د . ناصر بن محمد الماجد
المقطع الثّاني [(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) ]
هذه الآيات تعود مرة أخرى إلى الحديث عن غزوة أحد بعد هذا الاستطراد في بيان صفة المؤمنين الذين يستحقون مغفرة الله و دخول جنَّاته - سبحانه وبحمده- يقول عزَّوجل (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) يعني لمَّا ابتلى الله عزَّوجل المُؤمنين فِيما وقَع لهم في معركة أحد بدأت الآيات هنا تَنزل لتُسلِّيهم، ولِتُبيِّن لهم أنَّ الذِّي حصل لهم من الأذى، والقَرح، والألم، والشِّدة أن هذه سُنّة الله أن يبتلي أولياءه، ويَصطفي منهم من يشاء، ولهذا قال لهم (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) والسُنن : هِيَ الطَّرائق الثَّابتة وهي سنن إلهية ولذلك قال (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ) بمعنى قد خلت من قبلكم ابتلاءات الله لعباده و لأوليائه، فأَصابهم ما أصابهم من البَلاء و الشِّدة (فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) سيروا في الأرض سَير مُتَبصِّرٍ، مُتَفَكِرٌ، مُتَذَكِرٌ للأَحداث التِّي وقعت في هذه الأرض، وهذه السُّنن الإلهية التي يشير إليها سنن إلهية في النَّصر و التَّمكين، وسنن إلهية في الهزيمة و الفشل . فنصر الله عزّ َوجل له سُنُنه وأسبابه و الهزيمة أيضا ً لها سننها و أسبابها و لهذا قال عز َّوجل (فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) و هذا الحقيقة يُعطينا أهمية النَّظر في التَّاريخ، وأخذ العبرة منه ، لأنَّ التاريخ لا يزال يتكرر، أحداث التاريخ لا تزال تتكرر هي هي ، تختلف الأزمان، والأماكن، والأشخاص ولكن حَقيقة الحَدث لا زال يَتكرر في جِنس البَشر، لأنَّ البَشر هُمُ البَشر وطباعهم، وصفاتهم،وأخلاقهم هي هي فلأجل ذلك يَتكرَّر منهم الفِعل مرة مرة بعد أخرى .
/ ثُمَّ قال عزّ َوجل (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) هذا الإشارة إلى القرآن الكريم يُبيِّن عزَّوجل صفة القرآن فيقول (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) يعني بيان للحقّ والباطل، فيَبين لك الحقّ ويَبين لكَ الباطل ( وَهُدى) يعنى دلالة على الهُدى الذي يَقُودك إلى رِضا الله، وجَنَّته (وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) الوَعظ : الزَّجر، والتَّخويف، أَصل الوَعظ الزَّجر والتَّخويف ، يعني موعظة وزاجرٌ ومُخَوِّف للمتقين ، هذه الأوصاف التي ذكرها الله عز و جل هي في الحقيقة أوصاف تختصر لك وصف القرآن الكريم ، لا أظُن أن هناك آية أبلغ في وصف القرآن الكريم من هذه الآية ، إذا أردت أن تصف القرآن فقل هو( بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) القرآن قَد أبانَ طريق الحق وطريق الباطل فاتَّضح للنَّاس، وهو أيضاً يَهديهم من أراد الهداية يَهديهم إلى السَّبيل الذِّي يُوصلهم إلى الله عزَّوجل، وهُو أيضاً أبلغ موعظة وزاجر للمتقين ، ولذلك هذه الصِّفات وهذه المعاني التِّي جاء بها القرآن الكريم تَتَحقَّق للمتقي، هو الذي ينتفع بها .
/ ثم قال الله عزَّوجل (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وَلا تَهنُوا يعني لا يُصيبُكم الضَّعف، والعَجز، والجُبن، ولا تَحزنُوا عَلى مَا أصابكم يوم أحد من قتل وجِراح و ألم، وهزيمة , لماذا المؤمنون ينهاهم الله عن الضَّعف، وعن الجُبن، وعن الحُزن لِمَا يُصيبهم ؟ (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) الأعلون بإيمانكم بالله ، فكَون الإنسان يعلم أنه على الحقّ، وعلى الهُدى مهما أصابه من البَلاء فأنَّه لا يصيبه الحزن ، لأنه يعلم أنه على الحق و الهدى، وأنتم الأعلون أيضا ًبعون الله لكم و نصره و تأييده فقد نصركم الله قبل أُحد، وأيضا ً قد وعد الله عز و جل المؤمنين بنصرهم ، و قد نصرهم حتى فتح الله عليهم مكة فقال (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) يعني إن كنتم مؤمنين حقيقة ً
فلا يصيبكم الوَهن ولا يصيبكم الحُزن ثم أيضا ً تأتي الآية بعدها وتستمر في تسليتهم فيقول الله جلّ جلاله (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) .
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ) القَرح : هو الجِراح التي أصابتهم في معركة أحد، ويشمل أيضاً القتل فنوعٌ من الجِراح يبقى الإنسان معها ،ونوعٌ من الجراح يموت الإنسان بها، فإن أَصابكم قرح فقد مَّس القوم قرحٌ مثله ، يعني أصابهم قرح مثل قرحكم، فقُتِل منهم من قُتِل، وجُرِحَ منهم من جُرِح في هذه المَعركة وفي المعركة التي قبلها، وهذا عزاء للمؤمنين يعني أنتم لستم فقط الذي أصابكم الأذى و الجراح بل حتى عدوكم أصابهم الأذى و الجراح (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) المُداولة : التَّصريف، فتُدَاول الأيام تُصرَف لك مرة، وتكون لك الغَلبة ، و تُصرف عليك مرة فتكون الغلبة لغيرك، مرة يُدال لك و مرة يُدال عليك، وهذه الأيام كما أخبر عزَّوجل يُداولها بين النَّاس، وهذه سُنَّة من سَنن الله أنَّه يُداوِل الأيام بين النَّاس، مرة للمؤمنين، ومرة للكافرين، وهذه سُنَّة الله عزَّوجل يُداولها بين النَّاس هذا أمر يعني السَّبب الذِّي أصابكم أن الأيام يُداولها بين النَّاس ، والأمر الآخر ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) أصابكم ما أصابكم ليعلم الله الذِّين آمنوا، العلم هنا يعني أن يظهر المؤمنون حقا ًمن غيرهم ، فيتميَّز المؤمنون بإيمانهم وصبرهم من المُنافقين بقعودهم ، وفعلا ً تميَّزوا بعد ذلك وعُرِفَ المنافق من غيرالمنافق .
والحكمة الثالثة ( وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) أصابكم ما أصابكم لِيختار منكم الله عزّ َوجل شهداء يتفضَّلُ عليهم بِمنزلة الشَّهادة ومرتبتها (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) و تأملوا دِقةَ العبارة بقوله يتخذ ( يتخِذَّ منكم ) ،(وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعني المتجاوِزين حُدوده عزَّوجل التَّاركين لِجهاد وقتال عدوّه، ثم أيضاً حكمةٌ أخرى مما أصابهم ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) التَّمحيص : التَّطهير، مَحَّصَ الشَّيء يعني طَهره ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) يعني يُطَهِرَّ الذِّين آمنوا ( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) المَحق : الإهلاك ، ويُهلك الكافرين ، إذا هذا البَلاء الذي أصابكم سببه : المُداولة بين الناس ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ) ليَظهر المؤمنون حقيقة ،ً ويتخذَّ الشُّهداء، ولِيمحصكم يُمَحِصَ المُؤمنين من غيرهم، فتتمحصّ صُّفوف المؤمنين من المنافقين ، ويَمحق الكافرين ، وسبحان الله هذا الذِّي أصاب المؤمنين من الجِراح و الأذى كان سبباً في أي شيء في مَحق الكَافرين بعد ذلك فهذه هي النتائج التي نتجت عن هذا الذي حصل للمؤمنين، وربنا يَلفت أنظار المؤمنين في هذه الآية ، هو ما يتميز به المؤمنون عن غيرهم يقول عز َوجل ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ) المُؤمن يُصيبُه الجِراح و كذلك الكافر يُصيبه الجِراح، المُؤمن يُقتل وكذلك الكافر يُقتَل ،في المعركة هل فقط الذِّين يُقتلون المؤمنون كلا، بل المُؤمنون وغيرهم يُقتلون لكن المؤمنون يتميَّزون عنهم فيما قال الله في الآية الأخرى في سورة النساء (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ) [1] نفس الأَلم الذِّي يُصيبكم أيضا ًيصيبهم، لكن ما الذِّي نتميز عنهم؟ (وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [2] المؤمن مهما أصابه بالجهاد فله أحد أمرين : أما أن يُنصر و إما أن يُستشهد فيُؤجر عندالله، إحدى الحُسنيين إمَّا النَّصر، و إمَّا الشَّهادة و كُلٌّ منهما مَرغُوب،ٌمَحبوبٌ، مَطلوبٌ للمُؤمنين ، أمَّا الكافر فلا يرجو إلا النَّصر لكن المؤمن يَرجو إِحدى الأمرين إما أن ينصر على عدوه أو أن يستشهد ، وهذه الميزة العظيمة هي التي تجعل المؤمنين يصبرون في ساحات الوغى و ساحات الجهاد ، و تجد أحدهم أسرعُ للقاء عدوه من سرعة عدوه فراراً منه .
/ ثم قال بعد ذلك (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) "أم" هذه مُنقطعة للإضراب، للانتقال من الكلام الذي قبله إلى الكلام الذي بعده، وهي تُفيد الاستفهام حتى إنَّ كثيرا ً من أهل اللغة يقولون إنَّها دَالة على الاستفهام حيثُ وَرَد إذا كانت بمعنى الانقطاع ، فالمعنى : هنا هل حسبتم أن تَدخُلُوا الجنَّة، والحُسبان هُنا الظَنّ والتَّوَقُع، يعني هل ظننتم أيُها المُؤمنون أنَّكم تدخلون الجنَّة ( ولمَّا يَعلَمِ الله الذِّين جَاهدوا مِنكُم ) قوله "ولمَّا يعلم" "لمّا" هذه تُفيد النَّفي مع تَوقُع حُصُول الشيء تقول لمَّا يأتي زيد يعني الآن زيد لم يأتي، لكنه متوقَّع أن يأتي ، ولكن حين تقول لم يأتي زيد فأنت تنفي مجيئه دون أن تتوقع حصوله ، وهنا نفى الله عز َّوجل العِلمَ بالمجاهدين بِظُهور المُجاهدين من غيرهم، وَمَع توقُع أن ذلك سيظهر، ونعم قد ظهر في الجِهاد، والقتال في سبيل الله ظهر المؤمنون حقاً من غيرهم (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ) يعني و لم يظهر الذين جاهدوا منكم من غيرهم من المنافقين، وأيضاً لِيعلم الصَّابرين
ودائماً ما يُذكر الصَّبر في مقام الجِهاد، لأنّه قرين الجهاد لأنه لا جهاد بغير صبر.
/ ثم قال عز و جل بعد ذلك (وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) ويُذَّكِر الله المؤمنين بما سبق قد كانوا يتَمنَّونَ، أليس الصحابة هم الذين كانوا سببا ً لخروج النبي من المدينة في معركة أحد ؟ هم الذين دعوا النبي إلى الخروج ، و إلا فالنبي مع كبار الصحابة كانوا يرون أن يبقوا في المدينة ، لماذا أرادوا أن يخرجوا ؟ أرادوا أن يدركوا الفضل الذي أدركه إخوانهم في بدر ، لأجل هذا ، تمنوا الخروج فذكرهم الله ، قال يعني كيف يصيبكم الحزن وأنتم كنتم تتمنون لقاء عدوكم ،( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) تتمنُون الشَّهادة في سبيل الله، أو من حِرصكم على الجِهاد كأنَّكم تتمنَّون الموت ( مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ) يعني من قبل لقاء أسبابه، ولِقاء أسبابه بلقاء العدو (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) يعني قد رأيتموه الآن وأنتم تنظرون له عِياناً، ليس فقط رؤية عقلية وإنَّما هي رؤية حقيقية ، رأيتمو أسبابه و لذلك قال (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) له عياناً .
/ ثم قال عزَّوجل (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) هذه الآيات تُشير إلى ما وقع من المؤمنين بعد أن شاع بينهم أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قد قتل في معركة أحد ، فقعد بعضهم عن القتال ، باعتبار أنَّ النبي قد قتل فما عاد من حاجة للقتال ، فقال الله لهم (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) يعني قد انقضت (مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) وهل أحدٌ من الصحابة يَشُكّ أن أنبياء سابقين قد قضَوا وماتوا لا أحد يَشك بذلك، ولكن يأتي التَّذكير بهذا الأمر لأنهم فعلوا فِعل من يَشُك بهذا إذا كانوا الأنبياء قد ماتوا قبله فمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام مثلهم، يموت كما يموتون و يُقتل كما يُقتلون فلماذا تقعدون عن الجهاد في سبيل الله بسبب موت النَّبي أو قتله ؟ ! (أَفَإِن مَّاتَ) موتا ً طبيعيا ً (أو قُتِل) في الجهاد انقلبتم ! أصل الانقلاب : الرُّجوع ، (انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) والعَقب : هو مُؤخرة القَدم وهذا مبالغة في شِدّة الانصراف و الرُّجوع يعني انقلبتم راجعين على أعقابكم، (وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً) فمن يرجع ويَدع الجِهاد في سبيله وحمل رايته فإنه لا يضر الله شيء بل يضر نفسه ، أن خذل نفسه ولم يسلك بها سبيل الربَّانيين من أتباع الأنبياء و لذلك قال عزَّوجل ( وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) ./ ثم قال عزَّوجل بعد ذلك ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أخبر عزَّوجل في هذه الآيات أنَّ لكل نفسٍ أجلها المحدود المؤجل يعني المُؤقت التي لا تزيد عنه ولا تنقص عنه ، (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) يعني أجر الدنيا (نُؤْتِهِ مِنْهَا) نُعطه منها ، و لذلك قال (نُؤْتِهِ مِنْهَا) يعني من هَذه الدنيا ، (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) لِنعمه وفضله جزاء عظيما ً، ثم قال الله بعد ذلك (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) .(كأيِّن) تركيب هذه الكلمة فيه كلام طويل للمفسرين وأهل اللُّغة ، في أصل تركيبها هل هي كلمة مُركبَّة أم هي بسيطة؟ ثم إذا كانت مُركبة من أي شيء رُكِّبت ،ولكن كلامهم يدور بالنهاية كما يقول أبو السُّعود يدور حول أنها بمعنى (كم) دالة على معنى الاستفهام عن العدد (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ) يعني كم من نبي قُتل (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فتشير الاستفهام عن العدد قال عزّوجل (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ، (قَاتَلَ مَعَهُ) قد وَرَد في هذا المَوضع قراءتان سَبعيتان متواترتان و قع خلاف بين أهل العلم ، في معنى الآية عليها فقوله (قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ) هذه قرأ بها حمزة والكَسَائي وعاصم و بها نقرأ على البناء للفاعل (قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) فالذين قاتلوا هنا هم الأنبياء، والرِّبيُّون وفي قراءة أخرى سَبعية قرأ بها أبو عَمر وابن كثير ونافع ( قُتِلَ ) البِناء للمجهول ( قُتِل معه ) فإذا هذه الآية تُشير أن هذه القراءة قراءة المبني للمجهول إلى أنَّ النبي قُتِلَ هو ورِبيُّونَ كثير معه، ويُحتَمل أن يكون أنَّ هذا النَّبي قُتل معه دفاعاً عن الحق ربيون كثير، ولا يَلزم أن يكون هو الذي قُتِل وإنَّما هم قُتلوا معه نقول قتل مع الجيش الفلاني كذا و كذا، أو مع القائد الفلاني مائة وأنت لا تريد أن القائد هو الذي قُتِل ، فهذه القراءة تُثبت أنَّهم قُتِلُوا على إحدى احتمالين : إمَّا أن يكون النَّبي و معه ربيُّون كثر قتلوا، أو أنَّ هؤلاء الربيون قُتِلوا مع النَّبي، يعني في صُحبة النَّبي دون أن يكون النَّبي هو الذِّي قُتِل، أما قراءة ( قاتل ) فهي لا يَلزم منها حُصول القتل و إنّما المقاتلة ، المقاتلة قد يُقتل بعضهم ،قد يُصيبهم الجراح فكُلٌّ من القراءتان تؤدي المعنى أن كثيرا ً من الأنبياء و الربييِّن معهم قد قاتلوا في سبيل الله فمنهم مرة قد يُقتلون، ومرَّة قد يُصيبهم ما دون ذلك . قوله ( رِبيُّون كثير) اختلف فيها المفسرون :
· فمنهم من قال إنَّ الرِّبِيُون هُنا يعني رَبانيُّون من الرَّباني وهم أتباع الأنبياء و خاصتهم ، أتباع الأنبياء و خاصَّتهم ، ونعلم أن أتباع الأنبياء والخاصة هم الأصفياء من المؤمنين ، أصفياء المؤمنين يعني مثل الحواريين .
· والمعنى الآخر وهُو المَشهور في اللُّغة أنَّ الرِّبيُّون مُشتَقٌ مِنَ الكَثرة، يعني قُتل معه أناس كثير، الرِّبيُون يعني الكثيرون ، الجماعات الكثيرة ، الربيون يعني هي الجماعات الكثيرة ( فَمَا وَهنوا لِمَا أَصابهم ) من القَتل أو الجراح ما أصابهم الضَّعف والجبن ( وَمَا ضَعُفُواْ ) يعني ما قعدوا عن القتال ( وَمَا اسْتَكَانُواْ ) يعني ما خَضَعُوا وخَشَعوا لأعدائهم مع هذا العذاب العظيم الذِّي أصابهم لكنَّهم لم يُصبهم الجبن ولا الضَّعف ولا الاستكانة والمَذلة ، ولهذا قال ( والله يُحبُّ الصَّابرين) لم يَقُل والله يُحبُّهم لأنَّ هَذه الأخلاق التي هُم عليها أخلاق من الصَّابرين، والله يحبهم ووصَفهم الله بالصَّبر، وأيضا ذكر محبته لهم ، ثم قال ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147 ) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعني لم يكن منهم من قول، لم يكن منهم من شكاية ما شكوا، ما تأَففوا، ما جَزعوا أبدا ً ما كان منهم إلا قالوا (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) - سبحان الله - يعني يُصيبهم القتل، والجِراح والآلام الشديدة، ومع ذلك يَزدَرُون أنفسهم في جَنب الله مع أنَّهم خرجوا لقتال عدو الله في أعظم ميدان ميدان الجهاد، ومع ذلك يزدرون أنفسهم فيسألون الله أن يغفر ذنوبهم لأنَّهم علموا أنَّ هذا الذي أصابهم ما أصابهم إلا من عند أنفسهم فسألوا الله أن يغفر ذنوبهم، أولا ً بدؤوا بها، ما بدؤوا بالنَّصر على العدو (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) يعني مُجاوزتنا في أمرنا وشؤوننا،مجاوزتنا لما أمرتنا به، ولحدود ما أمرتنا به (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) بعد أن تغفر الذنوب و أن يتجاوز عنها يسألون الله تثبيت أقدامهم و النَّصر على الكافرين، وهذا السؤال الحقيقة مع أنه في غاية الأدب مع الله إلا أنَّه هذا هو المنطق الصحيح ، لأنه كما ذكرنا أن الهزيمة تكون في القلب أولاً، ولا سلامة منها إلا بالتَّجافي عن المعاصي التي هي السبب لضعف القلب و لذلك قال (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) فإذا غُفِرت الذُّنوب ثبُت القلب فإذا ثبت القلب ثبتت الأقدام في المعركة، وإذا ثبتت الأقدام في المعركة كان النصر على العدو ولذلك قال (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) فما كان جزاءهم بعد ذلك فآتاهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة ، ثواب الدنيا بالنَّصر على العَدُوّ والتَّمكين والغَنيمة ، وحُسن ثواب الآخرة بإنزالهم أعلى المنازل منازل الجنة نسأل الله عز و نسأل الله الكريم من فضله ، ثم قال بعد ذلك .
قبل أَن انتقل من هذه الآية أن أُشير إلى أنَّ الحادثة التي حصلت من قُعود بعض الصَّحابة عن القتال بعد سماعهم مقتل النبي صلى الله عليه و سلم ومُعاتبة الله لهم تشير إلى مبدأ عظيم يجب على الدُّعاة من الله عز و جل و على من يقوم و يحمل همَّ الدعوة إلى الله أن يتنبه إليه وهو: أن يكون قيامه و دعوته و جهاده من أجل الحق لذات الحق الذي يدعو إليه ، ليس لمن يحمل الحق و يقوم به كائنا ً ما كان ، حتى لو كان النَّبي، فإن النَّبي يموت ويُقتل، فهل يموت ويُقتَل بقتل النَّبي ؟ وهل يَقعد النَّاس بعد موته ؟ أبدا ً بل يجب عليهم أن يقوموا .
ولذلك جاء في بعض الروايات و الآثار أنَّ أحد الصَّحابة مَرَّ به رجل وهُوَ يَتشَحطُ فِي دَمه [3]- قد قارب الموت - يتشحط في دمه.
فقال له: أشعرت يا فلان أنَّ محمداً قد قُتل ؟ قال: فإن كان قد قُتِل فقد بَلَّغ ، فقوموا فقاتلوا على ما كان عليه يقاتل ، أو نحواً من هذه الكلمة . فيقول إن كان قد مات فقد بلغ ، فقوموا فقاتلوا على ما كان يُقاتل عليه. فالحقّ و الهُدَى لا يَرتبط بأشخاص مهما عَلَت أَماكنهم لأنّهم قد يَضِلُّون وقد ينحرفون، وقد يموتون، وقد يُقتلون فلا يرتبط الحق بهم ، بل الدعوة إلى الله و بذل المعروف و نصح الناس و السعي في الخير يقوم به لأنه هو الحق في ذلك و يهلك عليه الأول و يقوم به الآخر.
/ قوله عزَّو جل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) يقول الله عزَّوجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ) مهما كان أولئك الكفار من اليهود و النصارى والمشركين فيما يأمرونكم به يردوكم على أعقابكم (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) يرجعونكم بعد إيمانكم إلى الكفر (فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) قال انقلب الرَّجُل لأهله يعني رجع إلى أهله، فترجع بعد ذلك بالخُسران لا ترجعون إلا بخسران . (بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) يعني بل استعصموا، واستمسكوا بالله عزَّوجل الذِّي هو نَاصركم حقيقة ، فلا تسمعوا ولا تُطيعوا إلى هؤلاء الكفار ، فإنَّهم لا يُريدون بكم الخير،والنَّصر، ولا النُّصح ،بل الله عزَّوجل هو ناصركم يعني هو وليُّكم (بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ) يعني ناصركم وهو خير النَّاصرين سبحانه و بحمده .
/ ثم قال الله عزَّوجل (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)
يقول الله عزَّوجل (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) الرُّعب أشد الفزع يسمى ذلك رعباً، بحيث أن فرائِصَ الإنسان وأطرافه تَرتعد، و يُصيبها الاضطراب والارتعاد ، هذا يُسمى رعبا ً فهو فزع شديد ، وتأمَّلوا أن الله قال (سُنلقِي) أَصلُ ذاتِ الإلقاء فيه معنى القوة، فكيف إذا كانَ هذا المُلقى الرُّعب ذَاته كأنَّ الرُّعب شيءٌ مُجَسَّم يُؤخذ فيُلقى في قلوبهم دفعة واحدة، وانظروا إلى أين كان مَقرَّ هذا الإلقاء في القلوب لأنَّها هي التِّي تَنتصر وهي التي تُهزَم (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) يعني بِسبب شِركهم بالله شِركاً، لم يُنزَّل به سلطانا بمعنى أنه شِركا ً موصوفا ً وحاله أنَّه لا سلطان له، فإنَّ كُلَّ شِرك بالله ليس له سلطان يعني ليس له حُجَّة، وليس له برهان (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) يعني ما لم ينزل به حجة و برهانا ً ( وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ) المأوى : المكان الذِّي يرجع إليه الإنسان ويستقر فيه فيأوي إليه، ويحتمي به فهؤلاء يأوون، و يحتمون ويرجعون في اليوم الآخر إلى النَّار و بئس القرار ( وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) و بئس ذلك المستقر و المرجع و المأوى ، مأوى للظالمين ووصفهم بالظَّالمين وصف فيه معنى التعليل يعني كان ذلك مستقرهم، ومأواهم لأنَّهم ظالمون.
/ قال عزَّوجل (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)يقول عزَّوجل - والكلام لازال عن معركة أحد - يقول عزَّوجل ولقد أنجزكم الله وعده - وأُحِبّ أن أشير يعني إلى هذه الآيات كلها تأتي مليئة بالدروس العظيمة و طويلة الحقيقة الآيات لو استعرضناها بالآيات التي نزلت في غزوة بدر، لوجدنا أن غزوة أحد كانت الآيات متعلقة بها أكثر مع أن تلك كان فيها نصر، وهذه فيها هزيمة لأنَّ أخذ الدروس من أسباب الهزيمة هو الذِّي يُحقق النَّصر وهو يجعل الإنسان مستمراً على النّصر، وإلا إذا لم يعلم الإنسان لماذا ينتصر ولماذا يُهزم فإنه قد يهزم مرة من المرات و قد تكون تلك الهزيمة التي يُهزم فيها هزيمة ً تأتي عليه ولا تُبقي منه. ولذلك نحن نستفيد من هذا حتى في حياتنا ، إذ ليس عيبا ً أن يَفشل المرء، وأن يخسر وأن يُهزم مرة في حياته ليس عيبا ً لأن الفشل طريق النَّجاح، و الهزيمة هي طريق النَّصر، ولا يعرف طعم النَّصر وطعم النَّجاح إلا من ذاق طعم الهزيمة والفشل .
ولهذا تأتي الآيات تتكلم عن هذه المعركة على هذا النَّحو وهذا التفصيل وتأخذ هذه الدروس العظيمة منها ويقول عزَّوجل (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ) لأن الله وعد المؤمنين بنصرهم إذا هم اتَّقُوه، وعملوا بما أمروا به و كيف صَدقنا وعده ؟ قال ( إِذْ تَحُسُّونَهُم ) يعني صَدَقكم، وحَصَل ذلك في وقت هُو الوقت الذي كنتم تحسُّونهم فيه، وأصل الحَسّ : القتل الذَّريع ، بعض المُفسِّرين قال الحَسّ القَتل، و لكنَّه يَخُص نَوع من القتل وهُوالقتل الذَّريع يعني القتل الفاحش الكبير (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ) وكان هذا الوعد قد تحقق حيث بدأتم بقتل المشركين قتلا ًذريعا ً، وهذا هو الذي حصل في أول معركة أحد وقبل مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه و سلم - واستمر الأمر إلى غاية إذا فشلتم الفشل المراد به هنا الضعف حتى إذا فشلتم يعني ضعفتم عن الثبات على المواقع التي أمركم بها النَّبي - صلى الله عليه و سلم - حتى إذا فشلتم وتَنازعتم في الأمر، وأصابكم الضَّعف ،لماذا قال عزَّوجل فشلتم هنا بمعنى ضَعُفتم؟ لأنَّ الصَّحابة رؤَوا المَغانم الذِّين كانوا على الجبل رأوا الصحابة يجمعون المغانم فضعفت نفسهم أرادوا أن يبادروا إلى جَمع المَغانم فحصل منهم الضَّعف . وهذا هو الضَّعف الذي كان سببه القَلب نفسه هو سبب ضَعفه، وسمَّى ذلك (فشلاً) في عدم القدرة على الانتصار على رغبة النفس في هذا المطمع الدُنيَويّ سمَّاه الله عزَّوجل (فشلاً). (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) أصابهم الفَشل هُم لم يَخرجُوا، لم يُبارحوا مكانهم ما زالوا بَاقين لكن حصل أي شيء؟ الفشل في القلب . فماذا أورَث بعد ذلك ؟ (تَنَازَعْتُمْ) بعد الفشل في القلب حَصَل التَّنازع ، هل نَبقى أو نذهب ؟ فطائفة تقول لا بل نبقى، وطائفة تقول لا بل نثبت فإنَّ النَّبي نَهانا، حَصل التنازع و إذا حصل التنازع كانت الهزيمة .
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ) بين أن تَبقوا و بين أن تذهبوا (وَعَصَيْتُم) بالذَّهاب، وترك المكان (مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ) الذي يحبونه كان قتل العدو و الانتصار عليه ورؤية المغانم (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا) سبحان الله، من الصَّحابة من كان يريد الدُّنيا يعني المَغنم (وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) وهو امتثال أمر النَّبي ، وهذا يُعطيك أنَّ الصَّحابة بَشر وليسُوا ملائكة فيهم هذه الرَّغبات الفِطرية في النَّفس فيتعلق أحدهم في الدنيا ولذلك لا حرج في ذلك ، أن يتعلَّق الإنسان بشيء من الدنيا و أن تَرغب نفسه فيها (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) حتى الصَّحابة يقع منهم ذلك ، لكِن إرادة الدُّنيا لا تكون على حساب الدِّين، هذا هو المَنهي وهو المَذموم (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) وإذا حصل هذا كله قال عزَّوجل (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) عن النَّصر عليهم، والانتصار عن قتالهم لماذا صَرَفكم ؟( لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليبتليكم بهذا الانصراف فإذا صرفكم عنهم تسلَّطوا عليكم، و إذا تسلطوا عليكم حصل الابتلاء لكم .
(لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) و مع ذلك الله رحيم بعباده ، حتى مع هذه المخالفة منهم للنَّبي - صلى الله عليه و سلم - إلا أنّه قد عفا عنهم ، ليبتليهم ليعلم الصَّابر مِن الجَازع، و ليعلم المؤمن من المنافق (وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنه عفا عنهم، وإلا لكان قادر عزّ َوجل أن يكون الذي أصاب المشركين أعظم من هذا ، فإن الذِّي أصابهم من المشركين بعض القتل ولم يستأصلهم المشركون و لذلك سيأتي الكلام على أن المشركين أرادوا الرجوع مرة أخرى لاستئصال النّبي والصحابة فكفَّ الله أذى المشركين عن الصَّحابة فإذا الله عفا عن المؤمنين، ولطف بهم فلم يُؤاخذهم و أيضا حماهم وقاهم من أذى من المشركين أكبر من مما أصابهم (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) (وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) تفضل عليهم :أولا: بالعفو، ويتفضل عليهم ثانياً: بمضاعفة حسناتهم وثوابهم.
نتوقف عند هذا ونكمل إن شاء الله بعد صلاة المغرب . سبحانك اللهم و بحمدك و نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك و نتوب إليك.
-----------------------------------------------
[1]النساء104/ ثُمَّ قال عزّ َوجل (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) هذا الإشارة إلى القرآن الكريم يُبيِّن عزَّوجل صفة القرآن فيقول (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) يعني بيان للحقّ والباطل، فيَبين لك الحقّ ويَبين لكَ الباطل ( وَهُدى) يعنى دلالة على الهُدى الذي يَقُودك إلى رِضا الله، وجَنَّته (وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) الوَعظ : الزَّجر، والتَّخويف، أَصل الوَعظ الزَّجر والتَّخويف ، يعني موعظة وزاجرٌ ومُخَوِّف للمتقين ، هذه الأوصاف التي ذكرها الله عز و جل هي في الحقيقة أوصاف تختصر لك وصف القرآن الكريم ، لا أظُن أن هناك آية أبلغ في وصف القرآن الكريم من هذه الآية ، إذا أردت أن تصف القرآن فقل هو( بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) القرآن قَد أبانَ طريق الحق وطريق الباطل فاتَّضح للنَّاس، وهو أيضاً يَهديهم من أراد الهداية يَهديهم إلى السَّبيل الذِّي يُوصلهم إلى الله عزَّوجل، وهُو أيضاً أبلغ موعظة وزاجر للمتقين ، ولذلك هذه الصِّفات وهذه المعاني التِّي جاء بها القرآن الكريم تَتَحقَّق للمتقي، هو الذي ينتفع بها .
/ ثم قال الله عزَّوجل (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وَلا تَهنُوا يعني لا يُصيبُكم الضَّعف، والعَجز، والجُبن، ولا تَحزنُوا عَلى مَا أصابكم يوم أحد من قتل وجِراح و ألم، وهزيمة , لماذا المؤمنون ينهاهم الله عن الضَّعف، وعن الجُبن، وعن الحُزن لِمَا يُصيبهم ؟ (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) الأعلون بإيمانكم بالله ، فكَون الإنسان يعلم أنه على الحقّ، وعلى الهُدى مهما أصابه من البَلاء فأنَّه لا يصيبه الحزن ، لأنه يعلم أنه على الحق و الهدى، وأنتم الأعلون أيضا ًبعون الله لكم و نصره و تأييده فقد نصركم الله قبل أُحد، وأيضا ً قد وعد الله عز و جل المؤمنين بنصرهم ، و قد نصرهم حتى فتح الله عليهم مكة فقال (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) يعني إن كنتم مؤمنين حقيقة ً
فلا يصيبكم الوَهن ولا يصيبكم الحُزن ثم أيضا ً تأتي الآية بعدها وتستمر في تسليتهم فيقول الله جلّ جلاله (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) .
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ) القَرح : هو الجِراح التي أصابتهم في معركة أحد، ويشمل أيضاً القتل فنوعٌ من الجِراح يبقى الإنسان معها ،ونوعٌ من الجراح يموت الإنسان بها، فإن أَصابكم قرح فقد مَّس القوم قرحٌ مثله ، يعني أصابهم قرح مثل قرحكم، فقُتِل منهم من قُتِل، وجُرِحَ منهم من جُرِح في هذه المَعركة وفي المعركة التي قبلها، وهذا عزاء للمؤمنين يعني أنتم لستم فقط الذي أصابكم الأذى و الجراح بل حتى عدوكم أصابهم الأذى و الجراح (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) المُداولة : التَّصريف، فتُدَاول الأيام تُصرَف لك مرة، وتكون لك الغَلبة ، و تُصرف عليك مرة فتكون الغلبة لغيرك، مرة يُدال لك و مرة يُدال عليك، وهذه الأيام كما أخبر عزَّوجل يُداولها بين النَّاس، وهذه سُنَّة من سَنن الله أنَّه يُداوِل الأيام بين النَّاس، مرة للمؤمنين، ومرة للكافرين، وهذه سُنَّة الله عزَّوجل يُداولها بين النَّاس هذا أمر يعني السَّبب الذِّي أصابكم أن الأيام يُداولها بين النَّاس ، والأمر الآخر ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) أصابكم ما أصابكم ليعلم الله الذِّين آمنوا، العلم هنا يعني أن يظهر المؤمنون حقا ًمن غيرهم ، فيتميَّز المؤمنون بإيمانهم وصبرهم من المُنافقين بقعودهم ، وفعلا ً تميَّزوا بعد ذلك وعُرِفَ المنافق من غيرالمنافق .
والحكمة الثالثة ( وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) أصابكم ما أصابكم لِيختار منكم الله عزّ َوجل شهداء يتفضَّلُ عليهم بِمنزلة الشَّهادة ومرتبتها (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) و تأملوا دِقةَ العبارة بقوله يتخذ ( يتخِذَّ منكم ) ،(وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعني المتجاوِزين حُدوده عزَّوجل التَّاركين لِجهاد وقتال عدوّه، ثم أيضاً حكمةٌ أخرى مما أصابهم ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) التَّمحيص : التَّطهير، مَحَّصَ الشَّيء يعني طَهره ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) يعني يُطَهِرَّ الذِّين آمنوا ( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) المَحق : الإهلاك ، ويُهلك الكافرين ، إذا هذا البَلاء الذي أصابكم سببه : المُداولة بين الناس ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ) ليَظهر المؤمنون حقيقة ،ً ويتخذَّ الشُّهداء، ولِيمحصكم يُمَحِصَ المُؤمنين من غيرهم، فتتمحصّ صُّفوف المؤمنين من المنافقين ، ويَمحق الكافرين ، وسبحان الله هذا الذِّي أصاب المؤمنين من الجِراح و الأذى كان سبباً في أي شيء في مَحق الكَافرين بعد ذلك فهذه هي النتائج التي نتجت عن هذا الذي حصل للمؤمنين، وربنا يَلفت أنظار المؤمنين في هذه الآية ، هو ما يتميز به المؤمنون عن غيرهم يقول عز َوجل ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ) المُؤمن يُصيبُه الجِراح و كذلك الكافر يُصيبه الجِراح، المُؤمن يُقتل وكذلك الكافر يُقتَل ،في المعركة هل فقط الذِّين يُقتلون المؤمنون كلا، بل المُؤمنون وغيرهم يُقتلون لكن المؤمنون يتميَّزون عنهم فيما قال الله في الآية الأخرى في سورة النساء (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ) [1] نفس الأَلم الذِّي يُصيبكم أيضا ًيصيبهم، لكن ما الذِّي نتميز عنهم؟ (وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [2] المؤمن مهما أصابه بالجهاد فله أحد أمرين : أما أن يُنصر و إما أن يُستشهد فيُؤجر عندالله، إحدى الحُسنيين إمَّا النَّصر، و إمَّا الشَّهادة و كُلٌّ منهما مَرغُوب،ٌمَحبوبٌ، مَطلوبٌ للمُؤمنين ، أمَّا الكافر فلا يرجو إلا النَّصر لكن المؤمن يَرجو إِحدى الأمرين إما أن ينصر على عدوه أو أن يستشهد ، وهذه الميزة العظيمة هي التي تجعل المؤمنين يصبرون في ساحات الوغى و ساحات الجهاد ، و تجد أحدهم أسرعُ للقاء عدوه من سرعة عدوه فراراً منه .
/ ثم قال بعد ذلك (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) "أم" هذه مُنقطعة للإضراب، للانتقال من الكلام الذي قبله إلى الكلام الذي بعده، وهي تُفيد الاستفهام حتى إنَّ كثيرا ً من أهل اللغة يقولون إنَّها دَالة على الاستفهام حيثُ وَرَد إذا كانت بمعنى الانقطاع ، فالمعنى : هنا هل حسبتم أن تَدخُلُوا الجنَّة، والحُسبان هُنا الظَنّ والتَّوَقُع، يعني هل ظننتم أيُها المُؤمنون أنَّكم تدخلون الجنَّة ( ولمَّا يَعلَمِ الله الذِّين جَاهدوا مِنكُم ) قوله "ولمَّا يعلم" "لمّا" هذه تُفيد النَّفي مع تَوقُع حُصُول الشيء تقول لمَّا يأتي زيد يعني الآن زيد لم يأتي، لكنه متوقَّع أن يأتي ، ولكن حين تقول لم يأتي زيد فأنت تنفي مجيئه دون أن تتوقع حصوله ، وهنا نفى الله عز َّوجل العِلمَ بالمجاهدين بِظُهور المُجاهدين من غيرهم، وَمَع توقُع أن ذلك سيظهر، ونعم قد ظهر في الجِهاد، والقتال في سبيل الله ظهر المؤمنون حقاً من غيرهم (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ) يعني و لم يظهر الذين جاهدوا منكم من غيرهم من المنافقين، وأيضاً لِيعلم الصَّابرين
ودائماً ما يُذكر الصَّبر في مقام الجِهاد، لأنّه قرين الجهاد لأنه لا جهاد بغير صبر.
/ ثم قال عز و جل بعد ذلك (وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) ويُذَّكِر الله المؤمنين بما سبق قد كانوا يتَمنَّونَ، أليس الصحابة هم الذين كانوا سببا ً لخروج النبي من المدينة في معركة أحد ؟ هم الذين دعوا النبي إلى الخروج ، و إلا فالنبي مع كبار الصحابة كانوا يرون أن يبقوا في المدينة ، لماذا أرادوا أن يخرجوا ؟ أرادوا أن يدركوا الفضل الذي أدركه إخوانهم في بدر ، لأجل هذا ، تمنوا الخروج فذكرهم الله ، قال يعني كيف يصيبكم الحزن وأنتم كنتم تتمنون لقاء عدوكم ،( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) تتمنُون الشَّهادة في سبيل الله، أو من حِرصكم على الجِهاد كأنَّكم تتمنَّون الموت ( مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ) يعني من قبل لقاء أسبابه، ولِقاء أسبابه بلقاء العدو (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) يعني قد رأيتموه الآن وأنتم تنظرون له عِياناً، ليس فقط رؤية عقلية وإنَّما هي رؤية حقيقية ، رأيتمو أسبابه و لذلك قال (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) له عياناً .
/ ثم قال عزَّوجل (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) هذه الآيات تُشير إلى ما وقع من المؤمنين بعد أن شاع بينهم أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قد قتل في معركة أحد ، فقعد بعضهم عن القتال ، باعتبار أنَّ النبي قد قتل فما عاد من حاجة للقتال ، فقال الله لهم (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) يعني قد انقضت (مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) وهل أحدٌ من الصحابة يَشُكّ أن أنبياء سابقين قد قضَوا وماتوا لا أحد يَشك بذلك، ولكن يأتي التَّذكير بهذا الأمر لأنهم فعلوا فِعل من يَشُك بهذا إذا كانوا الأنبياء قد ماتوا قبله فمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام مثلهم، يموت كما يموتون و يُقتل كما يُقتلون فلماذا تقعدون عن الجهاد في سبيل الله بسبب موت النَّبي أو قتله ؟ ! (أَفَإِن مَّاتَ) موتا ً طبيعيا ً (أو قُتِل) في الجهاد انقلبتم ! أصل الانقلاب : الرُّجوع ، (انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) والعَقب : هو مُؤخرة القَدم وهذا مبالغة في شِدّة الانصراف و الرُّجوع يعني انقلبتم راجعين على أعقابكم، (وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً) فمن يرجع ويَدع الجِهاد في سبيله وحمل رايته فإنه لا يضر الله شيء بل يضر نفسه ، أن خذل نفسه ولم يسلك بها سبيل الربَّانيين من أتباع الأنبياء و لذلك قال عزَّوجل ( وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) ./ ثم قال عزَّوجل بعد ذلك ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أخبر عزَّوجل في هذه الآيات أنَّ لكل نفسٍ أجلها المحدود المؤجل يعني المُؤقت التي لا تزيد عنه ولا تنقص عنه ، (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) يعني أجر الدنيا (نُؤْتِهِ مِنْهَا) نُعطه منها ، و لذلك قال (نُؤْتِهِ مِنْهَا) يعني من هَذه الدنيا ، (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) لِنعمه وفضله جزاء عظيما ً، ثم قال الله بعد ذلك (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) .(كأيِّن) تركيب هذه الكلمة فيه كلام طويل للمفسرين وأهل اللُّغة ، في أصل تركيبها هل هي كلمة مُركبَّة أم هي بسيطة؟ ثم إذا كانت مُركبة من أي شيء رُكِّبت ،ولكن كلامهم يدور بالنهاية كما يقول أبو السُّعود يدور حول أنها بمعنى (كم) دالة على معنى الاستفهام عن العدد (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ) يعني كم من نبي قُتل (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فتشير الاستفهام عن العدد قال عزّوجل (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ، (قَاتَلَ مَعَهُ) قد وَرَد في هذا المَوضع قراءتان سَبعيتان متواترتان و قع خلاف بين أهل العلم ، في معنى الآية عليها فقوله (قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ) هذه قرأ بها حمزة والكَسَائي وعاصم و بها نقرأ على البناء للفاعل (قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) فالذين قاتلوا هنا هم الأنبياء، والرِّبيُّون وفي قراءة أخرى سَبعية قرأ بها أبو عَمر وابن كثير ونافع ( قُتِلَ ) البِناء للمجهول ( قُتِل معه ) فإذا هذه الآية تُشير أن هذه القراءة قراءة المبني للمجهول إلى أنَّ النبي قُتِلَ هو ورِبيُّونَ كثير معه، ويُحتَمل أن يكون أنَّ هذا النَّبي قُتل معه دفاعاً عن الحق ربيون كثير، ولا يَلزم أن يكون هو الذي قُتِل وإنَّما هم قُتلوا معه نقول قتل مع الجيش الفلاني كذا و كذا، أو مع القائد الفلاني مائة وأنت لا تريد أن القائد هو الذي قُتِل ، فهذه القراءة تُثبت أنَّهم قُتِلُوا على إحدى احتمالين : إمَّا أن يكون النَّبي و معه ربيُّون كثر قتلوا، أو أنَّ هؤلاء الربيون قُتِلوا مع النَّبي، يعني في صُحبة النَّبي دون أن يكون النَّبي هو الذِّي قُتِل، أما قراءة ( قاتل ) فهي لا يَلزم منها حُصول القتل و إنّما المقاتلة ، المقاتلة قد يُقتل بعضهم ،قد يُصيبهم الجراح فكُلٌّ من القراءتان تؤدي المعنى أن كثيرا ً من الأنبياء و الربييِّن معهم قد قاتلوا في سبيل الله فمنهم مرة قد يُقتلون، ومرَّة قد يُصيبهم ما دون ذلك . قوله ( رِبيُّون كثير) اختلف فيها المفسرون :
· فمنهم من قال إنَّ الرِّبِيُون هُنا يعني رَبانيُّون من الرَّباني وهم أتباع الأنبياء و خاصتهم ، أتباع الأنبياء و خاصَّتهم ، ونعلم أن أتباع الأنبياء والخاصة هم الأصفياء من المؤمنين ، أصفياء المؤمنين يعني مثل الحواريين .
· والمعنى الآخر وهُو المَشهور في اللُّغة أنَّ الرِّبيُّون مُشتَقٌ مِنَ الكَثرة، يعني قُتل معه أناس كثير، الرِّبيُون يعني الكثيرون ، الجماعات الكثيرة ، الربيون يعني هي الجماعات الكثيرة ( فَمَا وَهنوا لِمَا أَصابهم ) من القَتل أو الجراح ما أصابهم الضَّعف والجبن ( وَمَا ضَعُفُواْ ) يعني ما قعدوا عن القتال ( وَمَا اسْتَكَانُواْ ) يعني ما خَضَعُوا وخَشَعوا لأعدائهم مع هذا العذاب العظيم الذِّي أصابهم لكنَّهم لم يُصبهم الجبن ولا الضَّعف ولا الاستكانة والمَذلة ، ولهذا قال ( والله يُحبُّ الصَّابرين) لم يَقُل والله يُحبُّهم لأنَّ هَذه الأخلاق التي هُم عليها أخلاق من الصَّابرين، والله يحبهم ووصَفهم الله بالصَّبر، وأيضا ذكر محبته لهم ، ثم قال ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147 ) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعني لم يكن منهم من قول، لم يكن منهم من شكاية ما شكوا، ما تأَففوا، ما جَزعوا أبدا ً ما كان منهم إلا قالوا (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) - سبحان الله - يعني يُصيبهم القتل، والجِراح والآلام الشديدة، ومع ذلك يَزدَرُون أنفسهم في جَنب الله مع أنَّهم خرجوا لقتال عدو الله في أعظم ميدان ميدان الجهاد، ومع ذلك يزدرون أنفسهم فيسألون الله أن يغفر ذنوبهم لأنَّهم علموا أنَّ هذا الذي أصابهم ما أصابهم إلا من عند أنفسهم فسألوا الله أن يغفر ذنوبهم، أولا ً بدؤوا بها، ما بدؤوا بالنَّصر على العدو (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) يعني مُجاوزتنا في أمرنا وشؤوننا،مجاوزتنا لما أمرتنا به، ولحدود ما أمرتنا به (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) بعد أن تغفر الذنوب و أن يتجاوز عنها يسألون الله تثبيت أقدامهم و النَّصر على الكافرين، وهذا السؤال الحقيقة مع أنه في غاية الأدب مع الله إلا أنَّه هذا هو المنطق الصحيح ، لأنه كما ذكرنا أن الهزيمة تكون في القلب أولاً، ولا سلامة منها إلا بالتَّجافي عن المعاصي التي هي السبب لضعف القلب و لذلك قال (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) فإذا غُفِرت الذُّنوب ثبُت القلب فإذا ثبت القلب ثبتت الأقدام في المعركة، وإذا ثبتت الأقدام في المعركة كان النصر على العدو ولذلك قال (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) فما كان جزاءهم بعد ذلك فآتاهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة ، ثواب الدنيا بالنَّصر على العَدُوّ والتَّمكين والغَنيمة ، وحُسن ثواب الآخرة بإنزالهم أعلى المنازل منازل الجنة نسأل الله عز و نسأل الله الكريم من فضله ، ثم قال بعد ذلك .
قبل أَن انتقل من هذه الآية أن أُشير إلى أنَّ الحادثة التي حصلت من قُعود بعض الصَّحابة عن القتال بعد سماعهم مقتل النبي صلى الله عليه و سلم ومُعاتبة الله لهم تشير إلى مبدأ عظيم يجب على الدُّعاة من الله عز و جل و على من يقوم و يحمل همَّ الدعوة إلى الله أن يتنبه إليه وهو: أن يكون قيامه و دعوته و جهاده من أجل الحق لذات الحق الذي يدعو إليه ، ليس لمن يحمل الحق و يقوم به كائنا ً ما كان ، حتى لو كان النَّبي، فإن النَّبي يموت ويُقتل، فهل يموت ويُقتَل بقتل النَّبي ؟ وهل يَقعد النَّاس بعد موته ؟ أبدا ً بل يجب عليهم أن يقوموا .
ولذلك جاء في بعض الروايات و الآثار أنَّ أحد الصَّحابة مَرَّ به رجل وهُوَ يَتشَحطُ فِي دَمه [3]- قد قارب الموت - يتشحط في دمه.
فقال له: أشعرت يا فلان أنَّ محمداً قد قُتل ؟ قال: فإن كان قد قُتِل فقد بَلَّغ ، فقوموا فقاتلوا على ما كان عليه يقاتل ، أو نحواً من هذه الكلمة . فيقول إن كان قد مات فقد بلغ ، فقوموا فقاتلوا على ما كان يُقاتل عليه. فالحقّ و الهُدَى لا يَرتبط بأشخاص مهما عَلَت أَماكنهم لأنّهم قد يَضِلُّون وقد ينحرفون، وقد يموتون، وقد يُقتلون فلا يرتبط الحق بهم ، بل الدعوة إلى الله و بذل المعروف و نصح الناس و السعي في الخير يقوم به لأنه هو الحق في ذلك و يهلك عليه الأول و يقوم به الآخر.
/ قوله عزَّو جل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) يقول الله عزَّوجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ) مهما كان أولئك الكفار من اليهود و النصارى والمشركين فيما يأمرونكم به يردوكم على أعقابكم (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) يرجعونكم بعد إيمانكم إلى الكفر (فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) قال انقلب الرَّجُل لأهله يعني رجع إلى أهله، فترجع بعد ذلك بالخُسران لا ترجعون إلا بخسران . (بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) يعني بل استعصموا، واستمسكوا بالله عزَّوجل الذِّي هو نَاصركم حقيقة ، فلا تسمعوا ولا تُطيعوا إلى هؤلاء الكفار ، فإنَّهم لا يُريدون بكم الخير،والنَّصر، ولا النُّصح ،بل الله عزَّوجل هو ناصركم يعني هو وليُّكم (بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ) يعني ناصركم وهو خير النَّاصرين سبحانه و بحمده .
/ ثم قال الله عزَّوجل (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)
يقول الله عزَّوجل (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) الرُّعب أشد الفزع يسمى ذلك رعباً، بحيث أن فرائِصَ الإنسان وأطرافه تَرتعد، و يُصيبها الاضطراب والارتعاد ، هذا يُسمى رعبا ً فهو فزع شديد ، وتأمَّلوا أن الله قال (سُنلقِي) أَصلُ ذاتِ الإلقاء فيه معنى القوة، فكيف إذا كانَ هذا المُلقى الرُّعب ذَاته كأنَّ الرُّعب شيءٌ مُجَسَّم يُؤخذ فيُلقى في قلوبهم دفعة واحدة، وانظروا إلى أين كان مَقرَّ هذا الإلقاء في القلوب لأنَّها هي التِّي تَنتصر وهي التي تُهزَم (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) يعني بِسبب شِركهم بالله شِركاً، لم يُنزَّل به سلطانا بمعنى أنه شِركا ً موصوفا ً وحاله أنَّه لا سلطان له، فإنَّ كُلَّ شِرك بالله ليس له سلطان يعني ليس له حُجَّة، وليس له برهان (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) يعني ما لم ينزل به حجة و برهانا ً ( وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ) المأوى : المكان الذِّي يرجع إليه الإنسان ويستقر فيه فيأوي إليه، ويحتمي به فهؤلاء يأوون، و يحتمون ويرجعون في اليوم الآخر إلى النَّار و بئس القرار ( وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) و بئس ذلك المستقر و المرجع و المأوى ، مأوى للظالمين ووصفهم بالظَّالمين وصف فيه معنى التعليل يعني كان ذلك مستقرهم، ومأواهم لأنَّهم ظالمون.
/ قال عزَّوجل (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)يقول عزَّوجل - والكلام لازال عن معركة أحد - يقول عزَّوجل ولقد أنجزكم الله وعده - وأُحِبّ أن أشير يعني إلى هذه الآيات كلها تأتي مليئة بالدروس العظيمة و طويلة الحقيقة الآيات لو استعرضناها بالآيات التي نزلت في غزوة بدر، لوجدنا أن غزوة أحد كانت الآيات متعلقة بها أكثر مع أن تلك كان فيها نصر، وهذه فيها هزيمة لأنَّ أخذ الدروس من أسباب الهزيمة هو الذِّي يُحقق النَّصر وهو يجعل الإنسان مستمراً على النّصر، وإلا إذا لم يعلم الإنسان لماذا ينتصر ولماذا يُهزم فإنه قد يهزم مرة من المرات و قد تكون تلك الهزيمة التي يُهزم فيها هزيمة ً تأتي عليه ولا تُبقي منه. ولذلك نحن نستفيد من هذا حتى في حياتنا ، إذ ليس عيبا ً أن يَفشل المرء، وأن يخسر وأن يُهزم مرة في حياته ليس عيبا ً لأن الفشل طريق النَّجاح، و الهزيمة هي طريق النَّصر، ولا يعرف طعم النَّصر وطعم النَّجاح إلا من ذاق طعم الهزيمة والفشل .
ولهذا تأتي الآيات تتكلم عن هذه المعركة على هذا النَّحو وهذا التفصيل وتأخذ هذه الدروس العظيمة منها ويقول عزَّوجل (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ) لأن الله وعد المؤمنين بنصرهم إذا هم اتَّقُوه، وعملوا بما أمروا به و كيف صَدقنا وعده ؟ قال ( إِذْ تَحُسُّونَهُم ) يعني صَدَقكم، وحَصَل ذلك في وقت هُو الوقت الذي كنتم تحسُّونهم فيه، وأصل الحَسّ : القتل الذَّريع ، بعض المُفسِّرين قال الحَسّ القَتل، و لكنَّه يَخُص نَوع من القتل وهُوالقتل الذَّريع يعني القتل الفاحش الكبير (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ) وكان هذا الوعد قد تحقق حيث بدأتم بقتل المشركين قتلا ًذريعا ً، وهذا هو الذي حصل في أول معركة أحد وقبل مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه و سلم - واستمر الأمر إلى غاية إذا فشلتم الفشل المراد به هنا الضعف حتى إذا فشلتم يعني ضعفتم عن الثبات على المواقع التي أمركم بها النَّبي - صلى الله عليه و سلم - حتى إذا فشلتم وتَنازعتم في الأمر، وأصابكم الضَّعف ،لماذا قال عزَّوجل فشلتم هنا بمعنى ضَعُفتم؟ لأنَّ الصَّحابة رؤَوا المَغانم الذِّين كانوا على الجبل رأوا الصحابة يجمعون المغانم فضعفت نفسهم أرادوا أن يبادروا إلى جَمع المَغانم فحصل منهم الضَّعف . وهذا هو الضَّعف الذي كان سببه القَلب نفسه هو سبب ضَعفه، وسمَّى ذلك (فشلاً) في عدم القدرة على الانتصار على رغبة النفس في هذا المطمع الدُنيَويّ سمَّاه الله عزَّوجل (فشلاً). (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) أصابهم الفَشل هُم لم يَخرجُوا، لم يُبارحوا مكانهم ما زالوا بَاقين لكن حصل أي شيء؟ الفشل في القلب . فماذا أورَث بعد ذلك ؟ (تَنَازَعْتُمْ) بعد الفشل في القلب حَصَل التَّنازع ، هل نَبقى أو نذهب ؟ فطائفة تقول لا بل نبقى، وطائفة تقول لا بل نثبت فإنَّ النَّبي نَهانا، حَصل التنازع و إذا حصل التنازع كانت الهزيمة .
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ) بين أن تَبقوا و بين أن تذهبوا (وَعَصَيْتُم) بالذَّهاب، وترك المكان (مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ) الذي يحبونه كان قتل العدو و الانتصار عليه ورؤية المغانم (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا) سبحان الله، من الصَّحابة من كان يريد الدُّنيا يعني المَغنم (وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) وهو امتثال أمر النَّبي ، وهذا يُعطيك أنَّ الصَّحابة بَشر وليسُوا ملائكة فيهم هذه الرَّغبات الفِطرية في النَّفس فيتعلق أحدهم في الدنيا ولذلك لا حرج في ذلك ، أن يتعلَّق الإنسان بشيء من الدنيا و أن تَرغب نفسه فيها (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) حتى الصَّحابة يقع منهم ذلك ، لكِن إرادة الدُّنيا لا تكون على حساب الدِّين، هذا هو المَنهي وهو المَذموم (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) وإذا حصل هذا كله قال عزَّوجل (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) عن النَّصر عليهم، والانتصار عن قتالهم لماذا صَرَفكم ؟( لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليبتليكم بهذا الانصراف فإذا صرفكم عنهم تسلَّطوا عليكم، و إذا تسلطوا عليكم حصل الابتلاء لكم .
(لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) و مع ذلك الله رحيم بعباده ، حتى مع هذه المخالفة منهم للنَّبي - صلى الله عليه و سلم - إلا أنّه قد عفا عنهم ، ليبتليهم ليعلم الصَّابر مِن الجَازع، و ليعلم المؤمن من المنافق (وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنه عفا عنهم، وإلا لكان قادر عزّ َوجل أن يكون الذي أصاب المشركين أعظم من هذا ، فإن الذِّي أصابهم من المشركين بعض القتل ولم يستأصلهم المشركون و لذلك سيأتي الكلام على أن المشركين أرادوا الرجوع مرة أخرى لاستئصال النّبي والصحابة فكفَّ الله أذى المشركين عن الصَّحابة فإذا الله عفا عن المؤمنين، ولطف بهم فلم يُؤاخذهم و أيضا حماهم وقاهم من أذى من المشركين أكبر من مما أصابهم (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) (وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) تفضل عليهم :أولا: بالعفو، ويتفضل عليهم ثانياً: بمضاعفة حسناتهم وثوابهم.
نتوقف عند هذا ونكمل إن شاء الله بعد صلاة المغرب . سبحانك اللهم و بحمدك و نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك و نتوب إليك.
-----------------------------------------------
[2]النساء104
[3] في سنن النسائي باب ذِكْرِ اخْتِلاَفِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ سَهْلٍ فِيهِ।عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمَا أَتَيَا خَيْبَرَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفَرَّقَا لِحَوَائِجِهِمَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِى دَمِهِ قَتِيلاً فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -- فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ - وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنًّا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَبِّرِ الْكُبْرَ ». فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « أَتَحْلِفُونَ بِخَمْسِينَ يَمِينًا مِنْكُمْ فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ قَالَ « تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَعَقَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -- مِنْ عِنْدِهِ.
--------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق