الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

تفسير المفصل -٢-/ د. محمد بن علي الشنقيطي / سورة الشمس


الحمد لله الخالق العظيم العلي الكريم الحي القيوم الذي لاتأخذه سنة ولا نوم له مافي السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى يعلم مافي أنفسنا ولا نعلم مافي نفسه وهو علاّم الغيوب وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو ويعلم مافي البر والبحر وما تسقط
من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، أحمده جل جلاله على نعمة إنزال القرآن، وعلى نعمة الهداية للإيمان، وعلى نعمة خلق هذا الإنسان، وعلى نعمة خلق هذه الأكوان، وعلى جميع نِعمه ما ظهر منها وما بطن، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } وأصلي وأسلم وأبارك على سيد الأنبياء وإمامهم محمد بن عبدال له صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ثم أما بعد..
 معاشر المسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وحياكم الله في روضة من رياض الجنة تغشاكم فيها الرحمة -بإذن الله- وتنزِل عليكم فيها السكينة وتحفُّكم الملائكة ويذكركم الله جل وعلا في الملأ الأعلى عنده ويُقال لكم بعد تمام الدرس -بإذن الله- قوموا مغفوراً لكم وقد بُدلت سيئاتكم حسنات كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ثم يُقال لهم قوموا مغفوراً لكم وقد بُّدلَت سيئاتكم حسنات) .
هذه السورة هي سورة الشمس وتسمى سورة والشمس، وسمّاها بعض المفسرين بالآية الأولى { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } فمن أطلق عليها الشمس فإنها بمناسبة افتتاحها بالقسم بالشمس، ولكن هناك أيضاً سورة أخرى ذكر الله جل وعلا فيها الشمس { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتُ } فكان من الأنسب أن تُعرّف هذه السورة بالآية الأولى منها وهي قول الله { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } هذه السورة فيها أحد عشر قسماً كما قال ابن عباس وتعداد أو تكرار القسم يدل على أهمية المُقسَم عليه وأهمية المقسَم به وأهمية المقسَم له وأهمية الموضوع فالمُقسِم هو رب العالمين جل جلاله كما ذكرت يوم أمس أن الله جل وعلا كلامه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وصِدقٌ ولا يحتاج أن يقسم، لكن القسَم هنا ليس لتصديق الكلام لأن الكلام صدق { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } لكن الفائدة منه:
 أولاً : جرياً على سياق أهل اللغة العربية إذا كان الأمر مهما أكدوه بالقسم، وأيضاً لبيان أهمية المُقسم به، فهذه الأشياء التي أقسم الله بها لها أهميتها.
 والأمر الأخر: لبيان أهمية المُقسَم له وهو هذا الإنسان فهو ذو مكانة عظيمة في هذا الكون بل منزلة الإنسان في الكون كمنزلة القلب في الجسم، فهذا الجسم كله بأطرافه وأعضائه سيده القلب فإذا صلُح القلب صلُح الجسد كله، كذلك هذا الكون سيده هذا الانسان فإذا صلُح فإذا صلح الانسان صلُح الكون كله من حوله، وإذا فسد الانسان فسد الكون كله من حوله لذلك كانت علامة قيام الساعة فساد الإنسان في الكون، فإذا فسدت البشرية ولم يبقَ فيهم من يقول الله عندئذ ينتهي هذا الكون ويعمُّه الخراب والفساد فأما السماء فتتشقق وأما الأرض فتتزلزل وأما الجبال فتدك دكاً وأما البحار فتُسَجّر وتُقلب نارا إلى غير ذلك من أحداث الساعة التي سببها الأول فساد هذا الإنسان، لذلك قال النبي صلى الله وعليه وسلم في حديث الساعة قال في ما يعنى الحديث : ( إذا أراد الله قيام الساعة أرسل ريحاً طيبة تدخل تحت أباط الصالحين فتقبض أرواحهم فإذا لم يبقى في الأرض أحد من الصالحين أذِن الله بقيام الساعة ) فعلى الكفار تقوم الساعة أما المؤمنون فلا يشهدون من أشراط الساعة الكبرى إلا ما ذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أما الأشراط الحقيقية للساعة فالمؤمنون يموتون قبلها التي يحصل فيها تغيير في هذا الكون .
 السورة اُفتتحت بقول الله تعالى : { وَالشَّمْسُ } وهذه السورة كما ذكرت هي مكية كلها ولا خلاف في ذلك وعدد آياتها خمسة عشر آية وفيها أحد عشر قسماً وقيل سبعة أقسام.
 وموضوعات السورة ثلاث:
الموضوع الأول : أهمية هذه الأشياء التي أقسم الله جل وعلا بها
الموضوع الثاني : أهمية النفس البشرية التي أقسم الله جل وعلا بهذه الاشياء كلها على موضوعها إن زكت وصلحت أفلحت وإن دُنِّست بالذنوب والمعاصي خسرت وخابت
 وأما الموضوع الثالث فهو : النموذج الذي ذكره الله للبشرية عندما تفسُد ماذا يَحُلُ بها وقد ذكر أُنموذجاً قريباً من الجزيرة أو في الجزيرة العربية قريباً منا وهو موضع أو موضوع قصة ثمود أصحاب الناقة.
افتتح الله جل وعلا السورة بقوله : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }
الشمسُ : هي مركز الضياء والنور في هذا الكون، وهي آية النهار وقد ذكرها الله جل وعلا في القرآن أكثر من مائتين وخمسة وعشرين مرة. هذه الشمس آية وفيها أيضاً آيات حسية ظاهرة ومعنوية مُستنبطة .
فمن الآيات الحسية الظاهرة أنها تذكرة فالشمس خُلقت لتُذكر الناس بالآخرة ولذلك ذكّر الله جل وعلا بذلك في قصة المنافقين الذين قالوا لأصحابهم وأقوامهم : { لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَر * قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا } ذلكم الحر كان حر الشمس وما نبّهت عليه الآية هو حرُ نارِ جهنم حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ربط الحرارة الحادثة في الدنيا من الشمس بأنها أصلا نَفَسٌ لجهنم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اشتد الحر فأبرِدوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ) وفصَّل ذلك بقوله : ( قالت النار لربها أو استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً فأذن لي فأذن لها بنَفَسين نََفس في الشتاء هو شدة ما تجدون من البرد ونَفَس في الصيف هو شدة ماتجدون من الحر ) . فهذه الشمس آية تدل على شدة عذاب النار.
 وهذه الشمس أيضا أية تدل على ضعف هذا الإنسان وعدم قدرته وإدراكه على شيءٍ من العلم إلا قليل، فلو خرجت من هذا المسجد هل تستطيع أن تنظر بعينيك المجردتين إلى الشمس نَظَراً دقيقاً من غير أن ينقلب البصر إليك خاسئاً؟ فإذا كنت لا تستطيع إدراك الشمس بمجرد البصر فكيف تدرك خالق الشمس جل جلاله!! فهذا مخلوق ضعيف بسيط لا تستطيع النظر إليه والتأمل فيه من غير وسيلة فكيف بالخالق جل جلاله وهذه آية أخرى .
أيضاً هنا ذكر الله الشمس وأقسم بها مطلقاً ثم خصص وقتاً وهو الضحى فقال : { وَضُحَاهَا } وقد ذكرت يوم أمس كل شيء أقسم الله به فهو ذو مكانة عند الله وذو منزلة وذو فائدة، إذاً الشمس مخلوق عظيم له فوائد كبيرة على الناس من فوائدها أن هذه الحياة على هذا الكوكب مربوطة بالشمس فهذه الشمس لو غابت عن الناس لانقطعت الحياة لأن هذا الكون يحتاج الإنسان فيه إلى مستوى من الحرارة ذلكم المستوى تُحدِثه أشعة الشمس فإذا توقفت أو غابت أو كُسِفت زادت نسبة البرودة فتجمد الكون كله ولو ارتفعت عن مدارها التي هي عليه لتجمد الكون كله ولو اقتربت سنتيمترات لاحترق الكون كله، هي كتلة تزِن الأرض أكثر من خمسمائة مليون مرة هذه التي ترونها، هذه الشمس هي مركز لهذه المجرة التي نحن فيها والمجموعة تُضاف لها كلها فالقمر عاكس لضوءها وهذا النور -وسنأتيه- الأرض تدور نحو نفسها ونحو الشمس إلى غير ذلك .
تركيز أو ذكر القرآن للضحى { وَضُحَاهَا } ونسبة الضحى للشمس فيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن أهم أوقات النهار وقت الضحى وهذا الوقت هو وقت يغفل الناس فيه عن ذكر الله يبدأون فيه بأعمال دنياهم، صاحب التجارة إلى تجارته، وصاحب الصناعة إلى صناعته، وصاحب الزراعة إلى زراعته، ولذلك أقسم الله بالضحى لبيان أهميته ولذلك وصّى النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة وقت الضحى وصّى بها أبو ذر الغفاري رضي الله عنه من ضمن وصاياه بالوتر وبصلاة الضحى، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل الصلاة وقت الضحى أنها تعدل الصدقة بالجسم كله في حديث السُّلامة  ( على كل سُلامة من ابن آدم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس فكل تكبيرة صدقة وكل تسبيحة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وتعين أخاك على دابته صدقة ) إلى آخر ذلك ثم قال : في نهاية الحديث قال : ( ويغنيك عن ذلك كله ركعتان تركعهما من وقت الضحى ) فانظر كيف أن صلاة الضحى يعني الصلاة في هذا الوقت الذي أقسم الله به ذو شأن عظيم ولذلك سمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في حديث آخر صلاة الأوابين والأواب هو: الرجَّاع من الأوبة يعني الرجوع ( تائبون آيبون لربنا حامون ) فالرجّاع التوّاب إلى الله هذا يكون له في وقت الضحى اتصال بالله فما هو وقت الضحى ؟ الشمس إذا طلعت يكون لها إشراق ثم ضحوة ثم ضحى فما هو الضحى ؟ الضحى هو: المرحلة الثالثة بعد إشراق الشمس، فأولاً تُشرق إذا خرجت أشرقت ولذلك تسمى ركعتي الإشراق يعني عندما تشرق الشمس فإذا أشرقت وارتفعت واشتدت حرارتها حتى رمِضت الفصال يعني أصبحت الأرض حارة والفِصال -وهي أبناء أو أولاد الإبل- رمضت يعني شعرت بحرارة الرمضة فوقفت فإذا حصل ذلك فذلكم وقت الضحى وذلكم الوقت الذي أشتدت فيه الرمضاء واشتد فيه الحرّ يحب الله الصلاة فيه، وقت العاشرة وقت اشتداد الشغل وقت انفتاح الدنيا وقت إقبال الناس على الدنيا وغفلتهم عن الآخرة هذا وقت يحب الله جل وعلا أن يُذكَر فيه.
 { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } هذان من النهار وهناك مناسبة عجيبة السورة الماضية لها علاقة بهذه السورة وطيدة فما علاقة سورة البلد بسورة {والشمس وضحاها}؟
من عرف مكة وحرارة مكة وشدة لسع جبال مكة علم معنى { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } وعلم معنى { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } ولكن هناك مناسبات عديدة بين السورة التي مضت سورة البلد وبين السورة التي عندنا الآن فما هي هذه المناسبات ؟
أولا : ذكر الله جل وعلا في سورة البلد { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ } في ماذا ؟ {فِي كَبَدٍ } طيب { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } هذه رمز للزمان بينما البلد رمز للمكان فجمع الله في السورتين بين المكان والزمان وذكر الكَبَد وهو المشقة وذكر المكان الذي يكثر فيه الكبد وهو مكة أكثر ما يزدحم الناس في مكة -في الحج- يزدحمون على البيت هذا يريد أن يطوف وذاك يريد أن يُقبل الحجر ويزدحمون في السعي ويزدحمون في النُفرة من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى مِنى فذلكم الازدحام كَبد وخصوصاً إذا أشتد الحر لكنه أيضاً في مكان يحبه الله ويكون في زمان يحبه الله الحج، ماهو يوم الحج الأكبر ؟ أليس يوم العيد ؟ طيب يوم العيد متى ترمي الجمرة ومتى تحلِق ومتى يكون تلك الأعمال كلها في الغالب في وقت ماذا ؟ الضحى، فكان البلد الأمين والوقت شمس وضحاها بينهما تناسب جميل .
الأمر الآخر : قال الله جل وعلا في سورة البلد :{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } وذكرنا يوم أمس أن النجدين الطريقين طريق الحق وطريق الباطل أليس كذلك ؟ طيب ماذا قال في هذه السورة مِما يؤكد ذلك قال نتيجة : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } يعني اختار طريق الحق -نجد الخير- { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } اختار الطريق الآخر إذا تناسب أيضاً رقم اثنين .
 المناسبة الثالثة : ختم الله سورة البلد بأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة فكان آخر شيء تحدث عنه أصحاب المشئمة، طيب آخر شيء تحدث عنه في سورة الشمس أصحاب ماذا ؟ المشئمة هنا ذكر نموذج فعلي عملي واقعي لأصحاب المشأمة لكن الفرق بين السورتين: أن سورة البلد ذكرت عذابهم في الآخرة { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ } انتهى الموضوع ، أما سورة الشمس فذكرت عذاب واقع لهم في الدنيا، ماهو العذاب الذي حصل لهم في الدنيا ؟ الصيحة { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } { بِذَنْبِهِمْ } وقوله { بِذَنْبِهِمْ } -هذه سنأتيها بعد قليل- لكن المناسبة دلّت على { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فلو لم يُذنِبوا لما دمدم عليهم ربهم { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } هذا عن المناسبة .
/ قوله تعالى : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } دل تقديم الشمس على القمر على أن الشمس أعظم من القمر، أعظم أثراً وأعظم فضلاً طيب.
 هذه الشمس ماهي حقيقتها ؟ بعض الناس يقول لك الشمس هي جهنم وهذا كلام باطل الشمس ليست جهنم بل الشمس مخلوق بسيط خلقه الله جل وعلا وجعله آية على النهار { وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } هي الشمس ، جهنم أعظم من ذلك والشمس منيرة وجهنم سوداء مظلمة. الشمس سمّاها الله سراجاً منيراً.
 هذه الشمس يعني تسجد لله؟ نعم الشمس تسجد لله وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها تخّر ساجدة كل يوم تحت العرش هذا السجود كيفيته الله أعلم بها لكن كل شيء يسجد لله سبحانه وتعالى.
 { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } طبعاً "الواو" واو القسم وهنا قسمين: القسم الأول بالشمس والقسم الثاني بضُحاها، القسم الثالث { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } الشمس أقسم بها مُطلقاً { وَالشَّمْسِ } والضحى أقسم به مطلقاً { وَضُحَاهَا } أما القمر فقيَّد القسم به في حالة واحدة، حالة أنه تلا الشمس ما معنى تلا الشمس ؟ تبِعها، فيها أقوال:
- قيل: تلاها أي تبعها كما يتبع الليل النهار فالقمر آية الليل والليل يتبع النهار { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } طيب أيهما الأول الليل أم النهار ما رأيكم ؟ أيهم السابق وأيهم اللاحق ؟
من قال : النهار عليه أن يأتي بالدليل ، ومن قال : الليل عليه أن يأتي بالدليل ، أيهما خلق الله أولاً الظلمة أو النور ؟ الظلمة نعم الدليل { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } فذكر الله الظلمة قبل ذِكره النور فدل على تقدُمها في الخلق، ولأن الظلمة عدمٌ والظُلم وجودٌ والعدم مُقدم على الوجود ولأن الكون كله مُظلم إلا ما نَوَّر الله ولذلك قال الله جل وعلا : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } قيل في تفسيرها أي مُنوِّر السماوات والأرض، فالله خلق السماوات وخلق الأرض ، السماء خُلقت من ماذا ؟ من دخان {اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } الدخان مُظلم، الأرض خُلقت من ماذا ؟ من الماء، الماء الأصل فيه الظُلمة { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } ماذا ؟ { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض } فأطبقت الظلمة في السماوات وفي الأرض حتى نوّر الله الكون بنوره جل جلاله، فالله بنوره استنار عرشه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أسألك بنور وجهك الذي ملأت سُبحاته أركان عرشك وأستنار من نور العرش الجنة ) فالجنة كلها نور يتلألأ سقفها عرش الرحمن، ونوَّر الله الكون بعد ذلك بهذه الكواكب التي جعل فيها فالشمس جعلها ضياء والقمر منيراً ، والفرق بين الضياء والنور ماهو ؟ الضوء فيه حرارة والسراج يكون فيه نار فما يعطيه السراج ضوء، أما النور فيكون في برودة ولما كان الليل مُناسبة للمنام محى الله آية الليل كانوا شمسين كان القمر كالشمس فمحاها الله وأبدلها بالشعاع الذي هو الضوء أبدل ذلك نوراً حتى ترقد وحتى ترتاح في النوم { النَّوْمَ سُبَاتًا } انقطاعاً من الحياة لمناسبة القمر ونوره لليل والشمس وضياءها وأشعتها وحرارتها للنهار، لو كان عندنا قمرين قمر بالليل وقمر بالنهار ما صحى أحد الليل والنهار نُوَم، ولو كان هناك شميسن مشرقتين بالضوء ليل ونهار ما نام أحد لكن جعل الله الليل فيه القمر النور المناسب للهدوء والراحة وجعل النهار فيه الشمس الضياء المناسب للحركة والانبعاث .
 { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } فيها أربع تفاسير :
التفسير الأول : { إِذَا تَلَاهَا } يعني تبِعها لأن الليل تابع النهار
والتفسير الثاني : { إِذَا تَلَاهَا } يعني إذا شابهها تقول تلا الشيء الشيء إذا شابهه ومنه تلاوة القرآن فتلاوة القرآن هي التشبّه بما في القرآن من الصفات فعندما تقرأ في القرآن مثلاً أن الله جل وعلا غفور رحيم فينبغي عليك أنت أيها القاريء أن تكون غفوراً رحيماً تتصف بالصفات الجميلة لله جل وعلا التي أذن بها فهذا من باب التلاوة ولذلك قال : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أي ليس فقط يقرأونه وإنما يقرؤون فيتبعون ولهذا قال تعالى : { أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } فمن قرأ واتبع فقد تلا أما من قرأ ولم يتبِع فليس بتالٍ للقرآن ولو جوّده كله وحسّنه .
/ { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } التفسير الآخر : أن تلاوة القمر للشمس كالمحاكاة يعني يحاكيها وهذه التلاوة تكون على أحوال :
الحال الأول : تلاوة في الغروب يعني عندما تغرب الشمس يغرب القمر بعدها وهذا يكون في أول الشهر عندما يظهر الشهر يبدأ صغيراً والقمر جعل الله جل وعلا فيه منافع كثيرة فمن منافعه أن الله سبحانه وتعالى ضبط به الزمن كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } فأول الشهر وآخر الشهر يُعرف بهذا القمر فما الفرق بين النهار والشمس ؟ هل النهار شيء والشمس شيء ؟ وهل الليل شيء والقمر شيء ؟ نعم ، خلق الله الليل والنهار قبل خلقه للشمس والقمر فالليل موجود والنهار موجود قبل وجود آيتيهما قبل وجود الشمس والقمر وذلك أن الله سبحانه وتعالى لمَّا خلق السماوات والأرض جعل الظلمات والنور بعد خلق السماوات والأرض وجعل الله الليل والنهار آيتين وذكرهما مع السماء والأرض قال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فذكر الله الأربع : السماوات والأرض مكاناً والليل والنهار زماناً ثم جعل لليل والنهار آيتان يُعرفان بهما فلو لم يجعل الله لنا الشمس آيه للنهار والقمر آية لليل لما فرَّقنا بين الليل والنهار، لكن جُعلت هذه آية للنهار وتلك آية أي علامة لليل { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } .
 / { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا } طبعاً النهار هو الذي يجلي الشمس أو الشمس هي التي تجلي النهار أيهما يجلي الثاني ؟ جلَّى الشيء إذا أظهره هل الشمس مخفية حتى يجليها النهار ؟ أو النهار مخفي حتى تُجليّه الشمس ؟ فما معنى { جَلَّاهَا } ؟
قيل في معنى جلَّاها: أضاءها، فالشمس تُرسل ذرات هذه الذرات لا تشتعل وتضيء إلا في مرحلة النهار فإذا جاء وقت النهار اشتعلت تلك الذرات وأضاءت الكون وإذا جاء وقت الليل طفت فأصبح النهار هو الذي يجلي الشمس ويضيؤها وليست الشمس هي التي تجلي النهار وتضيؤه لأن النهار سابق عليها والشمس آيته طيب.
 وقيل : { إِذَا جَلَّاهَا } يعني أظهرها لأن النهار يظهر الشمس فتستطيع تراها في النهار ولا تستطيع تراها في الليل فلو بحثت عن الشمس بالليل فهل تستطيع تراها ؟ لا تراها لأن الليل لا يُجليها الليل يغطيها -الليل يغشاها- غشاها إذا غطاها أما النهار فإنه يُجلِّيها حتى يراها الناس جميعاً ولذلك قال الشاعر :
تجلت لنا كالشمس بين غمامة ** بدى حاجباً منها وضنّت بحاجب
 يعني هذا يذكر محبوبته أنها تجلّت يعني ذكر وجهها أو جزء من وجهها تحت عباءتها السوداء من شدة بياضها صار ما خرج من جسدها أو من طرف وجهها مثل الشمس إذا بدى منها شيء في الغمام ولذلك التجلي هو الإظهار.
/ { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } ماهو الليل؟ الليل زمن { إِذَا يَغْشَاهَا } إذا يغشى الشمس طيب ما الذي يغشى الشمس ؟ هل الليل الذي يغشاها أو الأرض هي التي تغشى الشمس فيحدث الليل ؟ الأرض ، الأرض كروية وهذه الآيات دالة على كروية الأرض لأن الشمس إذا كانت طلعت على الأرض فإن النهار هو ما واجه الشمس من الكرة الأرضية والليل هو الطرف الآخر، فإذا كانت الشمس مواجهة هذا الطرف فهذا الطرف نهار هذه المنطقة نهار فإذا سرت الشمس فإن النهار يأتي للكرة الأرضية الأرض تتحرك والشمس تتحرك وكل ذلك بميزان ومقدار فالليل والنهار يتعاقبان على الكرة الأرضية والشمس آية النهار معه حيثما حلت والقمر آية الليل على أحواله ومنازله وكل ليلة في منزِلة ولو كان القمر في منزلة واحده لما عرفنا التاريخ لكن { قَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ } وهناك فائدة عجيبة في مسألة الشمس والقمر ذكرها الله في سورة الرحمن قال تعالى : { الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } ما معنى بحسبان ؟ يعني يُحسب بهما الزمن فالشمس ثابتة وحسابها ثابت لا يتغير، والقمر متغير وحسابه متغير عرفتم، فالشمس ثلاثمائة وستين يوم لا تزيد ولا تنقص، لكن القمر لا .. يزيد وينقص لأن الشهر مرة يجيك تسعة وعشرين ومرة يجيك الشهر ثلاثين فإذا غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين لكن إذا جاءكم تسعة وعشرين انتهى ودلّ على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما آلا من نسائه حلف ألاّ يقرب نساءه شهراً عندما غضب منهن فاعتكف في المسجد وكانت عائشة رضي الله عنها تعد الأيام عد واحد اثنين ثلاث أربع كل يوم مرّ تعدُّه حتى جاء يوم تسعة وعشرين إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم داخل عليها قالت له يا رسول الله باقي يوم أنا أعد قال الشهر هاه وهاه وهاه يعني تسعة وعشرين، عند العرب نحن قال قوم أمّيون نعُدّ لا نكتب ولا نقرأ لكن الشهر عندنا هاه يعني عشرة وهاه عشرة ثانية وهاه تسعة، والقمر يُشبه العرب والشمس تُشبه العجم، فالعجم عندهم ثبات والعرب عندهم عندهم تغير، فأكثر المتغير على وجه الأرض هو العربي ولذلك تغيراتهم هذه استفدنا منها أنهم تركوا الشرك وجاؤا للإسلام ولكن قد تضر إذا تركوا الإسلام أيضاً أرتدّ منهم كثير بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم -نسأل الله الثبات- لكن العجم عندهم ثبات إذا أسلم أسلم -نسأل الله أن يثبتنا- ولذلك قال تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } والمقصود العرب { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم } أنتم متغيرين وهم ثابتون .
/ { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } تعرفوا معنى يغشى يغطي ، ولذلك قال : {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} يغطيكم ومنه ( غشيتهم الرحمة ) غطتهم ، وأنظر كلمة { يَغْشَاهَا } والحِكَم العظيمة التي فيها ، الليل مثل اللحاف كأن الله نوَّم أهل الأرض المجموعة هذه التي عليها الليل ولبسّهم الليل وقال خلاص ارقدوا { غَشِيَهُمْ } فإذا انتهى النوم وارتاحت أجسادهم رفع عنهم هذا الغطاء وجاب لهم النهار مثل ما أنت في بيتك إذا تريد أن تنام تضيء النور كله أو تطفيه ؟ تطفيه ، كذلك الله يطفي لك نور هذا الكون في وقت الليل يطفي لك الضوء حتى ترقد وترتاح وإذا جاء النهار أضاء الشمس أضاء الضوء هذا القوي .
 { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } طيب كم قَسَم وصل معانا ؟ تعدوا معي أو لا ؟
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } هذه خمس رقم ستة الآن
 { وَالسَّمَاءِ } ماهي السماء ؟ السماء لغةً : مشتقة من السُمو وهو الارتفاع ومنه سُمّي كل سامٍ ومُرتفع سماء، وهذا السُمو يكون حساً ويكون معنى، يكون حساً كارتفاع الكواكب السُحب -السحاب- يُسمى سماء لارتفاعه كما قال الشاعر :
 إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه ولو كانوا غضاباً
ومنه المعنى كارتفاع مكانة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الأنبياء كما قال الشاعر :
كيف ترقى رُقيك الأنبياء ** يا سماء ما جاورتها سماء
والسماء هنا المقصود بها السماء المبنية، والسماء المبنية هي السماوات السبع وقد ذكر الله بناء السماء وبيّنه وفصّله فقال تعالى : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } فهذا البناء شديد ووصف شدته فقال : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } والإحباك هو: الإتمام في الصنعة يعني مُحبك لو نظرت لما وجدت فطوراً ولا كسوراً ولا شيء يحتاج إلى تغيير، فانظر إلى بيتك -مثلاً- عندما تبني بيت هل يكون مُحكم ما يحتاج إلى تغيير ولا تعديل ولا صبغة؟ بعد فترة تُلاقيه تضرب بوية وتزود وتنقص، لكن السماء خلقها الله من ملايين السنين ولا زالت كما هي لم تتغير { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } .
{ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } بين النبي صلى الله عليه وسلم لنا وصف السماء في بنائها فذكر أن سَمكها مسيرة خمسمائة عام هذا السَمك، وأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وبيّن لنا ربنا أن السماء فيها أبواب قال : { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا }، وبيّن لنا ربنا جل وعلا أن السماء لها حُراس كل باب عليه حُراس { مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا } وبيّن لنا أن هذه السماء فيها رزقنا وفيها ما وُعِدنا { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } طيب أي رزق في السماء هل رأيتم خيشة رز سقطت من السماء أو ذهب سقط من السماء ؟ كيف يكون في السماء رزقكم ؟
قيل: في السماء تدبير رزقكم لأن الأمر الذي تُرزقون به هو أمر الله وأمر الله أين ؟ { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ }.
وقيل: المطر الذي ينزل على الأرض وبسببه يخرج رزقكم.
وقيل: بل فعلاً في السماء رزقكم لأن الرزق الحقيقي هو الذي أُعدّ في السماء -الجنة- وأما هذا فتسميته رزق قد تكون من باب المجاز لأنه لا يمكث حتى يزول فكم أكلت من طعام لذيذ ماذا بقي معك من لذته؟ وكم لبست من ثياب جميلة ماذا بقى معك؟ وكم تمتعت ماذا بقي معك من أثر المُتعة؟ فكل ذلك زائل فكأنه لم يكن ولذلك عندما تأتي الساعة { يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } الدنيا هذه كلها ملايين السنين يقول ما لبثوا غير ساعة { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } إذاً حتى لو رُزقتم كل أعماركم الرِّزق الحسن فكأنكم ما وجدتم شيئاً .
/ { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } اختلف المفسرون في قوله تعالى : { وَمَا بَنَاهَا } ما المقصود به { مَا } هنا هل هي بمعنى الموصول "والذي" بناها ويكون القسم بالله جل وعلا.
 أو { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } تكون "ما" مصدرية ومعنى ذلك والسماء وبناؤها وعلى هذا يكون بناء السماء في حد ذاته فِعل يُقسم الله به كأنه أقسم بالمفعول وهو السماء وبذات الفعل نفسه، وفي هذا توجيه لطيف جداً لأهمية العمل فإذا كان الله جل وعلا يقسم ببناء السماء لأن فيها نفع فكل بِناء يقع فيه نفع للناس يحبه الله فمن بنى مسجداً مثل هذا المسجد فهذا فعل يُحبه الله لأن الله أقسم بالبناء ، ومن بنى مدرسة ومن بنى وقف -سكن- للناس، ومن بنى مزرعة، ومن بنى شيء ينفع الناس فذلك الفعل يحبه الله وعلى هذا لا يكون من الزهد ترك البناء، وما ذكره بعض المتصوفة والزُهّاد في التحذير من البناء...الخ هذا كلام مردود عليه لأن الله نفسه بنى السماء ووصف نفسه بصفة البناء قال : { بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وقال : { وَمَا بَنَاهَا } ولا يصِف الله نفسه إلا بفعل يحبه -نعم- لكنه بناء نفع ( من بنى لله مسجد ولو قدر بيضة قطاه بنى الله له بيتاً في الجنة ) فانظر كيف جعل الله الأجر مقابل الأجر بنى بنى، ابني بيت لله يبني الله لك بيت وهكذا . / { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } ذكر الله جل وعلا في الآيات الأُول الأربعة الزمان ، وذكر لنا المكان بعد ذلك ، بعدما ذكر الليل والنهار والشمس والقمر هذه متعلقة بالزمان انتقل من الزمان للمكان، تقديم ذكر الزمان على ذكر المكان فيه بيان أهمية الزمان على المكان فهمتم أم لا ؟ لأن القاعدة القرآنية تقول كل ما تقدم ذكره في القرآن فهو أفضل مِما أُخِر ذكره في الغالب مثلاً : { ألم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } هذه واحد { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } إثنين { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ثلاثة إذاً الإيمان بالغيب أفضل من الصلاة والصلاة أفضل من الزكاة هذا الترتيب .
{ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } إذاً جبريل مقدم على ميكائيل في الذكر هو أفضل.
 { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ } قيل أن هذه الآية دليل على فضل الملائكة على الناس لأنهم قُدِّموا في الذِكر إلى غير ذلك.
 إذاً تقديم القسم بالزمان وآيته على المكان فيه دليل على أن الزمان أفضل من المكان فبعض الناس مثلاً يحرص على المكان يقول والله بعيش في مكة أو في المدينة ويضيّع وقته هناك يمر يوم يومين ما سوى شيء، فهذا الزمن الذي ضيّعته خير من المكان الذي أنت فيه لأن الزمان كله محبوب عند الله، والقَسَم بالزمان في القرآن أكثر من القسم بالمكان { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } إلى غير ذلك، فالقسم بالزمان كثير وهذا يدل على أهمية الزمان، والقسم بالمكان جاء في الدرجة الثانية ومن جمع بين المكان الفاضل والزمان الفاضل فهذا قد أكمل الله له الحسنيين .
/ قال تعالى : { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } الأرض مكان ذكرت بعد السماء فأيهما أفضل الأرض أو السماء ؟
السماء ذكرت أولاً، والسماء أقرب إلى العرش وأقرب إلى الله، والسماء محفوظة، والسماء لا يُعصى الله فيها، { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} والسماء الله عز وجل أضافها لنفسه { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أما الأرض فأهبط الله إليها العصاة { اهْبِطُوا مِنْهَا } من الجنة أو من السماء أو من العُلو {جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ } للعصاة { فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } فكانت الأرض مكان المعصية والسماء لا معصية فيها، لا أحد يعصي في السماء إنما يُعصَى على الأرض.
 طيب هذه الأرض التي هي مكان المعصية هي مكان الاختبار ومكان الابتلاء ومكان الكدّ ومكان الكَبَد ولذلك قال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا } لماذا ؟{ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } .
{ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } ما معنى طحاها ؟ طبعاً نقول فيها كما قلنا في { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } من حيث لفظة { مَا } أنها قد تكون بمعنى قسم آخر ويكون المراد بها الله ومن بناها ومن طحاها، وقد يكون بمعنى المصدر وطحاؤها. فما معنى الطحاء ؟
طحا : تقول طحا الكرة يطحوها طحواً أي دفعها برجله حتى جرت وفي هذا دليل على كروية الأرض.
 وقيل { طَحَاهَا } : بسطها
 وقيل { طَحَاهَا } : سواها من الطحي
 وقيل { طَحَاهَا } بمعنى { دَحَاهَا } أي من الدحي ، و { طَحَاهَا } و { دَحَاهَا } الدال و الطاء يتناوبان في لهجات العرب فعلى ذلك تكون { دَحَاهَا } قد فُسِرت و { طَحَاهَا } لم تفسر واستغني بتفسير { دَحَاهَا } عن تفسير { طَحَاهَا } فهل ذكر الله دحاها وفسّرها ؟ نعم { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا } طيب ياربي ما معنى دحاها ؟ { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } فيكون معنى { دَحَاهَا } الفعل الذي حصل حتى أصبحت الأرض مكاناً لاستقرار الناس فلو لم يجعل الله في الأرض ماء وزرع وجبال واستقرار لما كان للإنسان حيل أن يعيش عليها - فهمتم معنى هذا - ولذلك طحُوُها يعني جعلها مُهيئة لاستقرار الإنسان هذا شيء يحبه الله ويقسم به فيكون أيضاً من هذه الآية بيان فضل إحياء الأرض الموات فمن جاء إلى أرض موات وأحياها وأوصل لها الماء والكهرباء وجعل الناس يعيشون فيها فهذا له أجر عظيم لأنه طحا هذه الأرض أي أحياها وجعل فيها الماء ومرعى وغير ذلك، ولهذا ينبغي على التجار الذين يعملون في العقارات أن يستحضروا النية في إحياء الموات من الأرض، والزراع الذين يحييون الأرض أن يستحضروا النية لأن الله يحب إعمار الأرض ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ) يعني الساعة قائمة وأنت عندك فسيلة طبعاً لن يأكل منها أحد الساعة قامت لكن اغرسها، اغرسها لأن الله يحبك أن تغرسها وهذا فيه ردّ على من يرى أن الزهد الدنيا هو تركها ، وكما قال أحد الوُعاض :
إن لله عباد فطناء ** قد طلَّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا إليها فلما علموا ** أنها ليست لحيّ وطناً
حسبوها لجة واتخذوا ** صالح الأعمال فيها سُفُنا
 طبعاً هذا الكلام قد يهدي إليه بعض الناس ويزهد في الدنيا لكن ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) المؤمن الذي يعمر الأرض ويملأها بالعدل ويملأها بالخير هذا خير من الذي يدخل الدنيا ويخرج ما عمل شيئا، هذا المسجد -بإذن الله- أسأل الله أن يطيل عمر من بناه، بعد مئات السنين وهو قائم ويصلي الناس فيه ألا يدعوا أولائك لهذا الذي بناه ويجد أجر كل من صلى فيه؟ ولذلك طحو الأرض وإعمارها وخصوصاً بما يكون مناسباً لذكر الله كالمساجد وكالمدارس وكالمعاهد وغير ذلك .
 { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } وحتى قوله عز وجل : { الْأَرْضِ } الألف و اللام دلت على الاستغراق أي استغراق الأرض كلها فالله طحا الأرض كلها وفي هذا بيان على أن الأرض كلها لله حيثما كنت فأقم ذكر الله وهذا يُوحي بأن على المؤمن أن يسعى في مشارق الأرض ومغاربها ينشر الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والله ) - وهذا الخبر من باب الأمر لأنه قد يأتي الأمر على صيغة خبر طبعاً هذا الخبر - يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله ليبلُغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ) طبعاً هذا الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم -وهو صادق- لكن معناه يعني : يا أمتي أبلغوا أمري هذا ما بلغ الليل والنهار، أبلغوا هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حيثما حلّ الليل فعليك أيها المسلم أن تُبلِّغ دين الله ، وحيثما حل النهار عليك أن تبلِّغ دين الله لأن الليل في الدنيا يمثل بظلمته وسواده إلى الظلال والنهار بضوئه وإشراقه يمثل الهدى و النور ، ونحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم حملت مشاعل النور فلا يجب أن نعتكف في الجزيرة العربية ولا نخرج منها بهذه المشاعل للناس حتى يروا الهدى، فإن صحابة النبي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم انطلقوا في الآفاق ينشرون دين الله .
{ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } ولذلك كلمة { طَحَاهَا } لها معاني كثيرة كما قال الشاعر :
طحا بك قلب للحسان طروب ** بُعيد الشباب إلى حين جاء المشيب .
عندما طحا به أي مال به قلبه إلى المرحلة التي هي مرحلة الشباب بعد المشيب ، فالطحو هو البسط والميل وغير ذلك .
/ يقول : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } هذه الآية مربط الفرس، كل هذه الأقسام الماضية هذه أقسام تسمى في المنطق بالمركب البسيط عندما تريد أن تتكلم في المنطق وتركب الجملة فإنك تركبها من مركب بسيط تنتقل إلى الشيء الذي تريده -المركب اﻷعمق الأعظم- عندما أسألكم سؤال أقول : السماء أين هي ؟ جُرم نحُسّ به، نشعر به في الأعلى ، الأرض جُرم محسوس في الأدنى ، طيب النفس أين هي ؟ النفس في الأعلى أو في الأدنى ؟ وإلا فيهما معاً ، وهنا يجتمع الأمران كأن الكون اجتمع فيك أيها الإنسان بسمائه وأرضه فما سماؤك وما أرضك ؟ جسمك أرضك وروحك سماؤك فمن طحا جسمه وأعمل جسمه في نفع خلق الله ونفْعِ نفسه كما خُلِقت الأرض ودُحيت استفاد من جسمه وزكت نفسه ، لكن من أهمل الجسم وأهمل النفس فقد دنَّس الجسم ودنس النفس .
هنا سؤال : ماهي النفس في القرآن ؟ النفس في القرآن أطلقت على ثلاث معاني :
 المعنى الأول : أطلقت على الذات العلية على رب العالمين جل وعلا { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } فذكر الله النفس صفة من صفاته، وقال:{ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } والنفس صفة لله .
المعنى الثاني للنفس : أُطلقت النفس المراد بها هو الإنسان كله جسمه و روحه كما قال تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } وقال تعالى : { النَّفْسَ بِالنَّفْس } وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } هنا الجسم و الروح معاً .
وأُطلقت النفس فقط المراد بها الروح فقط كما قال تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } وكما قال تعالى : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } يعني أرواحكم .
 إذاً ما الفرق بين النفس والروح ؟ الروح تُسمى روحاً قبل الدخول في الجسد وهذه الروح لا تُوصف بالتزكية ولا تُوصف بالتدنيس قبل دخول الجسد بل هي على الفطرة، هي الفطرة وقد أضافها الله لنفسه وهي سر تكريم الله للإنسان قال : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } فإذا دخلت الروح في الجسد تسمى بعد الدخول نفساً .
 إذاً { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } التسوية هنا هل هي للروح أم للجسد أو لهما معاً ؟ ما رأيكم ؟
ذكر الله التسوية للجسد قال :{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } فذكر التسوية للجسد المجرد ، ثم ذكر الله جل وعلا التسوية لهما معاً قال : { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } جسداً و عقلاً و روحاً وعاطفة وكل ذلك فقد تكون التسوية للجسد فقط ؛ فتدخل فيها تفاصيل جسم الإنسان ، وقد تكون للجسد والروح معاً ولكن لا تكون للروح وحدها.
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } الآن سوّاها هنا هل هي للجسد فقط ؟ أو للجسد والروح معاً ؟ ما رأيكم؟
للجسد والروح معاً ، لأن التزكية المطلوبة ليست مطلوبة من جسد لا روح فيه وليست مطلوبة من روح لا جسد لها إنما هي مطلوبة منهما معاً لذلك لا تجتمع الروح والجسد إلا في مرحلة الحياة فجسد بلا روح موات ، وروح بلا جسد روح لا تعتبر كائناً حياً .
/ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } الإلهام : أصله من (لَََهَم) ، و(لَهَم) من البلع بغير مضغ، ونقول لهذا التهم يعني تحط قدامة صحن رز والتهمه كله ولذلك الالتهام هو البلع من غير مشقة تجد أن هذا الشيء حاصل ما حركت فيه شيء حتى ضرسك ما حركت، أسنانك ما حركت فالإلهام هو: حصول العلم من غير بذل جهد ولذلك يسمى نوع من الوحي بالإلهام مثل : وحي الله إلى أم موسى { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } هذا إلهام ، وحي الله إلى النحل { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } هذا إلهام.
طيب { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } معناه كل نفس يُوحى إليها، هذا الإلهام وحي، طيب هذا الوحي مِن مَن ؟
وحي الفجور مِن مَن؟
ووحي التقوى مِن مَن ؟
ولماذا قدم إلهام الفجور على إلهام التقوى ؟
 الأصل في النفس البشرية التقوى أو الفجور ما رأيكم ؟ { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ } (كلكم ضال إلا من هديته) إذا الأصل التقوى أو الفجور؟ الأصل الفجور الإنسان فاجر { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } طيب هذا الإنسان الظلوم الجهول الفاجر { بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } هذه إرادته الداخلية أن يفجُر قبل يوم القيامة { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } طيب هذا الفجور هو إلهام ، الله تعالى يقول : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } الشيطان ليس له ذكر هنا ، لا يتصرف في الكون مُتصرف إلا بإذن الله، لن تُطاع إلا بإذنك ولن تُعصى إلا بعلمك تُطاع فتشكر وتُعصى فتغفر.
 { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا } متى ؟
 ألهمها تقواها متى ؟
ما سبب إلهام الفجور ؟
ما سبب إلهام التقوى ؟
{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } بينَّا له السبيل، هذا سبيل الحق والخير والجنة، هذا طريق الباطل والشر والنار، اختر أيها الإنسان فإذا اخترت هذا الطريق ألهمك التقوى وإذا اخترت هذا الطريق ألهمك الفُجور ، الاختيار منك والإلهام والتيسير من الله وسيتبين لنا هذا المعنى عندما نصل إلى سورة الليل { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } إلهام { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } .
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } أضاف الفجور للنفس وأضاف التقوى للنفس لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية يقول: ( اللهم آتِ نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ) .
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قدم الله الفجور على التقوى لتقدُم الجهل على العلم .. لتقدم الضلال على الهدى .. لتقدم الشر على الخير، لو كان الخير موجود لما بعث الله رسلا أصلاً ولا أنزل كتب، الخير موجود لكن الشر فلما انتشر الشر بعث الله رسول، خلاص يدعوهم إلى الهدى كيف يدعوا ناس مهتدين!! .
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } الفجور مشتق من الخروج عن السيطرة تخرج نفسك عن سيطرتك، تقول تفجّر الماء، تفجير، فجّر الموقع يعني إنفجار خروج عن السيطرة، فالنفس إذا خرجت عن سيطرة صاحبها فجرت ومنه سُمي الفجر فجراً لانبثاق النور وطرد الظلام وأصبح النور خلاص لا تستطيع أن تحجُبه ولا أن تمسكه خلاص فجر، فكذلك النفس إذا فجرت السيطرة عليها صعبة جداً إلا إذا هداها الله سبحانه وتعالى .
 { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } لو قدَّم الله التقوى على الفجور ماذا يحصل ؟ لو قال ألهمها تقواها وفجورها، أي أحبّ إليك فجور بعده تقوى أو تقوى بعدها فجور ؟ لو كان تقوى قبل الفجور لما احتجنا إلى شريعة ولما احتجنا إلى رسول لكن فجور حتى ينزل الرسول وينزل الكتاب ويتخرج دعاة وصالحين حتى يأتي التقوى فإذا جاء التقوى كان ذلك المقصود { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فالتقوى مقصود ولذلك الفجور تقدم عليها وهذه الآية تُبين لكم معنى آية الصيام ، آية الصيام قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } الصيام أليس هو مسك النفس عن الأكل والشرب والشهوات ؟ إذاً السيطرة على النفس تقوى، عدم السيطرة فجور.
 { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } هنا نقف مع النفس قليلاً ماهي أنواع النفوس ؟
1/ أول نفس تجدها النفس العامة عند الناس كلهم : الأمارة بالسوء .
2/ اللوامة .
3/ النفس المطمئنة .
هذه النفوس الثلاث هذه المراحل الثلاث تبدأها ماذا { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } هذا الفجور، أمَّارة بالسوء فاجرة انتهى الموضوع وتأمر بالفجور وتحثّ عليه .
 لوامة هذه مرحلة ثانية بداية التقوى تلومك على الفجور الذي كانت تأمرك به أمس.
مطمئنة خلاص انتهى اللوم تاب الله عليها أطمأنت وقفَّت اللوم وقرُبت من الحيّ القيّوم وأصبحت مطمئنةً بذكر الله { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } فإذا وصلت النفس لهذه المرحلة فتح الله لها باب الرضى قال تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } متى أذن الله للنفس في الدخول في العباد؟ بعدما تجاوزت مرحلة الاطمئنان ووصلت إلى مرحلة الرضا فلما وصلت إلى مرحلة الرضا أذن الله لها بالدخول في العباد والدخول في العباد من هم ؟ عباد مكرمون الملائكة { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يوم كنتم تجاهدون أنفسكم الأمارة بالسوء، يوم كنتم تجاهدوا أنفسكم اللوامة، يوم وصلتم للإطمئنان، نحن معكم في كل المراحل يوم جاهدتم أنفسكم على قيام الليل ويوم جاهدتم أنفسكم على الصيام على الإنفاق .. إلى غير ذلك .
/ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } سبحان الله ذكرت قبل قليل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم آتِ نفسي تقواها ) كان إذا قرأ هذه الآية يسأل الله طبعاً الله جل وعلا يقول : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) فأنت عندما تعلم معنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنك تفهم معنى { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } طيب.
 هنا عملين : العمل الأول لله وأضيف إلى الله، والعمل الثاني أضيف لك.
 العمل الأول { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }
العمل الثاني { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }
 فالعمل الأول مشيئة الله وإرادة الله، والعمل الثاني مشيئتك أنت وإرادتك لكن { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } تريد الخير ما يمكن تعمل الخير حتى يريده الله لك ، تريد الشر والله ما يريده لك ما يمكن تعمل الشر حتى يريده الله لك ولذلك العصمة هي: المنع من الوقوع في الشر عصمة الأنبياء، وأعوذ بالله العكس صحيح عدم العصمة الوقوع في الشر ولو كان يريد الخير إذا لم يرد الله عز وجل هدايته (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)
 { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } ماهي التزكية ما معنى زكى ؟
زكا إذا نما، وزكا إذا ارتفع، وزكا إذا طهُر، كم معنى عندنا ؟ ثلاثة
 نما زاد ، وزكا طهُر { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} زكا طهُر ، زكا ارتفع، طيب أي المعنى هنا المطلوب ؟ الكرماء من العرب كانوا إذا حلُّوا بوادٍ أو حلُّوا بمكان لا يستقرِّون إلا على المكان المرتفع، يشوف الجبل يبني عليه، أو الكثيب، وإذا كان الليل أوقد ناراً حتى يرى الضيف نار، تلك نار فلان أو نار بني فلان هؤلاء الكرماء، لكن البخلاء والناس السيئة هؤلاء يندسُّون يكونون في أسفل ويطفوا النار:
 قوم إذا استنبح الأكلاب ضيفهمُ ** قالوا لأمهم بولي على النار
 فكينا من هذه النار تجيب لنا الضيوف.
 فالكريم يكون بيته في مكان معروف مثل -ما شاء الله- هذا المسجد من الرياض مخرج 15 على الشارع الدائري السريع، معروف المكان لكن لو أنه بيت -لا قدر الله- سوء بيت معصية، بيت دعارة، بيت فساد، يشوف يندس، بيت خِطط .. فساد يندس ويشوف الأماكن التي لا تراها العين والتي لا يمر عليها شارع ويُطفئ الأنوار لا صوت ولا حسّ لأن ذلك تدسية، دسّ الشيء يقول : (دسه في التراب) يعني الجاهلية كان الواحد إذا انولد له أنثى { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } وماذا يفعل به ؟ { يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } { يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } ما معناها ؟ يضعه على جبل ويحط نار قدامه تعالوا شوفوا ؟ أو يدسه يخبيه ؟ ولذلك الدسائس ، الدسائس هي الأشياء الخفية التي تُعمل.
 { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } كيف تزكي نفسك ؟
 التزكية أنواع :
هنالك التزكية الشرعية التي جاء بها الإسلام وهذه التزكية تكون لجوانب النفس البشرية تزكية للروح باتصالها بالباري جلّ جلاله وتعرفها عليه ، تزكية للجسد بنصبه في عبادة الله { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ }، تزكية للعقل بالعلوم الشرعية ، تزكية للعاطفة بالأخلاق الإسلامية هذه التزكية .
 وهناك التزكية غير الشرعية وتسمى اليوم بلفظ التربية ولها كليات كلية التربية في الغرب يربونهم على ماذا ؟ يقولك التربية الجنسية، لا إله إلا الله حتى يكون فاجراً صح ، التربية الموسيقية حتى يكون مُغني ، التربية البدنية حتى لا يهتم إلا ببدنه ، التربية الرياضية، هذه تزكيات لكنها مقصورة على جزء وجانب وقد لا يخدُم الإنسان ولا يخدم نفسه ولا مستقبله.
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } بالشرع ، زكّاها بالطاعة ، تريد تُزكي نفسك ؟ أقبل على الله، أقبل على الله تصلُح نفسك { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } والإقبال عليه يكون بالقلب أولاً : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } أقبل على الله، إقبالك على الله يكون بالقول الطيب وبالفعل الطيب { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وقد جمع الله التزكية كلها في سورة واحدة من القرآن قال الله جل وعلا : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ِّ } هذه واحد {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } هذه اثنين { وَتَوَاصَوْا بِالْحَق } ثلاثة { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وهذه الأربعة هي أركان التزكية الصحيحة .
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }
هنا ملاحظة : في القرآن كله لا تجد الفلاح إلا مربوط بالعمل فلا يمكن أن تجد في القرآن قد أفلح ونام، أفلح وأبيه إن صدق ماذا قال ؟ قال : سوف أقوم بكل مافي الإسلام من أوامر، الصلوات الخمس نسويها والصوم نصوم والزكاة ندفعها والحجّ نحجّ هذه أفعلها إذاً أفلح، قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ماذا فعلوا ؟ { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون } إلى آخر صفاتهم ، وكذلك قوله تعالى : {أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ماذا فعلوا ؟ { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وجاءت كلها على صيغة فعل المضارع الذي يدل على الحال والاستقبال .
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } ما معنى دساها ؟ كما ذكرت أنه دساها بذنوب أي دنسها بالذنوب { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} .
هنا نقف مع النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً في بيان هذه الآية:
 يقول عمر بن الخطاب في مجلس خلافته كان مع بعض الصحابة البدريين وكان فيهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال عمر بن الخطاب : أيها الناس أيكم سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّث عن الفتن ؟ فقال حذيفة : أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( فتنة الرجل في أهله وماله وولده ) قال عمر : لا عن هذه أسأل إنما أسأل عن تلك التي تموج كموج البحر ؟ فقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : أنا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً ) وفي رواية : ( كالحصير عَوداً عَوداً ) والفرق بين الروايتين هو الاختلاف في لفظ الحصير، فالحصير فعيل بمعنى مفعول والحصير فعيل بمعنى مفعول به فأما الحصير على وزن فعيل كالمحصور فيكون القلب وقتئذٍ مُحاصر بالفتن كلما مرت فتنة جاءت بعدها أخرى أكبر منها فيكون القلب مُحاصر بالفتن سواءً كانت منظورة أو مسموعة أو معقولة - نسأل الله العافية - هذه واحدة .
 اثنين : كالحصير الذي يُصنع من الأعواد عُوداً عُوداً الحصير الذي يُجلس عليه،  (عَوداً عَوداً) الحصير، بمعنى المحصور.
( كالحصير عَوداً عَوداً فأيما قلب أنكرها ) أنكر هذه الفتن وأستعاذ بالله منها وهرب عنها ( نكتت فيه نكتة بيضاء وأيما قلب أشربها ) فتح قلبه لها قال خليني أشوف نظر للفتنة، خلني نسمع للفتنة، خلني أمشي مشى في الفتنة ، هذا ماذا يحصل لقلبه ؟ ( نكت فيه نكتة سوداء حتى تصير القلوب على قلبين قلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، وقلب أسود كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه ) .
هذا القلب الأول الأبيض يصدُق فيه { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وهذا القلب الأسود يصدُق فيه { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } . بياض القلب سر بياض الوجه يوم القيامة، وسواد القلب في الدنيا سر سواد الوجه يوم القيامة (يوم تبيَض وجوه) لأن قلوبهم كانت مُبيَضة بالطاعات (وتسوَد وجوه) لأن قلوبهم كانت مسودة بالسيئات.
 طبعاً وجوه المؤمنين يوم القيامة على أربعة أحوال :
الحال الأول البياض : وهذا يحصل عند أخذ الكتاب باليمين وقبل قراءته أول ما يأخذ كتابه بيمينه يبيض وجهه من الفرح.
الحالة الثانية : إذا قرأه أسفر وجهه والإسفار زيادة نور في البياض ومنها قول الله جل وعلا : { وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ }.
الحالة الثالثة : إذا دخل الجنة ، طبعاً حالين قبل دخول الجنة وهو البياض والإسفار. وحالين بعد دخول الجنة:
الحال الأول بعد دخول الجنة النِّعمة { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ }
الحال الرابع والأخير وهو الثاني في الجنة النضارة { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة } متى { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } إذا كان القمر -كما سبق معنا- نظر للشمس فأشرق فما بالك بك أنت إذا نظرت إلى وجه الله جلّ جلاله ، والله الذي لا إله إلا هو لوجوه المؤمنين في الجنّة أشدّ من نور القمر في الدنيا وأشد نضارة وأشد جمالاً عندما ينظر المؤمن إلى وجه ربه ويقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فيقول : (لتروّن ربكم لا تُضاموّن في رؤيته كما ترون هذا القمر ليلة تمامه ) { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } جعلني الله وإياكم منهم .. آمين .
 { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } يا لطيف { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا }
 ثمود معروف قبيلة عربية كانت تسكن في وادي القُرى ، ووادي القُرى سُمِّي بوادي القرى لأنه كان فيه ألف قرية فهو أكبر وادي سكنه الناس في الجزيرة العربية، ألف قرية قرية خلف قرية خلف قرية كلما خرجت من قرية دخلت في الثانية وهذا الوادي يجمعهم جميعاء هؤلاء الألف قرية بُعث فيهم صالح عليه السلام، كانوا عرب وصالح عربي وكانوا يحبون الإبل وكان عندهم غنم وبقر ولكن أكثر ما عندهم من الأنعام الإبل ويوم جاءهم صالح قالوا : اسمع يا صالح لا تطول نحن لن نؤمن بك حتى هذه الصخرة التي أمامنا تنفلق وتخرج منها ناقة صفتها كذا وكذا، عاشوراء - يعني ولدها في بطنها قد بلغ عشرة أشهر - وتلِد أمامنا ونحنا ننظر، وإذا فعلت لنا ذلك آمنا بك، قال لهم : فقط - يعني ما ينقصكم عن الإيمان إلا أن هذه الصخرة تخرج منها ناقة - قالوا : نعم ، قال صالح : - خلاص - أدعوا ربي ، صلى صالح ركعتين وتوجّه إلى ربه وقال : اللهم أخرج لهم هذه الآية التي طلبوا حتى يعلموا أني رسول من عندك فيصدقوني فيؤمنوا بي فيدخلوا الجنة ، الله يعلم أنهم لن يؤمنوا لكن صالح كريم عند ربه وما أدراك أنها إذا جاءت لا يؤمنون، أنفلقت الصخرة بأمر الله وخرجت الناقة حُبلى بولدها بأمر الله وولدت أمامهم وهم يشاهدون ، يوم رأوا هذا الشيء بدأ صالح يشترط قال لهم : خلاص هذه الناقة لكم آية وهذه تروها ناقة الله ما جاءت من ناقة فلان ولا ناقة فلان هذه جاءت من عند الله من صخرة -نَاقَةٌ الله- {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } هذا البئر يوم كامل لها ذاك اليوم عنوانه يوم الحليب الناقة ستفتح رجليها والحليب ينصب من غير حلب والذي كان يريد الماء يحمِّل حليب يوم كامل من الفجر إلى الليل وهي تصب حليب وفمها في الماء تشرب الماء ويقلب الله الماء حليب فوراً ، وإذا جاء اليوم الثاني مشت وتركت البئر لا تقربه، مؤدبة - تأديب الله جل وعلا - هذه الناقة أحسن من كثير من الأمم العربية اليوم ما عندهم أدب ولا أخلاق - المهم هذه الناقة إذا جاءت عند البئر ظهر عند البئر آيات:
 الآية الأولى: أن الماء يرتفع من قعر البئر حتى يتساوى مع سطح الأرض يرفعه الله لها فتشرب لا أحد يسقيها هي تشرب من نفسها { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } فتشرب وتصب حليب.
 الآية الثانية: أن الحِوار - ولدها - اليوم الذي تشرب فيه لا يقربها لأن الحليب ذاك اليوم للناس -هو مؤدب- فإذا صار يوم الغد خلاص هو يرضع منها في اليوم الثاني الذي هم يشربون فيه الماء استمروا على هذا فترة ، ثم إن رجل مجرم .. ما اسمه ؟ قُدار بن سالف هذا الرجل هو أشقى الأولين - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- كان معه تسعة رهط -تسعة أشخاص- تجمّعوا وخطب فيهم قُدار هذا قال : اسمعوا هذه الناقة أتعبتنا لاهي تخلي الإبل والبقر والغنم في يومها يقربوا الماء ونحن طفشنا من حليب الإبل بعدين هي تأكل وتشرب وصارت سمينة ما رأيكم نأكل لحم الإبل، تحبوا اللحم ؟ والعرب لحم الإبل عندهم شيء كبير، فالتسعة هؤلاء اتفقوا معه واتفقوا على أمرين:
 الأمر الأول : يقتلوا الناقة
والأمر الثاني : يقتلوا صالح - يالطيف - { تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } يوم جاؤا عند الناقة وهي تشرب خافوا كل واحد خاف قال : لا .. أبداً ، إلا هذا الرجل المُجرم قال أنا أبدأ الذي هو قُدارة بن سالف فأخذ رمحة وضرب الناقة وهي تشرب في منحرِها فسقطت فأقبلوا عليها التسعة ونحروها وقسّموا لحمها طبعاً ولدها يوم الشرب ما يحضر لكن يوم جاء في آخر اليوم ورأى أمه مذبوحة منحورة واللحم يوزع - انظروا واحد رأى أمه مذبوحة - ماذا يفعل ؟ رجع للصخرة، الجبل الذي خرجت منه الناقة وصعد عليه الحِوار هذا الولد وأقبل على الناس بوجهه وصرخ ثلاث صرخات سمعها صالح فجاء فوجد الناقة ذُبحت فقال : هذا إعلام من الله وإنذار من الله لكم ثلاثة أيام اليوم الأول تصفر فيه وجوهكم واليوم الثاني تحمر فيه وجوهكم واليوم الثالث تسود فيه وجوهكم فإذا أسودت وجوهكم جاءكم أمر الله وعذابه، اليوم الأول والله الوجوه صفراء، اليوم الثاني أحمرت الأوجه اليوم الثالث جاءت الصيحة فأهلِكوا جميعاً بالطاغية .
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } ما معنى الطاغية ؟ بالصيحة الطاغية ؟ قالوا : أبداً مافي عذاب.
 وقيل بالطاغية يعني كذبوا بسبب الطاغية -الرجل هذا الذي طغى- والصحيح القول الأول.
 { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } أي بسبب طغيانها { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } انظركلمة { انْبَعَثَ } { وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } دائماً الشخص إلي يقوم للفساد يكره الله انبعاثه لو فيه ريح تشمها تشم ريحة المعصية قبل لا يقبل عليها بينما الانبعاث للطاعة يحبه الله ولهذا التنافس والتسابق في الطاعات يحبه الله { وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } (لو يعلم الناس مافي النداء و الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) المسابقة في الخير يحبها الله والمسابقة في الشر يكرهها الله.
 { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } { أَشْقَاهَا } فيها تفسيرين:
 التفسير الأول : أنه رجل واحد وهو أشقى الجميع.
والتفسير الثاني : أنهما رجلان هما أشقى من في القرية أشقاها وتكون مثنى أشقى وأشقى.
 { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ } لماذا قال رسول الله وما قال صالح ؟ طبعاً هو صالح ، لأن صفة الرسالة هذا دورها والعبرة بالصفة لا بالاسم { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ } كلمة (دمدم) مثل فعل على وزن فعلل ، وفعلل في اللغة تدل على الحركة السريعة المتواصلة التي لا تُبقي ولا تذر مثل زلزل ، زلزل : حرك الأرض بسرعة ، دمدم : أهلَكَ حتى أصبح الدم بالدم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : ( الدم الدم والهدم الهدم أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله إلى دياركم ) فالدمدمة هي الغضب الذي تجتمع فيه الدماء بعضها ببعض والأشلاء بعضها ببعض { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } سقطت أبنيتهم التي هي ليست في الجبال من خيام وغير ذلك وأصبحوا في صيحة واحدة كأن لم يغنوا بالأمس .
{ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } لماذا قال ربهم ولم يقل دمدم عليهم الله ؟ 
استعمل لفظ الرب في مكان العذاب، في وقت العذاب مع أن الرب من الصفات اسم يحمل صفات الربوبية، التأديب، المُربي يُؤدب والرب من التربية فهذه الدمدمة تأديب ، تأديب لمن ؟ لمن في المكان ولمن سيأتي إلى قيام الساعة.
 { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } لو قال دمدم عليهم الله لكن هذه الوصف الدمدمة هذه ليست لائقة بلفظ الجلالة الله لأن الفعل أصغر من أن يوصف بلفظ الجلالة العظيم فوُصف بلفظ الربوبية التي تقتضي الرحمة هذه الدمدمة هي أضعف عذاب حصل للأمم، الأمم الذين عذبوا أضعفهم عذاب قوم صالح ولأن قوم صالح أضعف الأمم ذنباً هم ترى قوم صالح هداهم الله فاستحبوا العمى على الهدى فهم قوم هداهم الله، قوم فهِموا، قوم جاءتهم الآية فكان ذنبهم قتل الناقة وتكذيب صالح، أما الشرك فقليل عندهم لأنه حصلت لهم هداية لكنهم استحبوا العمى على الهدى، أمَّا عاد كم يوم ؟ شوف عاد كم جلس عليهم العذاب ؟ { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } لكن هؤلاء { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } صيحة وانتهى الموضوع في لحظة، وأي أشد عذاب يستمر ثمان أيام وإلا عذاب في دقيقة واحدة ؟ الأخير أخفّ ، أيضاً هم قوم ثمود أقرب للعرب لأن مدائن صالح قريبة جداً في قريب الشام وبينما عاد في نهاية الجزيرة جنوباً وهي الأحقاف وكانت التجارة تجارة قريش تمر على مدائن صالح ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عودته من تبوك مرّ عليها وكان الناس أخذوا من مائها وطبخوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أهرقوا كل ماء أخذتموه من ديار قوم غضب الله عليهم فإن اللعنة حلت بديارهم ومن أراد فليستسقي من البئر التي كانت تشرب منها الناقة) فتلك البئر نجت من اللعنة ) وغيرها من الآبار كله حلّت عليه اللعنة .
 { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ } الباء هنا سببية أي بسبب ذنبهم، والدمدمة قد تكون حسية كما حصل لقوم صالح وقد تكون معنوية كما يحصل لكل من غضب الله عليهم ودُمدِم على قلوبهم، الدمدمة على القلوب حجبها عن علاّم الغيوب قال تعالى : { كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وأكبر عذاب أن يُحجب القلب عن الرب، أن تُحجب أنت عن ربك ، فترى كل شيء إلا الله، وتخاف كل شيء إلا الله، وترجوا كل شيء إلا الله -نسأل الله العافية- وأكبر نعمة أن يُكشَف الحجاب عن قلبك ويكون أقرب شيء لك هو رب العالمين حتى تستشعر معيته { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } .
{ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } الخوف يكون بأحد ثلاث أشياء :
- إما ضعف القدرة على دفع المخوف يعني جاء بجيش جرار وأنت ضعيف خوف مثل خوف أصحاب موسى لا يقدرون على فرعون والبحر أمامهم .
 الشيء الثاني : أن تكون أيضاً لا علم لك به، جاهل ما عندك علم وفاجأك شيء لا تدري عنه.
والشيء الثالث : أن تكون عندك علم لكن ما عندك القدرة ولا المفر.
 فهذه الأمور كلها مستحيلة فالله عنده العلم وعنده القدرة ولا يخاف شيئاً بل هو القوي العزيز { وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا } .
بهذا انتهت سورة الشمس . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق