السبت، 3 مارس 2012

الدرس الخامس: شرح الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه

1- (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 79].
إبراهيم لما رأى قومه على الشرك في عبادة الله بين لهم الأدلة على التوحيد وقال لهم كما حكى الله تعالى عنه.
- حنيفاً أي مستقيماً موحداً.
قال ابن جرير: " وأما"الحنيف"، فإنه المستقيم من كل شيء। وقد قيل: إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى، إنما قيل له"أحنف"، نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد"المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك" .ا.هـ.
ويقال: رجل يتحنف أي يتحرى أقوم الطريق.
فالحنيف هو المستقيم على الطريقة، والملة الحنيفية هي الدين المستقيم، وهو دين التوحيد.
كما قال الله تعالى لنبيه الكريم:
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
وقال:
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي عن ربه أنه قال:
[إني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً].
وقال الله تعالى:
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
/ قال حسان بن ثابت يهجو أبا سفيان بن الحارث وينصر رسول الله :
هجوت مباركاً برَّا حنيفاً = أمينَ الله شيمتـه الوفـاء.
حنيفاً أي مستقيماً لا تجدون عليه مغمزاً.
/ قال الراعي النميري يبين للخليفة حال قومه وكذب الوشاة عليهم:
خليـفـة الرحـمـن إنـــا مـعـشـر = حنفاء نسجد بكرة وأصيلاً
عــرب نــرى لله فــي أمـوالـنـا = حــــق الــزكــاة مــنــزلاً تـنـزيــلا
فتبين بذلك أن الحنيفية هي الملة القويمة المستقيمة التي لا ميل فيها ولا انحراف، وهي ملة التوحيد.
وقد أمر الله تعالى نبيه باتباع ملة إبراهيم الحنيفية ، وأثنى الله تعالى في كتابه الكريم على إبراهيم بأنه كان حنيفاً في مواضع كثيرة من القرآن:
- قال الله تعالى:
(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
- وقال: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
- وقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)
- وقال:
(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
- وقال:
(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
- وقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
فهذه الحنيفية التي مدحها الله ، وأثنى على أهلها، وأمر النبي بها، وأمر بها عباده هي : أن يكونوا مستقيمين على الدين القيم لا يشركون بالله شيئاً، مخلصين العبادة لله .
وهو أمر بين الدلالة من الآيات السابق ذكرها.

2- (وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]. أي خلقهم الله لعبادته
هذا الأسلوب في لسان العرب يسمى الحصر ، فالله حصر الغاية من خلق الجن والإنس في عبادته وحده لا شريك له. فمن لم يفعل ذلك لم يؤدِّ ما خُلق لأجله؛ فيستحق العذاب على تركه ما خلق لأجله. أما من امتثل هذا الأمر فعبد الله وحده لا شريك له فقد أدَّى ما خُلِق لأجله، وقد جعل الله له الثواب العظيم الجزيل، ووعده أن يدخله الجنة خالداً فيها في النعيم المقيم ، نسأل الله من فضله. فالغاية من خلق الجن والإنس هي عبادة الله وحده لا شريك له.
والإنس هم بنوا آدم ، سموا إنساً لأنهم يأنس بعضهم ببعض.
والجن سمواً جناً لاجتنانهم أي استتارهم عن أنظار الناس كما قال الله تعالى:
(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ).

3- قول الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بهِ شَيْئاً) [النساء: 36].
قرن النهي عن الشرك بالأمر بعبادة الله تعالى فتبين بذلك معنى التوحيد، وهذه الآية تسمى آية الحقوق العشرة، وبدأ الله فيها بحقه الذي خلق الخلق لأجله .

4- قول الله تعالى : (الحَمْدُ لِلَّهِ رَب العَالَمِينَ) [الفاتحة:2] .
بيان معنى (الرب) والرب هو الجامع لجميع معاني الربوبية من الخلق والملك والإنعام والتدبير والتربية والإصلاح ، فالربوبية في اللغة تشمل هذه المعاني كلها. فهو الخالق العظيم والخلاق العليم الذي خلق كل شيء ، فما من موجود من المخلوقات إلا والله تعالى خالقه وحده لا شريك له.
- ومن معاني (الرب) في لسان العرب: المالك؛ فرب الشيء هو مالكه، ورب الدار: صاحبها ومالكها، ورب الإبل: مالكها، ولا يطلق هذا اللفظ بغير الإضافة إلا على الله ، فهو الرب وحده.
والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، لا يخرج شيء عن ملكه، فهو مالك كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، فله جميع معاني الملك، فيملك المخلوقات، ويملك تصرفاتها ويملك تدبيرها والتصرف فيها، فلا تتصرف إلا بإذنه. وهو الذي يملك بقاءها وفناءها، وحركاتها وسكناتها، فيبقيها متى شاء، ويفنيها إذا شاء، ويعيدها إذا شاء. بل لا تملك جميع المخلوقات لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه ، وهذا مما يوجب توحيده بالعبادة، وطاعته فيما يأمر به، وينهى عنه.
ولذلك أنكر الله تعالى على من يعبد غيره فقال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا)
وبقية المعاني العظيمة للربوبية العامة من الإنعام والإصلاح والتربية والتدبير هي من آثار اسمه (الملك)، فهو مالك النعمة وموليها، الذي ربى خلقه بالنعم، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأصلح خلقهم وأحسنه، وأصلح أحوال معاشهم، فمهَّدَ لهم الأرض، وأنبت لهم فيها من كل الثمرات، وبث فيها من كل دابة، وأنزل لهم من السماء ماء، وجعل في الأرض الجبال الرواسي، والأودية والأنهار والآبار والبحار التي تحفظ لهم الماء، وجعل لهم الأنعام لهم فيها منافع كثيرة، وعَلَّمَهم الحِرَفَ التي يكتسبون بها أقواتهم.
وهو الذي حفظ لهم هذا الملكوت العظيم الذي يعيشون فيه فأمسك السموات أن تقع على الأرض، وجعل الأفلاك تسير في نظام دقيق محكم تقوم به مصالح العباد في معاشهم وسائر أمور حياتهم ، فحماهم من شدة البرد وشدة الحر وأذاقهم شيئاً يسيراً منهما ليذكروا نعمة ربهم فيما صرف عنهم، وإلا لو قربت الأرض من الشمس مداراً أو مدارين لم يطق الناس شدة الحر، ولو ابتعدت مداراً أو مدارين لم يطيقوا شدة البرد.
وكل ذلك إنما هو ذكر لأمثلة يسيرة مما نعلمه ونشاهده من معاني ربوبيته ، من باب تقريب الصورة وتوضيح المراد، وإلا لو تأملت تلك المعاني العظيمة حق التأمل وتفكرت في آثارها في الخلق والأمر لأفضت بك إلى نظر فسيح في ملكوت الله لا تملك معه إلا أن تسبح بحمده، وتوحده ، ولأيقنت أن العالم لا صلاح له إلا بأن يكون ربه واحدا، بل لا يمكن أن يكون له أرباب متعددون كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)
وقال:
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)
فكما أن الكون ليس له إلا رب واحد على الحقيقة، فلا يكن في قلبك إلا إله واحد هو هذا الرب العظيم، فأسلم قلبك له واعبده وتوكل عليه.
[والربوبية لها معنيان:
- ربوبية عامة بالخلق والملك والإنعام والتدبير، وهذه عامة لجميع المخلوقات .
- وربوبية خاصة لأوليائه بالتربية الخاصة والهداية والإصلاح والنصرة والتوفيق والتسديد والحفظ .
والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها ] من إضافتي .

5- قول الله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر:57].
وَقَوْلُهُ تَعَالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت:37].
وَقَوْلُهُ تَعَالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:54].
قَوْلُهُ تَعَالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:21-22]
قَالَ ابْنُ كَثيِرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-: " الْخَالِقُ لِهذِهِ الأَشْيَاءِ، هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعبَادَةِ " .
عرفة العبد ربه طريقان بينهما الله في كتابه الكريم:
الطريق الأول: التفكر في آياته الكونية المخلوقة.
والطريق الآخر : التفكر في آياته الشرعية وهي آيات القرآن العزيز وما تضمنه أمره في كتابه وفي غيره من الآيات البينات.
و"لآية" في للغة تطلق على العلامة وعلى الرسالة وعلى الجماعة. قال الله تعالى:(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)أي علامة في قول الجميع لا أعلم في ذلك خلافاً. في الصحيحين من حديث أنس أن النبي قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)). فالآية هي العلامة البينة الدالة على المراد.
ومن الإطلاق الثاني قول كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرض آية = أيقظان قال القول إذ قال أو حلم
وهذا استعمال مشهور في لغة العرب.
فالآيات هي علامات بينات على ما أراده الله تعالى بها، وهي رسائل من الله إلينا.
والعلامة وإن كان فيها معنى الظهور والبيان والدلالة على الشيء حيث جعلت عليه ومنه سمي الجبل علماً، لدلالته على الموضع دلالة بينة إلا إن لفظ الآية أبلغ في البيان والدلالة من لفظ (العلامة) ولذلك استعمل في القرآن الكريم. ففيها زيادةً على معنى الدلالة معنى الوضوح والجلاء والبيان، ومنه يقال (إياة الشمس) يعني ضوؤها ، وقولك في التفسير أو التبيين (أي) هذا هو الأصل الذي هو التبيين والوضوح بجلاء .
وهذا مما يدل على براعة التعبير القرآني، وأسرار اختيار بعض الألفاظ على بعض. قال الخليل بن أحمد: (الآية: العَلامةُ، والآية: من آيات الله، والجميع: الآي)
قوله: (والآية: من آيات الله) يشمل الآيات الكونية والشرعية
- فالآيات الكونية: الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض وما أنعم به من سائر النعم كلها آيات على أنها من عند الله وهي علامات بينات لا ينكرها إلا مُكابِر مُعانِد.
- والآيات الشرعية هي: آيات القرآن المتلوة، سميت بذلك لأنها دالة على أنها من عند الله . ولأن فيها من البراهين البينة ما يوجب قيام الحجة على من بلغته.
وقد ذكر الله تعالى في الكتاب براهين عقلية تدل على بطلان عبادة ما يعبد من دون الله
قال الله تعالى
:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا)
- فذكر ثلاثة أدلة بينة على أن هؤلاء الشركاء الذين يُدعون من دون الله لا يستحقون أن يعبدوا من دون الله .
1: فهم لم يخلقوا شيئاً ، وعبادة من لا يخلق من دون خالقه سفه وضلال كما دل عليه قوله تعالى
:(أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)
2: وليس لهم نصيب في الملك يشاركون الله فيه، فيسألهم من يدعوهم من نصيبهم الذي يملكونه.
3: ولم يأذن الله بعبادتهم.
فبطل ما كانوا يغرون به بعضهم من زخرف القَوْل والعِدَات الباطلة.
وقوله تعالى:(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا)بيان لسنة كونية لا تنخرم، وهي أن الظالمون إنما يغر بعضهم بعضاً ويمنّي بعضهم بعضاً حتى إذا أتوا ما يمقتهم الله عليه وعاينوا عذابه لم تنفعهم وعودهم ولم تغن عنهم من الله شيئاً.
وهذه الآية نظير قول الله تعالى:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللِّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(4) فلم يخلقوا شيئاً ابتداء وليس لهم فيه شراكة في الملك، ولم يؤذن بعبادتهم.
وقال تعالى:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(23)
قال ابن القيم : "فتأمل ْ كيف أخذَتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك؟!! وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؟!! فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلَّقْ قلبه به. وحينئذ فلا بدَّ أن يكون المعبودُ:
- مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده.
- أو شريكاً لمالكها.
- أو ظهيرا أو وزيراً ومعاوناً له.
- أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده.
فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه. فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرَّة في السموات والأرض. فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق! فنفى شركتها له. فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً!
فقال:(وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ )لم يبقَ إلا الشفاعة؛ فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ فهو الذي يأذنُ للشافع؛ فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين؛ فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها. وأما منْ كلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليه بذاتِهِ، وهو الغني بذاتِهِ عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟!!" .
وتأملوا قول الله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )
وقوله :
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
- وقوله
:{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيَّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}
دون فيها بياناً جلياً على وجوب إفراد الله تعالى، وتحريم الشرك، وأنه حد بين الكفر والإيمان.
وقد قال الله تعالى لنبيه
:(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
فأصبح مع الموحدين حُجج وجوب التوحيد ومن أهمها :
1: أن الله هو الخالق الرازق المالك المدبر فهو المستحق للعبادة
2: أن الله تعالى هو الذي بيده وحده النفع والضر وغيره لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره كما قال الله تعالى:(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي الذي يعلم أحوالكم ويسمع دعاءكم .
3: أن الموحدين معهم سلطان الحجة والبرهان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له، وبذلك أرسلت إليهم الرسل.
4: وأن المشركين الظالمين إنما يغر بعضهم بعضاً وأنهم لا حجة لهم على الشرك، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد.
والمقصود أن من تأمل الآيات الكونية والآيات الشرعية تبين له وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، وأن من أشرك بالله شيئاً فهو من الخاسرين. ولكن الظالمين يكون لديهم علوم يفرحون بها، ومزاعم يغترون بها ، ويتعامون عن التفكر في ما أمر الله بالتفكر فيه، بل كرر الأمر به في مواضع كثيرة من القرآن العظيم، فيتعامى أولئك الظالمون عن تلك الآيات البينات، ويفرحون بما عندهم من العلم الدنيوي ، ويُعرضون عما جاءت به الرسل، ويستهزئون بهم وبما جاؤا به حتى إذا فنيت أعمارهم، وانقضت مهلة بقائهم في الدنيا، ورأوا ما كانوا يوعدون تبين لهم أنهم كانوا خاطئين وعرفوا من أول ما يرون آيات الآخرة أن الشرك بالله باطل وضلال مبين، فيؤمنوا حين لا ينفعهم الإيمان ولا يقبل منهم، ويتخلى عنهم الشيطان بعد أن أوردهم المهالك، وكتب عليهم الشقاء الأبدي، وحرمت عليهم السعادة أبداً ، وخسروا الخسران المبين والعياذ بالله .
قال الله تعالى{وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} .

-----------------------------------------------
المصدر / ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق