الجمعة، 23 ديسمبر 2011

تأملات في سورة الملك


* بقلم / ماجد بن أحمد الصغير
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله أما بعد :
ففي هذه الحلقة سيكون الحديث عن سورة الملك ، وما فيها من وصف معالم ملك الله ، وعظمة صنعه ، وسعة ملكوته ، والسورة تدور رحاها عن ملك الله من جوانبه المتعددة وتبدأ السورة :
بتعريف المؤمنين بعظمة الله تعالى ، وتفرده بالملك الحق ، فهو الملك العظيم الذي بيده الخير ، الملك الذي كثر خيره ، وعم إحسانه ، واتسعت رحمته ، فلا يأتي بالخيرات إلا هو ، ولا يدفع السيئات إلا هو ، فمنه يكثر الخير ، وبسببه يدوم . ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . وهذا نظيره في قوله تعالى ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .
( بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) فما يوجد فرد من أفراد من له الملك إلا وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه ، ويخفضه ويرفعه ، فالخلفاء ، والملوك ، والسلاطين ، ملكهم غير تام ؛ لأنه لا يعم المملوكات كلها ، ومعرض للزوال ، وملك الله هو الملك الحقيقي قال الله تعالى ( فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ) وقال الله تعالى معلماً نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويناجيه (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ آل عمران :26 -27 ].
ثم تنتقل الآيات لتذكر العباد بأن هذا الملك هو الذي أقام نظام الموت والحياة ليختبر أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ، ونتائج مجاريها ، وأنه هو الذي يجازي عليها ؛ (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [ النجم : 31]. (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) [ الملك :2 ]. (( فقد خلق الموت والحياة ليكون من الناس أحياء يعملون الصالحات والسيئات ثم أمواتاً يخلصون إلى يوم الجزاء فيجزون على أعمالهم بما يناسبها ... هو الذي خلق الموت والحياة لتحيوا فيبلوكم أيكم أحسن عملا ، وتموتوا فتجزوا على حسب تلك البلوى )) . [1]
ثم تختم الآية العظيمة باسمين كريمين :
في أحدهما : معنى القهر للعباد فلا يند أحد عن قدرته ، ولا يشذ عن أخذه وبطشه ، والموت مظهرٌ هائلٌ من مظاهر عزة وجلالة جناب المَلِك عظيم الُملْك . فبالموت ينكسر مُلكُ كل مَلِك ويظهر أن الملك الحقيقي لمالك الملك سبحانه وتعالى .
وفي الآخر: يظهر معنى الرحمة والعفو والمغفرة . وهذا الوصفان -العزة والمغفرة - هما ركنا الملك ، فالملك يحتاج إلى عزة جناب ، وتفرد بالأمر ، وقوة في الأخذ ، وفي ذات الوقت يحتاج إلى رحمة وعفو ، وبهما تساس الرعية . والله عز وجل هو ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) [ الملك : 2] .


وإذا كان هناك من غره أن آتاه الله ملك مشارق الأرض ومغاربها ؛ فادعى القدرة على الإحياء والإماتة - وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك - [2] . ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 258] فإذا لهذا أن يدعي الخلق والإماتة أفكاً وزوراً ، فأنى له أن يخلق سبعاً شداداً بغير عمد ترونها ؛ لذا قال سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ *ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ) [ الملك : 2- 5]
ومع وضوح معالم الملك وظهور دلائله : فالموت آية متكررة هائلة ، والحياة مثله ، آيتان باهرتان ، وخلق السموات والأرض وتزيينهما أكبر من خلق الناس ، إلا أن هناك قلوباً جاحدة منكرة مستكبرة قاسية ، لا يزيل قسوتها ،ويذهب كبرياءها إلا النار تحرقهم فيستغيثون ويشهقون ويصرخون وهي تغلي بهم ( وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [ الملك : 6-11] وفي المقابل آخرون مصدقون بالله ، معظمون له ، خائفون من المقام بين يديه ، يخشونه بالغيب ؛ فيكفون عن المحارم ساعة الخلوة ؛ لأنهم يعرفون قدر الملك المطاع فيخافون سطوته وأخذه : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) .[ الملك : 12]
عود على بدء
فصفات ومعالم الملك في هذه السورة لا تنقضي ، فالسر والجهر عند الله سواء حتى خواطر القلوب وخلجاتها ، فمن خصائص الملك الحق أنه سبحانه هو الملك الذي يستحق الخشية والإجلال ؛ لأنه المطلع على الغيب ، ومكنونات الصدور مع الإحاطة بجميع المعلومات فليس ثمة ملك يخرج ما في القبور ويعلم ما في الصدور إلا الله سبحانه ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) [الملك : 13] .
ثم يتوجه الخطاب لمن يتوجه لغير الله من أصحاب الملك والجاه أو الآلهة الأخرى ، يتوجهون لهم بطلب النصرة والرزق - التي هي من مظاهر الملك - أرأيتم إن منع الله عنكم النصر فمن يأتي بالنصر ( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ ) [الملك : 20] . وإذا أراد الله سبحانه ألا يرزقكم فأمسك رزقه فمن يأتيكم برزق ( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ )[الملك : 21] من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده ؟ إنه لا أحد يعطي ويمنع ، ويخلق ويرزق ،وينصر إلا الله عز وجل وحده لا شريك له وهم يعلمون ذلك ومع هذا يعبدون غيره ،ويستمرون في طغيانهم وإفكهم وضلالهم) [3] .
إن تدبر هذه السورة التي جاءت لتقرير عظمة ملك الله وسعة ملكوته يخرج القارئ منها بفائدتين :
الأولى : الإيمان بالله سبحانه ؛ فقد دلت الدلائل على عظمته ، وسعة ملكه ، وعزته ، ورحمته فهو ربنا لا رب لنا سواه سبحانه هو الرحمن الرحيم .
الثانية : التوكل عليه وتفويض الأمر له ، فمن آمن بالله ، وفوض أمره إليه ، وجعل معتمده عليه ، ووثق بعطائه وأخذ بأسباب رزقه ونصره ؛ أخذ بيده ونصره ورزقه . ( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )[4] [ الملك :29 ] .
وتختم السورة بنحو مما بدأت به : من أن الخير في يديه سبحانه ، فلو غارت المياه وأجدبت الأرض فلا يأتي بالماء المعين إلا من بيده الملك وهو على كل شيء قدير . ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ) فلا ينال بالفؤوس الحداد ، ولا بالسواعد الشداد ، فلا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل [5].
هذه سورة الملك ، وهذه معالم وخصائص الملك الحقيقي التي إذا قرأها القارئ خرج وقد عرف ربه بأنه الذي بيده الملك الحقيقي ، وهو على كل شيء قدير . والحمد لله أولاً و آخراً ، وظاهراً وباطناً .

------------------------------------
* / كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
21/6/1428
[1] ينظر : التحرير والتنوير ، للطاهر بن عاشور 1/89 44 ، 4492 .
[2] ينظر: تفسير ابن كثير 1/ 219 .
[3] ينظر : تفسير القرآن العظيم 4/ 512 .بتصرف
[4] أفادني هذه الفائدة فضيلة الشيخ الدكتور : أحمد الشرقاوي وفقه الله .
[5] ينظر : تفسير القرآن العظيم 4/ 513 بتصرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق