د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
إنه يجب علينا أن نراجع أنفسنا مع القرآن كله ومع هذه السور بشكل خاص ، واليوم نأخذ سورة قصيرة من هذه السور العظيمة التي جاءت في آخر كتاب الله - عز وجل - لكنها تحمل معاني عظيمة ودلالات كبيرة ، إنها سورة العصر . هذه السورة التي قال فيها الشافعي " لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هي لكفتهم " نعم إنها حجة بين فيها الله - سبحانه وتعالى - بيانا شافيا ما تكون به النجاة عند الله - سبحانه وتعالى - فتأملوها تأملا جيدا حتى تعلموا عظمة كتاب الله ، وتعلموا أن هذا القرآن مع قلة ألفاظه وقلة حروفه إلا أنه شمِل معان وهدايات كثيرة لا يمكن لإنسان أن يقف على حدها . دعونا نستمع لهذه السورة الكريمة :
إنها ثلاث آيات لكنها جمعت كل ما يحتاجه الإنسان لينجو من الخسران في الدنيا والآخرة .
يقول الله مقسما (وَالْعَصْرِ) قيل : إن العصر هو الزمان المعروف الذي يكون بين الظهر والمغرب وهو العصر الذي يكون كل يوم .
وقيل - وهو الأصوب - : أن العصر المقصود به الزمان كله .
ولماذا يُقسم بالزمان ؟ ليبين لنا أن الزمان هو محل الأعمال ، الذين يعملون الصالحات يعملون في الزمان ، والذين يعملون السيئات يعملون في الزمان ، والخسارة والربح إنما هي في الأعمار ، في هذه الوقات ، منا من يستثمرها استثمارا صحيحا ويجعلها سلما للوصول إلى رضوان الله ، ومنا من يستغلها استغلالا سيئا فيجعلها سببا للهبوط والسقوط في درك الجحيم - نسأل الله العافية والسلامة - . إذا العصر عظيم القدر عند الله - عز وجل - كبير المنزلة عند الله ولذلك عظم الله أمره فأقسم به .
/ على أي شيء أقسم الله به ؟
أقسم على أن جميع الناس في خُسر ، كل بني الإنسان خاسرون ، كل بني الإنسان هالكون (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا(71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) كل بني الإنسان خاسرون بدليل أن الله استثنى فقال (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) فالأصل أن الإنسان خاسر لماذا ؟ لأنه ظلوم جهول كما قال الله - عز وجل - (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) وقال في آية أخرى (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) هكذا هو الإنسان جحود لنعم ربه (قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) أي ما أشدّ كفره (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) هذا هو الإنسان ولذلك كل الناس في خُسر إلا من جمع أربع خصال ذكرها الله - عز وجل - في سورة مختصرة ليفهمها العباد وليجمعوها في صدورهم ولتكون نبراسا لهم في حياتهم ، يقول الله - عز وجل - (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) إنها أربعة هل يمكننا أن نجمعها ونستوعبها وأن نراجع حسابنا معها وأن ننظر ما مدى تحقيقنا لهذه الأوصاف الأربعة أو هذه الشروط الأربعة التي ننجو بها من الخسران أتمنى أن يراجع كل واحد منا نفسه ويحاسبها على ضوء هذه الأربعة ، إنك ستُفاجأ بأمر لم تتوقعه .
/يقول الله (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين صدقوا بقلوبهم وأقروا إقرارا صحيحا وصدقوا بألسنتهم ونطقوا بالشهادتين واستسلموا لله - عز وجل - ، واعترفوا أيضا بجوارحهم ، ظهر أثر الإيمان على جوارحهم فالإيمان هو : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره . هذه أركان الإيمان فإذا صدقها الإنسان وامتلأ قلبه بها لابد أن يظهر ذلك على لسانه وجوارحه وإلا فلا معنى لإيمان يكون في القلب ولا أثر له في السلوك ، لا يؤثر في سلوك الإنسان ولا ينتفع به الإنسان ، الإيمان المعرفي الباهت لا ينتفع به الإنسان ولا يستفيد منه ، بل لابد من إيمان صادق إيمان يظهر على الجوارح .
/ هل يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا ولا يظهر شيء من أثر الإيمان على جوارحه ؟
الجواب : لا يمكن ذلك أبدا ، لأن حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا بقوله ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .
تأملوا هذا جيدا ستجدون أنه معنى عظيم يجب على كل واحد منا أن يتذكره جيدا وأن يفهمه حقا وألا يغيب عن باله أن القلب والجوارح متحدان إذا أراد القلب شيئا لابد أن تنفذ الجوارح ، إذا سعى القلب نحو شيء فإن الجوارح تسعى طواعية واختيارا نحو ذلك الشيء ، متى صلح القلب فإن الجسد كله يصلح ، متى فسد القلب فإن الجسد كله يفسد . ودعوني أضرب لكم مثالا من أحوالنا : إذا كان في بطنك علة ألا ترى أنه يظهر على جلدك ، على شفتيك ، على قدميك ، على صورة وجهك ، على صفاء هذا الوجه ونقائه ؟ بلى يُعرف المريض من وجهه كما يُعرف السليم من وجهه ، فهذه تعبيرات صحيحة لأمور باطنية زكذلك ما يقع في القلب من الإيمان ولذلك بعض الناس يقول : التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه - عليه الصلاة والسلام - ما أراد بذلك أن يقول لنا إن التقوى في القلب ولن يصدقها العمل ، بل إنه - عليه الصلاة والسلام - بيّن وأوضح أن العمل لابد أن يكون لتصديق القلب وإيمانه ، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) فالله - عز وجل - ينظر إلى قلبه وإلى عمله ، وهذا قررناه في هذه السورة لنرفع هذه الشبهة التي يتشبث بها كثير من الناس ، عندما تنهاه عن منكر يقول لك التقوى هاهنا ، وعندما تأمره بمعروف وهو لم يفعله يقول لك التقوى هاهنا . إذا كانت التقوى هاهنا فلابد أن تكون هاهنا ، وإذا لم يكن في القلب تقوى فلن يكون في البدن واضح । هذه هي المعادلة التي يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا ونحن نتكلم في هذا الموضوع .
إذا الشرط الأول هو الإيمان قال الله - عز وجل - (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) فلا يُقبل من العبد عمل مهما بلغ من دون إيمان ولذلك لو تصدق الإنسان بكل ماله وأحسن كل الإحسان وهو لم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فإنه لا يُقبل منه عمله ولا ينفعه عند الله - سبحانه وتعالى -يُجازى عليه في الدنيا ويأخذ أجره عاجلا قبل أن يكون في الآخرة .
/ الشرط الثاني : ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) إيمان معه عمل ، أما الإيمان الذي لا عمل معه فإن الله لا يقبله ولذلك بيّن الله - عز وجل - في آيات كثيرة أن العمل والإيمان صنوان وأن أحدهما لا يُغني عن الآخر (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فمن أراد أن يُجزى بالأجر الحسن عند الله وأن يحيا الحياة الطيبة السعيدة التي كلها روح وراحة وسعادة وطمأنينة فليجمع الأمرين الإيمان والعمل الصالح حتى يحييك الله حياة طيبة . فإن قلت : ماهو العمل الصالح ؟ أقول لك بكل اختصار : العمل الصالح هو الذي اجتمع فيه أمران :
/ الأول : إخلاص العمل لله ، ، أن يكون عملا يُراد به وجه الله ، لا يراد به شيء من أعراض الدنيا ولا أغراضها ، لا يراد به الثناء والمدح ولا المال ، ولا الجزاء الحسن في الدنيا ، ولا يراد به أن يتحدث الناس به على ألسنتهم أو يذكر صاحبه به ، أو يُكتب عنه في تاريخه ، أو يريد به الإنسان عاجلة الدنيا (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) .
/ الثاني : أن يكون العمل من عند رسول الله ، من بوابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن لك رسول الله بأن تعمله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كلمة مختصرة يجب علينا أن نحفظها حتى نعلم أنها مهمة في كل عمل نتقرب به إلى ربنا سبحانه وتعالى ن قال - عليه الصلاة والسلام - (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي مردود على صاحبه لا يقبله الله - سبحانه وتعالى - وإلا فقل لي بربك لماذا بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -إذا كان من حقي وحقك وحق أي إنسان أن يفعل ما يشاء ويتقرب إلى الله بأي طاعة تعجبه أو يقترحها فلان عليه أو يستحسنها الشيخ الفلاني له ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعملها ولم يدل الأمة عليها ؟ على أي شيء يدل ؟ يدل على أن الرسول لا مهمة له وأنه ليس هو القدوة الحسنة للمؤمنين (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) نعم أسوتنا وقدوتنا هو رسول الله ويجب علينا أن نؤمن بذلك غاية الإيمان وأن نصدق به غاية التصديق ، هذا ما يجب علينا جميعا أن نفعله . جاء ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسألوه عن عبادته فلما سألوا عنها كأنهم تقالّوها فقال أحدهم : أما أنا فأقوم ولا أنام ، وقال الثاني : أما أنا فأصوم ولا أفطر ، وأما الثالث فقال : أما أنا فلا أكل اللحم ، ويُروى أن هناك رابعا قال : أما انا فلا أتزوج النساء ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع مقالتهم وما قالوه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنه يجب علينا أن نعمل عملا أكثر من عمل رسول الله حتى ننجو يوم القيامة ، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا وقال ( أيها الناس ما بال أناس يقولون كذا وكذا وكذا أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له ، أما إني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . تأملوا هذا الأمر جيدا يعني ليس هناك أكمل ولا أفضل ولا أجلّ ولا أجمل من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ولا عبادته . هذا صحابي جليل أراد أن يتقرب إلى الله ببعض العبادات ليُرضي ربه عن نفسه فنذر أن يصوم وأن يقوم في الشمس وألا يتكلم ، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو واقف في الشمس ولا يتكلم فقال : ما بال أبي إسرائيل ؟ قالوا : إنه نذر يارسول الله أن يصوم وأن يقوم في الشمس وألا يتكلم ، قال : مروه فليتكلم وليستظل وليُتم صومه . الصوم جاء عن رسول الله إذا يجب عليه أن يُتمه أما وقوفه في الشمس وصمته فهذا ليس مشروعا ولم يأذن الله به ولم يأمر به عباده .
/ الشرط الثالث : (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ) أي وصى بعضهم بعضا بالحق وتآمروا بالمعروف ، أمر بعضهم بعضا بالمعروف وهذه هي إخواني هي سفينة النجاة (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) فمن أراد النجاة عند الله يوم القيامة فعليه أن يوصي إخوانه بالحق وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . ماالذي أشاع الفساد في الأرض ؟ ما الذي جعل الناس يتمادون في الباطل ؟ هو أن بعضهم لا يُوصي بعضهم بالحق .
ثم ختم هذه الشروط بقوله (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) أي وصى بعضهم بعضا بالصبر ، أي صبر يُراد في هذه الآية ؟ الصبر على طاعة الله ، الصبر عن معصية الله ، الصبر على أقدار الله المؤلمة ، ولابد من هذه الأنواع الثلاثة ، أن تصبر على طاعة الله : على الصلاة وعلى الصوم وعلى الأمر بالمعروف وعلى النهي عن المنكر ، وعلى الدعوة إلى الله ، وعلى بر الوالدين .
تصبر عن معصية الله ، عن الزنا والنظر إلى الحرام واستماع ما حرم الله عليك .
وتصبر أيضا على أقدار الله المؤلمة إذا أخذ الله منك قريبا أو حبيبا أو ذهب منك مال أو فقدت عضوا أو شيئا نفيسا . تصبر على ذلك وتحتسب أجرك عند الله - سبحانه وتعالى - . انتبهوا لذلك إخوتي الكرام لاحظوا كيف أنه جاء الأمر بالصبر بعد الأمر بالتواصي بالحق لأن الناس إذا وصى بعضهم بعضا بالحق سيطالهم بعض المكروه فعليهم أن يصبروا على الأذى في الدعوة إلى الله - عز وجل - فإن الأذى يُلاحق الذين يدعون إلى الله - عز وجل - ويأتي إليهم فعليهم أن يصبروا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلج
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وبهذا الحديث الشريف أختم مقالتي ، قال - عليه الصلاة والسلام - ( وما أُعطي أحد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر ) أسأل الله أن يرزقني وإياكم الصبر في الأمر كله ، في أمر الدنيا وفي أمر الآخرة وأن يجعلني وإياكم ممن ينجون من الخسران ويحققون هذه الشروط الأربعة على أنفسهم على أتم الوجوه وأكمل الأحوال . أسأل الله لي ولكم التوفيق وأن يجعلني الله وإياكم من المتدبرين لكلامه وصلى الله وبارك على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق