الأربعاء، 21 سبتمبر 2016

تفسير سورة هود (٧- ٢٤) / الأترجة

د. ناصر بن محمد الماجد


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد..
 كنا في المجلس السابق أشرنا إلى ما تضمنته السورة من موضوعات وإلى موضوعها الرئيس الذي تدور عليه وهو ذكر حال الأمم المكذبة لرسل الله وكيف كان مصيرها وجزاؤه، كيف أنجى الله المؤمنين وعذب الكافرين وتوقفنا عند قول الله عزوجل:
 (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [سورة هود ٧]  حيث أخبر عز وجل عما صدر من أولئك المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعن موقفهم من دعوته عليه الصلاة والسلام، وأشهر القضايا التى تناولتها آيات القرآن الكريم من موقف المكذبين لنبي الله عزوجل شكّهم في نبوته وتكذيبهم أو إشراكهم مع الله عزوجل في العبادة وشكّهم في البعث ، هذه ثلاث قضايا أساسية يدور عليها موقف كفار مكة ، شكهم في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وشكّهم في البعث، وإشراكهم مع الله عز وجل، وهنا أشار إلى شكّهم في البعث بعد الموت حيث قال عز وجل (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) .
/ ثم قال عز وجل (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [سورة هود ٨] هؤلاء لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة ما يدعو إليه وتوعّدهم بالعذاب إن هم كذبوه، أصبحوا يشككون في صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن العذاب لم ينزل بهم فقال عز وجل (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) يعني أجلنا العذاب وأخرناه (إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) إلى زمن محدود معين (لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ) ما الذي يحبس هذا العذاب الذي توعّدتنا به لِم لم ينزل بنا، فردّ الله عليهم قولهم فقال (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) بمعنى أنه ليس المهم متى سيأتي هذا العذاب فهو آت وكما قالت العرب <كل آتٍ قريب> مادام أنه سيأتي فهو قريب وإن تأخّر لكن المهم ما الذي أعددتموه لهذا ، كيف ستسلمون منه وتنجون منه ولذلك قال (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) إن أتى اليوم أو بعد سنة أو بعد مائة سنة ما الذي ستفعلونه إذا نزل بكم؟ هذا هو الذي يجب أن يسأل الإنسان نفسه ، ما الذي سيدفع به عذاب الله ، ما الذي سيقابل به الله عز وجل بعد موته ، ليس متى يُبعث أو متى تقوم الساعة فإن هذا لا فائدة منه في عمله بل المهم ما الذي أعددته له ، ولذلك لما جاء رجل إلى النبيّ قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ تسأل سؤال لا فائدة منه، إن علِمت أن الساعة اليوم أو بعد مائة سنة لا كبير فائدة ولذلك صرفه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المقصود والحكمة قال:  (ما أعددت لها؟) هذا هو المهم الذي يجب على المكلّف أن يعيه ولهذا قال (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
/ قوله (وَحَاقَ بِهِمْ) الحوق: الإحاطة، وفيها معنى الإحاطة مع الإحكام (وَحَاقَ بِهِمْ) يعني أحاط بهم إحاطة مُحكمة لا يسلم أحد منهم (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وتأملوا التعبير بصيغة الماضي فقال (وَحَاقَ بِهِمْ) مع أنه لم ينزل بهم بعد أليس كذلك، وهذا التعبير بصيغة الماضي مما يدلنا على أنه لم يقع أنه قال (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) هذا معناه انه لم يأتِ بعد فكيف يقول (وَحَاقَ بِهِمْ) فكيف يُعبر بصيغة الماضي لأمر لم يقع ؟ للتحقيق.
وهذا كثير في القرآن الكريم أن يُعبّر بصيغة الماضي لأمر لم يقع من باب التحقق لوقوعه والتأكيد عليه وكأنه من شدة الثقة بوقوعه كأنه قد وقع، مثل قوله عز وجل (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة النحل ١] يعني يقول أتى مع أنه لم يأتِ بعد بقرينة قوله (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) إذاً التعبير بصيغة الماضي لتأكد وتحقق الوقوع.
ثم قال عز وجل (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) نلحظ في القرآن الكريم كثيرا ما يأتي ذكر قضية الاستهزاء وأن المستهزئ يؤخذ على حين غِرة  وغفلة، وهذا من عادة الله عز وجل ودأبه في المكذبين أن ينالهم عذابه أشد ما يكونوا أمنا، حينما يأمنون أمنا تاما من مكر الله عز وجل وعقوبته بهم يأتيهم عذابه ويحِل بهم.
/ ثم قال عز وجل (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) [سورة هود ٩] 
هذه الآيات تشير إلى طبيعة الإنسان إلى الطبيعة التي رُكِّب عليها وأجملها قول الله عز وجل (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [سورة المعارج ١٩ - ٢١] إن أصابه ضر يجزع ويتأفف ويسخط ، طيب إذا أصابته النِّعمة هل يشكر؟ كلا، بل يمنع ويبخل ولا يؤدي حق الله فهنا ربنا يقول  (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ) الإنسان مقصود به جنس الإنسان المؤمن والكافر ، ويختلف بحسب حاله، فالمؤمن لاشك أن إيمانه يمنعه من كثير مما يقع فيه الكافر، لكن المقصود جنس الإنسان ، على أن بعض المفسرين قال:  المراد بالإنسان هنا الإنسان الكافر، لكن هذه طبيعة موجودة ومغروسة في الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم.
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) الرحمة هنا جاءت بصيغة النكرة للعموم، أي أنواع الرحمة، رحمة في رزقه.. رحمة في بدنه .. رحمة في عمله ، في أي أنواع الرحمات (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) يصيبه اليأس والقنوط والجزع ويظن أن الدنيا انتهت وأنه لم يبقَ له في هذه الدنيا خير ويكفُر بالله عز وجل، يكفُر نِعم الله عز وجل، يكفر النِعم السابقة والنِعم التي يعيشها، لأن لا يوجد إنسان في هذه الدنيا إلا وهو في نعمة من نِعم الله ، أبدا .. مهما نزلت به من المصائب فإنه لا يخلو من نعمة من نِعم الله عز وجل  ولهذا قال الله عز وجل (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ ) وتأمل (وَلَئِنْ أَذَقْنَا) من الذي أعطاك هذه الرحمة ؟ الله، فهو صاحب الرحمة والنعمة ثم هو الذي نزعها منك فلم تيأس ولِم تكفر؟ هو الذي أعطاك وهو الذي أخذ، ولذلك في الأثر (إن لله ما أعطى وإن لله ما أخذ) فهو يعطي وهو الذي يأخذ.
/ ثم قال عز وجل (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) الآن أُنعِم ثم رُفعت عنه النعمة ثم أُنعِم عليه بعد هذه الضراء التي مسته
 (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) خلاص يبدأ يستبشر ويظن أن الدنيا كلها أصبحت نعيم وأصبح كل شيء أمامه أخضر (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [سورة هود ١٠]  يعني كثير الفرح .. كثير الفخر، هذا النوع من الفرح نوع مذموم، أما مبدأ أن الإنسان يفرح بنعمة الله عز وجل فهذا طيب (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس:٥٨] لكن الفرح المقصود هنا الذي يُوقِع الإنسان في البطر والأشر وعدم مراعاة حق الله في تلك النِعم هو المذموم ولذلك قال ( ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) هذه الصفة الإنسانية في الناس كثيرة موجودة قلّ من يخلو منها لكن الله عز وجل في الآية الكريمة يبين لنا ما هي الصفات التي تجعل الإنسان يتعامل مع نِعم الله إن أُعطيَها بشكر وحمد وإن سُلبَها بصبر وحمد لله عز وجل على ما أصابه قال: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [سورة هود ١١] فذكر الله عز وجل وصفين يعصِم الإنسان من هذا الخُلق الذي عليه كثير من الناس:
/ الوصف الأول والخُلق الأول: الصبر .
/ الثاني: عمل الصالحات.
وهذا الحقيقة ربط دقيق فيما يعين على الشُّكر وترك الكفر، إذا استعمل الإنسان الصبر في حالة البلاء فإنه يحمد الله عز وجل ، وإذا استعمله في حالة النعماء فإنه يشكر الله عز وجل ويعمل فيها بالصالحات، ولذلك إذا رأيت الرجل يُبتلى ثم تجده صابرا يُكثر من عمل الصالحات فاعلم أنه على خير، وكذلك إذا أُنعِم على الإنسان وأُعطي من الدنيا فتجده صابرا لا يطغى بل تجده يُكثر من أعمال الصالحات والحسنات فاعلم أنه مُوفق واعلم أنه ممن تشمله هذه الآية انظر ماذا يقول الله عز وجل (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) .
وتأملوا قوله (مغفرة) بصيغة النكرة للدلالة على العِظم، مغفرة لا يقدُر قدرها إلا الله عز وجل (أُولَٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
الأجر: هو ثواب العمل أو هو الجزاء على الأعمال يُسمى أجرا، وقد وصفه الله بالكِبَر والعِظم لأنه عطاء الله عز وجل ولا أعظم ولا أكبر من عطائه عز وجل.
/ ثم قال عز وجل (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ۚ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [سورة هود ١] 
انظر ملحظ التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، التثبيت له عليه الصلاة والسلام فيما يواجهه من قومه، يقول الله عز وجل (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ) هذا التعبير والتركيب فيه معنى التحذير كأن تقول لإنسان لعلك أن تفعل هذا، لعلك أن تترك هذا ، لعلك تتأخر عن أداء الواجب، فأنت تُحذِّره من أن يقع فيه وليس تسأله أو تستفهم هل ستتأخر أم تفعل هذا الأمر؟ لا يُراد به السؤال وإنما يُراد به التحذير ، وهنا قال عز وجل (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) من طبائع وعادات المكذبين لرسل الله التمسك بالنواحي المادية .. الحسية -بالدنيا- فهم لا يرون الخير إلا في المال الذي يُعطى للإنسان ، إلا في كثرة المال ، كثرة الخير ، كثرة ما يُعطى من هذه الدنيا ، بقدر ما يُؤتى من الدنيا يكون له مقام ومنزلة عندهم ولهذا كانوا دائماً يعترضون على النبي ويطلبون منه أن يكون له كنوز وأن يكون له أنهار وبساتين ونحو ذلك مما ليس له علاقة بطبيعة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بطبيعة مهمته، فالله أرسله لمهمة محددة وهي البلاغ للناس وهذا من جهلهم بحقيقة النبوة أن يشترطوا على النبي هذه الشروط التي ذكرها الله عنهم حيث قالوا لولا أنزل عليه كنز من السماء أو جاء معه ملك يشهد أنه من الله.
ما الرد الذي جاء عليهم ؟ قال عز وجل (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) هذه هي مهمتك ليست مهمتك أن تأتي بالكنوز ولا أن تأتي بالملائكة، ما كلّفك الله بهذا إنما كلّفك بشيء محدد هي الإنذار ، والنبي ليس منذرا فقط بل هو مُنذر ومُبشر لكنه اقتصر على الإنذار لِم ؟ لأنه المناسب لحالة هؤلاء، الكافر المناسب لحاله إذا كان كافراً معرضاً صادّا عن سبيل الله المناسب لحاله أن يُنذر ويُخوف، لكن المُقبل على الشيء الراغب فيه يُبشّر بأجر إيمانه وثوابه.
/ (وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فالله هو الوكيل عليهم ولست أنت بوكيل عليهم.
س: مالمراد بالآية ؟
جـ: لعلك تارك بعض ما أوحاه إليك الله عز وجل وهذا على سبيل التحذير يعني لا تترك شيئاً مما أوحاه الله إليك ومما أمرك ببلاغه مهما كان ، وهذا الإشارة إلى (تَارِكٌ بَعْضَ) لا تدع من أجل هؤلاء أي شيء أمرك الله به وأوحاه إليك، فهو تحذير له من أي شيء دون تحديد صورة من صور الترك، مهما أوحى الله إليك ومهما أمرك الله عز وجل ببلاغه فلا تترك منه شيئا من أجل هؤلاء المكذبين.
وأنتم تعلمون أن مما كان المشركون يدعُون النبي إليه كثيرا أن يخُصّهم بمجالس خاصّة بهم وألا يختلطوا مع ضعفاء المسلمين وفقرائهم، فنهاه الله عز وجل عن ذلك مع أنه قد يظن الظان أن هذا لا بأس به في البداية لأجل مصلحة الدعوة إلى الله عز وجل ، لكن هؤلاء الذي حملهم عليه الكِبر والعُجب بأنفسهم والإنسان لا يُقرّ على هذا ولا يُتابعون عليه.
/  قوله عز وجل (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) فيه إشارة إلى شدة معاناة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الصدّ الذي لقيه من أولئك الكفار، الصدّ الذي لا مُوجب له ، حينما تكون أنت تأتي للناس تأمرهم بالخير وتنهاهم عن الشر ، الخير لهم والشر عليهم لا يلحقك أي ضرر وأنت مع هذا ناصح مُحب مُشفق عليهم وفوق ذلك ليس لك أي مكسب من هذا الأمر والنهي والتحذير، في مقابل هذا كله تجد منهم شدة الإعراض شدة التكذيب ووصفك بأبشع الأوصاف ماذا سيكون حالك؟ ما الذي ستكون عليه حالتك النفسية؟ لاشك أن هذا يؤثر في نفس الإنسان لأنه ما يطلب شيء منهم ولا يقصد منهم أي نوع من أنواع النفع والخير ولهذا تصوُّر الإنسان لهذا المعنى يجعله يفهم لماذا أنزل الله عز وجل على نبيه هذه الآيات (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) .
/ ثم قال عز وجل ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ )  "أم" هذه للإضراب، انتقال من الكلام الذى قبلها إلى الكلام الذي بعدها وهو ذِكر لأنواع طلباتهم وأنواع تعسفهم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، مرة يقولون لولا أُنزل عليه كنز، مرة يقولون لو جاء معه ملك ، مرة يقولون له إنك ساحر .. إنك شاعر ومرة يقولون إنه افتراه، هنا ذكر نوعاً من قولهم حيث قال عز وجل ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) بل أيقول أؤلئك المشركون المكذبون لدعوتك إنك قد افتريت هذا القرآن ، والافتراء أشدّ الكذب، فهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد افترى هذا القرآن.
وانظروا إلى هذا المنطق العقلي في جدال أولئك المكذبين حيث جاء الرد عليهم غاية في السهولة لكن غاية في الإفحام حيث قال عز وجل ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ) يعني إن كنت قد افتريته كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، إذا كنت أنا افتريت كل هذا الكتاب وأنا واحد منكم فأتوا أنتم مجتمعين بعشر سور مثله، وهذا منهج عقلي منطقي لا يمكن لعاقل أن يشك فيه ، إذا كان شخص واحد استطاع أن يأتي بهذا القرآن كله - على زعمهم- فلتأتوا أنتم كلكم مجتمعين فقط بعشر سور دون تحديد لهذه العشر ، فتحداهم الله عز وجل أن يأتوا بشيء من القرآن الكريم ، وقد وجدنا في كتاب الله عز وجل أن الله تحدى المشركين أن يأتوا بمثل القرآن الكريم في سُور عدة وأشكال متنوعة، فتحداهم أن يأتوا بسورة، تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن فلم يستطيعوا، تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا ، ثم تحداهم بسورة واحدة دون تعيين لهذه السورة ، أي سورة ولو كانت أقصر سورة مثل سورة الكوثر أن يأتوا بمثلها وهم أهل الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بها مجتمعين أو مفترقين ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:٨٨] وهذا التحدي مفظع لهم الحقيقة ومع ذلك لم نجد من مشركي العرب أي محاولة، ما حفِظ لنا التاريخ ولا السيرة أي محاولة من المشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، يعني ألا كان يكفي في رد دعوة النبي وبيان زعمهم أن يأتوا بمثل سورة واحدة من سور القران ، ما استطاعوا، اللهم إلا ما يُروى عن مسيلمة الكذاب وهو كما وصف كذاب وأضحك الناس منه على أن بعض أهل العلم يرى أن ما يُنسب إلى مسيلمة هذا أنه لم يقله أصلا لأن أي إنسان يتكلم اللغة العربية الفصيحة من أهل اللسان يعرف أنه ليس باستطاعته أن يأتي بمثل القرآن الكريم.
/ في قوله عز وجل (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فيه تحديد - الحقيقة هذا ملفت مهم يحسُن التأكيد عليه - فيه تحديد لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم ومهمة كل داعية إلى الله عز وجل ، ليس مهمة النبي صلى الله عليه وسلم ولا الدعاة السائرون على طريقه أن يحملوا الناس كرها على قبول الإيمان والانقياد إليه ، ليس هذا من مهمتهم ولم يكلفهم الله به ولم يرسلهم ويبتعثهم بها، بل مهمتهم الجدّ في تبليغ دعوة الله عز وجل، أما أثر ذلك في الناس قبولهم وانقيادهم فالله لا يسألك عن ذلك ولست محاسب عليه ولذلك قال (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) فقط وأمرهم إلى الله ولذلك جاء في الحديث الصحيح قال (يأتي النبي - يوم القيامة - يأتي النبي ومعه الرُهيط - يعني مجموعة من الناس - والنبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرجل - يعني ما آمن به إلا رجل واحد - والنبي وليس معه أحد) ما آمن به أحد أبداً، إذا كان النبي المُرسل من الله المؤيد بالوحي والأدلة ما آمن به أحد فما عداه من الناس من الدعاة والمصلحين ليس غريباً ألا يصدقهم أحد أو ألا يتبعهم أحد.
وقوله عز وجل (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) تحدي الحقيقة مفظع المشركين أن يجتمعوا كلهم وأن يدعوا كل من استطاعوا من الإنس والجن ومع ذلك فشلوا ولهذا قال عز وجل ( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) لهذا التحدي (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) ولاشك أن هذا دليل قاطع في صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به وما أُوحي إليه ولهذا بنى عليه هذه النتيجة قال  (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) ومعنى "مسلمون" هنا يعني مُنقادون مستسلمون لله عز وجل.
/ ثم قال بعد ذلك: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
قوله عز وجل (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) يعني من كان يقصد بعمله وسعيه الحياة الدنيا، لا قصد لهم ولا همّ إلا الدنيا (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) من كان يقصد بعمله الدنيا واجتهد وسعى فيها فإنه يُوفى إليه عمله، والتوفية: إعطاء الشيء وافيا لا نقص فيه.
وتأملوا - سبحان الله - هذه الآية العظيمة يقول عز وجل الذي يريد يعمل لهذه الدنيا وقصده الدنيا فقط وليس شيئاً آخر وسعى فإننا نعطيه من الدنيا بقدر سعيه، يوفى قدر سعيه ، سعى سعيا عظيما يُعطى عطاء عظيماً ، سعيا قليلاً يُعطى عطاء قليلاً حتى لو كان أكفر خلق الله. وهذا الحقيقة يجب أن نفقهه، هذا من فِقه سُنن الله عز وجل أن حتى الكافر والكاذب والمشرك إذا سعى في الدنيا يُعطى قدر سعيه ولذلك نجد أن أمم الكفر اليوم قد أُعطوا وفُتحت لهم الدنيا بسبب ماذا؟ سعيهم في هذه الدنيا فأُعطوا على قدر سعيهم ، بل ربنا عز وجل قال  (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ) يعني يُعطى عطاء تاما لا نقص فيه، وهذا نبني عليه فائدة أخرى وهي أن الدنيا أصلا لا تساوي عند الله شيئًا ولذلك يعطيها أي أحد ، إذا سعى الإنسان فيها يُعطى ، لكن الآخرة ليست إلا لمن أحب عز وجل ولذلك قال  (وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) يعني لا يُنقصون ، إذا سعى واجتهد في الصناعات وفي الإنتاج وفي العمل وفي خدمة دنياه فإنَّه يُعطى، وإن قصّر يُنقَص بقدر نقصه، وهذا من الموازين المهمة التي يجب أن نضعها أمام أعيننا ونحن نعمل في هذه الدنيا بحيث نفقه سُنن الله عز وجل في خلق الإنسان وسعيه في الدنيا أو ما يُسمى بالسُنن الاجتماعية التي تقوم عليها حياة البشر.
 / ثم قال عز وجل (أُولَٰئِكَالذين ليس همهم إلا الدنيا (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) لِم؟ لأنه لم يقصد بسعيه إلا الدنيا فليس له في الآخرة إلا النار ، (وَحَبِطَ) الحبوط: بطلان الشيء وذهابه لكن لفظ "حبِط" لا يكون إلا لشيء يُظن صلاحه، لفظ "حبط" ما يُطلق إلا لشيء يُظن صلاحه، بمعنى أن هؤلاء الذين عملوا في الدنيا أعمالا وأنتجوا إنتاجا عظيما هذه يظنونها صلاحا لكن في الآخرة تحبط هذه الأعمال لا يصبح لها أي قيمة (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) ما أصبح له قيمة في الآخرة، (وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) والباطل الذاهب .. الزائل، إذا حبط عملهم وأيضا بطُل ، وهذا مبالغة في تأكيد أن من كان قصده بعمله الدنيا أنه لا ينتفع ولا يفيده ذلك عند الله عز وجل.
/ ثم قال بعد ذلك : (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ۚ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ۚ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) الحقيقة أن هذه الآية الكريمة أو أولها من الآيات التي تُعدّ في ضمن الآيات المُشكِلة في القرآن الكريم على كثير من أهل العلم – على المفسرين – ولذلك إذا نظرت إلى كلام المفسرين حول هذه الآية - خصوصا أولها - تجد بينهم خلاف كبير جدا وواسع حتى عدّ بعضهم أكثر من عشرة أقوال في معنى الآية الكريمة وسبب ذلك ما فيها من الإجمال لأن الآية جاءت مُجملة، وكثرة الضمائر فيها حيث يقول عز وجل (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً) فوقع بين أهل العلم إشكال واسع في مقصود الآية الكريمة ، طبعا ضيق الوقت يمنعنا من تفصيل أقوال أهل العلم في معنى هذه الآية لكن يمكن أن يُقال أن أحسن ما حُملت عليه هذه الآية أن يُقال  (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ) والبيّنة هنا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الدين والحق الذي أُنزل عليه وذلك حال المؤمن أنه في بيّنة ووضوح من هذا الدِّين لا يشكّ فيه، بيّنة من الإسلام وشرائعه ، بيّنة من القرآن الكريم وما تضمنه من أحكام وأوامر .
 (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) يعني يتلو هذه البيّنة ، التلاوة هنا بمعنى الاتباع ، ويتبع هذه البيّنة (شَاهِدٌ مِّنْهُ) شاهد من ذات القرآن الكريم على صحة تلك البيّنة ، إذا عند المؤمن بيّنة بما جاء به هذا الدِّين دلالة على أنه حق، (وَيَتْلُوهُ) يتلو يتبع ذلك دليل آخر وحجة أُخرى وهي القرآن بذات القرآن ، هو شاهد على صحة ما يعتقده المسلم.
(وَمِن قَبْلِهِ) يعني من قبل هذا الشاهد، من قبل القرآن الكريم (كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً) .
فأصبح عند المؤمن ثلاثة أمور تشهد له بصحة ما هو عليه وهذا من أحسن ما تُحمل عليه الآية :
/ أولا : الدين الذي عليه بما جاء به من أوامر ونواهي وأحكام.
/ ثم القرآن بذاته دال على أنه من عند الله.
/ ثم أيضا الكتب السابقة السماوية تشهد بصحة هذا الدين .
إذا (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً) 
(كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً) يعني قائدا يقتدي به أتباعه الذين آمنوا بموسى عليه السلام ، وهو إمام لهم ورحمة لهم.
 (أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني من كان يتبِع موسى حقا وما جاء به يؤمنون بهذا القرآن الكريم.
ثم قال (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ) يعني يكفر بالقرآن الكريم (مِنَ الْأَحْزَابِ) الأحزاب جمع حِزب، والحِزب ما يجتمع عليه الناس والمقصود به كل من لم يكن مؤمنا من المشركين ومن اليهود والنصارى، كل هؤلاء يُسمون الأحزاب لأنهم تحزبوا وتجمعوا ضد الإسلام.
(وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ  فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ۚ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ) المِرية هي: الشك والتردد، (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ) يعني لا تكن في شك وتردد مما أنزل الله عليك ومما أوحى إليك.
 (إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) لماذا لا تكون في مرية، لماذا لا تكون في شك، لأن هذا القرآن حق من الله عز وجل ،  (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) يعني أن أكثر الناس حالهم مع هذا القرآن الكريم ومع هذا الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس لا يؤمنون، وهذا صحيح فإن أكثر أهل الأرض لم يؤمنوا ولذلك يقول عز وجل (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ).
/ فائدة بنى عليها أهل العلم عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، يستدلون بقوله عز وجل (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ  فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) الأحزاب كما ذكرنا اليهود والنصارى والمشركون، قال (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ) يعني من يُكذِّب ويكفر بالقرآن فلا مصير له إلا النار إذا معناه أن رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم رسالة عامة للناس جميعا حتى اليهود والنصارى ، وهذا قد قامت من الكتاب والسنة الأدلة عليه وأجمع على ذلك أهل الإسلام يقول عز وجل (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:٨٥].
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بعد أن بيّن حقيقة القرآن وإيمان أهل الكتاب الصادقين به بيّن حال الذين كذّبوا به قال (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) يعني لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، والافتراء: الكذب، الافتراء المقصود به الاختلاق وهو أشدّ أنواع الكذِب، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ ) هؤلاء الذين كذبوا على الله (يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ) يوم القيامة وهذا العرض عرض محاسبة وجزاء على أعمالهم.
(وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ) جاء في معنى الأشهاد أنهم الأنبياء وفي معنى الأشهاد أنهم الملائكة ، والحقيقة أن الأشهاد كل من يشهد عليهم لأن الأشهاد جمع شاهد وهو الحاضر، شهد الأمر يعني حضر الأمر. وقد يكون الأشهاد جمع شهيد وهو المُخبر عن الشيء، تقول وقعت تلك الحادثة ويشهد عليها فلان لأن فلان قد حضرها، فهذا يدل على العموم من الأنبياء والملائكة والمؤمنون ، وهذا ثبت فيما جاء في حديث الشفاعة أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام - هذه الأمة - تشهد للأنبياء جميعا بالبلاغ نسأل الله عز وجل أن نكون وإياكم ممن يشهد لأنبياء الله بالبلاغ وعلى الأمم أنهم قد بُلِّغوا.
(وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وهذا فيه دلالة على جواز لعن الظالمين عموما دون تعيين لأحد بعينه إلا من مات منهم على ظلمه فيجوز لعنه. هؤلاء الظالمين ماهي صفاتهم ؟ قال عز وجل (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) وهذا أعظم وأشدّ الظلم الصدّ عن سبيل الله، لا يكفي فقط أنهم كفروا ، لا.. بل صدوا الناس عن سبيل الله يعني طريق الله.
 (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) الابتغاء: الطلب، يعني يطلبون هذه الطريق - طريق الله عز وجل سبيل الله - يبغونها أي شيء؟ عِوجا مائلة، وسبحان الله دعاة أبواب جهنم ليس فقط أنهم ضلوا عن سبيل الله بل يريدون إضلال الناس، مرة بمنعهم إن ملكوا القوة والقدرة، ومرة بالتلاعب بدين الله عز وجل وتحريفه وهؤلاء هم الأئمة المُضلون دعاة على أبواب جهنم ، وطريق المؤمن بالله عز وجل مملؤ بهؤلاء الدعاة من الأئمة المُضلين فيتلاعبون بدين الله ويتلاعبون بشرعه ويتلاعبون بأحكامه ويحملونه على غير ما أمر الله ورسوله وربما يلبسون - كما قال عليه الصلاة والسلام - يلبسون مُسوح الضأن على قلوب الذئاب ليُضلوا المؤمنين عن دين الله وسبيله.
هؤلاء يقول الله عز وجل عنهم (أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) يعني لايفوتون الله، أعجزك الشيء يعني فاتك ، فهم لا يُعجزون الله يعني لا يفوتونه، ومهما تقلبوا في الأرض وذهبوا.
( وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) الولي هو: الناصر ، ليس لهم من الله عز وجل ينصرهم ويكفيهم عقوبة الله عز وجل عليهم.
ثم قال عز وجل (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) لماذا يُضاعف؟ بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله.
 (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) نفى عنهم السمع والبصر لِم مع أنهم يسمعون؟ لعدم الانتفاع ، وكل من لم ينتفع بالنعمة التي بين يديه فكأنه لم يُعطها ، ولذلك نفى الله عن المشركين السمع والبصر لأنهم ما انتفعوا بها كالأعمى.
/ ثم قال عز وجل ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ) أولا بالكفر وصد الناس (وَضَلَّ عَنْهُم) يعني ذهب عنهم (مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فذهب عنهم ما كانوا يزعمون من الأولياء والأعوان ومن يشفع لهم.    
 / ثم قال عز وجل (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (لَا جَرَمَ) لاشك ، (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لماذا هم الأخسرون؟ لأنهم خسروا أنفسهم وخسروا كل ما عندهم من النّعم التي أنعم الله عز وجل بها عليهم.
/ في مقابل هؤلاء يقول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
/ ثم ختم الآيات فقال ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) هل يستوي الأعمى والبصير؟ هل يستوي الذي يسمع والذي لا يسمع ؟ وهذا والله حال المؤمن والكافر، وإن كان الكافر أسمع الناس وإن كان أبصر الناس فإنه أعمى، والمؤمن لو كان لا يُبصِر ولا يسمع فهو يسمع ويُبصر بنور الله وهداية الله عز وجل .
نقف عند هذا. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.                                           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق