الاثنين، 19 ديسمبر 2011

جزء 7 / الوقفة الثانية في نبأ عيسى بن مريم والمائدة التي سأل الحواريون الله أن ينزلها عليهم


هذه الوقفة الثانية من الجزء السابع مع قوله تعالى (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) .سبق القول فيما سبق أنه من المهم جدا أن من أراد أن يتكلم في التفسير أن ينظر إلى القرائن فلو أخذت جملة (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) لا يمكن قبولها لكن إذا أخذتها مع قول الله قبلها (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) يمكن قبولها ، بل يجب قبولها لأنه لو كان قولهم (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) شك في قدرة الله لما نعتهم الله بأنهم حواريون ، فقول الله - جل وعلا - (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) وهم أنصار عيسى وخاصته ، وهذا وارد في القرآن بكثرة (فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ) يدل على أن سؤالهم هنا ليس سؤال شك .
(إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) الحواريون أنصار عيسى عليه السلام ، قال الله - جل وعلا - (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) والنبي - صلى الله عليه وسلم - نعت بهذا الوصف احد أصحابه الأجلاء من العشرة المبشرين وهو الزبير بن العوام - رضي الله عنه - . الزبير ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمته صفية بنت عبد المطلب وهذا الزبير - رضي الله عنه وأرضاه - أنجب عبد الله بعد هجرة المسلمين إلى المدينة ، وكان قد شاع عن اليهود أن اليهود سحرت المهاجرين فلا يُولد لهم أحد ففرح المسلمون كثيرا بمولد عبد الله بن الزبير وهو أول من وُلد للمهاجرين بعد الهجرة . وجاء في الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم فأعطى دمه لعبد الله ليسكبه فأخذه وتوارى فشربه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ويل لك من الناس وويل للناس منك ) وقد وقع هذا فهو - رضي الله عنه - كان شديد البأس ، قوي العزيمة والشكيمة ، وقعت حروبه مع الحجاج بن يوسف وأظهر فيها جلادة وصلابة معروفة في التاريخ لكن نتكلم فقه قوله - عليه الصلاة والسلام - ( ويل لك من الناس وويل للناس منك ) .نعود للآية : هذا معنى تحرير الحواريين ، هؤلاء الحواريون جاءوا إلى عيسى ، عندما تُطيل الطلب هذا يجعل من يُخاطبك يسمع لك فهم قالوا ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) لما قالوا ذاك خاف هو لأنه لا علم له بالغيب أن يكون هذا تغير في قلوبهم (قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) لكن الله علِم ما في قلوبهم لذلك نعتهم بالحواريين قال (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) هنا قال لما قالوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) . المائدة في اللغة هي : الخُوان أو الخِوان - تجوز بالكسر والضم - إذا كان عليها طعام تسمى مائدة ، أما مادام ليس عليها طعام لا تُسمى مائدة ، فالعرب جرى سنن كلامها أن هناك أوصافا لا تُطلق إلا بالمقارنة ، فالمرأة إذا كانت في الهودج يُسمونها ضعينة لكنها إذا نزلت من هودجها لا يُسمونها ضعينة ، قال عمرو بن كلثوم :
قفي قبل التفرق يا ضعينة *** نخبرك اليقين وتخبرينا
بأنا نريد الرايات بيضا *** ونصدرهن حمرا قد روينا
موضع الشاهد أنه قصد المسافرة ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - في الخبر الصحيح قال لعدي بن حاتم ( لترين الضعينة تخرج من العراق حتى تأتي البيت لا تخاف أحدا إلا الله ) فسماها ضعينة وهو يقصد المرأة حال كونها في الهودج كما أن الكأس لا يُسمى كأسا إلا إذا كان فيه ماء.
نعود للآية : (أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) أي خوان عليه مائدة ، وهم أرادوا معجزة لأنهم لا يريدون طعاما من العالم السفلي ، يريدون طعاما من العالم العالي (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فذكروا الأسباب (قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا) وهذا ترتيب منطقي في العرض لأن الطعام لم يوضع إلا ليؤكل منه ولهذا هناك حرمة اسمها حُرمة مؤاكلة ولهذا نقول إن الخليل عليه السلام لما قدم الطعام لأضيافه من الملائكة دون أن يدري أنهم ملائكة قال الله عنه (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) المقصود أن الطعام لا يُوضع إلا ليؤكل فهنا قالوا بصدق ووضوح وجلاء منطق (قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) والاطمئنان قريب من قول الله - جل وعلا - عن الخليل إبراهيم (وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) هذه الأربعة أسباب أفصح عنها الحواريون سبب طلبهم من نبيهم عيسى بن مريم أن يُنزل الله عليهم مائدة من السماء . هنا يأتي فقه أن تعلم أن الأنبياء مهما علت مراتبهم يبقون بشرا ، فكل الذي صنعه عيسى أنه توسل إلى ربه ولجأ إلى خالقه ، قال الله - جل وعلا - عنه (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) " اللهم " وفق كلام أهل النحو لا يجمعون بين البدل والمُبدل منه فيقولون أصلها يا الله فحُذف حرف النداء ووضعت الميم بدلا منها ولهذا شذّ في أقوالهم فيما نُقل الجمع ما بين البدل والمُبدل منه فلا يُقال " ياللهم " اللهم إلا ما ذكر في ضرورة الشعر لكن الأصل أنه لا يُجمع بين البدل والمُبدل منه قال الله تعالى هنا (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء) فتوسل عيسى بن مريم إلى ربه أن يُنزل عليهم مائدة من السماء ثم علل قال (تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ) (تَكُونُ لَنَا عِيداً) أي شيء يعود وإنما - كما هو معروف - يسمى العيد عيدا لأنه يعود . ومن القضايا الفقهية المُلحّة المطروحة في زماننا قضية الأعياد وكثرتها أو قلتها والذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن الأصل أن العيد الذي يُتعبد الله به لايوجد إلا عيدان الفطر والأضحى ، هذان عيدا أهل الإسلام . أما ما يتعلق بما هو موجود في الثقافة الغربية المعاصرة
فهذا ينقسم إلى قسمين :/ فما كان عندهم مبني على أصل ديني ، أصل منشئه مسألة دينية عندهم فهذا لا يٌقبل البتة ويُرد كاحتفالهم بأعياد الميلاد ، فإن احتفالهم بأعياد الميلاد مبني على احتفالهم بعيد ميلاد المسيح عيسى بن مريم ، وعيد ميلاد المسيح بن مريم باطل شرعا فما تفرع عن هذا يصبح ممنوع شرعا .
/ الآخر من الأعياد الذي لا يرتبط بسبب شرعي عندهم فهذا يُنظر إن كانت هناك مصلحة غالبة في وضعه ولا يُسمى عيدا لفئام دون آخرين لفئة دون فئة فهذا يمكن القول بجوازه وتركه أولى . أما إن كان لا يوجد منه مصلحة البتة فلا حاجة للمسلمين به قطعا لأن أهل العلم ممن هم محققون ومؤصلون ذكروا أن الحضارة الغربية ما كان منها نافعا غير منهي عنه في ديننا يُقبل وما كان منها غير نافع فلا يُقبل ، وما كان نافعا لكنه منهي عنه في ديننا فقطعا لانفع فيه وإن نفعهم هم .
هذا ما يمكن أن يُقال حول الوقفة الثانية المخصصة لخبر عيسى بن مريم ونُتم في الوقفة الثالثة إن شاء الله تعالى خبر إنزال المائدة على الحواريين من أنصار عيسى بن مريم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق