الاثنين، 26 ديسمبر 2016

تفسير سورة التحريم -١- / د. رقية المحارب



 أحمد الله رب العالمين وأثني عليه الخير كله .
 آخر سورة التغابن من قول الله جل وعلا :{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وذكرنا فيما ذكرنا في آخرها (*) أنها نزلت في قوم - كما قال ابن عباس- : "هؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس -الذين قبلهم يعني - قد فقِهوا في الدين فهمُوا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }" فشرع الله ذلك والمغفرة والصفح عما مضى هو مطلب الإسلام فيمن انتهى الأمر فيه من العمل فيعطيهم الله سبحانه وتعالى الصفح والمغفرة والعفو ليُقدِموا فيما هم فيه من الخير لأن ما مضى مضى فما في اللوم فيه خير إلا لو كان ذلك على سبيل النصيحة لما يأتي.

 قال الله جل وعلا : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } فهذه الأموال وهذه الأولاد التي عندكم هي فتنة لكم، وقد أسلفت من قبل أن هذه السورة كان افتتاحها بقول الله جل وعلا : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } وقلنا أنها بفعل المضارع لأن ذلك إيذان أو إشعار بأن من لم يُسبّح الله جل وعلا أو من فُتِن في ماله أو في ولده عن عبادة الله جل وعلا فإن لله مِن السماوات والأرض ومن فيها من يسبح له والله غني عن تسبيحنا وعبادتنا، ما نحن إلا مخلوق ضعيف قصير العمر، يعني ما أعمارنا للجبال؟ ما أعمارنا للشجر؟ ما أعمارنا للبحر؟ ما أعمارنا للنجوم؟  تُعدّ لا شيء بالنسبة لتلك الكائنات التي تُسبّح الله سبحانه وتعالى.
 قال الله جل وعلا : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ } إذا علمتم ذلك فاتقوا الله ما استطعتم، أنتم مأمورون بتقوى الله جل وعلا وطاعته وعبادته فيما استطعتم وأطقتم لا فيما لا تُطيقون ولا تستطيعون وكان ذلك إيذان بأن ينظر الإنسان للمستقبل ولا ينظر للماضي، لو كان الماضي لو نظر الإنسان إليه أحدث فيه تغييراً كان أُمِر بالتغيير فيه ولكن بما أنه لا يستطيع أن يُحدث فيه تغيراً إذاً هو من غير مستطاعه ولذا قال الله جل وعلا : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وكذلك بالنسبة للأولاد والأموال يكون فيها ما لا يستطيع الإنسان فعله كمثل أولاده لا تستطيعين أنتِ أن تغيري في أولادك إلا ما آتاك الله جل وعلا من هداهم ومن طواعيتهم ، كذلك ما كان مِما أُمرتِ به ولا تستطيعين فعله كمثل ما أُمِرتِ فيه سواء صلاة أو صيام، كذلك للإنسان طاقة محددة الله جل وعلا أمركِ بالعبادة وِفق هذه الطاقة، والله جل وعلا لا شك لا يُكلف نفساً إلا وسعها، ما يكلفك الله جل وعلا أكثر من طاقتك إنما يكلفك الله جل وعلا بطاقتك فلذا يقول الله جل وعلا : { وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ } المأمورون به اسمعوا فيه وأطيعوا وأنفقوا من أموالكم خيراً لأنفسكم إن ما تنفقوه لأنفسكم لأن ما أنفقتموه يبقى وقد وعد الله جل وعلا على العطاء سبع مائة ضعف، الحسنة بعشر أمثالها ولكن العطاء في سبيل الله جل وعلا { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } فهذه النفقة يُضاعفها الله سبحانه وتعالى كما يشاء ولذلك قال الله جل وعلا :{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } والنفس لها شُح، فإذا وجد الإنسان رغبة في الإنفاق جاءه الشيطان يُضيّق عليه ويقول له : عندك أولاد عندك كذا سنونك القادمة لا تدري ماذا يحدث لك فيها فيأمره بالإمساك فإن أمسك أُمسِك عنه وإن أنفق أُنفِق عليه ، أنتم تلاحظون أنك ما تخرجين شيئاً إلا يهبك الله جل وعلا العِوض من جنسه ومن فوق جنسه.
/  وبعدها قال الله سبحانه وتعالى : {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } يعني أن هذا الذي تعطونه أو تنفقونه هو بمثابة القرض لله جل وعلا فمهما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه وعنده العِوض سبحانه وتعالى لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكم لا تعطون معدوم أو عديم إنما هذا الذي تُعطونه يملك السماوات والأرض ) فأنتِ الآن مدعوه لإقراض الله جل وعلا ، وإقراض الله جل وعلا يعني الإنفاق في سبيله ، الله ما يحتاج إلينا لكننا حينما ننفق لوجه، نعطي غيرنا لأجل الله جل وعلا فيكون ذلك بمثابة القرض لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يقرض غير ظلوم ولا عديم  - في رواية - ولاعدوم) يعني ما يظلم كذا أقرضتيه بل يعطيك فضلاً عن ذلك أضعافاً، و ( غير عديم ) يعني لا يعدم شيئاً بل عنده السماوات والأرض ومن فيها بل يُضاعفه لك عطاء أضعافاً كثيرة.
/ قال الله جل وعلا : { وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} يعني يشكر لكم، يشكر لكم معروفكم، يشكر لكم ما تقدمونه.
 قال : { حَلِيمٌ } يعني يجعل هذا العطاء صفحاً ومغفرة وستراً ويتجاوز به عن ذنوبكم ولذلك ثنى به قال : { شَكُورٌ حَلِيم ٌ} يعني يشكر لكم عطاءكم ويحلُم به عنكم.
 وأنا لي في ذلك معنى أقول ربما خفيٌّ لكنه يُوضِحه حديث في هذا المعنى وهو أن الذي يُنفق أو الذي يدفع ماله في المعروف أن الله جل وعلا يحلَم عليه من حيث ماذا ؟ من حيث أنه يُبارك له في عمره ويدفع عنه من البلاء ويحلَم عليه إذ عصى وأذنب وأخطأ فلا يعاقبه بذلك لأجل نفقته ولأجل بذله في سبيل الله.
 / قال جل وعلا : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيم } يعني الله سبحانه وتعالى هو { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } ولعل ذلك جاء بعد ذكر الله جل وعلا في هذه السورة أبواباً مما ينبغي أن يُراعى وكثيرٌ منه يحتاج إلى إصلاح للباطن، إصلاح للسر ولذلك قال الله جل وعلا : { عَالِمُ الْغَيْبِ }، وأيضاً في هذا ما يكون من العمل ظاهراً كالزكاة والصدقة والجهاد، وماهو ظاهر من صلوات الجماعة وصلوات الفرائض وإظهار دين الله جل وعلا فهذا شهادة ولذلك الله جل وعلا قال : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } فإن كانت لك أعمال سر فالله عالمها وإن كانت أعمال جهر فالله شاهدها والله سبحانه وتعالى على ذلك شهيد وهو العزيز الذي يُعز من أعز دينه وهو الحكيم الذي يعطي من ابتغى مرضاته يعطيه سبحانه وتعالى ، وهو حكيم في كل شؤون الناس وفي كل تقليبه للكون وأمره ونهيه وخبره وقدره فهو حكيم فيه سبحانه وتعالى. وبهذا نكون أنهينا سورة التغابن.
 أما سورة الطلاق فقد وقفت معكم ابنتي جزاها الله خير رغدة كردي ولعلكم إن شاء الله استمتعتم معها بتفسيرها لكن لي وقفة يسيرة  هذه السورة كنت أتمنى لو أفسرها كان لي وقفات فيها وسبق أني فسرتها عام 1405 هـ في مصلى كلية التربية وعندي تفسيري حتى الآن مسجل في ثلاثة أشرطة في ثلاث مجالس فيمكن أن ننتنفع به.
لي وقفة حول هذه السورة من جانب أنا لن أتكلم في التفسير لن أتكلم في تفسير السورة بمفرداتها ولكن سأتكلم عن مواطن - إن صح التعبير- أو أتكلم إجمالاً فقط :
 هذه السورة الحقيقة يسمونها سورة النساء الصغرى  - سورة الطلاق - يسمونها سورة النساء الصغرى وهذه السورة، طبعاً لن أتكلم قلت بتفسيرها بالدقة بالآيات المفردة ولكن ساعطي ملمح كان بودي أني أعطيه لكن لعلي نأخذ فيه ربع ساعة ثم نتناول سورة التحريم. هذه السورة سورة الطلاق يبين الله جل وعلا فيها أحكاما ويُفصِّل الحالات التي لم تُفصَّل في سورة البقرة ، سورة البقرة جاء فيها، وأيضاً لم تُفصَّل في سورة النساء وجاء في سورة النساء أيضاً كلام عن النساء وكلام عن مسائلهن.
 هذه السورة بُيّنت أحكام الطلاق وقُررت فيها حالات مختلفة وجاء ذكر مسألة الطلاق، وجاء ذِكر مسألة شؤون الأسرة، وتضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله جل وعلا وفق سنته قول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }. الكلام ليس عن هذا وإنما الكلام لمَ خاطب الله جل وعلا نبيه بصيغة الإفراد في هذه السورة وقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وخاطبه بقوله : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } وجاء الاستفتاح له بهذه السورة بذاتها وهي السورة التي ذُكِر فيها الأمر بالتقوى خمس مرات مع أن صلى الله عليه وسلم لم يكن الخطاب له لشخصه في حادثة عينية له ، ليس الحديث له لشخصه لقضية عينية له ذاته ولكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ لأمته والأمر جلل، أمر الطلاق أمر عظيم ، أمر خطير ولذلك جاء له سورة مفردة يعني ما جاء سورة النكاح - مثلاً - لكن جاء سورة الطلاق لأن الطلاق عظيم عند الله جل وعلا وأمره شديدٌ ولذلك سُميت هذه السورة بسورة الطلاق.
 قلنا بأنه جاء الأمر في سورة الطلاق خمس مرات ، إما تصريحاً أربع مرات وتلميحاً مرة ، وجاء ذكر الطلاق وذِكر التقوى معاً لأنه تذهب التقوى عند الطلاق يقول الله جل وعلا : { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ } وقت الطلاق كل إنسان يريد الإنسان الشيء لنفسه ويبدأ يُبرر ويُعلل ويدّعي وربما يكذب وربما يبهت وربما يتجاوز .. لماذا ؟ ليُبرر لنفسه تصرفه ، وأحياناً ليذهب ببعض ما أنفق أولتذهب هي ببعض ما أنفقت أو .. أو .. إلخ ، فيحدث في ذلك تجاوزات لا أقول في حق الغير فقط وإنما في حق النفس .. في حق الأولاد .. في حق الله جل وعلا وشرعه ودينه ولذلك جاء الأمر بالتقوى. وهذه المسألة كما ذكرت لكم إن النبي صلى الله عليه وسلم خُوطب فيها فقيل له : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } وكان الخطاب له صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه ناقل هذا الدين للناس ما علاقة أنه ناقل هذا الدين للناس ومبلِّغ هذا الدين للناس بخطابه ؟ ليدلك على أن مسألة الطلاق هي مسألة انهيار أسرة إلى النهاية، ما بعد الطلاق شيء فلذلك إذا انهارت هذه الأسرة هذا البناء الحقيقة هو محضن الإسلام ولذلك اعتنى الإسلام بالأسرة عناية عظيمة ، اعتنى بالمرأة .. اعتنى بالرجل .. اعتنى بالأولاد، ولا تجدين جانب مُهمَل أو مُغفَل في الأسرة من جانب الإسلام.
 الآن الذين يدّعون حقوق المرأة أو يدعون حقوق الطفل هم في الحقيقة لو نظرت إلى المؤتمرات ، إلى الاتفاقيات تنظر إلى جانب ربما يكون له ظلم في بعض المجتمعات فتحاول أن تدفع عنه الظلم فتُوجد قوانين تُورث ظلماً على طرف آخر لكن ربما ما يكون في نفس الآن، بعد عشر سنين بعد عشرين سنة بعد -مثلاً- قرن لكنه في النهاية ستختل الأسرة ويذهب التوازن ، الإسلام راعى الجميع إن جئت للمرأة وجدت أن الله جل وعلا يوصي بها ويقول للرجل : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } يعني يوصي الرجل بالمعاشرة بالمعروف ولو كرِه ، من الرجل الذي يستجيب لذلك؟ إلا رجل يتقي الله جل وعلا ولذلك جاءت الوصية بالتقوى.
 مَن الرجل الذي إذا طلق زوجته لا يخرجها من بيته ويبقيها في البيت ويكون بقاؤها في البيت حق لها - أنا قد تكلمت عن هذا - فلذلك هذه المسألة تحتاج إلى تقوى يتقي الله حتى لا يُخرج المرأة من بيتها ، تتقي الله هي حتى لا تخرج من بيتها لأن بقاءها في بيتها حق للرجل أيضاً من أي ناحية ؟ من ناحية أنه ربما يرغب في مراجعتها فإذا خرجت قطعت عليه الطريق، هو حق للأولاد لأنها إذا خرجت من البيت أو أخرجها من البيت تفرق الأولاد، فينبغي أو يجب أن يكون هذا الطلاق يجب أن يكون بين المرأة والرجل لا يطّلع عليه أحد إلا مُصلح حتى الأولاد لا يعرفون به مدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر لمن لم تحِض لمَ ؟ لأنها هي الفترة التي يمكن أن يتم فيها المراجعة . طبعاً هذا الكلام في حال الطلاق ليس في حال الخلع لأن الخلع من طرف المرأة ما تستطيع المرأة أن تبقى يعني لا ترغب المرأة بالخلع إلا إذا كانت لا يمكن أن تعيش فكّرت ودبّرت وكذا ثم إذا خرجت هنا تخرج مباشرة لا إشكال عليها الكلام في الطلاق. الحقيقة أن لا أريد أن أدخل في السورة تفصيلاً لكن تُذهَلين وأنت تقرئين هذه السورة وتجدين هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق لمَ ؟ لأن هذه المسألة ليست مسألة خاصة بتلك الأسرة هذه خاصة بالكون كله ، مسألة الطلاق خاصة بالأمة لأنه إذا تطلقت المرأة وانفصل الرجل ضاع الأولاد، بنى الرجل علاقات فاسدة، بَنَت المرأة علاقات فاسدة فسد المجتمع، الآن المجتمعات الغربية متفككة لمَ ؟ ونحن بدأنا نلحق بهذ التفكك لأننا أصبحنا نتبع خُطاهم ، أول ما كان عندنا هذا حتى لو وقع طلاق بسبب من الأسباب فإن هذا الطلاق أولاً يحتويه المجتمع من جانب آخر ، الآن لو سألت جدتك أو النساء الكبار تجدينها تزوجت عدة مرات فما كان الوضع مثل الآن ، الآن المرأة إذا طُلِّقَت قَلّ أن تتزوج ، أول إذا طُلقت تتزوج بعد إنتهاء العدة مباشرة فلا إشكال، فإذا القضية هذه قضية الطلاق قضية إنهدام أمة ، سيكون أيضاً هناك فساد في التربية سيكون هناك إنهيار في نفسيات الأولاد إلى غير ذلك. ومن أجل هذه الحماية لتلك الحدود وتلك القوانين الأسرية فإن هذه السورة على قصرها جاء فيها الأمر بالتقوى جاء فيها الأمر بالموعظة أو جاءت العِظة {ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } هل فكّر الرجل أن تلك المسألة ، أو فكرت المرأة أن تلك المسألة عِظة لها مربوطة بالتوحيد ومربوطة بالإيمان { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر } وقال : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ما قال فقد ظلم الله أو فقد ظلم الأمة { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } من أي ناحية ؟ من ناحيته هو في دنياه وظلم نفسه في آخرته لأنه سيحاسب على ذلك حساباً شديداً.
 وأيضاً جاء مع العِظة ومع الأمر بالتقوى جاء أيضاً إشهاد ذوي عدل قال : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } يعني هذه علاقة يجب أن لا تُفصَم يجب أن يساهم في عدم فصامها صاحب الأسرة صاحب هذه الوثيقة صاحب هذا العقد ، أن يُساهم فيها أو يأمر مثلاً { حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } أيضاً الناس الجمهور الشهود { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وليس أي إنسان وإنما ذوي عدل لازم ذوي عدل لازم يكونوا أصحاب عقل وتفكير ودماثة وخبرة حتى يكون ذلك.
 ثم أيضاً { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ } هذه مسألة خاصة ، هذه المسألة عظيمة عند الله جل وعلا ولذلك لا بد أن تقوم فيها الشهادة، بعض الناس الآن يقول لك : طلقت زوجتي ورجعتها وطلقها ورجعها ، ما تدري هذا جُرم - جريمة - هذا لا يجوز هذه لا تجوز والله جل وعلا قال : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } يعني على الطلاق وعلى النكاح وعلى الإرجاع { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَة لِلَّهِ } لله ليس لأحد ليس للزوجة، أن تشهد لله ليس لأحد، تجدين واحد مثلاً يريد أن يتزوج امرأة فيقول أنا مطلِق زوجتي فيذهب يُطلقها ويطلع صك طلاق ويُريهم صك الطلاق أنه مطلقها ثم يرجعها وهي المسكينة الضعيفة لا تدري عن شيء، هذا مجرم في حق نفسه وظلم نفسه تعدى حدود الله جل وعلا.
/  قال الله جل وعلا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } .. الآية  فالقصد أن هذه السورة التي حوت نظام الإسلام أو الإسلام هو نظام الأسرة البيت باعتباره مثابة وسكن في ظله تلتقي النفوس على المودة ، وفي كنفه الرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر، وكذا فيه تنبت الطفولة ينبت جيل الأمة القادم ، ويُصوِّر الله جل وعلا هذه الصورة أنها من آيات الله جل وعلا ، يعني الله جل وعلا يذكر ويتفضل بهذه السورة كآية من آيات الخَلق من آيات الكون، من آيات الرحمة، من آيات العطاء، من آيات الكرم الرباني على الناس ، على الخَلق قال : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةًۚ } كيف تفصِمها بهذا الفصام؟! إذاً النظر في هذه الحالة التي هي الحالة الأسرية بعين التراشق بالكلام والنظر إليها بعين الأنانية الحقيقة يفصم عُرى الإسلام من حيث لا يشعر. والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها في كل حالة من حالاتها وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات وفي هذا الحشد - مثلما قلت لكم - بالمؤثرات الظاهرة حولها سواء كانت مؤثرات داخلية أو خارجية أو كونية يدرك إدراكاً تاماً ضخامة هذا الشأن - الشأن الأسري - في النظام الإسلامي، فحينما تأتينا الأمم المتحدة - مثلاً - وتقول : نظام نحتاج إلى تغيير النظام ويضعون حقوق المرأة وحقوق الطفل ويأتون بقوانين هشة ، هؤلاء في الحقيقة يجنون على الكون ، على الكرة الأرضية كلها ، يجنون على المجتمعات من أولها لآخرها يجنون عليها لماذا ؟ لأنهم يفسدون قانون السماء ويُبدلونه بقانون الأرض ، قانون السماء الذي وضعه الخالق، يُفسدونه بقانون وضعه مخلوق - ولله المثل الأعلى - أنا لو أريد أن أضرب مثلاً وقلت لكم - ولله المثل الأعلى - لو أن عندك جهاز كمبيوتر وقال لك المُصنِّع له أن هذه البطارية يجب أن تُشحن بهذه الطريقة وجاء شخص مُستعمل وليس صانع قال لك لا..لا لا يهمك، توقلين الرأي رأي من ؟ رأي الصانع لأن الصانع هو الخبير،
الله جل وعلا إذا أعطاك قانون للكون ، قانون للأسرة ، قانون للمرأة ، قانون للطفل ، قانون للحاكم ، قانون للمحكوم فالله جل وعلا أعلم وأحكم سبحانه وتعالى ، فلذلك ينبغي أن يُنظر إلى هذه المسألة على أنها مسألة تتناغم مع النظام الإسلامي كاملاً ، وأنها ذات شأن عظيم ولذلك أُفردت بسورة كاملة وسُميت بهذا الاسم والله أعلم.
/ نتتقل لسورة التحريم ونسمع الآيات : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًاَ }.
 الحمد لله رب العالمين والصلاة على نبينا خير الأولين والآخرين وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين..
 هذه السورة تعطيك صورة البيت النبوي ، تعيشين فيها المشكلات الأُسرية التي تطرأ في البيوت لتعلمي أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم جاء الناس كفرد من أفراد هذا المجتمع مثله مثلهم من حيث جميع حياته يتزوج ويأكل ويشرب ويتخاصم مع زوجاته وعليه تبعات الأسرة الكاملة ومع ذلك يقوم بجهوده في تبليغه الله جل وعلا ، الله جل وعلا لا يريد أن يُنزل للناس مَلَكاً الله جل وعلا يريد للناس نبياً مثله مثلهم لمَ ؟ من أجل أن تقوم عليهم الحجة ، لو نزل عليهم مَلَك قالوا هذا ملَك ما نستطيع نفعل مثل ما يفعل الملك ، لكنه رسول مُرسل بآيات الله جل وعلا يُوحى إليه التشريع ولكنه لديه فيه من الصفات البشرية مثل ما في الناس، ولذلك جرى عليه ما جرى على الناس في أشياء كثيرة ، جرى عليه السحر ، وجرى عليه المرض ، وجرى عليه السقوط من دابته ، وعين وجاع ، وكل ما يصيب الناس يصيبه، وكذلك أيضاً جرى عليه السهو ، جرى عليه الطلاق ، طلق النبي صلى الله عليه وسلم امرأة التي استعاذت بالله منه فطلقها، ولكنه لم يمسها ، كذلك آلا من نسائه كذلك صار بينه وبين واحدة منهن صلح ، يعني جميع الحِراك الذي يمكن أن يقع أمثاله في الناس وقع للنبي صلى الله عليه وسلم لماذا ؟ قال : (إنما أنسى لأسُن) أو لأشرِّع ، فهي قضية التشريع.
 ولما { قَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } يعني المشركون يقولون : ليش يأتينا رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وما طلبهم؟ طلبوا أن يأتي ملَك والله جل وعلا قال في سورة الأنعام قال : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } فلابد أن يكون هذا الرسول مثله مثل من أُرسِل إليهم من حيث الطبيعة.
 جاءت هذه السورة لتصوّر لك هذا الواقع لتصوّر لك حِراك النساء بعضهن مع بعض ، أحاديث النساء بعضهن مع بعض ، الغيرة الطبيعية التي تقع بين النساء وبين بعضهن البعض ، لتوقفك هذه السورة على واقعية ، القرآن يحكي لكِ واقعية ، النصرانية تحكي لكِ مثالية، تحكي لكِ مثلاً روحية أشياء روحية ، ما تذكر لكِ الواقع أو الحال الذي يقع فيه الناس على سبيل التفصيل والأحكام بحيث يجد الناس عندهم في كل حياتهم يجدون أنموذجاً يحتذونه وأحكاماً رباينة نزلت فيهم ، نعم قد يكون هناك إزاء هذه الآيات أو هذه النصوص اختلاف مثلاً بين الفقهاء في هذه المسألة لكن رغم هذا الخلاف فإنه لا يتجاوز بُنية النص ومعنى النص ودلِالة النص التي نزل القرآن بلغة أصحابها ولذا فمن يُفسِّر القرآن يجب أن يكون عارفاً عالماً بالعربية ما يتجاوز عن العربية لأنها هي لغة القرآن.
 فماذا جاء في هذه الحالة ؟ ماذا جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم ؟ جرى له ما أخبرنا به المفسرون في هذه السورة.
/ قال الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم }
وقد جاء في ذكر سبب النزول ثلاثة أقوال:
 الأول : ما جاء عند البخاري رحمه الله تعالى في أن السبب في ذلك ما روته عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل - يعني يستطعمها - وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنوا من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس تقول عائشة : فغِرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت : أما والله لنحتالن له ، فقلت لسودة بنت زمعة : إنه سيدنوا منك فإذا دنى منك فقولي : أكلت مغافير؟ فإنه سيقول : لا فقولي له : ما هذه الريح التي أجد ؟ سيقول لكِ سقتني حفصة شربة عسل فقولي : جرست نحلُه العُرفط) طبعاً هذه حيلة عائشة رضي الله تعالى عنها وهي صغيرة ، والعرفط هذا نبات رائحته تشبه رائحة الخمر، وجرست يعني رشفت، والمغافير شجرٌ رائحته كريهة خبيثة له مثل الصمغ يخرج مثل الصمغ فيه رائحة كريهة ( قالت : فقولي جرست نحلُه العُرفُط وسأقول ذلك) أتفقن أنهن يقُلن (وقولي له أنت يا صفية ذلك)  تقول سودة : ( فو الله ماهو إلا أن قام على الباب فأردت أن أناديَه بما أمرتِني فَرَقاً منك ) يعني تخيلي سودة تخاف من عائشة، سودة امرأة كبيرة جليلة تخاف من عائشة رضي الله تعالى عنها وهي صغيرة لأنها شخصيتها كانت قوية ( فلما داغ إلى حفصة قالت له : يا رسول الله أنا أسقيك منه قال : لا حاجة لي فيه) قالت : تقول سودة والله لقد حرمناه تقول لعائشة : والله لقد حرمناه ، قالت لها : اسكتي) يعني فليكن لأنها طبعاً هذا من حب عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم وإلا ما كانت تغار عليه. الذين يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم أن محمدا تزوج عائشة وعائشة صغيرة وأن هذا ظلم لها أنها صغيرة تزوجت ، بالعكس هي كانت تحبه وكانت تغار عليه غيرة شديدة أكثر نسائه غيرة عائشة رضي الله تعالى عنها حتى أنها كسرت أربع مرات أطباق تأتي إلى بيتها بالأكل حين يكون عندها من جاراتها، كسرت طبق حفصة وزينب وأم سلمة وصفية كلما أرسلوا طعام ورسول الله عندها صلى الله عليه وسلم تكسره والنبي صلى الله عليه وسلم لا يُعاتبها لكن يُلزمها بالغرامة، الغرامة أن تُرجع صحن مثل صحنهم الذي كسرته قالت : (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يُوجد منه الريح) يعني هذا الذي تقول عائشة : (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد منه أن يوجد منه الريح -يعني الريح الخبيثة- ولهذا قلنا له أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء فلما قال : بل شربت عسلاً  قلنا : جرست نحلُه العُرفط أي رشفت نحله شجر العرفط الذي صمغه المغافير فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته. وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها أن زينب بنت جحش هي التي سقته العسل وأن عائشة وحفصة هما اللتا تواطآتا على النبي صلى الله عليه وسلم وتظاهرتا عليه والله أعلم .
ويروي ابن عباس عن عمر يقول : إنه كنت -ابن عباس تعرفون يبحث عن التفسير ومعرفة أسباب النزول وكذا- يقول : فكنت مكثت عاماً أريد أن أعلم من هما اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتظرت حتى كان يوم كنت مع عمر رضي الله عنه في مكة فلما وضأته - يعني صب عليه الماء تعرفون الإنسان أحياناً في وقت مثلاً ولاية الصغير أو الخادم أو كذا للكبير في شؤونه الخاصة يصبح عنده انبساط وتذهب بعض الهيبة التي في نفوس السائرين والآخرين فينطلقون بما في خواطرهم صح أو لا ؟ الآن إذا جاءتك خادمتك تضع لك حناء أوكذا طلعت كل اللي عندها لأنك أنتِ خلاص في وضعك الطبيعي، كذلك ابن عباس لما كان يصب الوضوء على عمر قال : من هما اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : حفصة وعائشة. فأخبره إذاً ليست سودة وإن كان هذا قد يقع في بعض الروايات لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأل ابن عباس عن من هما ما أجاب مباشرة قال :  "وا عجبا يا ابن عباس" يعني ماذا لك فيهم تسأل عن المبهمات، لا تسأل عن المبهمات لكن مع ذلك أخبره قال : عائشة وحفصة. والسبب في جهالة من هما المرأتان أن ذلك لا ينتشر في الجماعة المسلمة انتشاراً شديداً أو انتشاراً متداولاً لأن فيه نوع من الغض منهما ولذلك فإنهم كانوا يُبهمون الأسماء التي فيها تثريب أو عيب أو ذنب أو خطيئة يُخفون الأسماء فيقولون امرأتان ولا يذكرون بالنص. قال الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }.
والرأي الثاني في ذلك الرأي الثاني أو سبب النزول الذي ذكره المفسرون هنا أن مارية لما اُهديت للنبي صلى الله عليه وسلم، من أهداها؟ المقوقس ملك مصر فأهداها إليه صلى الله عليه وسلم فكان يطؤها وكانت جارية -مُلك يمين- فوطئها في بيت حفصة وكانت حفصة قد ذهبت إلى أبيها -كانت باتت عند أبيها- فجاءت على حين غرة والنبي صلى الله عليه وسلم عنده مارية في بيت حفصة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تخبري بذلك عائشة ) لأن عائشة شديدة الغيرة ليس من خوف منها وإنما خوف عليها وقالت لها.
 وفي هذا ينبغي للرجل أن يكون ستيرا بين نسائه لا يذهب إلى الأولى ويقول فعلت مع الثانية وذهبنا ورحنا وجينا وسوينا لأن هذا يثير الغيرة فهذا حق لهذه وهذا حق حتى لو يعني قد تكون الأولى تعرف أنه حق للثانية تعرف أنه حق كونك تتكلم فيه وتخبر به معنى ذلك أنك كأنك تُغيض امرأتك الأولى فلذلك هي تغار فلا تحرث غيرتها. فالنبي صلى الله عليه وسلم ما قال : ( لا تخبري عائشة ) من أجل خوف منها وهو الذي نُصر بالرعب من مسيرة شهر وإنما مراعاة لخاطرها ومشاعرها وهو مُشرِّع يقول للرجال : يا معشر الرجال من له أكثر من زوجة كل زوجة يدخل عليها يكون لها زوجاً وإذا خرج منها كأنه لا يعرفها عند زوجته الثانية حتى تستقر الحياة ولا تغار الأولى ولا الثانية ولا الثالثة وكل واحد يمشي في حال سبيله ، وهذه أمور مطلوبة والنبي صلى الله عليه وسلم يراعي عواطف الناس ومشاعر الناس وهو من أكثر الناس حساسية بالمشاعر والعواطف ولذلك كان عنده قدر كبير جداً من المواساة لأصحابه ولنسائه وللصغار والكبار.
/ قال الله جل وعلا : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } هل هو تحريم للعسل على نفسه ؟ أو هو تحريم المرأة ؟ لأنه قال : ( لا تخبري عائشة وهي حرام عليَّ ) يعني ماريا ( حرام علي أن أقربها ) هذه مارية في القصة الثانية في السبب الثاني قال : ( لا تخبريها وهي حرام عليَّ ) فحرّمها على نفسه فقال الله جل وعلا :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك }.
وقيل: إن ذلك نزل في أم شُريك وهي التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ثم حرّمها النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه وهذه رواية أسانيدها ضِعاف ولا يصح ذلك ولذلك نضرب عنها ولا نذكرها.
 أما الأول والثاني في قصة مارية وفي قصة عائشة رضي الله عنها فهما سببان مرويان صحيحان ورواية عائشة رضي الله تعالى عنها أصح وهي أيضاً أوجه في حمل هذا عليها مع أن الثانية أيضاً ربما يكون هذا حدث في الحالتين يعني تكرر ذلك له صلى الله عليه وسلم من نسائه فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول -هذا أقرب للنفس- أنه تكرر أنه حصل هذه القضية وحصلت هذه القضية معاً ويدل على ذلك الآيات وتفاصيل الآيات التي جاءت بعد ذلك في الآية الثالثة من هذه السورة فهذا -والله أعلم- صحيح وهذا -والله أعلم- صحيح ، وهذا حدث وهذا حدث، ولعله من أجل تكرره حدث من النبي صلى الله عليه وسلم ما علمتموه في السُنة وهو أنه غضب من نسائه واعتزل منهن شهراً في مشرُبة له لا يكلم أحداً ولا أحد يكلمه.
 وقد جاء في ذلك حديثٌ طويل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعني في قصة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال ابن عباس رضي الله عنه : "كنا معشر قريش قوماً  -طيب- اذكر لكم رواية الإمام أحمد عن ابن عباس قال : (لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حجّ عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة - يعني خرج لحاجته والإداوة يعني إناء من جلد يضع فيه الماء - فتبرز ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين : من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فقال عمر : وا عجباً لك يا ابن عباس -قال الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه- قال : هي عائشة وحفصة قال : ثم أخذ يسوق الحديث قائلاً : ( كنا معشر قريش - هذا عمر - قوماً نغلِب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم - يعني أهل المدينة أهل مكة رجالهم أقوى على النساء وأهل المدينة نساؤهم أقوى على الرجال وهذه طبائع البشر يعني هذه طبائع مختلفة بحسب البيئات - فطفق نساؤها يتعلمن من نسائهن - يعني نساء المهاجرين يتعلمن من نساء الأنصار - قال : وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي فغضبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني - ما تعوّد امرأته ترد عليه الكلام - فقالت : ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل - تعرفون النساء يتناقلون الكلام ويخبرون بينهم البعض ولو نساء النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون مع بعض ويسولفون تعرفون حديث أم زرع يعني النساء يتحدثن مع بعض بدواخلهم وخصائصهم ويتوسعون في هذا - قالت : وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، قال : فانطلقت فدخلت على حفصة ) طبعاً يعني راح يعلم بنته ما تعمل هذا غلط بالنسبة لها خطأ أن المرأة تراجع زوجها وترد عليه - فمن عند النبي صلى الله عليه وسلم من زوجاته ؟ عنده عائشة بنت أبي بكر وعنده حفصة بنت عمر يعني هو النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أول واحدة من ؟ خديجة ، ثاني واحدة سودة ، ثالث واحدة عائشة ولم يدخل بها، رابع واحدة حفصة رضي الله تعالى عنها في السنة الثانية .. إلى غير ذلك.
 المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني ما ودي أطول في سرد قصة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المهم نُحصِّل حفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما ( قال : فانطلقت فدخلت على حفصة وقلت أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم - أخبرَته قالت نعم ، حفصة حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها اثنين وعشرين سنة يعني ليس مثل عائشة - قالت: نعم، قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت: نعم قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت، لا تراجعِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً وسأليني من مالي ما بدا لكِ - تريدين أن تسألي مال .. شيء اسأليني من مالي أنا - ولا يغُرّنّك أن كانت جارتك هي أوسم - يعني عائشة أجمل - وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكِ - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار - هذا من يقول ؟ عمر - وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً يعني يجلس في مجلس الحديث في المسجد يوماً يسمع الحديث ويسمع العظة ويسمع الأخبار وكذا فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك في اليوم التالي قال : وكنا نتحدث أن غسان تُنعِل لتغزونا - تنعل الخيل يعني تصلح أخفاف الخيل وتضع فيه الحذوات وكذا من أجل أن تستعد لغزو المسلمين - قال : فنزل صاحبي يوماً ثم أتى عشاء فضرب بابي - طبعاً ليست عادة العرب أنهم يأتون في العشاء إلا لأمر ينوبهم أمر شديد - قال : فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم فقلت : وماذا أجاءت غسان؟ - يعني جاءنا حرب؟ - قال : لا بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فقلت : قد خابت حفصة وخسرت  قد كنت أظن هذا كائن - أنا كنت أنصحها وأعلمها - قال: قد كنت أظن هذا كائن حتى إذا صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت : لا أدري - ما سمعت كلمة الطلاق لكنها تعلم أنه غضب منهن - قالت : لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة - المشربة مثل ما تقول بلكونة دكة عالية قليلاً لها درج تكون قرب البيت - قالت : وهذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاما له أسود فقلت استأذن لعمر فدخل الغلام ثم خرج إليَّ فقال : ذكرتُك له فصمت - يعني ما أذِن لك - فانطلقت حتى أتيته في المنبر فإذ عنده رهط جلوس يأتي بعضهم يعني المدينة كلها ضجت بهذه الحادثة تعاطفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست عنده قليلاً ثم غلبني ما أجد - يقول جسلت عند المنبر الناس في المسجد لا يستطيعون يتحركون ولا يباشرون أعمالهم ولا يعملون شيئاً لأن هذا أمر جلّ - قال ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال قد ذكرتك له فصمت فخرجت ثم جلست إلى المنبر فغلبني ما أجد - المرة الثالثة - فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فوليت مدبراً فإذا الغلام يدعوني يقول : ادخل قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير - رمال التي هي الحبال حبال حصير- وقد أثر في جنبه فقلت : أطلقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال : لا ، فقلت : الله أكبر - فرح رضي الله تعالى عنه- قال : فقلت الله أكبر ولو رأيتنا يارسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء - يُبرر له يعني ترى كل النساء كذا - قال : ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء فلما قدمنا إلى المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساءهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليُراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي قد هلكت، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني سَرّى عنه لأنه وجد أن العملية مشتركة هذا يحدث في كل البيوت - فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنّك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منكِ فتبسم أخرى فقلت : أستأنس يارسول الله؟ - يعني أكمل وأجلس يعني أستأنس آخذ راحتي؟ - قال : نعم ، فجلستُ فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت شيئاً في البيت يرد البصر- يعني لا أثاث لا ستاير لا فرشة لا متكئا - فوالله ما رأيت في البيت شيئاً يردُّ البصر إلا أُهُب - أهب يعني جلود - إلا أُهُب مُقامة فقلت : ادعوا الله يا رسول الله أن يُوسِّع على أمتك فقد وسِّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، كان النبي متكئا فجلس - استوى جالسا - قال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ -أفي شك أن الله معنا ونحن على التوحيد- قال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت : استغفر لي يا رسول الله ، وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله جل وعلا) هذه القصة التي تحكي الحال الذي ما كان من حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
 قال أهل العلم في هذه المسألة : إذا حرّم الإنسان شيئاً فإنه يقوم مقام اليمين فإن التحريم يمين.
 وقيل: إن ذلك لا يكون إلا في الزوجة ولهم في ذلك خلاف ربما الدخول فيه يطول بالمسألة ولكن المقصود أنهم استدلوا بذلك أن التحريم يؤول يميناً لأن الله جل وعلا قال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } ثم قال : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم } فسمّى ذلك التحريم يميناً واحتجوا بذلك عليه.
/ قال : { تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } يعني أنت حرمت على نفسك أشياء ابتغاء رضى أزواجك وهذا لا ينبغي أن يكون وأن لا تُحرِّم على نفسك إلا ما حرّمه الله عليك ومن أجل ذلك فينبغي للإنسان أو يُكره للإنسان أن يحرِّم على نفسه شيئاً من أجل مرضاة أحد يمتنع منه دون تحريم، وعليه أيضاً ألاّ يُحرم شيئاً من أجل ريجيم أو لأجل شيء من الأشياء يعني ما تقول حرام علي الحلا أو حرام علي الدُهن أو حرام عليَّ كذا حتى أنحف أو حتى يصير وزني كذا، احبسي نفسك لكن من دون تحريم لأن الله جل وعلا قال : { تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } وإذا كان الإنسان يُنهى عن التحريم لأجل مرضاة أحد فكذلك لا يُرضي نفسه في هذا الجانب منه ويُحرِّم ما أحل الله له وإذا حرّم مقامه مقام اليمين ويُكره اليمين تحريماً من أجل حرمان النفس من شيء.
قال الله جل وعلا : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم } يعني يغفر ما كان وما مضى من شأنك إلى ما تستقبل وفق أمر الله جل وعلا.
/ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم } يعني قد شرع الله لكم تحِلة أيمانكم بما جاء في تحِلة الأيمان وهي أن يُكفِّر عن يمينه بـ { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } على الخيار { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الإثنين الذي هو مُخير فيهم {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } بعض الناس يصوم ثلاثة أيام مباشرة هذا لا ينبغي له أو لا يجوز له لأنه انتقل من الدرجة الثانية من الخيار على الخيار الأول وهو قادر عليه فالذي يترك يمينه عليه أولاً أن يُكفِّر بإطعام عشرة مساكين فإن كان لا يجد إطعام عشرة مساكين طبعاً تحرير الرقبة هذا غير موجود في زماننا الحاضر -فيما نعلم- إلا أشياء نادرة قد لا تتأتى للإنسان، فالخيار الثاني الذي هو الدرجة الثانية درجة { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم } الله جل وعلا يقول :{ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم } يعني ليس الواحد على الطالع والنازل يحلف والله ما آكل هذا والله ما أقوم والله ما أقعد والله ما تقومين، الله جل وعلا يقول : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم} { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } فيحفظ الإنسان نفسه عن اليمين ولو كان لا يحلف إلا على شيء يكون عاقد فيه اليمين حقا.
 لغو اليمين ليس هذا النوع تقول لك : والله رحنا وجينا والله ما أدري كيف حالنا كذا "والله" تأتي عرضاً هذه لغو اليمين ، أما إذا جاءت واحدة تسلم عليك تقولين : والله ما تقومين ثم تقولين لغو يمين هذا ليس لغو يمين هذا فيه كفارة، أما لغو اليمين أقول لك أنتِ يا فلانة جوعانة تقولي : لا والله لست جوعانة هذا لغو اليمين.
 { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم } الله جل وعلا يقول : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاس} اتقوا الله في الأيمان هذه لا تحلفوا إلا على شيء يستحق الحلف، تجعلون الله عرضة لأيمانكم بالساهل تحلفون، أما ما درج عليه اللسان [لا والله ، وبلى والله ] تقول لك تشعرين بالحر؟ تقولين: لا والله لا أشعر بالحر، هذه لغو اليمين التي ما فيها قصد يمين ، ما فيها منع لا تعنين فيها المنع أما اليمين الذي تعنين فيه المنع أو تريدين به منعاً هذا يُعدّ يمين ، لو وضعت "إن شاء الله" لا تُعد يمين ليس عليك كفارة أما إن لم تضعي "إن شاء الله" فلا .. عليك كفارة ، فإن كان الإيمان من جنس واحد يعني ثلاثة أيمان أربعة أيمان في شيء واحد فعليه كفارة واحدة وإن تعدد تعددت الكفارات.
 قال الله جل وعلا : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } يعني شرع لكم { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ } يتولاكم سبحانه وتعالى باللتشريع والنصيحة والموعظة والتدبير والعز والولاية كاملة { وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } يعلم ما يصلح لكم وما لا يصلح ويدبركم عليه ويشرعه لكم.
/ يقول الله جل وعلا : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْض } روى الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم ولده مارية فوجدته حفصة معها وكانت حفصة غائبة في بيت أبيها وقالت له : تدخلها بيتي ما صنعت هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة فهي عليَّ حرام إن قربتها، قالت حفصة : وكيف تحرُم عليك وهي جاريتك فحلف أن لا يقربها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تذكريه لأحد ، فذكرته لعائشة ) طبعاً حفصة وعائشة كانوا من حزب واحد ، نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن حزبين حزب عائشة وحزب أم سلمة ، حزب عائشة معها حفصة ومعها سودة ومعها صفية ، حزب أم سلمة معها زينب ومعها أم حبيبة ومعها جويرية ، فهؤلاء حزب وهؤلاء حزب ويحصل بينهم خلاف ونقاش وكلام ويكسرون صحون بعض، يعني مثل ما يحدث عند الناس فهذا الجو الأسري موجود عند النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ( قالت : قال عمر فذكرته لعائشة فآلا ألاّ يدخل على نسائه شهراً فاعتزلهن تسعة وعشرين ليلة فأنزل الله عز وجل { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك }) وهذه الرواية هي والأولى سببان للنزول صحيحان.
/ قال الله جل وعلا :{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا } يعني نبأها قال لها : أنت أخبرتي ، قالت له من نبأك هذا ؟ { قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } ثم قال لها : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } يعني إن تتوبا إلى الله فإنكن حين تتبن إلى الله جل وعلا يتوب الله عليكن وقد صلُحت قلوبكن وقد أعطاكن الله سبحانه وتعالى من نبيه وبيّن لكم ما جعلكم ترجعون إليه سبحانه وتعالى، وهذا الخطاب {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } الخطاب لعائشة وحفصة أي { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ } وُجِد منكما ما يُوجب التوبة إليه.
 ومعنى { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } قد يكون معناه إن قلبيكما قد دخلهما ما لا ينبغي أن يكون فظلمتما الآخرين في حقوقهن، فهن بغيرتهن هذه ألجأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يحلف ويَحرِّم نفسه ويُحرّم من لا ذنب لها في هذا ولذلك قال : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } يعني عدلت عن الحق وهو أنكما أحببتما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو التآمر عليه وإفشاء حديثه.
 وقيل المعنى { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } آلت قلوبكما إلى التوبة ، وهذا أقرب في نظري إلى المعنى.
 { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } - كما ذكرت - الأول يعني قد قاربت قلوبكما للتوبة لما ظهر عنكما من الخير والبِر والإحسان والصلاح الصلاة والصيام والتقرب إلى الله جل وعلا فهذا هو الذي تميل قلوبكم إليه من المواساة والتبشير في حضن العتاب واللوم. وهذا قلت لكم أنه أقرب لنفسي وأميل إليه وله دلالة أيضاً من النص حيث قال الله جل وعلا : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْه } وكأنما الثاني خلاف الأول { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ } { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْه } يعني إن تتظاهرا بحذف إحدى التائين وقرأها عكرمة تتظاهرا على الأصل وقرأها الحسن وأبو رجاء ونافع.
 قال : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْه } يعني المقصود بالتظاهر هنا التعاون والاتفاق عليه في الغيرة والاتفاق في المكيدة بحيث قالا جميعاً : إذا جاءك فقولي أكلت مغافير ، فهذا معنى هذا الأمر. وأرى -والله أعلم- أن الحديث الذي ذكر معهما ثالثة أنه يخالف النص لأن النص نزل فيهما بالمُثنّى فلذا أقول الحديث الذي يذكر عائشة وحفصة هو الذي يُوافق ظاهر القرآن.
/ قال الله جل وعلا : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ } يعني الله جل وعلا مولاه يتولى أمره ويُشرِّع له ويعطيه .
{ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } يتولى نصره وكذلك يتولى نصره جبريل وأيضاً يناصره من صلُح من عباده المؤمنين فلن يعدم ناصراً ينصره وفوق ذلك { وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ } ينصرونه بعد نصر الله ونصر جبريل وصالح المؤمنين فهم أعوان له يظاهرونه ويعينونه.
/ ثم قال الله جل وعلا : { عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًاَ } وهذه الآية مما وافق فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القرآن أو ما وافق القرآن عمر في قوله لحفصة : إن طلقكن يبدله خيراً منكن. وقد جاء ذكر المسائل التي وافق فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القرآن وعدّها بعضهم سبعاً ، وعدّها بعضهم عشراً، وعدّها بعضهم أربعة عشر، وعدّها بعضهم واحد وعشرين، فعدّوا منها ما قاله عمر رضي الله تعالى عنه.
 أخرج ابن عساكر عن علي قال : إن في القرآن لرأيا من رأي عمر.
 وأخرج عن ابن عمر مرفوعاً : ما قال الناس شيئا وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر.
 وأخرج الشيخان عن عمر يقول : وافقت ربي في ثلاث: قلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّىۖ }، وقلت يا رسول الله : يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب ، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت : { عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } فنزلت كذلك.
 وهذا لا يعني أن عمر لم يُوافِق إلا في ثلاث وإنما ذكر ثلاثاً على سبيل ما كان يذكر أو ما كان يريد أن يستدل على موافقته لا أنه لم يذكر سوى ذلك لأنه أخرج مسلم عنه رضي الله تعالى عنه قال : وافقت ربي في ثلاث في الحجاب ، وفي أسرى بدر ، وهذه زادت رابعة ، وفي مقام إبراهيم ففي هذا الحديث ذكرنا رابعة،  وفي التهذيب للنووي نزل القرآن بموافقته في أسرى بدر، وفي الحجاب وفي مقام إبراهيم ، وفي تحريم الخمر ، فزاد خصلة خامسة. وهذا الحديث أو حديث تحريم الخمر في السنن المستدرك للحاكم أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تحريمها.
 وجاء أيضاً عن أنس قال : قال عمر رضي الله تعالى عنه قال : وافقت ربي في أربع نزلت هذه الآية { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } - هذه السادسة - فلما نزلت قلت أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }.
وجاء أيضاً لأبي عبد الله الشيباني قال : وافق عمر ربه في أحد وعشرين موضعاً فذكر هذه الستة وزاد سابعاً قصة عبد الله بن أُبيّ وحديثها في الصحيح قال : ( لما توفي عبد الله بن أبي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه فقُمت حتى وقفت في صدره فقلت : يا رسول الله أو على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا وكذا؟ - يعني تصلي عليه وهو القائل كذا- قال : فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت { وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } وثامنها { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ } وتاسعاً { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } قال هما مع آية المائدة خصلة واحدة هذه كلها خصلة واحدة ، والعاشرة في الاستغفار قال : سواء عليه فأنزل تعالى { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وغير ذلك أيضاً في استشارة الصحابة - في قصة الإفك - قال عمر : من زوجكها يا رسول الله؟ قال : الله ، قال : أفتظن أن ربك دلس عليك فيها سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت كذلك ، الثالث عشر: قصته في الصيام لما جامع زوجته بعد انتباه وكان ذلك مُحرم في أول الإسلام فنزل { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ } وهذا أخرجه الإمام أحمد. يطول الأمر بها، المهم واحد وعشرين مسألة ذكرها أهل العلم فيما وافق فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القرآن أو وافقه القرآن فيه.
 قوله : { يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} يعني خيراً منكن إذ أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم في خيار النبي صلى الله عليه وسلم لهن ما منهن بكر إلا واحدة ، وما منهن شابة إلا قليل ، يعني لو قلنا عائشة وحفصة وجويرية هؤلاء الشباب والباقي كبيرات في عُرف العرب آنذاك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج منهن بكراً -كما قلت- إلا عائشة رضي الله تعالى عنها.
 نكمل إن شاء الله الأسبوع القادم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق