الأحد، 2 يوليو 2023

تفسير سورة الكهف / موسى والخضر (3) / د. عويض العطوي (تفريغ نصي)


 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وبعد :
 أيها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، مازال الحديث مستمراً عن القصة الثالثة في سورة الكهف وهي قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع العبد الصالح ، وكنا تحدثنا في الجلسة الماضية عن القسم الأوسط تقريبًا من القصة وهو المتعلق بالأحداث الثلاثة التي حصلت مع موسى عليه السلام ومع العبد الصالح
وتوقفنا عند قوله تعالى : ( هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا) قلنا في هذا الموقف : أن هذا المقطع الذي أُنهيَت به الصحبة على الأقل في الجانب المتعلق بالشروط التي حصلت بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين العبد الصالح انتهى الشرط الذي بينه وبينه خصوصاً باعتذاره أول مرة بالنسيان وباعتذاره المرة الثانية أن لا يسأله عن شيء بعدها وحصل ما حصل فسأله في صورة عَرضٍ يسير على بنائه الجدار قال بعد ذلك : (هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَ) إذاً انتهت الصحبة في هذا الحد لكن بقي المعلومات والمشكلة والإشكالات التي تطرأ على الذهن وقد تطرأ على ذهن موسى عليه الصلاة والسلام عن هذه الأحداث الثلاثة كيف حصلت؟ ولماذا حصلت؟ وماسبب فِعل الخضر لها؟ بقي هذا الأمر ولذلك قال الخضر : ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا).
/ في قوله تعالى : (هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَ) فيها أيها الإخوة الكرام التزامٌ بالشروط ولو كانت النتيجة فيها قسوة ، ولاشك أن استمرار موسى عليه السلام مع العبد الصالح في أحداثٍ أخرى سيزيده معرفة وعلماً ولكن كانت هناك صرامة شديدة في الالتزام بالشروط التي وُضعت بينهما في أول لقاء ، وقد قلنا أننا سمّينا مثل هذا النوع من الشروط يسمونه الاشتراطات في التعليم ويمكن لأي إنسان يتعلم من أي إنسان أو من أي مؤسسة أن تشترط عليه هذه المؤسسة أو هذا الشخص إشتراطات معينة ويتفقون عليها إذا أخلّ أحدهم بمثل هذه الإشتراطات فيحق للآخر أن يتوقف حتى لو كانت عن جانب تعليمي وتعلَم ، وفعلاً هذا الذي حصل قال : (هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَ ) وهذا يا إخواني الكرام النوع من التعليم تعليمٌ جاد يلتزم فيه المتعلم بالشروط وبالقوانين وبالضوابط وبالتالي يكون قوياً في تعلمه حازماً، ويكون المعلم أيضاً حازماً مع الرحمة التي وصفه الله عز وجل بها في أول اللقاء.
قال : (هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَ) كان يمكن للعبد الصالح الخضر أن يتوقف عند هذا الحد ويفترق عن موسى عليه والسلام وليس مجبراً أن يخبره بتفسير هذه الأحداث.. لماذا ؟ لأن الشرط الذي بينهما هو في قوله تعالى : (فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِی فَلَا تَسۡـَٔلۡنِی عَن شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرࣰا) فدل ذلك على أنه إذا سأله قبل أن يُحدث له منه ذِكراً أنه ليس مُطالَباً بإحداث ذلك الذِّكر أو ذلك التفسير وقد حصل هذا من موسى عليه السلام في المواقف الثلاثة ، إذاً ليس الخضر مُطالَباً بأن يُفسر لموسى عليه الصلاة والسلام هذه الأحداث الثلاثة فلو أنه فارقه ولم يُفسر له ذلك ما عليه لوم، ولذلك نحن لا نجد أن موسى عليه السلام طالبه بذلك ، يعني ما قال له : تفارقني أو أفارقك أو لا تصاحبني بشرط أن تفسر لي، لم يطالبه بشيء من ذلك مع ما عُرِف من قوة موسى عليه السلام وجراءته في الحق لكن عَلم أن ذلك ليس له فلم يطلبه ، فإن تفضّل هذا المعلم وعلّمه إياه كان ذلك من حُسن أخلاقه ولذلك هو قال : (سَأُنَبِّئُكَ).
( سَأُنَبِّئُكَ) ولم يقل سأُخبرك ذلك أن الإنباء غير الإخبار لأن الإنباء يكون عن الأحداث الهامة والخطيرة ، والإخبار يكون عن الأخبار العادية اليسيرة ، فالنبأ (عَمَّ یَتَسَاۤءَلُونَ ۝  عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِیمِ) النبأ هو الخبر العظيم.. المهم.. المؤثر. فتحديثه له وإخباره له ليس أمراً عادياً ، هو سيُنبئه عن أحداث مهمة وخطيرة ولا يعرف لها تفسيراً عليه الصلاة والسلام ولذلك قال: (سَأُنَبِّئُكَ) ولم يقل سأخبرك .
/ (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ) التأويل غير التفسير ، التفسير هو : إيضاح الشيء والتأويل هو:  الوصول إلى ما يؤول إليه ، وهو أعمق وغالباً ما يكون في الأشياء المشْكلَة الغامضة يُسمّى تأويلاً، ولذلك هو بيّن له أبعاد هذه الأمور، أما ظواهرها فبيّنة ، سفينة تُخرَق، التحليل العقلي يقول أن هذا خطأ لأن ذلك سيتسبب بغرق الناس ثم موتهم لكن ما يؤول إليه الأمر.. مقصد الأمر.. نهايات الأمور هو لا يعرفها ، ولذلك قد تجد إنساناً من خبرته أو من مكانته قد يكون عنده من المعلومات غير ما عندك فتجده يقرر قراراً أنت تراه خطأً لكن هو يراه بشكل صحيح ، كما حصل في صلح الحديبية الذي حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم ،الذي يقرأ البنود يرى أن كل المصلحة كانت للكفار بينما ليس للمسلمين شيء لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى ما هو أبعد من ذلك وأعمق من ذلك ، لذلك ليس بالضرورة دائماً أن نعترض على كل شيء إذا لم يكن عندنا دراية بمآلات الأمور .
 إذاً هو أوّل له هذه الأحداث الثلاثة ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ ) لاحظوا معي الشيء الذي ذكّره به قال : (بِتَأۡوِیلِ) ما قال الأحداث أو القصص أو الوقائع ٱنما أخرجها بالإسم الموصول الذي فيه تعليل وتذكير بسبب عدم حصوله على معرفتها وهو عدم الصبر  ولذلك قال له : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا) هذه الأشياء الثلاثة أنا أْذكِّرك أن سبب عدم حصولك للعلم بها هو عدم الصبر (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا) مفهوم الكلام أنك لو استطعت أن تصبر عليها لما احتجتُ أنا أن أفسرها لأن هذا بيني وبينك شرط، لو صبرت أنا سأقول لك لماذا فعلت كذا وكذا لكنك ماصبرت ، بالتالي أنا الآن سأفسرها لك مجموعة كاملة (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا) .
 
/ في قوله :( لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا) تأكيد على أن موسى عليه السلام لم يصبر في المواقف الثلاثة وقوله (لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا) أن ذلك فوق طاقته بالصبر وهو لم يستطيع وليس باستطاعته أن يصبر لأنه رأى منكرات كبرى رأى أنه من الواجب أن ينكرها ولذلك لم يستطع أن يصبر ، ثم بعد ذلك فسرها. 
هذه مقدمة الآن للتفسير ثم أخذها واحدة واحدة وهذا من حُسن العرض ، عندما تكون عندك نقاط ثلاثة أو نقاط اربعة وتكون الأحداث متسلسلة فالأولَى تأتي بالأولى وتفسرها ثم تأتي بالثانية تكون ثانية والثالثة تكون ثالثة وهكذا، هذا التنظيم في الكلام يجعل المتلقي والمتعلم أكثر إدراك ، ولذلك من المشكلات التي يواجهها المتعلمون من المعلمين: عدم الترتيب في الأفكار  في تفسير الأشياء، إنما يخلط هذا ثم يعود للمقدمة ثم يعود لوسط الكلام ثم يأتي إلى الخاتمة ثم يعود ، هذا الأمر يجعل المتعلم لا يفقه كثيرا من الكلام، ولذلك إذا كان الكلام مرتباً ومنظماً ويأتي على صورة التفريع وهو الذي تمثله (أَمَّا) فإنها أم التفريع أما كذا فكذا ، أما كذا فكذا ، هذا التفريع .. هذا التنظيم يجعل المتعلم يتلقى كلاماً منظماً، وعادةً الكلام المنطقي المنظم يثبت في ذهن الإنسان، ولذلك كثير من التعلم يأتينا بسبب أن الملقي والمتحدث منظّم في كلامه فيرسخ كثير من كلامه في الذهن ، بينما تجد - أحياناً- أن سبب عدم ثبات المعلومة في ذهن المتعلم هو عدم التنظيم ، ولذلك جاء التنظيم هنا على حسب الحوادث الثلاثة لأنه لاشك أن أول شيء يكون في ذهنه هو الحدث الأول فيريد تفسيراً له ثم يأتي الحدث الثاني ثم الثالث... الخ.
/ (أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ) وقد ذُكرت سابقا السفينة وهي التي خرقها الخضر فكان الذي في ذهن موسى عليه السلام لماذا خرقتها ؟ (أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا) هذا الذي دار في ذهنه وهذا الذي قاله واعترض به ففسر له ذلك بقوله : (أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ) .

/ (أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ)
 قوله : مساكين واللام في (لِمَسَـٰكِینَ) اللام تعني المُلك يعني أنها مملوكة لمساكين ، وكون المساكين يملكون سفينة لايعني أنهم يُنتفى عنهم وصف المسكنة وهذا هو الفرق الجوهري بين الفقر والمسكنة بين الفقير والمسكين .
الفقير هو: الذي لايملك شيئاً ، المسكين هو: الذي يملك ما لا يكفيه. 
فلا يأتي إنسان يقول : والله فلان عنده سيارة ما يحتاج صدقة ، هذا ليس له علاقة ، ويأتي إنسان آخر ويقول فلان عنده راتب ، أيضاً هدا ليس له علاقة قد يكون الراتب هذا لا يكفيه فيبقى مسكيناً .
هؤلاء يملكون سفينة لكن صدَق عليهم وصف المسكنة لأنها لا تكفيهم مؤنة حوائجهم .
قيل: أنهم عدد ليس بالقليل وكانوا إخوة،  وقيل: أنهم كانت حالتهم المادية ضعيفة وكانوا يستخدمون هذه السفينة في الصيد ولكن لا يكفيهم هذا الأمر مؤنة حياتهم ، وقيل: بل كان عدد منهم عجزة لا يستطيعون العمل وهؤلاء يعملون من أجلهم . على كل حال الله عز وجل وصفهم بالمسكنة فدل ذلك على أنهم في حاجة، ولمّا يُذكر وصف المسكنة فإن هذا من ترقيق القلوب وتوجيه الشفقة إليهم واستدرار العطف نحوهم ، فلما تُذكَر المسكنة تُذكر هذه الأشياء معها .
إذاً عرفنا أول نقطة أن هذه السفينة كانت تُملك لمساكين ، لو عرفنا هذه المعلومة فقط لكان الاعتراض على قلع وخرق السفينة أعظم من أن تكون لأغنياء..أو لا ؟ حينما آتي لمال ضعفاء وأخرّب هذا المال للضعفاء ألا يكون الاعتراض أعظم ؟ إذاً كان يمكن أن يكون المعلومة هذه الأولية كان تكون في صالح اعتراض موسى عليه السلام لأنه لو كانت لأغنياء يمكن الأمر أهون -في عندهم غيرها فيستبدلونها ويعملون على غيرها ، لكن لفقراء وتُخرق أيضاً !! ( أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ ) فعلمنا أن الذين يملكونها كانوا مساكين فهم يحتاجون إلى العون لا إلى التخريب لممتلكاتهم. 
/ ( یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ ) معناها أن مصدر رزقهم هو البحر، وأَخذوا من هذا جواز العمل في البحر كمل يجوز العمل في البر ، بعضهم يقول حرام أن يعمل الإنسان في البحر؟ نعم هناك نهي عن ركوب البحر في بعض الحالات وربما نتطرق إليه في الفوائد بعد قليل ، إذا هم كانوا يعملون في البحر مصدر رزقهم .. موقع عملهم في البحر على هذه السفينة .
هذا أيضاً يزيد الأمر غموضاً فإذا كانوا يعملون في البحر إذاً ليس لهم مصدر آخر للرزق إلا هذا فإذا أنا أفسدت سفينتهم أفسدت مصدر رزقهم؟! إلى الآن لم يتضح الأمر .
( فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا ) ولم يقل فعبتها إنما قال : (فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا) مع أن الذي حصل ليس إرادة للعيب إنما العيب نفسه بمعنى كأنه قال : فأردت أن اخرقها ، هل هو خرقها أم ما خرقها ؟ خرقها ، إذاً كان ممكن أن يقول : فخرقتها ، وليس أن يقول : فأردت أن أخرقها لأن فأردت أن أخرقها تُشعِر بأنه أراد ذلك لكنه لم يحصل إلى الآن وهذا مخالف للحاصل ، الذي حصل أنه خرقها إنما أُخرِج الكلام على صورة الإرادة للتدليل على أن خرقه لها لم يكن بالمصادفة بل كان بالقصد ، بمعنى أنه كان عن إرادة مُبَيَّتة ، يعني خرقه لها ليس أمراً عارضاً وجد لوحاً مقلوعاً فقلعه هكذا بدون تخطيط مسبق.. لا (أردت) تعبيره بالإرادة دليل على أنه قاصد لهذا الفعل وهذا أيضاً يزيد الأمور غموضاً وإنكاراً ، كيف تفعل هذا وهذه الصفات التي صارت حتى الآن (فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا) ، كما أنه أيضاً أسند إرادة الخرق والعيب ولاحظوا معي أنه الآن ما ذكر الخرق ، ذكر العيب فدل ذلك على أن المراد هو: حصول عيب فيها بأي شكل إما بخرقها أو بأي صورة أخرى،  قد يكون بالخرق وقد يكون بصورة أخرى ، لكن الذي حصل أنه عيب بالخرق وذلك أن أسوأ عيب في السفينة هو الخرق لأنه إذا دخلها الماء أصبحت غير نافعة. ونحن تكلمنا أين مكان اللوح في الجلسات السابقة الذي قلعه من السفينة.
ثم أسند الإرادة إليه فقال : (فَأَرَدتُّ) أنا ( أَنۡ أَعِیبَهَا ) ذلك أن الحدث المذكور عيب والعيب لا يُنسب إلى الله سبحانه وتعالى فقال ذلك تأدباً مع الله (فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا) وإلا في الحقيقة الذي قدّر ذلك وأراده هو الله سبحانه وتعالى والذي وجهه لذلك هو الله سبحانه وتعالى ، لكن من باب الأدب مع الله أن لا ننسب الشر إلى الله بل ننسب الخير إلى الله  سبحانه وتعالى ، فلما كان ذلك عيباً نسبه إلى نفسه قال : (فَأَرَدتُّ) أنا (أَنۡ أَعِیبَهَا ).  إلى الآن لم تتضح الصورة .
 / ثم قال بعد ذلك : ( وَكَانَ وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصۡبࣰا ) هنا اتضح السبب، ولو تلاحظون كان الكلام مختصراً وليس مفصلاً تفصيلاً واضحاً ، لكن لما كان الكلام مع أمثال موسى عليه الصلاة والسلام من النباهة والمعرفة يكفي هذا، فبيّن له أن المشكلة أن هناك ملك تمرُّ عليه السفن ، السفينة الصالحة يآخذها والمعيبة يتركها لذلك أنا عبتها.. انتهى ، اتضح له الأمر واتضحت له المصلحة عَرَف السبب بدون تفاصيل كثيرة ، وفي هذا ملمح أن المتعلم إذا كان ذكياً لماحاً فلا داعي لتكرير الأمر وتفصيله فإن التفصيل في حقه نوع من الاتهام له. ولذلك يكفي أحياناً من الإشارة ما يحصل به المعلوم ويستنبط هذا المتعلم المقصود ، فإن المقصود من هذا الكلام أنني عبتها لهذا لسبب فأردت أن أنقذها حتى تبقى لهم وحتى يبقوا يعملون عليها وينقذها من براثن هذا الملك الظالم بسبب العيب الذي عبته فيها ، هذا الكلام كله ما ذُكر،  ذُكر شيء آخر مختصر . هذا الكلام الذي ذُكر مختصراً فيه بعض الملامح :
- في قوله تعالى : (وَكَانَ وَرَاۤءَهُم) اختلف المفسرون في كلمة (وراء )
/ فقال بعضهم : هي من الأضداد .
عندنا في اللغة العربية أنواع من الكلام من ضمنها الأضداد بمعنى أن تأتي الكلمة الواحدة في اللغة العربية تدل على المعنى وضده في آن واحد ككلمة (قُرء) الواردة في القرآن ( قُرُوء ) فإنها تأتي معنى الحيض وتأتي بمعنى الطُّهر ، والذي يبين لك المعنى هو السياق وهذا كثير .
فقالوا كلمة (وراء) وفي هذا الموقف بمعنا أمام ، فإذا كانت بمعنى أمام معناها تدل على معنيين : 
المعنى الأول : وراء الذي هو خلفك
والمعنى الثاني: أمام الذي هو أمامه
والذي يبين المعنى في الموقعين هو السياق - سياق الكلام - والذي دعاهم إلى ذلك أن الملك لو كان وراءهم بمعنى أنهم لو كانوا قد خلّفوه يعني مروا من عنده وخلّفوه ، أصبح وراءهم فليس هو بحاجة إلى عيبها لأنها لن تمر عليه ، لكن دل عيب السفينة أن السفينة ستمر على الملك إذاً هو أمام وليس وراء ، فقالوا إذاً كلمة (وراء) من الأضداد وتأتي بمعنيين وهي هنا حسب السياق بمعنى أمام .
أنكر بعض المتخصصين في اللغة -من القدماء- أن تكون (وراء) بمعنى أمام وأنها من الأضداد إنما المراد أن هناك تعبيرات موجودة في مثل هذه الكلمات الدالة على الظروف الزمانية أو المكانية ونحن نستخدمها في كلامنا ونفهم ذلك، فعندما أنا أقول لك وأنت تريد أن تقدِم على امتحان مثلاً : وراءك يوم حافل، ماذا تفهم ؟ هل انتهى أم هو قادم ؟ قادم ، فأنت تفهم  ، فقالوا : كلمة وراء من استخداماتها أيضاً الإشعار بأن هذا الأمر هو وراءك يعني خلفك ، يعني لم تنتهِ منه إلى الآن،  هذا المقصود .. لم تقضه إلى الآن إذاً هو في المستقبل وليس هو في الماضي.  ولعل هذا هو أيضاً المراد هنا -والله أعلم - وأنها ليست بمعنى (أمام) و (وراء) في آن واحد من الأضداد ، على كلٍ لايهمنا هذا كثير،  الذي يهمنا أنه أشعرهم بكلمة (وراء) أن هذا التفتيش الموجود من الملك لم ينقضي بعد وأن السفينة ستمر على هذا الملك. 
(وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ) كلمة (ملك) تدل على أنه صاحب سُلطة وأنه ممكن أن يؤذي هؤلاء الضعفاء والمساكين، وكيف فعل هذا الملك هذا الفعل؟ ولماذا يحتاج مثل هؤلاء الضعفاء أن يأخذ منهم؟ هذا من عادة كثير من الملوك أنهم يسيرون عامة الناس و مصالح الناس الخاصة إلى مصالحهم الخاصة بهم ، فقد يكون هذا الملك يبني داراً أو قصراً أو يعمل له أي شيء ويريد أن يُسخّر ممتلكات الناس له  فهذه السفن يريد أن يُحمِّل فيها شيئاً يخصُّه فيبحث عن السفن الصالحة ليسخرها لمصلحة نفسه، وإلا لو كان التسخير لمصلحة الأمة لجاز ذلك، لو كان التسخير من الملك لمصلحة عامة للمسلمين يجوز ذلك، أن تُسخر بعض المصالح الخاصة لمصالح الأمة بشكل عام، أما إذا كان التسخير لمصلحته الخاصة فهذا لا يجوز فهذا هو المعيب هنا أن هذا الملك كان يسخر هذه السفن لمصلحته الخاصة وهؤلاء ضعفاء فوجبت نصرتهم ، ونصرة المظلوم ليس بالضرورة أن تكون بمقارعة الحاكم أو الظالم ومصادمته، يمكن أن يكون بالرأي وبالحكمة وبإسداء المشورة له وبمساعدته بمثل هذه الحيلة اليسيرة فنجوا بإذن الله من ظلم هذا الظالم بهذه الحيلة اليسيرة التي عملها الخضر عليه الصلاة والسلام بتأييد من الله سبحانه وتعالى وإيحاء من الله عز وجل له .
قوله (مَّلِكࣱ یَأۡخُذُ) بمعنى يستولي يعني ممكن يأخذها نهائياً فلا تبقى لهم ومصدر رزقهم يذهب تماماً. 
( یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصۡبࣰا) لم يرِد في النص القرآني هنا أن السفينة لازم تكون صالحة بل بالعكس ورد فيها بأنه يأخذ كل سفينة كائنة ما كانت بدليل ( یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ) فمن أين لنا أننا عرفنا أن السفينة المعيبة لا تؤخذ؟ عرفنا ذلك من قوله : (فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا) فعرفنا أنه فهم وعرَف أن المعيبة لا تؤخذ ، طيب هنا لماذا جاء هذا الكلام؟ قال : على أن تكون الصفة محذوفة ، وهذا موجود إذا عُلمَت الصفة يجوز حذفها في الكلام والمقصود يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ، من أين قدّرنا صالحة؟ 
لأنه قال إذا عبتُها لا يأخذها ، إذاً المعيبة لا يأخذها ، إذاً هو يأخذ كل سفينة صالحة ( غَصۡبࣰا) دل ذلك على أنه يأخذها بغير وجه حق، قلنا لو كانت لمصلحة الأمة بشكل عام هذا ممكن ، لكن كونه غصباً معناه يأخذها ظلماً وعدواناً ، والغصب كثير منه السرقة، منه الإستيلاء على مال الغير ، منه استخدام السلطة في أخذ أموال الناس بالباطل، منها استخدام حوائج الناس في حاجته الخاصة بدون إذنهم وبدون قدرتهم ، هذا كله غصب وكله حرام. 
فعلِم موسى عليه الصلاة والسلام من هذا التفسير سبب هذا العيب الذي لم يكن يعلمه في اعتراضه الأول ، فعلمنا نحن الآن أن الخرق والعيب الموجود في السفينة لم يكن كبيراً إلى درجة أن تغرق السفينة لأنه كان اعتراض موسى عليه الصلاة السلام قال له : ( أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا ) فعُلِم من هذا الآن أنها ما غرقت رغم وجود الخرق باقي فيها ما غرقت، بل مرّت فدل ذلك على أن الخَرق الموجود فيها لم يكن كبيراً إلى درجة أن يغرقها بل كان كافياً أن يوصلها إلى بر الأمان وأن تتجاوز هذا الملك الظالم وتصل إلى الساحل وبعد ذلك يصلحونها.

هل كان يعلم أهل السفينة هذا الخرق أو لا يعلمونه؟
 الله أعلم ، لكن المهم أن هذا الملك اطّلع عليه ولعله كان يدخل في السفينة ويبحث عن السفن الصالحة الجيدة ، ولعل هذا الخرق أيضا كان فيه ظهور وبيان بحيث أن المياه بدأت تتدفق في داخل السفينة ، على كل حال المهم أنه اطّلع على هذا ونجت هذه السفينة وكان فعل الخضر الذي في ظاهره أنه ضرر كان في مقصده خير لهؤلاء الناس، فنفهم من هذا أننا لا نستعجل في الحكم على الآخرين خاصة إذا كانوا من ذوي الخير ومن عُرِف عنهم بالخير، ومن عُرِف عنهم برعاية المصلحة أن لا نستعجل في الحكم على الناس باتهام نياتهم أو مقاصدهم ، وخير لنا أحياناً أن نسكت أحياناً في مثل هذا إذا كنا لا نعرف ، فليس مطلوب منا أن نحاكم الناس على نياتهم ومقاصدهم فنحن لا ندري ما المقصد من مثل هذا العمل. ويذكرون دائماً أن الإسراع أحياناً في الحُكم على الشيء وتفسيره تفسيراً قد لا يكون صحيحاً يؤدي إلى نتائج سيئة ومن هذا كثير ، ويذكرونه على سبيل الحِكَم وغير ذلك، ومن هذا ما ذُكر عن أحد القادة قيل أنه جنكيز خان أو غيره وكان له صقر يحتفي به كثيراً ولا يكاد يفارقه ويوم من الأيام فارقه أو ابتعد عنه واحتاج هذا القائد إلى ماء فلم يجد ماء ودخل في كهف أو شيء من هذا القبيل ووجد ماءً وكان بحاجة كبيرة إلى شربه بعد انقطاع الماء عنه فلما جاء أن يرفعه إلى فمه جاء هذا الصقر وضربه من يده فسقط الماء، فعل ذلك أكثر من مرة فغضب عليه خاصة أنه ضاع منه وذهب عنه وأخذ سهماً وقتله، ولما أراد وانتهى منه وارتاح منه ورآى أنها خيانة من هذا الصقر أن يفعل هذا الأمر وقد درّبه وقد أعطاه... الخ ولما أراد أن يشرب مرة أخرى نظر وإذا ثعبان فوق مكان هذا الماء يقطر سمّها في  الماء ، فكان هذا الصقر يعرف هذه المعلومة فأراد أن ينقذه من حيث ظن هو به شراً وقتله. وهذا كثير فالإنسان لا يستعجل ، أحياناً في كثير من قراراتنا نحن نستعجل ولا ندري لماذا فعل هذا الإنسان ، فالمطلوب بشكل عام فينا أن نظن بأنفسنا وإخواننا خيراً فالله عز وجل يقول في قضية الإفك : (لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ) وهو شر وكلام خطير في عرض النبي صلى الله عليه وسلم (لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ) وهذا هو المنهج (ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَیۡرࣰا) هل نحن نفعل ذلك اليوم أم أننا مباشرة أول ما يرد في الأذهان هو الظن السوء ، معقول يفعل هذا؟ ما يستحي من نفسه يفعل هذا؟ بهذه السرعة صدقت!! بمجرد رسالة جوال أو واحد نقل لك هذا الكلام وهذا ثقة عندي!! هذا كلام لا يُقبل ، الذين كانوا ينقلون مثل هذه الأخبار بعضهم صحابة ومع ذلك الله عز وجل يقول : (لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَیۡرࣰا) نتريث لا تكون أنت أول المبادرين لمثل هذا الأمر .
 
على كل حال هذه نقطة في هذا الأمر وما حدث من الخضر في مثل هذا الموقف قالوا هو من التصرف برعاية المصالح والمفاسد وليس هو إلهام من الله في هذا الموقف بالذات ، الله عز وجل أخبره أن هناك ملك يأخذ السفن ثم هو بعد ذلك راعى المصالح والمفاسد فارتكب مفسدة أخف في سبيل إزالة مفسدة أعظم وإذا وُجد عند الإنسان أكثر من مفسدة بمعنى أن الأمر لن يحصل إلا بمفسدتين بأمرين أحلاهما مر كما يُقال فالمطلوب عقلاً هنا أن أرتكب ولو بالقصد المفسدة الأدنى لإزالة المفسدة الأعظم وهذا وإن كان فيه ارتكاب مفسدة إلا أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يعني ممكن أنت تأمر بمعروف وتنهى عن منكر وأنت ترتكب المفسدة ، يعني ترتكب منكر بشرط أن يكون ارتكاب المنكر هذا يزيل منكراً أعظم ، ولذلك بعض الناس يحتار في القرارات ويقول كل الذي عندي سوء ، فإذا كان كل الذي عندك سوء فأنت مخير بين قرارين كلاهما سيء فتختار الأقل ضرراً حتى تسلم من الأكثر ضرراً وهذه قاعدة في التشريع.

الثاني : (وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ) ذكر هنا غلام وذكر سابقاً (نَفۡسࣰا زَكِیَّةَۢ بِغَیۡرِ نَفۡسࣲ) إذاً هو صغير في السن فكلمة غلام تدل على أنه لم يبلغ بمعنى أنه لم يُكتب عليه شيء ولذلك هي نفس زكية لم يُكتب عليها شيء من المآثم ولا الآثام ولا الذنوب ، مادام أنه قبل البلوغ لا يُكتب عليه شيء ، تُكتب له الحسنات ولا تُحسَب عليه السيئات فهو غير مُكلّف ، فقال له : (وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ)  وقد جاء في الترتيب الثاني لأنه في الأحداث كان هو الثاني ، (وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ) ولاحظوا هنا أنه ليس هناك أي تدخل من موسى عليه الصلاة السلام أو أي استفسار وهذا يدل على وضوح شرح وتفسير هذا المعلّم فإن موسى عليه السلام لم يحتج أن يسأله عن شيء ، وهو أيضاً لم يتوقف عن بيان الحادثة الثانية وهكذا.
فقال : (وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ) لاحظوا أنه في الغلام ما تحدث عنه تحدث عن أبويه لأن الغلام صغير وليس عليه إثم فتحدث عن أبويه وكان الأمر يتعلق بالأبوين أكثر من تعلقه بهذا الغلام (فَكَانَ أبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ) أما هو فلا يُحتاج أن يُذكر شيء عن دينه أو أخلاقه لأنه صغير.
  (فَكَانَ أبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ) ولم يقل مسلمين لأن الإيمان أعلى من الإسلام ، (فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ ) يعني كلاهما ليس واحد منهما فقط.
 (فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا) فدل ذلك على أن إيمان الإنسان يدفع به الله عز وجل عنه كثير من البلاء الذي لا يعلمه ، وقد يكون هذا البلاء من أولادك وأنت لا تعلم ، أنت لا تعلم في مستقبل الزمان ماذا سيحصل لكن بإيمانك ، بعملك الصالح ، بقربك من الله ، بقيامك بما أمرك الله به ، الله يصرف عنك من السوء ومن المُقدر في آخر الزمن مما لا تعلم شيئاً عظيماً، ولذلك الإنسان لا يدري أصلاً ماهي الأشياء التي عافاه الله عز وجل منها ، ولكن هذه الآية واضحة في أن سر هذا الحدث الذي حصل ودفع هذا الضرر عن الأبوين من قِبَل هذا الولد أو هذا الغلام كان سببه إيمانهما ولذلك نُصّ عليه هنا فقال : (فَكَانَ أبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا).

 (فَخَشِینَاۤ) ، (فَأَرَدۡنَاۤ) قيل الكلام للخضر نفسه وذلك بإعلام الله له لاشك لأنه لا يمكن أن يعلم علم الغيب فهذه ليست مثل الحادثة الأولى لأن ليس فيها نظر في المصالح والمفاسد لأنه لايمكن لأحد أن يعلم ما في غدٍ إلا الله ، لكن أن تعلم أن هناك شيء سيحصل أعلمك الله ذلك أو أنت عرفت بمعلومة من شخص فبإمكانك أن تتخذ الإجراءات المناسبة فهذا يدخل في محيط التفكير البشري ، أما أن يُعلم أن هذا الفتى مؤمن أو كافر هذا لا يعلمه إلا الله فعُلِم من ذلك  أنه إيحاء من الله وليس تصرف خاص من الخضر، يعني ليس مثل الحادثة الأولى.

 وقيل بل (فَخَشِینَاۤ) و (فَأَرَدۡنَاۤ) كله من كلام الله سبحانه وتعالى فالمتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى ، ولكن سياق الكلام يتضح في أوله أن الحديث للخضر ، إذاً (فَخَشِینَاۤ ) بعلم الله سبحانه وتعالى.
 (أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا) الإرهاق هو: تحميل الإنسان ما لا يحتمل من المشقة أي فوف طاقته. ونحن ندرك أن أكثر أذى يمكن أن يتعرض له الوالدان هو من ولدها أو من أولادهما ، يعني مهما كان صعوبة الحياة ومشاكل الحياة لا يمكن أن توازى بعقوق الوالدين، بعقوق الولد لوالديه فإنه يتسبب في رهق وتعب ومشقة لهما لايعلمها إلا الله ، خصوصاً إذا كان عاقاً ، إذا كان لايعرف لهم حقاً ، يؤذيهما في الكلام ، يؤذيهما بالتصرف ، يفكران فيه ليلاً ونهاراً أمر وشيء عظيم ، لكن الأخطاء من الآخرين أمرها سهل ، ظُلم الآخرين سهل لكن :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على المرء من وقع الحسام المهند 
فما بالك إذا كان هذا الظلم من أقرب الناس ، من أكثر الناس حقاً لك وهم أولادك!! هذا أمر من أصعب الأمور ، فعلم الله سبحانه وتعالى أن هذا الولد إذا كبِر سيُرهق والديه طغياناً .. ظلماً .. تجاوزاً في التصرفات وغيره ، وكفراً ، إذاً هو كافر وليس كافراً فقط ، بل سيئاً في أخلاقه ومؤذياً لهما ، فلا هو الذي كفر ولكن حصل منه البِر ، ولا هو الذي هو عقّ وحصل منه الإيمان ، بل جمع الشرين الكفر والعقوق.
 وقد يقول قائل : وهل يمكن لوالد لو علِم هذا ـ لو علم بعلم الله ـ أن يكون ولده بهذ الأمر أن يتمنى حصول هذا للولد ؟
 الناس يتحدثون ونسمعهم يتكلمون - وإن كان هذا لا يجوز- لكن نحن نتحدث عن وقع هذه الحادثة على الإنسان ، كثير من الأباء لو علِم أن ولده سيكون مدمن مخدرات وأنه سيحتاج أن يُغلق الغرفة على نفسه وهو أب ، وهي أُمّ تغلق على نفسها الغرفة خوفاً من ولدها أن يعتدي عليها باعتداءات لاداعي لذكرها في مثل هذا المقام لتمنى أن لا يكون هذا الولد أصلاً له ، لكن هو لا يعلم ذلك.
 إذاً هذه الحكمة التي حصلت هنا بعلم الله سبحانه وتعالى كانت في مصلحة الوالدين وقتل هذا الغلام في بداية عمره قبل أن يبلغ في مصلحتهما لأن الله يعلم أنه سيكون حاله على هذا الحال وعلى هذا التصور وعلى هذا الشكل.

 ( فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا ۝  فَأَرَدۡنَاۤ أَن یُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیۡرࣰا مِّنۡهُ زَكَوٰةࣰ وَأَقۡرَبَ رُحۡمࣰا)  
لاحظ هنا نسبة الإبدال بأقرب رحما وبالخير نسبها إلى الله لأنه خير ، لأن هذا الأمر خير فنسبه إلى الله سبحانه وتعالى ، ( أَن یُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیۡرࣰا مِّنۡهُ زَكَوٰةࣰ وَأَقۡرَبَ رُحۡمࣰا).
 (زَكَوٰةࣰ) إذا كان هذا زكي فالآخر زكي بزكاء الإيمان لأنه يكون مختلف عن الأول ، الأول فيه الكفر والعقوق ، الثاني سيكون فيه الإيمان والبِر، فأما الإيمان فتدل عليه كلمة زكاة ، فإن قوله (خَیۡرࣰا مِّنۡهُ زَكَوٰةࣰ) إذ لو كانت الزكاة مجرد عدم حصول الذنب لأنه صغير في السن لساوى الأول ولم يكن خيرا منه زكاة ، لكن علمنا أن الزكاة الثانية هي خير من الأولى لأنها زكاة الإيمان وليست فقط زكاة عدم فعل أو كتابة الذنوب عليه ، هذا عالج الجانب الأول وهو الإيمان فالأول كافر والثاني مؤمن.
 والأمر الثاني (وَأَقۡرَبَ رُحۡمࣰا) فهذا دلنا على البِر لأنه أقرب فيأنس به الوالدان ويسعدون به.
 والله لا أظن الوالدين يفرحون بشيء فرحهم بكون ولدهما - والولد لفظ يطلق على الولد والبنت - باراً بهما فإن هذا من أعظم الأشياء التي تسرهم وتدخل السرور عليهم ، من أعظم الاشياء وربما لا يحتاج الوالد ولا الوالدة الى أموال وإلى غير ذلك بقدر ما يحتاجوا إلى المعاملة الحسنة وطيب الكلام وقد اختار الله لهما كرم الكلام (وَقُل لَّهُمَا قَوۡلࣰا كَرِیمࣰا) ، وأن يبتعد عن كل كلمة ولو كانت بدرجة الأف وهي ليست كلمة كاملة إنما هي كلمة تُصوّر ضجراّ معيناً يحصل عند الإنسان في لحظات معينة.
 إذاً أراد الله سبحانه وتعالى لهم خير من حيث أن الناظر إلى مثل هذا الفعل أنه شر لكن هذا بعلم الله سبحانه وتعالى خير.
 فبعض الناس الآن قد يُقدّر الله عزو حل عليه أن يموت ولده قبل البلوغ فقد يحصل في نفسه خصوصاً إذا كبر ووصل مرحلة معينة وفرح به فيموت فيحزن عليه كثيراً، ليعلم أن الله سبحانه وتعالى قد يكون أراد به خيراً ، فلأن يموت قبل أن يُكتب عليه الشر خير من أن يبقى ويكون سيئاً في أخلاقه ويكون عاقاً وربما -عياذاً بالله- مدمنا لمخدرات مقارفا لمعاصي إلى غير ذلك ، فإن هؤلاء الذين يموتون دون البلوغ سمّاهم النبي صلى الله عليه وسلم دعاميص الجنة ، والدعموص هي: دويبة صغيرة تأتي في الماء الراكد ، إذا رأيت ماء راكد له فترة تجد فيه دويبة صغيرة تتحرك في كل مكان فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم دعاميص الجنة يأخذ أحدهم بيد والده أو والدته كما يقول أبو هريرة (وأخذ بصنفة ثوب الرجل الذي سأله) فيأخذ بيده ولايتركه حتى يدخله الجنة ، وقال دعاميص لماذا شُبهوا بهذا قال لأنهم يتجولون في الجنة بدون حوائل كما أن هذه الدويبة تتجول في الماء كيف تشاء ، هؤلاء يذهبون في الجنة إلى أي مكان يشاءون فلا تدري أنت أحياناً الخير الذي قدره الله في مثل هذا الموقف لا تدري ، لا تعلم وهذا فيه حُسن ظن بالله تعالى عندما يحصل مع الإنسان شيء مثل هذا .

الثالث : ( وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَیۡنِ یَتِیمَیۡنِ فِی ٱلۡمَدِینَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا) جاء للمرحلة الثالثة وهي الجدار لم يكن الحديث عن الجدار مباشرة بل تحدّث عن علاقة الجدار ومصلحة بقاء الجدار أنه متعلق بآخرين ، وأن هذا الجدار كان لغلامين يتيمين ، هذا الجدار كان مملوكاً لغلامين يتيمين أي بمُلكِه لهما من خلال الإرث من والدهما فالذي بقي لهم هذا الحائط هذا الجدار هذا المُلك المعروف لهم ولكن يتضح منه أنه قديم أو متهدم أو ضعيف البناء ، المهم أنه ليس فيه هناك مطمع لطامع خصوصاً أننا نتحدث عن قرية بخيلة تبحث عن المال ، حتى الكرم مع الضيوف لا يُقدَّم وإذا رأيت مثل هؤلاء الناس فاعلم أنهم أناس يعبدون الدرهم والدينار فهم لا يتورعون عن أخذ مال يتيم إذا كانوا لم يستطيعوا أن يقدموا لضيف ، وضيافة المسلم من الإيمان وتركها من قوادح كمال الإيمان ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) من مقتضيات كمال الإيمان لا أقول أصل الإيمان لكن كمال الإيمان ، ليست سهلة فلا يتركها إلا إنسان تملّكه المال ، وهذا الذي تملّكه المال معناه سيبحث عن المال في أي موقع ، وأبسط مال وأسهل مال هو مال الأيتام والضعفاء ، من سيدافع عنهم ؟ لا أب .. لا أم .. لا عشيرة وهم ضعفاء صغار فيؤخذ مالهم لذلك الله عز وجل رتب على مال الضعفاء ما لم يرتبه  على مال الأقوياء (إِنَّ ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا یَأۡكُلُونَ فِی بُطُونِهِمۡ نَارࣰاۖ وَسَیَصۡلَوۡنَ سَعِیرࣰا) فرتب الله عليهم عذابين عذاب في داخل أجوافهم نار وعذاب من خارج أجسادهم نار، ويقول بعض المفسرين ويُعرَفون يوم القيامة بأنهم أكلة مال اليتيم بالنار التي تخرج من أفواههم ، فلا يُكتفى بأنهم يُعذبون بل سيُفضحون ، وقد يكون يكون الإنسان في الدنيا لا يعرف عنه أحد شيء لكن سيُفضَح أمام الخلائق يوم القيامة.
 إذاً هنا كان  الجدار لغلامين ، وأيضاً كلمة غلامين إذا ربطناها بالحدث الأول الذي كان قبل هذا دل ذلك على أنهم دون البلوغ وهم صغار في السن فاجتمع عليهم صغر السن واليُتم (يَتِيمَينِ) في مثل هذه الحالة الآن التي حصل فيها بناء الجدار كانوا في هذه السن هذه المعلومة لا يعرفها موسى عليه الصلاة والسلام فلو حصل أن هذا الجدار الخرب الآيل للسقوط سقط انكشف الكنز الذي تحته. كلمة كنز معناها أن هناك مال مغري ، والمال المكنوز لا يكون المكنوز مكنوزاً إلا إذا كان مهماً وثميناً فإذا سقط الجدار انكشف هذا الكنز ورآه هؤلاء الناس المتلهفين للمال فأخذوه ، لكن لو بقي هذا الجدار على حاله زهدوا فيه لأنه ما له قيمة ولكن واضح أنه معلوم أنه لهم وأنه مملوك لهم وأنه ليس هناك منازعة فيه لكن ليس هناك ما تشتهيه النفس فيه فتركوه ، الناس تركوه ما أخذوه. فأقام هذا الجدار الخضر ، أقام هذا الجدار بمعنى رممه ، حسّنه ، أقامه بقدر بتقدير الله ، يكفي أن لا ينهدم إلا إذا بلغوا الأشد وهذا لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى ، إذاً هو أقامه بطريقة بتوفيق الله سبحانه وتعالى بأن بناه بطريقة لا يسقط الآن إنما يسقط في زمن محدد يكونوا هم فيه قد بلغوا الأشد .
يقول الله سبحانه وتعالى ( فَكَانَ لِغُلَـٰمَیۡنِ یَتِیمَیۡنِ فِی ٱلۡمَدِینَةِ) كان الكلام سابقا عن القرية والآن الكلام عن المدينة ، هذا يؤيد من يقول أن المدينة والقرية ممكن أن تُطلق على الشيء الواحد. وإذا أخذنا بهذا فلماذا ذُكرت في الموقع الأول يعني لماذا سميت في الموقع الأول قرية في قوله تعالى : (إِذَاۤ أَتَیَاۤ أَهۡلَ قَرۡیَةٍ) وفي الموضع الثاني جاءت باسم المدينة ، إذا كان ممكن أن تُطلَق عل تجمع الناس ممكن أُطلِق عليه قرية وممكن أُطلق عليه مدينة يسمى المشترك اللفظي والترادف وإن كان الترادف فيه فوارق مثل كلمة سفينة وفلك لماذا تُذكر فلك هنا وسفينة معنا هنا ، لكل كلمة في مكانها دلالة فالله أعلم لعل ناسب أن تُسمَّى تجمع الناس ذاك قريةً في أول الحديث لأن الكلام عن الضيافة والكرم ، والضيافة والكرم عند أهل القرى أظهر منها عند أهل المدن لأنهم أقل عدداً وأكثر اهتماماً بهذا الأمر والناس أحوج ما يكونوا إلى بعضهم ولذلك تجد هذه الظاهرة كثيرة ، وكان الحديث في الثانية عن المال والكنز ، والمال عادة ما يكون ذكره في أهل المدن والحديث عنه أكثر منه في القرى فسميت هنا مدينة ، وربما يكون ذِكر المدينة في الموقع الثاني لأن الحديث عن اليتيمين ، وعادة يكون إذا كان اليتم في المدن بأنهم أكثر ضياعاً وعدم اهتمام من القرى ، فإن أهل القرى بينهم من التكاتف والتآزر عادةً ما لا يكون بين أهل المدن لأن في المدن أحياناً لا يعرف الجار جاره ولا يهتم بمن هو حوله سواءً كان يتيماً أو غيره ، بينما أهل القرى بسبب تقاربهم عادة يكون بينهم تكاتف، حتى اليتيم يجد مم يساعده فيها،  فقد يكون هذا -والله أعلم- إشارة إلى هذه النقطة في المدينة.
 ( وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا ) أي تحت الجدار مباشرة كنز لو سقط ظَهَر. (وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا ) إذاً هذا الكنز لهما آل إليهما عن طريق الإرث من والديهم.

ثم قال : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا ) فكلمة (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا) تشبه في التعليل في قوله تعالى قبل ذلك : ( فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ ) فهنا تعليل حفظ الله عز وجل للكنز لهما -لهذين اليتيمين- والتعليل هو ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا ) فصلاح الأب كان سبباً في حفظ أولاده من بعده.
وهذه النقطة يا كرام يجب أن يعيها الآباء جيداً ليس دائماً التخطيط الدنيوي وإبقاء الأموال لهم ومحاولة البحث عن سبل العيش الكريم لهم و...الخ هو السبيل الوحيد والصحيح لإبقائهم وإبقاء الخير لهم ، بل إن السبيل الأصلح والأوضح في هذا المكان هو صلاح الأب ، قد يقول قائل: والأم ؟ لم يأتِ ذكر لها هنا إما أن ذلك جاء من باب التغليب فإنه غالباً إذا كان الأب صالحاً فإن الأم تكون كذلك لأنه غالباً ما يكون تأثير الرجل أكثر على المرأة لأنه معه السلطة ولأنه أقدر في مثل هذا المجال أن تكون معه أو لا تكون كذلك ، فدل ذلك على أنه لصلاح أحد الوالدين فإن الله عز وجل يحفظ الأولاد ولا يضير أن تكون الأم غير صالحة أو غير ذلك، المهم أن يكون في أذهاننا كأباء أن صلاحك أنت أيها الأب له علاقة بحفظ أولادك من بعدك حتى في أموالهم، فدل ذلك إذا كان ذلك في أموالهم فلعل ذلك فيما هو أهم من الأموال وهو دينهم ، فإذا كان الله قد حفظ لليتيمين الشأن الدنيوي بسبب صلاح الوالد فإن الله عزوجل لن يضيعهم حتى في الأمر الأخروي ، ولذلك كان سفيان الثوري يزيد في صلاته في الليل يقول من أجل أولادي ، هو يصلي لله لكن يقول من أجل أولادي لأن صلاتي وصلاحي والخير الذي أقدمه سينعكس على أولادي. فهذا جزء من التربية ، تربية غير منظورة ، تربية غير ملموسة مباشرة لكنها واضحة فصلاح الأب الآن مؤثرة في صلاح الأولاد بعد ذلك حتى في جانب معيشتهم.
 ( وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا ) ولمّا كان ذلك أيضاً الحدث الثالث كان حدثاً فيه بناء كان حدثاً فيه خير بناء الجدار خير كان حدثاً فيه خير وفيه بناء نَسَبَه الخضر عليه الصلاة والسلام إلى الله فقال : (فَأَرَادَ رَبُّكَ) ولم يقل فأردت.
 ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا وَیَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا)
 قال : (یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا) والعادة ( فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدࣰا فَٱدۡفَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡۖ) لكن هنا ما قال : (رُشۡدࣰا) قال : أشد ، وذلك أن المراد هنا أن يبلغ الأشد ، والأشد يدل على القوة، والرشد يدل على البلوغ وحسن التصرف ولكن بما أنهما بمثل هذا الموقف في هذه البيئة التي ذُكِرت لنا في الحدث فهم لا يحتاجون فقط إلى البلوغ وحسن التصرف بل إنهم يحتاجون إلى القوة والقدرة للمدافعة عن حقهما وهذا المال الذي بين أيديهما لذلك الله عز وجل ذكر هنا الأشد ، وربما لو كانوا في غير هذا المجتمع كان يكفي أن يصلا إلى الرشد لكن هنا القوة ، فقد يغري بريق الذهب هؤلاء الناس حتى بعد بلوغ هؤلاء الأيتام بالاعتداء عليهم فكان لابد أن يكونوا أقوياء أشداء يستطيعون أن يدافعوا عن أموالهم لذلك قال : ( یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا وَیَسۡتَخۡرِجَا) ولم يقل غير ذلك، ( وَیَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا ) أيضاً لإزالة هذا الجدار يحتاج إلى القوة والقدرة. كل هذا لماذا ؟ 
(رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِی) (رحمة من ربك) يمكن أن تكون للحادثة الأخيرة وما بعدها يعني (وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِی) ويمكن أن تكون لكل الأحداث، والصحيح أنها لكل الأحداث يعني أنا كل الذي فعلته أو كل الذي حصل هذا هو في نهاية الأمر رحمة من الله، وإن كنت تأملت في أوله فيه أذىً لهم لكن في النهاية رحمة وهذا يظهر في السفينة وكيف أنه صار رحمة لهم، يظهر في قتل الغلام وأنه رحمة للوالدين، وأيضاً قد يكون فيه رحمة للغلام نفسه لأنه مات قبل أن يُكتِب عليه شيء ، أيضاً وفيه رحمة لهؤلاء الأيتام لأنه لم يُكشَف كنزهما إلا بعد بلوغهما.
 يقول : (رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَ) وهذه نقطة مهمة كلما تحدثنا عن سورة الكهف كنا نُشير إليها وهي ضرورة نسبة الفضل دائماً وأبداً إلى الله في كل شيء، وأصل هذه القصة التي معنا هو أن موسى عليه الصلاة والسلام قيل له هل تعرف أحداً من أهل الأرض أعلم منك ؟ قال : لا، فعتب الله عليه أنه لم ينسب العلم إليه سبحانه وتعالى.
 فإذاً القضية الأساسية التي تجعلنا نقرأ سورة الكهف إسبوعياً هو أنه ما جاءنا من خير مال أو خير أو قدرة بشرية أو أي أمر من أمور الحياة أو حتى تديُّن هذا نعمة الله من سبحانه وتعالى، أن تنسب الأمر كله لله، لاتنسب شيء لنفسك ، لاحظوا النسب التي نسبها الخضر لنفسه هي نسب كجانب أدب مع الله نسب الأمور إليه تأدباً مع الله وإلا الأمر كله لله ولذلك قال هناك : (رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَ) ثم قال : (وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِی) يعني أنا لم افعل شيئاً من هذه الامور عن أمري إنما كله بأمر الله سبحانه وتعالى، وبعضهم أخذ من هذا المقطع أن الخضر نبي وأنه لم يكن يعمل شيئا إلا أن الله يوحي إليه وأنه نبي مقصورٌ على هذه الحادثة فقط بمعنى هذا الزمن وهذه الحوادث وبعد ذلك إما مات أو انتهى أمره المهم نبوة محددة في هذا المجال، وبعضهم قال : لا، ليس بنبي واستدل بالعبودية والرحمة التي جاءت في قوله :( عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا).

( ذَ ٰ⁠لِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا ) هذا في آخر كلامه فسر له قال هذا هو التفسير هذا ماتؤول إليه مقاصد الأمور أيضاً الشيء الذي لم تستطع أن تصبر عليه ياموسى.
أريد أن أقف عند نقطة من حيث ما انتهيت الآن في ملحوظة لغوية أن كلمة تستطيع تكررت في هذه السورة كثيراً، وقد بدأت تنقص حروفها من أول ذكرها وانتهت إلى الحروف التي قلتها قبل قليل (تَسْطِع)، فكان أول ما ذُكرَت الكلمة في قوله تعالى :  ( إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا) ولو حسبناها نجد التاء والسين والتاء والطاء والياء والعين ستة حروف، بعد ذلك مضى الأمر وقال الخضر لموسى عليه السلام : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا ) لو حسبناها هذه تاء وسين وتاء وطاء وعين خمسة، نقصت ياء ، ثم تمضي الأحداث ولما تنتهي القصة بكاملها يقول له : (ذَ ٰ⁠لِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا) فنجد تاء وسين وطاء وعين، أربعة ، كانت ستة ثم أصبحت خمسة ثم أصبحت أربعة، في بعض هذه الأشياء أسباب لغوية مثل الحدث الثاني.
 أولاً : (لَن تَسۡتَطِیعَ) هذا فعل مضارع لم يدخل عليه شيء يستوجب حذف شيء من حروفه فيبقى كما هو.
 الثاني : ( مَا لَمۡ تَسۡتَطِع ) دخلت عليه (لم) و (لم) في لغة العرب حرف جازم، والجازم يعني أن نُسكّن الحرف الأخير من الكلمة، وعندي أنا الحرف الأخير (العين) في كلمة (تستطيع) قبلها ياء ساكنة فيجتمع ساكنان فيُحذف واحد من الحرفين تخيفاً حتى لا يلتقي ساكنان في اللغة، وغالباً لا يحذفون الحرف الأخير لأنه نهاية الكلمة يحذفون الذي قبله، هذا له سبب لغوي نسميه يعني تفسير لغوي.
 أما الأخير ما له شيء. أما نحن عندنا في البلاغة وفي دلالات الكلام يمكن أن نفسّر ذلك تفسيراً آخر يتعلق بالمعاني، ذلك أن الحدَث في أوله يكون كبيراً فلما كانت الأحداث الثلاثة التي تطرّق إليها الخضر مع موسى عليه الصلاة والسلام كان حجمها كبيراً وعظيماً. أنت عندما تتلقى الحدث أول مرة يكون في ذهنك عظيماً جداً جداً جداً، كل الأشياء غير مفسرة فلو جئت لك في الكلام العادي وقلت لك : استريح .. استرح .. أنا سأبيّن لك الأمور كلها وأوضح لك الأمور كلها ما الذي يحصل في نفسيتك أنت؟ تهدأ قليلاً وتتضح لك بعض الأمور مع أنني ما فسرت لك شيء، فهو لما قال له : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا ) خف حجم الأمر عنده لأنه سيفسر له فنقصت حرفاً فلما فسّر له الأحداث كلها وانتهت لم يبقَ شيء، كل الذي في نفسه ذهب ولا يمكن للكلمة أن يُحذَف منها حروف أكثر من هذا الحرف، فلما فسر له كل الأحداث قال له أيضاً حُذف منه حرف  قال : ( ذَ ٰ⁠لِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا) فدائماً الكلمة كلما عظم المعنى عظمت الحروف، كلما خف المعنى خفت الحروف وسيأتي لنا دليلاً إن شاء الله في اللقاء القادم بإذن الله شيء من هذا القبيل نذكره في القصة القادمة إن شاء الله.
في ما تبقى من وقتي أيها الإخوة الكرام سأتحدث عن مجمل عن أهم الفوائد التي جاءت في هذه القصة من أولها إلى نهايتها ذلك أن هذه القصة تختلف عن القصص السابقة لأنه كان معتاد في القصص السابقة أن يكون هناك تعقيب بعد كل قصة وكنا نتحدث عن هذا التعقيب ونحاول أن نأخذ منه المنهج الذي يجب أن يُتبع في هذا المجال سواء كان متعلقاً بالمال أو متعلقاََ بالدين، لكن هذه الحادثة بالذات جاءت هكذا بدأت بحوار وانتهت بحوار دون نهايات أو مقدمات فبدأت مباشرة بـ ( وَإِذْ قَالَ ) لاشك أنه لم تكن هذه بداية القصة إنما هذا جزء من الحدث ما سبب الكلام؟ لماذا سافر؟ لماذا قرر هذا القرار؟ لم يُذكر في القرآن لكنه ذُكِر في السنة ولم يأتِ أيضاً بعدها تعقيب عليها أو كلام بعدها إنما أتت بعدها مباشرة قصة أخرى ولأجل هذا سأذكر أهم الفوائد على عجل ونختم بها حديثنا هذه القصة ونهيء الحديث  للجلسة القادمة بإذن الله تعالى.
 أولاً: هذه القصة بالذات بُنيت على الحوار وتكررت فيها كلمة قال يقول قل كثيراً وذلك أنها مبنية على التحاور الدائم بين شخصين ، في أول الأمر كانت بين موسى عليه السلام وفتاه وبعد ذلك صارت بين موسى عليه الصلاة والسلام والعبد الصالح.
/ هذه القصة من الفوائد التي فيها: أنها بُنيت بمجملها على قضية العلم والتعلم ولذلك كل ما فيها يُستفاد فيه في قضية العلم والتعلم، من نظريات أو اشتراطات أو مبادئ أو غير ذلك.

/ أيضاً في هذه القصة: جواز بل واستحباب أحياناً أن يُفصح الإنسان عن وجهته وهدفه لمن يثق به كما أفصح موسى عليه الصلاة والسلام لفتاه إلى أين سأذهب وماذا أريد ، قالوا إذا كان في ذلك مصلحة لكن أحياناً لا يكون في ذلك مصلحة فنخفي الأمر كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فإنه في الغزوات كلها كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها بمعنى أنه يقول كلاما أو يُحدِث أحداثاً يظن بها الناس والعدو أيضاً أنه سيذهب إلى جهة المشرق مثلاً لكنه في الحقيقة هو يريد جهة أخرى، وهذا من حسن التخطيط في الحرب إلا في غزوة تبوك كان واضحاً فيها والسبب في ذلك بعد المشقة، ولعل هذا هو السبب أنه قال لفتاه أنا سأذهب مكان بعيد وربما لا أتوقف عنده سأستمر (أَوۡ أَمۡضِیَ حُقُبࣰا) حتى يكون هذا المصاحب له على علم أما أن يبقى معه أو يعتذر فهذا من حسن التصرف ومن حسن الأدب.

/ أيضاً جواز إتخاذ الخادم سواءً في سفره وحضر لمساعدته في بعض الأمور التي يحتاجها.

/ كذلك مما يمكن أن يؤخذ من هذه القصة: التواضع وهو أساس التعلّم، فإن موسى عليه الصلاة والسلام كان يتحدث مع خادمه الذي هو معه فتاه ويشركه في الرأي ويبين له، وهذا من التواضع، وعلم أوتعلم بلا تواضع لا يمكن أن يصل به الإنسان إلى ما يشاء وما يريد.

/ أيضاً من الأشياء المهمة في التعلّم: الإصرار (أَوۡ أَمۡضِیَ حُقُبࣰا)، علم بدون إصرار لا يمكن أن يوصلك إلى شيء، لا تقل هذه المادة صعبة ، لا تقل هذه الجامعة صعبة ، لا تقل هذا الدرس طويل ، العلم يحتاج الى همة وصبر، والذي يبدأ الآن سنوات وقد خطى، وهؤلاء الناس العباقرة الذين ملأوا الدنيا في قديم الزمان وحديثه هم مثلنا خرجوا من أرحام أمهاتهم لا يعلمون شيئاً لكنهم تعلموا ، الفرق أن هؤلاء بذلوا أوقاتهم في القراءة والتعلم والبقية جعلوها في التنزه والذهاب والإياب فذهبت السنوات هنا وذهبت السنوات هنا.

/ أيضاً من الدلائل الموجودة هنا: أن الزيادة في التعلم إذا كان مفيداً فهو أولى من البقاء في التعليم ودليل ذلك أن موسى عليه السلام ترك قومه وهو يعلّمهم، هم يحتاجون إليه، تركهم ليطلب علماً زائداً على ما عنده، فيمكن للإنسان أن يترك مكانه الذي هو فيه لفترة من الزمن ليتعلم علماً إضافياً.

/ أيضاً من الفوائد: أن العلم الذي طلبه موسى عليه السلام علم يؤدي إلى الرشد ، والعلم الذي يؤدي إلى الرشد كل علم فيه خير ونفع للناس حتى ولو كان علماً في الإدارة، فالكثير من الأشياء التي ذُكرَت هنا فيها حسن الإدارة، حسن تدبر الأمور، حسن التصرف، فليس بالضرورة أن يكون العلم الذي تطلبه في شيء خاص، ولذلك أخذوا من هذا أن الفقيه المتخصص بالفقه إذا كان يحتاج علماً آخر حتى يؤيد به العلم الذي يعرفه فعليه أن يتعلم، لنفرض أنه فقيه لكنه ضعيف في اللغة أو في النحو لابد أن يتعلم هذا العلم من مختصين كما ذهب موسى عليه السلام وتعلم من غيره علماً لا يعرفه، وقد أكون أنا مختص في شيء ولكنني محتاج إلى الإقتصاد فأتعلم من الإقتصادي أو من السياسي أو من أي أحد، هذه العلوم يتعلمها الإنسان إذا كان محتاجاً إليها ويتعلمها من مختص ولو كان أقل منه قدراً أو منزلة، هذا ليس له علاقة، وليس بالضرورة أن أخذ من إنسان فوقي .. لا، ممكن تأخذ من إنسان مختص ومُلم بهذا العلم ولو كان أدنى منك علماً أو منزلة أو عمراً، فليس له علاقة بهذا الأمر المهم أن تأخذه من مختص.

/ كذلك الله سبحانه وتعالى نسب النسيان إليهم جميعاً قال : (فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَیۡنِهِمَا نَسِیَا) والحقيقة- أن الذي نسي واحد، الذي نسي هو الغلام لكن قال لأن الأمر مشترك بينهما ولأن الأمر مهم ولأنهما قد تقاسما الرحلة فنسيان واحد كنسيان الإثنين، أو لأن النسيان المقصود هنا جاء من جهتين مختلفتين فالمراد أن موسى عليه السلام نسي أن يسأل غلامه عن السمكة، والغلام نسي أن يخبره أنها خرجت، فالنسيان حصل من الإثنين لكن بطريقة مختلفة.

/ أيضاً أخذوا من هذا: جواز أن يتحدث الإنسان عن بعض ما يصيبه من المرض أو النصب أو غيره إذا كان ليس على سبيل التسخط، فإن موسى عليه السلام شكى لغلامه أننا أصابنا نصب وتعب وجوع، وهذا أمراً عادياً عندما يتحدث الناس بالطريقة هذه وليس المقصود التسخط.

/ كذلك حسن الأدب حتى مع الخادم في قبول العذر وهذا أدب ضائع بين الناس ، الناس لايقبلون الأعذار وإذا قبله قال كلمة تسم بدن هذا الإنسان وظن أنه قبِل عذره ، الذي يقبل عذراً لا يضيف عليه شيئاً، هذا الغلام أخطأ في شيء مهم، موسى عليه السلام ترك قومه وسافر وذهب وحرّصه أنه إذا فقد هذا الحوت أن يخبره لأنها العلامة، أمر مهم ومع هذا نسي وقال : نسيت، هل نجد أنه عاتبه؟ أو قال له كلاماً؟ أبداً ، لأن هذا الموقف موقف صاحب لك في سفر وما فائدة العتاب؟ إذا وزنت الأمر ووجدت أن العتاب لا قيمة له ألغه تماماً. بعض الناس يقول لا أنا صريح، ليست الصراحة مطلوبة في كل شيء، مطلوب من الإنسان أن يكون حصيفاً كيف يقول ومن، وإلا الذي يريد  أن يلوم صاحبه على كل صغيرة وكبيرة فلن يبقى له صاحب أبداً ، ولذلك هنا قال: ( أَرَءَیۡتَ إِذۡ أَوَیۡنَاۤ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّی نَسِیتُ ٱلۡحُوتَ وَمَاۤ أَنسَىٰنِیهُ إِلَّا ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ عَجَبࣰا ) ما قال له شي، ( قَالَ ذَ ٰ⁠لِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِ )  بالعكس قال له كلمة أشعره فيها أنه فعل خيراً وهذا من حسن الأدب ، ويوسف عليه السلام لما عفى عن إخوته ما فعل شيئاً يذكّرهم بالماضي ( إِذۡ أَخۡرَجَنِی مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَاۤءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ ) هم ما لهم علاقة لا بالسجن ولا بغيره، ولم يقل لهم أخرجني من البئر لأن البئر له علاقة، ما ذكّرهم بأي شيء، هذا من حسن التصرف وحسن الأدب وحسن المنطق.

/ أيضاً من الملامح الموجودة في هذه السورة: أن أبرز صفتين يجب أن يتصف بهما المعلم هما العلم والرحمة ( عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا)، وأيضاً في ملمح آخر أن الرحمة تسبق العلم وهي ما نسميه اليوم التربية تسبق التعلم أو التعليم ، الرحمة وحسن التصرف، أخذ الأطفال أو المتعلمين بالرحمة هذا أولى من القسوة والشدة وغير ذلك.

/ جواز الإشتراط في التعلم : يجوز للمعلم أن يشترط على المتعلم اشتراطات معينة عليه أن يلتزم بها ومن لم يلتزم بها فهو في حلٍ منه لايوجد إشكال ، ضرورة بيان المعلم للمتعلم عنده شأن العلم الذي يعلمه إن كان صعباً وهذا المُتعلم من هذا النوع الذي تكلمنا لكم عنه سابقاً وهو لالذي سميناه التعليم بالتحدي، إذا كان المُتعلم راغباً فهذا النوع من الطلاب يجب أن يكون معه نوع من الصرامة والقوة لأن هذا الذي يزيده علماً وليس تسهيل الأمور له، أما بقية الناس فالأولى تسهيل الأمر لهم، لكن هنا بيّن له أن الأمر ليس سهلاً وأنه صعبٌ عليك ، فعليك أن تحضّر نفسك له، لكن أن يأتي طالب يريد أن يتعلم وهو راغب في التعلم وهو ليس مُجبراً على التعلم وأنا لا أبيّن له شدة الأمر وصعوبة المادة هذا ليس بصالح، لكن هذا لانقوله لعامة الطلاب ولكن نقوله للطالب الراغب القوي ترى هذه المادة تحتاج إلى جهد ومذاكرة وأيام وبحوث وأعمال حتى يُقبل عليه بقوة ولذلك بيّن له الخضر عليه الصلاة والسلام هذه القوة وأنه ليس سهلاً أن تصبرعليه.

/ كذلك ظهور عِظَم أخلاق الأنبياء في الدفاع عن حقوق الناس فإن موسى عليه السلام أول ما رأى شيئاً يتعلق بمصالح الناس وأذىً يتعلق بالناس دافع عنهم مباشرة وقال : ( أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا) مع أنه من الناس الذين سيغرقون، هو معهم ومع ذلك هو يتحدث عن الناس وهو لايعرف هؤلاء الناس ولا تربطه هم أي رابطة وليسوا بالضرورة أن يكونوا على دينه ومع هذا دافع عنهم لأنهم أناس، بشر، أرواح، فدافع عنهم وهذا العمل لا يصلح سيغرق الناس بسبب ذلك.

/ أيضاً حُسن قبول العذر وأيضاً حُسن عرض العذر إذا أخطأ الإنسان ولو كان منكِرا يقول أنا أخطأت وموسى عليه السلام رأى أنه لم يأخذ بالشرط فاعتذر وقال : ( لَا تُؤَاخِذۡنِی بِمَا نَسِیتُ) وهو نبي الله وهو من أولي العزم من الرسل اعتذر قال : أنا أخطأت لأنني فعلت هذا وهي نسياناً الأولى منه، وأيضاً حُسن قبول المُعلم فقد قبِل عذره أول مرة وأعطاه فرصة ثانية ، وأيضا لما جاءت الحادثة الثانية والقتل الذي حصل اعترض موسى عليه السلام لأنه رأى فيه إيذاء ولو كانت نفس واحدة، وقد وصف الثاني بالنُّكر ووصف الأول بالإمر، وقلنا إن النكر أعظم من الإمر مع أن الذين سيغرقون في السفينة أضعاف أضعاف هذا الشخص لكن السبب والفرق بينهما أن الحادثة الأولى الغرق فيها والموت فيها متوقع وليس واقع، وأما الحادثة الثانية فالموت والقتل فيها واقع وليس متوقع ، فدائماً حصول الأمر الواقع أشد من حصول الأمر المتوقع.

/ أيضاً من الأشياء التي ممكن نستفيدها من هذه الآيات أن الطفل دون البلوغ لا يُكتب عليه شيء وتبقى نفسه زكية ما يصيبها شيء ما يُحسَب عليه شيء، تُحسب له الحسنات ولا تُحسَب عليه السيئات.

/ جواز تغليظ القول قليلاً للإنسان إذا كرر الخطأ فإن الخضر لما كرر موسى عليه السلام الخطأ نفسه قال له : ( أَلَمۡ أَقُلۡ لَكَ) وزيادة كلمة (لَكَ) نوع من زيادة التأنيب له بهذا المجال ، هذا أيضاً يجوز بقدر معيّن ، قال : ( إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَیۡءِۭ بَعۡدَهَا ) أيضاً حُسن التصرف وحُسن الأدب فإن الذي حمل موسى عليه السلام مع رغبته الشديدة في التعلم، الذي حمله على كل هذا هو حُسن الأدب ، إذا هذا الرجل عذرني مرة  ومرتين فلا يحسُن أن أستمر معه هكذا في هذه الأخطاء. ( فَلَا تُصَـٰحِبۡنِی) ولم يقل فلا أصاحبك، بل أيضاً من حسن الأدب أنه جعل القرار له لا لموسى عليه السلام، إلى أن جاء إلى القرية وقلنا أنه فعل خير وليس فعل شر وربطنا لكم القضايا الثلاثة بحياة موسى عليه السلام يمكن في جلسة ماضية وقلنا أن ذِكر السفينة وقضية الغرق في السفينة تشبه بداية عمر موسى عليه الصلاة والسلام لما وُضع في اليم فأنقذه الله عز وجل فالذي أنقذك يا موسى لما وُضعت في اليم سيُنقذ هؤلاء حتى ولو خُرقت سفينتهم. ثم تمضي الأيام ويتعرض موسى عليه الصلاة والسلام لطلب نجدة رجل من بني إسرائيل فيدفع الرجل القبطي فيقتله موسى عليه الصلاة والسلام وقد قتله موسى عليه السلام أيضاً لمصلحة فلا تعترض ياموسى على قتل هذا الطفل لأنك قتلت نفساً لمصلحة أيضاً، وهذه لمصلحة أيضاً ، الثالثة : فعل خير فلا تعترض يا موسى  وتطلب مني أن أطلب أجراً على فعل خير فقد قدمت أنت من قبل عمل طيب وخيّر وهو السقيا للفتاتين دون أجر ، فهذا نوع من الربط  قد يكون واضحاً وسليماً وقد يكون هو نوع من الإستنتاج.
 بقية الحوادث أشرت إليها وبقية الفوائد أشرت إليها في لقائي معكم اليوم، أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق