الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

جزء 7 / الوقفة الثالثة / تتمة نبأ عيسى بن مريم والمائدة التي سأل الحواريون الله أن ينزلها عليهم


هذه الوقفة الثالثة من الجزء السابع :
انتهينا إلى قول الله - جل وعلا - (تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ) كمفردة كلمة " آية " في القرآن جاءت على عدة معانٍ :
قال أصدق القائلين (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهذا أشهر معانيها .
- وجاء بمعنى معجزة للنبي . فما اصطلح عليه كُتاب السير أنهم يقولون معجزات النبي موسى ، معجزات النبي محمد . كلمة " معجزة " لم تأتِ في القرآن يُعبر عنها بأنها "آية" ومنه هذه الآية قال الله - جل وعلا - ( وَآيَةً مِّنكَ) أي بتعبير الناس اليوم ومعجزة لنا منك ، قول نبي الله عيسى هنا كما حكى الله عنه المقصود منه آية بمعنى معجزة ( وَآيَةً مِّنكَ) ثم أظهر فقره وعجزه وقال (وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) . لا ريب أن الله خير الرازقين ، بل لا أحد يرزق إلا الله ،
الرزق :- رزق تقوم به حياة الأبدان وهذا المطعوم والمشروب .
- ورزق تقوم به حياة القلوب وهو وحي الله إلى نبيه وما نجم عنه من العلم ، وما نجم عنه من العلم النافع . وقد سمى الله - جل وعلا - ما يكون في الجنة رزقا قال الله (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) ومن أعظم ما يُستشهد به في مثل هذا أنهم يذكرون عن داوود عليه السلام أو عن غيره من الصالحين أنه كان إذا دعا قال " يا رازق النُعّاب في عُشه " والنُعّاب فرخ الغراب ، والغراب معلوم أنه شديد السواد والعرب إذا علّقت شيئا بالمستحيل قالت " لن أعود إليك حتى يشيب الغراب" لعلمهم أن الغراب يبقى على لونه ، هذا الغراب إذا فقست بيضته يخرج منها فرخه ويُقال له النُعّاب ويكون أبيض فأبواه الذكر والأنثى يحجمان عنه بسبب اختلاف اللون لا يعرفانه فيرزقه الله على منقاره طائر صغير يُقال له البق فما يزال هذا النُعّاب يلتقطه ويأكله فيشتد عوده ويبدأ يسودّ شعره وجناحاه حتى يصبح مع الأيام أسودا فيعرفه أبواه فيعودان إليه ويُكملان إطعامه والعناية به ، وهذا مما نراه وإلا فإنه لا يُعلم كيف يُساق الرزق إلى غيره من المخلوقات لكن الله تكفل بهذا قال الله (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) والمقصودكما في الخبر الصحيح (إن روح القدس قد نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) .
لكن إنما تُرزق وتؤجر إذا علمت حقا يقينا أن الرازق هو الله ، إذا شعرت بالعبودية ، الله يقول (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) فشعورك وأنت تأكل أنه رزق من الله هذا يؤجر به المرء ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من هديه أنه إذا أكل أو شرب طعاما قال : الحمد لله ، وسأل الله خيرا منه فإذا جيء إليه باللبن لا يقول خيرا منه لأنه لا شيء يقوم مقام اللبن فهو يقوم مقام الطعام والشراب مع موافقته للفطرة .
قال الله هنا (وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) هذا دعاء عيسى ، (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) ماهي ؟ المائدة التي سألتموها ، ولما كان إنزال المائدة شيئا محسوسا لا يمكن أن يُقبل بعد ذلك ، أن يراه ويطعم منه ثم يكفر بالله (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) ومن تأمل القرآن - وهذا ظاهر - وجد أن الله ذكر ثلاث طوائف أخبر أنهم أشد الناس عذابا - في كلامه جل ذكره - :
قال - جل ذكره عن الحواريين ومن سأل المائدة (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) .
وقال - جل وعلا - (
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)وقال - جل ذكره عن المنافقين في زمن النبوة (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، لأنه - عياذا بالله - أي رجل هذا يؤتى له في مكانه ويُقال له تعال يستعفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأبى ، هذا منتهى الضلال ، منتهى الكفر ، رأو النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخلوا مسجده وسمعوا كلامه ومع ذلك أبت قلوبهم - عياذا بالله - إلا إعراضا واستكبارا ،(فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) .
أئمة التفسير اختلفوا هل أُنزلت عليهم المائدة أم لم تُنزل : فمن قال إنها لم تُنزل قال : إن الله لم يذكر ما وقع منهم ، والصواب والحق أنها أُنزلت لأن الله لا يُخلف وعده وقد قال الله - جل وعلا - (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) من حيث الصناعة النحوية الله يقول هنا (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ ) جاءت مبنية على الضم ، وجاءت مبنية على الضم لانقطاع الإضافة و"بعد" و"قبل" اسمان مضافان إذا انقطعا عن الإضافة يُبنيان على الضم ، وإذا اتصل بهما مضاف إليه كُسرا ، وخرجا من حالة البناء إلى حالة الإعراب (مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) فـ"قبل" أضيفت إلى كلمة صلاة فكُسرت ، وخرجت من حال البناء إلى حال الإعراب ، ظهر عليها العلامة ، أما هنا (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ) فلم يُذكر المضاف إليه فيُسمى أن الإضافة انقطعت فبُنيت على الضم .
هذا بعض أخبار بني إسرائيل في زمن عيسى عليه السلام لكن هذا وقع قطعا قبل أن يُرفع عيسى إلى الله - جل وعلا - رفع قربى وزلفى . هذه الأحوال من الحواريين مع عيسى لم يُنقل مثلها عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمثلا : تأتي من طريق جدة إلى مكة فتمر على مركز اسمه الشميسي ، مركز الشميسي هذا هو الحديبية فيأتي للإنسان
سؤال : النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة إلى مكة فما علاقة الطريق من جدة إلى مكة بالحديبية ؟والجواب عن هذا - أنا أتكلم عن فضل الصحابة أنهم قدموا من المدينة إلى مكة - فلما وصلوا عُسفان وهم محرمون وصلّوا أراد خالد ومن معه أن يغزوهم ففاتهم فندموا - أي خالد والمشركون الذين معه - وتواعدوا على صلاة العصر فأنزل الله أحكام صلاة الخوف بين الصلاتين فصلى المسلمون صلاة الخوف عصرا في عُسفان ، ثم أراد النبي أن يُغير الطريق لما رأى أن خالدا يتربص بهم فقال - عليه الصلاة والسلام - من يسلك بنا طريقا آخر ؟ وهذا يحتاج إلى رجل من أهل تلك الديار ، فقال رجل من بني سُليم - من الصحابة - أنا يا رسول الله ، فخرج بهم بين حرار وحجارة وجبال شاقة جدا يصعب فيها المسير وشقّ هذا الأمر على الصحابة حتى يأتون إلى ما يُعرف الآن بطريق جدة لكن ليس من طريق مُعبّد ، من حِرار وصخور ملساء فشق ذلك عليهم فقال - صلى الله عليه وسلم - : قولوا نستغفر الله ونتوب إليه ، فمن غير تلكؤا قالوا - رضي الله عنهم - نستغفر الله ونتوب إليه فوصلو إلى ما يُعرف اليوم بالشميسي وكان يٌسمى الحديبية فأناخ النبي - صلى الله عليه وسلم - الجيش هناك ، كان فيه بئر ،هذه البئر قليلة الماء فأُخبر - صلى الله عليه وسلم - فأخرج سهما وأعطاه رجلا من الصحابة يُقال له ناجية ، وكان ناجية هذا ماحٍ يعني
مائح وهو الذي ينزل في البئر إذا قلّ ماؤها فنزل في البئر ليغرس فيه سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غرس السهم فاض الماء فجاءته جارية معها دلو وتُريد أن تغريه أن يسقيها فقالت : أيها المائح دلوي دونك ** إني رأيت الناس يحمدونك
فأعجب بقولها وسقاها وقال : قد علمت جارية يمانية ... وذكر أبياتا ذكر فيها كيف أنه لبى طلبها .
كل هذا في مجتمع مسلم لكن المقصود منه أن هذا سبب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق الحديبية ، فكان - صلى الله عليه وسلم - على ما يُروى أنه جعل الجيش في الحِل ثم يتقدم وقت الصلاة فيُصلي بهم في الحرم . هذا أحد أدلة الجمهور على أن الصلاة في مكة بمئة ألف في حرمها وإلا الأميال كلها حرم بالاتفاق . هذا والله أعلم والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق