكبتهم (قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) إن كنتم تزعمون أنكم تعلمون أين موارد الموت وماهي الطرائق الموصلة إليه فها أنتم إن كنتم صادقين في دعواكم ادفعوا عن أنفسكم الموت لكن الموت يقع على من غزى ومن لم يغزو ، ونجا ممن غزى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات ممن قعد ،وثمة بيت شهير يقول :
من لم يمت بالسيف مات بغيره ** تعددت الأسباب والموت واحد
تأتي آيات بعدها سنأخذها إن شاء الله في اللقاءات التي بعدها (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) لكن هذه الآيات التي بعد قبل أن نصل إليها نبين أن الله - جل وعلا - لما قال (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) إنما محص سلف هذه الأمة بالجهاد في سبيل الله وقد استقر في الأذهان وهذا يحتاجه طالب العلم في المعتقد ويحتاجه في الفقه .
من أعظم الأدلة ما يستقر في الأذهان ، محال أن يستقر في أذهان البشرية شيء غير صحيح يتوارثونه والدليل على هذا من القرآن سنذكر أدلة ثم نذكر دليلا من السنة ثم نطبقه على مسألة فقهية .
الله - جل وعلا - قال (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ) أي يوسف (أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) ونحن نعلم أن هؤلاء النسوة ما رأوا ملكا قط لكن استقر في أذهان الخلق أن الملائكة رمز للجمال ، قال الله في الصافات عن شجرة الزقوم (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) ومعلوم أن المخاطبين بالآية وهم كفار قريش وكل من يقرأ القرآن لم ير الشياطين قط لكن استقر في أذهان الخلق وعقولهم وقلوبهم في كل ملة ونحلة أن الشياطين رمز في القبح .
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح حديث أبي قتادة عند مسلم ، قال (مامن أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر) يقصد عشر ذي الحجة ، قالها للصحابة ، والصحابة أخذوا علمهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا له : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ . هذا لا يحتمل إلا شيئا واحدا أنه استقر عند الصحابة أن الجهاد في سبيل الله أعظم الأعمال . إذا هذا دليل اسمه المستقر في الأذهان . المسألة الفقهية : أبو بكر - رضي الله عنه - دخل على النبي - عليه الصلاة والسلام - في خيمته في منى وعنده جاريتان تغنيان فقال أبو بكر - رضي الله عنه - أمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - عليه الصلاة والسلام : (دعهما يا أبا بكر فإننا في يوم عيد) . الآن ما الذي دفع أبو بكر أن ينكر ؟ المستقر في الذهن ، المستقر في العقل ، في القلب أن الغناء محرم وإلا لو كان أبو بكر لم يستقر في ذهنه هذا ما أنكره ، والحديث ليس مما يقبل النسخ لأنه في حجة الوداع . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - ورسول الله يسمع متعجبا مستنكرا لأن هذا المستقر في ذهنه وهو أعلم الناس بالشرع بعد رسول الله لطول صحبته فقال : أمزمور الشيطان في بيت رسول الله - مستنكرا عن شيء لا يحتاج إلى أن يقول دليلا - لأنه أمر موروث مستقر في الذهن ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منكر له إن القضية حالة استثناء قال (دعهما يا أبا بكر) ثم بين أن الحالة استثنائية ليست على أصلها قال (إننا في يوم عيد) ومع ذلك لا يليق به - عليه الصلاة والسلام - ولو في يوم عيد أن يسمعه فأعطى ظهره بعد أن سكت أبو بكر ثم أخرجت عائشة الجاريتين .
موضوع الشاهد منه : ثمة شيء يُفقه في الأدلة وهو قضية شيء مستقر في الذهن يعرفه الناس هذا والجاريتان كانت تضربان بالدف ، وأما الأوتار فلا أعلم أنها كانت معهودة في المدينة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جُلها أو كلها جاء بعد اختلاط العرب بالروم وفارس واليونان ، ورثوا عنهم هذه الأوتار ، أما لا نحفظ في شعر العرب أحاديث في أخبارهم وأشعارهم أشياء أكثر من مسألة الدف ، وقد يوجد شيء لا أعلمه لكن في الموروث الذي أحفظه لا أعلم أن العرب كانت تعزف على وتر زمن بعثته - صلى الله عليه وسلم - فإذا قيل هذا في الدف فالوَتر من باب أولى وأشد إنكارا ، والمقصود أن من طرائق فهم القرآن أن يعلم مثل هذه المسائل لأن إدراك مثل هذا يعين طالب العلم في الحكم على الشيء الذي يريد أن يحكم به .
نعود لما نحن فيه : فالمقصود من هذا كله أن الجهاد في سبيل الله استقر في أذهان الصحابة أنه من أشرف الأعمال لهذا فال الله بعدها كما سيأتي في اللقاء القادم (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) لكن الشرع المطهر وهو الحاكم جعل مسألة الجهاد مما يعنى به ولي أمر المسلمين مثله مثل الحدود لا يقيمها الناس بعضهم على بعض ولا يقيمها الناس بين أنفسهم حتى لو وجد إنسانا يزني فلا يحق أن يقيم عليه الحد إنما هذا يرفع لولي الأمر في أي زمن كان إن صلح صلح لنفسه وإن أخطأ فعليها . هذا ما تيسر والعلم عند الله. متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين .
تأتي آيات بعدها سنأخذها إن شاء الله في اللقاءات التي بعدها (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) لكن هذه الآيات التي بعد قبل أن نصل إليها نبين أن الله - جل وعلا - لما قال (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) إنما محص سلف هذه الأمة بالجهاد في سبيل الله وقد استقر في الأذهان وهذا يحتاجه طالب العلم في المعتقد ويحتاجه في الفقه .
من أعظم الأدلة ما يستقر في الأذهان ، محال أن يستقر في أذهان البشرية شيء غير صحيح يتوارثونه والدليل على هذا من القرآن سنذكر أدلة ثم نذكر دليلا من السنة ثم نطبقه على مسألة فقهية .
الله - جل وعلا - قال (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ) أي يوسف (أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) ونحن نعلم أن هؤلاء النسوة ما رأوا ملكا قط لكن استقر في أذهان الخلق أن الملائكة رمز للجمال ، قال الله في الصافات عن شجرة الزقوم (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) ومعلوم أن المخاطبين بالآية وهم كفار قريش وكل من يقرأ القرآن لم ير الشياطين قط لكن استقر في أذهان الخلق وعقولهم وقلوبهم في كل ملة ونحلة أن الشياطين رمز في القبح .
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح حديث أبي قتادة عند مسلم ، قال (مامن أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر) يقصد عشر ذي الحجة ، قالها للصحابة ، والصحابة أخذوا علمهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا له : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ . هذا لا يحتمل إلا شيئا واحدا أنه استقر عند الصحابة أن الجهاد في سبيل الله أعظم الأعمال . إذا هذا دليل اسمه المستقر في الأذهان . المسألة الفقهية : أبو بكر - رضي الله عنه - دخل على النبي - عليه الصلاة والسلام - في خيمته في منى وعنده جاريتان تغنيان فقال أبو بكر - رضي الله عنه - أمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - عليه الصلاة والسلام : (دعهما يا أبا بكر فإننا في يوم عيد) . الآن ما الذي دفع أبو بكر أن ينكر ؟ المستقر في الذهن ، المستقر في العقل ، في القلب أن الغناء محرم وإلا لو كان أبو بكر لم يستقر في ذهنه هذا ما أنكره ، والحديث ليس مما يقبل النسخ لأنه في حجة الوداع . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - ورسول الله يسمع متعجبا مستنكرا لأن هذا المستقر في ذهنه وهو أعلم الناس بالشرع بعد رسول الله لطول صحبته فقال : أمزمور الشيطان في بيت رسول الله - مستنكرا عن شيء لا يحتاج إلى أن يقول دليلا - لأنه أمر موروث مستقر في الذهن ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منكر له إن القضية حالة استثناء قال (دعهما يا أبا بكر) ثم بين أن الحالة استثنائية ليست على أصلها قال (إننا في يوم عيد) ومع ذلك لا يليق به - عليه الصلاة والسلام - ولو في يوم عيد أن يسمعه فأعطى ظهره بعد أن سكت أبو بكر ثم أخرجت عائشة الجاريتين .
موضوع الشاهد منه : ثمة شيء يُفقه في الأدلة وهو قضية شيء مستقر في الذهن يعرفه الناس هذا والجاريتان كانت تضربان بالدف ، وأما الأوتار فلا أعلم أنها كانت معهودة في المدينة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جُلها أو كلها جاء بعد اختلاط العرب بالروم وفارس واليونان ، ورثوا عنهم هذه الأوتار ، أما لا نحفظ في شعر العرب أحاديث في أخبارهم وأشعارهم أشياء أكثر من مسألة الدف ، وقد يوجد شيء لا أعلمه لكن في الموروث الذي أحفظه لا أعلم أن العرب كانت تعزف على وتر زمن بعثته - صلى الله عليه وسلم - فإذا قيل هذا في الدف فالوَتر من باب أولى وأشد إنكارا ، والمقصود أن من طرائق فهم القرآن أن يعلم مثل هذه المسائل لأن إدراك مثل هذا يعين طالب العلم في الحكم على الشيء الذي يريد أن يحكم به .
نعود لما نحن فيه : فالمقصود من هذا كله أن الجهاد في سبيل الله استقر في أذهان الصحابة أنه من أشرف الأعمال لهذا فال الله بعدها كما سيأتي في اللقاء القادم (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) لكن الشرع المطهر وهو الحاكم جعل مسألة الجهاد مما يعنى به ولي أمر المسلمين مثله مثل الحدود لا يقيمها الناس بعضهم على بعض ولا يقيمها الناس بين أنفسهم حتى لو وجد إنسانا يزني فلا يحق أن يقيم عليه الحد إنما هذا يرفع لولي الأمر في أي زمن كان إن صلح صلح لنفسه وإن أخطأ فعليها . هذا ما تيسر والعلم عند الله. متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق