الأحد، 8 يناير 2012

الدرس الثاني: شرح المسائل الأربع (2/2)

1- قَولُه تَعَالَى: بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {وَالعَصْرِ (1) إنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر:1-3].
قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ) الواو للقسم،
والعصر فيه أقوال أشهرها قولان:
الأول: أنه الدهر ، وهذا القول ذكره البخاري في صحيحه عن الفراء، وهو قول أكثر المفسرين ورجحه ابن القيم.
والقول الثاني: أنه وقت العصر من اليوم، وهو مروي عن ابن عباس وقال به الحسن البصري وقتادة.
واختار ابن جرير أن الآية تشمل القولين لأن لفظ العصر يطلق على المعنيين إطلاقاً صحيحاً ولا دلالة على التخصيص.
والقول الأول له مناسبة وهو أن الدهر فيه الأعاجيب والعبر ، والقول الثاني له مناسبة أيضاً وهي أن العصر هو علامة بينة على انحسار النهار وقرب انقضائه فمناسبته لحال القسم ظاهرة.
والله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وليس للمخلوق أن يقسم بغير الله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليصمت)) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر .
قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر) هذا جواب القسم، والإنسان اسم جنس فيعم جميع الناس إلا من استثنى الله منهم في هذه السورة، والاستثناء دليل على إرادة الجنس، فالألف واللام لاستغراق الجنس أي إن كل إنسان لفي خسر إلا من استثناهم الله.
لَفِي خُسْر اللام موطئة لجواب القسم ، والتنكير هنا للتهويل والتفخيم، أي في خسارة عظيمة، وتأملوا هذا التعبير لَفِي خُسْر ، كأنه منغمس في الخسران، محيط به من جميع جوانبه. والخسر هو الخسران ويعني:
الهلاك والنقصان.
وأعظم الخسران خسران الإنسان نفسه وأهله يوم القيامة كما قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ).
وقال تعالى:
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقال تعالى:
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فتبين أن من لم يأتِ بالإيمان فهو خاسر، وأن من لم يؤمن بالله فهو ظالم لنفسه، وقد قال تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
((لا يدخلُ أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة))
فأيُّ خسران أعظمَ من خسران الكافر مقعده من الجنة في النعيم المقيم الخالد، فهو في العذاب المقيم، وأهل الجنة في الحبور والسرور مع أهليهم في النعيم المقيم.
(أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
إذا تبين ذلك فإن الإنسان لا ينجو من هذا الخسران إلا بهذه الأمور الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وهذه الأمور الأربعة مترتبة بعضها على بعض فالإيمان أساس العمل الصالح ، فلا يصلح العمل إلا بالإيمان، والتواصي بالحق هو من الأعمال الصالحة، وخُص بالذكر لأهميته، والتواصي بالصبر هو أيضاً من التواصي بالحق؛ لأن الصبر المأمور به إما واجب وإما مستحب، والتواصي تواص بفعل الواجب أو فعل المستحب .
فصارت مرتبة الإيمان هي الأصل وينبني عليها العمل الصالح وينبي عليهما التواصي بالحق وينبني على ذلك كله التواصي بالصبر.
ولذلك جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب كما تقدم أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. فمن قام بهذه الأمور فقد سلم من الخسران وفاز فوزاً عظيماً. ومن لم يقم بها فقد خسر خسراناً عظيماً.
ومن قصر في شيء من هذه الواجبات بما لا يخرجه من الإسلام ، بحيث يبقي معه أصل الإيمان وأصل العمل الصالح، مع ارتكابه من المعاصي والمحرمات ما يضعف الإيمان ويقدح في قيامه بالأعمال الصالحة فإنه يناله من الخسارة بقدر ما فرط فيه إلا أن يعفو الله عنه.
فصار
الناس في تحقيق هذه الأمور الأربعة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هم الذين لا يأتون بها كلها، أو لا يأتون بأصلها وهو الإيمان، لأن ما بني على غير إيمان فهو غير مقبول، وهؤلاء هم الخاسرون الخسارة العظيمة ، وهم الكفار الذين لم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات، ويلتحق بهم كلُّ من أحبط عمله وخرج من الإيمان بارتكابه ناقضاً من نواقض الإسلام والعياذ بالله، كما دل عليه قوله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وتوجيه الخطاب في هذه الآية للنبي دليل على أن أمر الشرك لا يعفى عنه أبداً مهما بلغ صلاح العبد وكثرة عمله، إذا وقع في الشرك الأكبر حبط عمله وكان من الخاسرين، والعياذ بالله، فهذا الخطاب يقتلع جذور العجب والاغترار من القلب.
فإذا كان أحبُّ الناس إلى الله وأقربهم منه منزلة لا يعفى عنه في أمر الشرك بالله فغيره أولى ، وحاشاه من الشرك، ولكنَّ هذا الأسلوب يفيد التأكيد الشديد على أنه لا يعفى عمن صدر منه الشرك مهما كان قدره ومنزلته وسابقة عمله، وهذا كما قال النبي : ((والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) ، وحاشاها من السرقة. والمقصود أن من لم يؤمن بالله فهو من الخاسرين.
وكذلك الذي تخف موازينهم من الأعمال الصالحة وعلى رأسها التوحيد فإنهم من الخاسرين كما قال الله تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). أما من كان معه حسنة التوحيد فإن موازينه لا تخف كما تخف موازين الكفار.
والقسم الثاني: الذين يأتون بهذه الأمور الأربعة كما أوجب الله فهؤلاء هم المفلحون الناجون من الخسارة الفائزون بالثواب العظيم، ويزيد الله من فضله من يشاء. فإن المؤمنين يتفاضلون تفاضلاً عظيماً في الإتيان بهذه المسائل.
والقسم الثالث: من كان معه أصل الإيمان وأصل العمل الصالح لكنه يرتكب من المحرمات ويترك من الواجبات ما يستحق به العذاب، فهذا القسم يناله من الخسارة بقدر ما فرط فيه إلا أن يعفو الله عنه .
فهذا بيان القسم الأول من أقسام الناس في الإتيان بهذه الأمور الأربعة .


قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) التواصي هو أن يوصي بعضهم بعضاً، وهذا كما يدل على وجوب الدعوة بإيصاء الآخرين بالحق، يدل على وجوب قبول الوصية بالحق إذا وجهت إليه. لأن التواصي تفاعل بين اثنين، هذا يوصي أخاه وعلى أخيه قبول الوصية، وعلى أخيه أيضاً إذا أوصاه أخاه أن يقبل وصيته بالحق.
والحق هو امتثال ما أمر الله به ، وترك ما نهى الله عنه ، وتصديق خبر الله ورسوله . فمن قام بذلك فهو قائم بالحق.
والتواصي بالصبر يشمل التواصي بالصبر على فعل المأمور، والتواصي بالصبر على ترك المحظور، والتواصي بالصبر على المصائب المقدرة. فيصبر ويُصبِّر إخوانه المسلمين.
فهذه السورة تضمنت على وجازتها الدلالة على الدين كله لأن مبنى الدين على الأمر والنهي والخبر والقدر .
ففعل الأوامر وترك النواهي وتصديق الأخبار والإيمان بالقضاء والقدر هو الحق الذي يجب التواصي به والصبر على أدائه.
وإذا تأملت هذه السورة تأملاً حسناً علمت ما يحبه الله من عباده المؤمنين ؛ فهو يحب منهم الإيمان والقيام بالأعمال الصالحة وأن يتآلفوا ويتوادوا ويتواسوا ويحب بعضهم لبعض الخير ، فيتواصون بالحق وفعل ما يحبه الله ليكون بعضهم سبباً في ثواب بعض، ويتواصون بترك ما حرم الله فيكون بعضهم سبباً في نجاة بعض، ويتواصون على الصبر فيكونون متواسين متآلفين متحابين ، ومن عرف ذلك حق المعرفة عرف معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم))। رواه مسلم من حديث أبي هريرة .
وإذا رأيت من نفسك أنك تسر إذا رأيت من يطيعُ الله وتبتهج لذلك ، وتحزن إذا رأيت من يعصيه وتتمنى ألا يقع في المعصية ؛ فإن ذلك
دليل على صحة إيمانك وسلامة قلبك.
وإن من أقبح ما يكون من الحسد أن يحسد المرء أخاه على قيامه بطاعة الله ويتمنى منه أن يقع في المعاصي ويحرمَ فضل الله ؛ فإن هذا من إخوان الشياطين والعياذ بالله ، بل يخشى عليه أن يبتلى بما تمناه لأخيه المسلم.
إذا قامت الأمة بهذه الأمور الأربعة (الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر) كانت كما يحب الله أن تكون، وكان الله لهم كما وعدهم والله لا يخلف الميعاد.

2- قول الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]. حث الله المؤمنين أن تنتدب منهم طائفة للدعوة إلى الخير فقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب الفلاح ، والفلاح يطلق في اللغة في الأصل على البقاء
ومنه قول الشاعر: لــكــل هــــم مــــن الـهــمــوم ســعـــة = والمسي والإصباح لا فلاح معه
أي لا بقاء معه.
ثم كثر إطلاق هذا اللفظ على
معنيين مشهورين:
المعنى الأول: الفوز بالمطلوب.
والمعنى الثاني: النجاة من المرهوب.
وهذه المعاني الثلاثة تجتمع في حق المؤمنين المتبعين لهدى الله فإنهم ينالون مطلوبهم من فضل الله ورحمته وعظيم ثوابه، وينجون مما يخافون من عذاب الله وأليم عقابه، وهم باقون في النعيم المقيم الذي لا ينفد.

-----------------------
ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق