ننتقل للآيات التي بعدها: في آية ( 104) لما قال الله عز وجل في وصفهم (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) هذه تعطينا تجنب الألفاظ التي فيها احتمالين، احتمال أنها تكون مدح، واحتمال أنها تكون فيها سب فالأصل فيها أنك تجتنبها تماما وتستعيض بدلا منها بكلمة لا تحتمل إلا الخير. فإنهم كانوا يقولون راعنا، و(راعنا) لها معنيان:
● إما أن تكون را عنا من الإنظار أي أنظرنا وأمهلنا
● أو تكون من الرعونة وهوالحمق والاتهام بقلة العقل
فهم كانوا يقصدون المعنى الشر فلذلك نُهينا عن استعمال هذه الكلمة واستبدالها بكلمة (انظرنا) لأنها لا تحتمل إلا المعنى الجميل. فيُقاس عليها بشكل عام في أبواب اللغة. يحصل أحيانا أن الإنسان يوري بكلمة وهو يريد أن يلمز فالناس يفهمون، ليس فقط أنك ترمي الكلمة وتظن أن بالناس لا يفهمون. فهذه تعطيك قواعد في الأخلاق وقواعد في اختيار الألفاظ حتى في طريقة مخاطبة الناس.
● آية ( 105) فيها إثبات عداوة غير المسلمين للمسلمين (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) إذا جمع كل الطوائف (أن يُنزل عليكم من خير من ربكم) فأثبتت عداوتهم وكراهيتهم أن يكون مع الناس خير، بل وحسدهم. وسيأتي مزيد حديث عن الحسد في آيات لاحقة.
● لما قال الله عز وجل (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) أفادت أن الله عز وجل إذا كتب لك رحمة فهو فضل من الله عز وجل ولن يستطيع أحد أن ينزعه منك ولا يمنعه عنك إذا كتبه لك فاسأل الله عز وجل أن يختصك بالرحمة وأن ينزل عليك رحماته فإنه إذا نزلت الرحمات تلاشت الشرور، وكفيت العداوات ولن يستطيع أحد أن يمسك بشر.
بعدها استرسلت الآيات في الحديث عن حسد بني إسرائيل (ودّ الذين كفروا من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم) هذه بيّنت حسد اليهود للمسلمين. وحسدهم سيأتي له تفصيل أكثر لعلنا نلمح له لاحقا.
أفادت الآيات بعد ذلك قصة إبراهيم وما يتعلق ببناء البيت الحرام. سيأتي أصلا في بداية الجزء الثاني الحديث عن تحويل القبلة، ونظرا لعِظم هذه الحادثة فإنه تقدم لها من الآيات ما تُمهد لها. طبعا من عظم الحادثة لما أمر الله عز وجل بتحويل القبلة كما أفادت الآيات (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) كان فيه جدل وفيه لغط ليش تحولت القبلة.
فمن الآيات التي مهّدت لهذا الأمر قضيتين: قضية النسخ، والموطن الثاني الحديث عن بناء البيت الحرام، فكلا الموضوعين كل واحد منهما أخذ ربع حزب كله كان لتصحيح بعض الأفكار بحيث أنه إذا أمر الله، أو إذا نزل الحكم بنسخ اتجاه القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام فإن ما قيل في هذه الآيات مهيئة لهذا الموضوع. فسنرى كل موضوع وما فيه من فوائد ثم نربطه بقضية تحويل القبلة.
لما قال الله عز وجل (ما ننسخ من آية) أفادت ثبوت النسخ أصلا في الشريعة الإسلامية خلافا لليهود، اليهود لا يرون النسخ ويعتبرونه من البداء، فهم ينكرونه فبيّن الله سبحانه وتعالى أن النسخ يمكن أن يقع، والنسخ يقع في الأحكام فقط، لا يقع في الأخبار طبعا، ولا يقع في الجزاء. ذِكر النسخ في سورة البقرة بهذه الطريقة عرض مقاصدي، يبين ما مقصد الله عز وجل، ما الحكمة من وجود النسخ في الشريعة فقال (نأتِ بخير منها أو مثلها) إذن بيّن أن الله عز وجل ما ينسخ إلا لوجود خير ولوجود حكمة.
وقسم العلماء أحوال النسخ إلى ثلاثة أحوال:
إما أن ينسخ إلى حكم أشق -أكثر صعوبة-
أو إلى حكم أسهل
أو إلى حكم مساوي.
ما الحكمة مع كل نوع من أنواع النسخ؟
قال العلماء: أن النسخ إذا كان إلى حكم أشد فالخيرية بكثرة الثواب، لأنك تنتقل لعمل أكثر مشقة إذن أكثر ثواب، فتكون الخيرية في ذلك. أما إذا كان النسخ إلى أخف فالخيرية في التسهيل لأنها أصبحت فيها رخصة وأصبح فيها تسهيل مع ثبوت تمام الأجر، لأنك أنت هنا في الأشق متبع، وفي الأسهل متبع، فالأجر ثابت مع كونها رخصة فيها تسهيل. إن كان النسخ إلى مماثل لا إلى أشق ولا إلى أسهل فهنا يبتدئ قضية الابتلاء للقلب.
وهذا ما أخفق فيه السفهاء بحيث تساءلوا لماذا حولت القبلة؟ فكان ذلك اختبارا لاستسلام العبد لأحكام الله عز وجل وحصول الانقياد له، وشاهده لأن القبلة لما حولت من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام كعمل ليس فيه مشقة، مساوي، مجرد إنك يا تلتفت من هنا، يا تلتفت من هنا في الصلاة، هل هو أشق، هل هو أسهل؟ لا، العملية واحدة، لكن لما كان العملية واحدة فهذا أصبح في ابتلاء للمؤمنين هل يستسلمون للحكم أو ما يستسلمون، فهنا المنافقين ما استسلموا، واليهود ما استسلموا، فقط المؤمنين الذين ذُكر من فضائلهم أنهم في مسجد اسمه مسجد القبلتين أتاهم الخبر بتحويل القبلة في نفس الصلاة الواحدة انحرفوا إلى الجهة التي إليها القبلة فكان قمة الاستسلام لله سبحانه وتعالى. إذا هذا المقطع الذي يتحدث عن النسخ قلنا هو يبين أحكام النسخ وحِكم النسخ وماذا أراد الله عز وجل من النسخ، ولكنه كله يعتبر تمهيد لموضوع تحويل القبلة.
أفادت الآيات في قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) الإنكار على من يُكثر الأسئلة على رسول الله ﷺ، ومن أمثلة كثرة الأسئلة من الأتباع إلى الأنبياء ما حصل في قصة البقرة قبل قليل لما بدأوا يسألون ما لونها؟ ما هي؟ تشابه علينا، فهذه كثرة أسئلة كانوا لو نفذوا من أول أمر لاستمر الأمر بدون أن يكون هناك مشقة عليهم.
من أسئلة اليهود: لما قالوا: (أرنا الله جهرة) ، لما قالوا (اجعل لنا إلها) فعندهم أسئلة كثيرة، فحذر أمة محمد ﷺ أن يسألوا أسئلة ليس فيها مصلحة كما حصل مع اليهود الذين عُدت لنا عدد من القصص التي حصل فيها السؤال. فهذا إذا تصريح بالتحذير للمسلمين أن يقولوا مثل بني إسرائيل فيما ذمهم الله عز وجل من كثرة السؤال.
ثمرة النهي عن كثرة السؤال هو عدم التشديد على النفس عند وضوح الحكم، وقد كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله ﷺ يقول (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) وقال النبي ﷺ (إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يُحرم فحُرم من أجل مسألته) فهذا كان حديث عن كثرة المسألة في زمن تنزل الوحي، ما زال الوحي ينزل.هل لما استكمل الوحي ما فيه فوائد من هذه الآيات؟
نقول أيضا يمكن أن يستفاد من هذه الآيات حتى بعد استكمال الوحي ألا وهو أدب السؤال، وأنه ينبغي أن يكون السؤال له آداب بحيث لا يلقى إلا لمصلحة، إما رجل يكون وقعت له المسألة فيسأل عن حكمها، أو طالب علم يتعلم ليستنتج المسائل من أصولها، أما غير ذلك فلا يحسن السؤال.
من مواطن قبح الأسئلة - وهذا يحصل أحيانا في مجالس العلم - أن يكون عند الطالب مثلا غرور فيريد أن يظهر ما عنده من العلم عن طريق السؤال، فهذه من مواطن الذم. أو يطرح السؤال لأجل أن يضرب الآراء بعضها ببعض، فلا يكون قصده مسترشدا وإنما يريد أن يضرب الآراء بعضها ببعض فهذه من مواطن الأسئلة المذمومة. أو أحيانا يكون يريد أن يحرج المسؤول، يعني يريد أن يبين أنه أعلم من المسؤول ولا يكون قصده الاسترشاد، فهذه أيضا من مواطن الذم. فإذا مجال السؤال في طلب العلم آماده طويلة يُخص به في هذا السياق كدلالة السياق ما كان وقت تنزل الوحي، لكن الآية أيضا يستفاد منها في الصف الثاني من الفوائد والاستنباط في آداب إلقاء السؤال.
فوائد الآيات ص (١٧)
/ في قوله تعالى (حسدا من عند أنفسهم) بينت شدة عداوة اليهود والنصارى وحسدهم للمسلمين، وبينت أن السبب في تحريم الحسد فيه مشابهة للكفار في أخلاقهم. والحاسد يزداد حسرة كلما ازدادت نعمة على الآخرين، فأنت إذا تأملت الحسود دائم الحسرة، لا يرى فضل الله عز وجل عليه دائما، بل هو دائم النظر لما عند الآخرين، فهنا يعني نهى الشارع عنه وبين أنه من أخلاق من غضب عليهم وهم اليهود.
/ في قوله تعالى (من بعد ما تبين لهم) أفادت أن الجاهل معذور، والذم يكون على الذي يخالف بعد العلم، فأن يصلك العلم ويحصل عندك البيان ثم تخالف، ثم تعصي هذه هي موطن الذم.
/ في قوله تعالى (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) فيها الترغيب في فعل الخير وثبوت ثوابه مهما كان صغيرا لأن (خير) نكرة في سياق الشرط فأفادت العموم. فإذا أنت أيها الإنسان مستودع فيها، الحياة الدنيا والأوقات كالبنوك ماذا تودع فيها من العمل فلا تحقرن من المعروف شيئا، مهما كان المعروف صغيرا ما دام تيسرت لك أسبابه لا تتركه، افعل وامضِ.. افعل وامضِ، لأن الوقت سيمشي، الوقت وما الذي أودعت فيه، الخاسر من جعله فارغا، بل وأخسر منه من كان يودع فيه أفعال فيها معصية.
/ من اغتر بالأماني بدون عمل فهو شبيه باليهود (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) ما أكثر ما نتمنى أن ندخل الجنة لكن من يقف على هذه الأمنية هل سينتفع؟ الصحيح أنك تتمنى الجنة وتفعل، أما أن تقف عند عتبة الأمنية فهذا فيه شبه باليهود.
/ قبول العمل منوط بشرطين: الإخلاص والمتابعة، ما دليلها في السياق؟
(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) (أسلم وجهه) أفادت الإخلاص، (وهو محسن) أفادت المتابعة.
فوائد الآيات ص (١٨)
/ المعاصي تتفاضل قبحا كما الطاعات تتفاضل حسنا نأخذها من قوله تعالى ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) أظلم صيغة أفعل التفضيل، إذا هناك ظالم وهناك أظلم ، فهذه ينظر فيها أنه ليست كل السيئات على مستوى واحد، فيه صغائر وفيه كبائر. كما أن الحسنات تتفاوت في فضلها وقوتها وبالتالي هذه تعطيك آماد في منهج محاسبة النفس، محاسبة النفس في حثها على الطاعات بحيث ترتقي وترتب أولوياتك في أفعال وزنها ثقيل، وأفعال وزنها أخف، إذا تيسر لك الثقيل فلا شك أنك تقدمه على ما هو دون منه، ونفس الشيء في مسألة الانتهاء وكف النفس عن فعل السيئات، فهناك القبيح وهناك الأقبح، وهناك الظلم وهناك الأظلم، فهذه موطن تفكّر فيما يعرض للإنسان من مواقف قد يفعل فيها الحسن والأحسن ، أو يرتكب فيها القبيح والأقبح، كيف يبني نفسه، وكيف تكون علاقته بالله سبحانه وتعالى.
/ بينت الآيات أحكام المساجد من حيث مقاصد إقامتها لأنه قال (ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) إذا بينت مقاصد إقامة المسجد التي هي:
أن يُذكر فيها اسمه، فإذن الصلاة، الذكر، التعليم ، كلها مقاصد إقامة المساجد.
● وهناك أحكام تتعلق بإغلاق المساجد من حيث التحريم (وسعى في خرابها) إذا سعى في خرابها معناه تعطلت فيها هذه العبادات، لكن قرر الأئمة
- سبحان الله أنا كتبت هذه قبل الأزمة- والآن سبحان الله صارت لها مثال لأنه قرر العلماء إنه إذا كان إغلاق المساجد لمصلحة فلا يدخل في قوله (وسعى في خرابها) قالوا: مثلوا لها بالنظافة والترميم و بعض الأمور التي تكون فيها المصلحة وشاهدها الأوقات الراهنة هي مسألة منع انتقال الأوبئة و الأمراض.
/ مما ورد تمهيدا لتحويل القبلة في قوله تعالى في آية مائة وخمسة عشر (ولله المشرق والمغرب) فإذا إذا كان المشرق والمغرب وكل الاتجاهات لله سبحانه وتعالى فله أن ينسخ وله ملك هذه الاتجاهات، وإذا أرادك أن تعود من هذا الاتجاه، أو أرادك أن تعود من هذا الاتجاه، فأنت تتجه لله سبحانه وتعالى، فهذه تمهيد لنزول مسألة تحويل القبلة.
/ عظم خلق السماوات والأرض وضرورة التفكّر فيها، وهذا سبب للإيمان والتوحيد والتعظيم لأن الله عز وجل قال (بديع السماوات والأرض) بعد أن قال (ولله المشرق والمغرب) وبعد أن تحدث عن الذين أشركوا بالله واتخذوا من دون الله معبودات، أو قالوا اتخذ الله ولدا، قال (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) وما أعظم خلق السماوات والأرض والمتأمل فيها في مواطن متعددة في القرآن يخرج بأمور عظيمة ومن أهم ثمرات تفكرنا في السماوات والأرض هو حصول اليقين ولذلك قال بعدها (قد بينا لآيات لقوم يوقنون). وإذا ربطناها بقصة إبراهيم في سورة الأنعام (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) ، وتأملها أيضا في خاتمة سورة آل عمران (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) (يتفكرون في خلق السماوات والأرض). فإذا التفكّر في خلق السماوات والأرض أمر عظيم.
فوائد الآيات ص (١٩)
/ في قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم) أفادت أن من اتبع هواه بعد العلم فهو أشد ضلالة، وما أكثر من يكون عنده علم ويكون سببا لتسويق الشبهات وإضلال الناس، فهذا أشد جرما من الذي تحدث عن الشهوات أو الشبهات وهو يجهل هذه الأمور.
/ في قوله تعالى: (يتلونه حق تلاوته) قسم العلماء التلاوة حتى تصل إلى حق التلاوة إلى ثلاثة مسارات:
● المسار الأول: تلاوة اللفظ وهي القراءة
● المسار الثاني: تلاوة المعنى وهي التفسير.
● الثالث: تلاوة الحكم وهي الاتباع
أن تقرأ ثم تفهم ثم تعمل بما قرأت، من حقق هذه المراتب الثلاث فهو بالفعل يصدُق عليه أنه تلاه حق التلاوة. وإذا أخذنا التلاوة بمعناها اللغوي وبمعناها الاصطلاحي، معناها اللغوي: بمعنى الاتباع وهنا بمعنى القراءة، فإذا جمعت بين القراءة وبين الاتباع أصبح صاحبها قد تلا حق التلاوة.
بعدها يأتينا الربع الأخير من هذا الجزء وهو الحديث عن قصة إبراهيم وتحديدا قصة بنائه للبيت الحرام، وهذا كما ذكرنا أحد الأمور التي كان فيها تمهيد لتحويل القبلة.
أفادت الآيات:
أولا: فضيلة إبراهيم عليه السلام بعبودية الإتمام. لما قال الله عز وجل (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) إذا ما أن يُؤمر بأمر ليس فقط يفعله، ليس فقط يطيع فيه، بل يقيمه على التمام وعلى الكمال. فهذا أمر مناطُ تأملٍ كبير. ولذلك العبودية التي ارتبطت بالبيت الحرام والتي هي أصلا مرتبطة بإبراهيم عليه السلام لم تأتِ كلمة التمام إلا مع الحجّ والعمرة (وأتموا الحج والعمرة لله) فإذا كأنها أصبحت خصيصة لإبراهيم وموطن مدح عظيم. ونظيرها في وصف إبراهيم ما ورد في سورة النجم (وابراهيم الذي وفى) وفى بكل شيء عليه. والاستيفاء الإتيان بالشيء على تمامه. ما أحرانا أن نجعل شعارنا في الحياة عبودية الإتمام. كلما أقدمت على عبادة لا ترضَ بالأقل، ولا تؤدها بالأقل وإنما أدِها على سبيل الإتمام فإن هذا هو الأحرى للقبول وهو في نظر من الله عز وجل.
/ أفادت الآيات أن عبودية الإتمام تُنال بها الإمامة في الدين لأنه لما قال (فأتمهن) قال (إني جاعلك للناس إماما) إذا إمامة الدين تُنال لمن يكون شعاره في عبوديته لله عزوجل هو ليس فقط أن تعبد بل تعبد على سبيل الإتمام.
/ أفادت الآيات أن من فضائل المسجد الحرام أنه مثابة للناس وأمنا. فإذا هو بالفعل مثابة للناس تهوي إليه القلوب، وانظر إلى القلوب الآن تتقطع على المسجد الحرام، وعلى عمرة رمضان، فهذه خاصية وضعها الله عز وجل في هذا المكان الطاهر بأنه مثابة للناس بالإضافة الى أنه أمن يأمن الناس فيه. وكذلك المساجد ينبغي أن تكون أيضا أمن ومثابة يتردد عليها الناس، المثابة فيها التردد بمحبة والقلوب تكون مشتاقة لها.
/ في قوله تعالى (أن طهّرا) فيها وجوب تطهير المساجد من الأرجاس الحسية والمعنوية. وكذلك الأمر بالنسبة لمرتادي المساجد الذين يثوبون إلى المساجد ينبغي أن يتطهروا في أنفسهم وفي لباسهم أيضا.
/ أفادت الآيات في حادثة البناء وفي قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) أنه مهما علا فضل الإنسان فإنه بحاجة للدعاء، فهذا إبراهيم عليه السلام نبيين وهما على أعلى درجة (واتخذ الله إبراهيم خليلا) وما كان من فضلهم. ولاحظ أن بناء البيت الحرام كان في مراحل متأخرة إلى حد ما في حياة إبراهيم عليه السلام، بمعنى أنه نال كثيرا من الفضائل لحظة البناء ومع ذلك انظر كيف أنه مفتقر وهو الآن ينفذ أمر الله عز وجل وفي أطهر بقعة ويقيم بيت الله عز وجل ومع ذلك يخشى على نفسه ألا يُقبل منه هذا العمل فهو مفتقر إلى الله.
فما أحرانا أن ننتبه للقلوب لأن من مداخل الشيطان على النفوس الإعجاب بالعمل بحيث أنك كأنك آمن أنك طالما أنك تعبد إذا أنت ستُقبَل، لا، ليس الأمر كما تظن، كلما كنت أشد افتقارا إلى الله سبحانه وتعالى كلما كنت أحرى للقبول.
ومن الافتقار أنك تسأل الله عز وجل أن يتقبل هذا العمل فلا تغتر به ولا تُعجب به، بل تُسدد على طول مباشرة ما أن تعمل العمل إلا وأنت تسأل الله عز وجل القبول فللدعاء أثر في حصول ذلك المقصود ولا يعارض هذا أن المقادير كتبت فإن الدعاء يعني من الأمور التي يحصل بهذا تغيير القدر.
/ من صفات إبراهيم عليه السلام الرحمة، الرأفة، العبودية، الإمامة، الحنيفية، هذه كانت مبثوثة في الآيات في المقطع الذي بين أيدينا.
/ في قوله تعالى (فأمتعه قليلا) نستفيد منها: أن دار العمل قصيرة فينبغي عمرانها بالصالحات. سماها قليلا، يعني مهما امتد عمرك أيها الإنسان ووصلت الستين أو السبعين أو التسعين ترى كلها قليل، فلو كنت ستأخذ حظك فقط في هذه الدنيا فإذا قارنت متعتك في الدنيا بالنسبة للحياة الأبدية في اليوم الآخر فإنها لا شيء، فاعمر وقتك بالصالحات حتى تنال الآخرة التي فيها المتاع الحقيقي (والآخرة خير وأبقى).
-----------------------------------
https://t.me/fwaidalayat
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق