الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

تفسير سورة يوسف (المحاضرة السادسة) / د.عويض العطوي


... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 نستأنف ما كنا قد بدأناه من دروس تتعلق بسورة يوسف عليه الصلاة والسلام، وكنا قد تحدثنا في الأجزاء السابقة -أيها الأخوة الكرام- عن رؤيا يوسف عليه السلام -خصوصاً رؤيا يوسف عليه السلام- واليوم سنستأنف برؤيا أخرى وهي رؤيا الملك والرؤيا في قصة يوسف عليه السلام وفي سورة يوسف أيضاً عليه الصلاة والسلام لها شأن كبير فقد بُدأت بها السورة وانتهت بتعبيرها وتفسيرها وأيضاً حصلت رؤيا ثانية في السجن وكان لها دور كبير وتحول كبير في حياة يوسف عليه الصلاة والسلام فقد كانت بداية أو إشارة إلى معرفة سبب سجنِه عليه الصلاة والسلام فقد كانت سبب في معرفة ذلك الرجل الذي خرج بأن يوسف عليه الصلاة والسلام كان يعرف تأويل الرؤى وهذا الأمر كان هو السبب في خروجه من السجن.
 ثم تأتي الرؤيا الثالثة وهي رؤيا الملك التي بسببها سأل عن أحد يُعبِّر الرؤيا فما أحد عرف، الله عز وجل قدّر أن لا يستطيع أحد أن يُعبِّر الرؤيا فعادت تعبير الرؤيا إلى يوسف عليه الصلاة والسلام ليكون ذلك سبباً لخروجه من السجن.
 قبل هذه الآية أو قبل ذِكر الرؤيا المتعلقة بالملك قال الله سبحانه وتعالى: { وَقَالَ} أي يوسف عليه السلام {لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } أي لبث يوسف عليه الصلاة والسلام بعض سنين والبِضع من السبع إلى التسع وقيل غير ذلك المهم أنه بقي فترة من الزمن في السجن وبسبب نسيان هذا الرجل الذي ذكّره ووصاه بأن يذكُره عند الملِك إذا خرج إليه، مضت السنوات وبقي يوسف عليه الصلاة والسلام منسيا في السجن ثم قدّر الله عز وجل بعد هذا الزمن وبعد هذه الفترة أن يحصل هذا الحدث وهو أن الملِك نفسه رأى رؤيا قال الله تعالى في بيانها { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ } ومن خلال القصة نجد أن الاشخاص الذين ذُكِروا في القصة ممن لهم نفوذ وسلطان هم:
 العزيز وهو الذي تربى عنده يوسف عليه الصلاة والسلام
 والملِك هذا الذي يملِك مصر، والعزيز هو الوزير المُخوّل بتقسيم الأرزاق وغير ذلك..
 الآن انتقلت الأحداث من بيت العزيز إلى السجن ومن السجن إلى قصر الملك، الآن ظهرت لنا شخصية جديدة وهو الملك وظهرت شخصية الملك فيما يخصّ قضية الرؤيا {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } هذه الرؤيا.
الرؤيا -يا إخواني الكرام- أنه رأى سبع بقرات هذه البقرات موصوفة وموسومة بأنها سِمان لكنه لا يدري ما الرمز الذي ترمُز إليه هذه البقرات ما المعنى، وهذه البقرات السِمان يأكلهن سبع عِجاف يعني سبع بقرات عِجاف، بمعنى إن عنده سبع بقرات سمان وعنده سبع بقرات عِجاف يعني هزال -هزيلة- هذه الهزيلة تأكل السمينة، هذا فيما رآه في الرؤيا رأى أن هذه البقرات الهزيلة تأكل البقرات السمينة وهذا أمر غير مألوف لكنه لا يدري ما معنى هذا، والرؤيا دائماً فيها أمور غير مألوفة خارجة عن مُعتاد الناس، ورأى ايضاً في القسم الثاني من الرؤيا {سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْر } السنبلات الخُضر تتناسب مع البقرات السِمان، السنبلات تتناسب مع البقرات والخُضر تتناسب مع السِمان، وفي المقابل { وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } قالوا : ويستفاد من القسم الأول من الرؤيا أنه ذِكر السُنبلات الأخر اليابسات أيضا أكلت السُنبلات الخضر -مع أنه لم يذكر هذا- { وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } يأكلن الخُضُر قالوا : وكانت الواحده تخرج منها -يعني في الرؤيا التي رآها- سنبلة خضراء سبع سنبلات خضر مُحمّلة بما فيها من الثِمار -يعني الحبوب- وفي المقابل سبع سنبلات يابسات مافيها شيء، قال : فتلتوي السنبلات اليابسات على السنبلات الخُضر فتُهلِكها. فصار عندي الآن أكثر من مشهد، مشهد البقر السِمان والعِجاف ومشهد السُنبلات الخُضر واليابسات.
عرض هذه الرؤيا على من حوله فقال لهم : { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } إذاً هو الآن عرض الرؤيا على الملأ، والملأ إذا ذُكِر في القرآن يدل على عِليَة القوم وخاصّتهم وهؤلاء هم غالباً وزراؤه وكبراؤه وجلساؤه، وهذا الحاصل أن الملك بالعادة يعرض ما يعرض له على هؤلاء الناس، يعني لا يذهب إلى عامة الناس، يأتي إلى هؤلاء الخاصة الذين عنده ويقول لهم الأمر المهم الذي أهمّه، فالشيء الذي أقلقه وأهمّه واهتمّ به هو قضية الرؤيا هذه، أزعجته هذه الرؤيا فعرضها عليهم فقال : { يَا أَيُّهَا الْمَلَأ } يعني يا أيها الخاصّة، لذلك تجدون هذه الكلمة تتكرر مع الرسل في دعوة أقوامهم { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } عِلية القوم { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ }، وكلمة { أَفْتُونِي } تدل على ان الرؤيا أمرها عظيم حتى قال بعضهم : إنما قال : { أَفْتُونِي } للدلالة على أن الرؤيا مثل الفُتيا بمعنى أنك إذا سُئلت عن شئ لا تعرفه لا يصلح أنك تقول فيه شئ لا تعلمه فاستفتاك رجل أهذا حلال أم هذا حرام؟ ماذا تقول ؟ تقول : لا أعلم إذا كنت لا تعرف وتخاف وتدفع الفُتيا لكن الناس يتساهلون بالرؤيا كثيراً ولذلك تجد كثير من الناس يفسرون الرؤى لزملائهم وأصحابهم وكأن الأمر عادي ولذلك نُزِّلت تعبير الرؤيا منزلة الإفتاء { أَفْتُونِي } وهذا يُشعِر على أنه لا يصلح أن يتكلم بالرؤيا إلا من عنده علم بها كما لا يصلح أن يتكلم في الفُتيا والعلم والحلال والحرام إلا من عنده علم بها، ولذلك إذا اتصل عليك شخص أو عرض عليك زميل رؤيا لا تبادر بتفسيرها وأنت لا تعلم أو ما آتاك الله هذا العلم فكما ترى هذه رموز لا تعرف منها شئ إنما هو أمر يُلقيه الله ويعطيه الله عز و جل بعض الناس، عِلم و بعض الناس يعطيه الله علماً شرعياً لكنه لا يستطيع نفسير الرؤى فلا علاقة لهذه بهذا .
 { أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } ما قال أفتوني في الرؤيا قال : { أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } حتى يكونوا أكثر اهتماماً بها فإنهم إذا علِموا أن الرؤيا مُتعلقة به وأنه مُهتم بها سيهتمون هم بها.
 { أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } مجيء { إِنْ } دون "إذا" يعني ما قال : (إذا كنتم) "إن" تدل دائما على الشك يأتي الذي بعدها فيه شك، { إِنْ } فهو لم يعهّد منهم سابقا تعبير للرؤيا فقال يمكن عندكم شئ من هذا فإن كنتم تعبُرون الرؤى فعبِّروها وإلا لا تُعبِّروها فإدخال { إِنْ } هنا دليل على أنه لا يثق بتعبيرهم وأنهم ليسوا من أهل تعبير الرؤى في الأصل وهذا دليل -يا إخواني الكرام- أن جلساء الملك وغيره ليس بالضرورة أن يُلِموا بكل شئ فهناك أشياء كثيرة يجهلونها مثل ما حصل مع هذا الملك وإنما يُستعان بهذه الأشياء بأهل الاختصاص وإن كانوا ليسوا من وزرائه وحاشيته ولذلك قال : { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } إشارة إلى أنهم ليسوا من أهل الرؤيا وأنه ربما لا يثِق بتعبيرهم، { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا } بشكل عام لي وإلا لغيري { تَعْبُرُونَ } أي تُفسِّرون وتُأولون وهذا مأخوذ من المادة التي تدل على هذه الكلمة "عَبَرَ" ، فـ"عَبَرَ" تدل على تجاوز من مكان إلى مكان والمقصود هو: التجاوز بالرمز الموجود في الرؤيا إلى الحقيقة التي تدل عليها، فهو يأخذ كلمة بقرة ويدللك عليها برمز معين، هذا عبور بدل ما هو حسي أعبُر نهراً أو أعبُر من مكان إلى مكان هو عبور معنوي فالمقصود بها أنه يأخذ المعنى الذي تدل عليه الرؤيا من اللفظ الموجود فيها، والرؤيا أنواع منها ما يدل رمزها ومنها ما يدل حقيقة كلامها لكن الرؤيا التي معنا هنا رموز ليس المقصود حقيقة البقر ولا حقيقة الزرع ولا حقيقة السنابل ولا الهُزال ولا كونها سمينة { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }.
 من الملحوظات اللطيفة في هذه الآية : 
- أن الملك قال {وَقَالَ الْمَلِكُ } ما سيق كلام الملك على أنه حكاية وإنما ذُكر قوله بمعنى أنه هو الذي تكلّم وهو الذي عرض الرؤيا فمن عادة مثل هؤلاء الكُبراء أنه أحيانا يُسنِدوا إلى غيرهم من يسأل عنهم لكن دلّ بهذا بقوله {وَقَالَ الْمَلِكُ } أن الملك نفسه هو الذي حكى وهو الذي قال وهو الذي تكلّم بالرؤيا التي تخصّه وهذا دليل على أنه اهتمّ بها جدا وأقلقته وأشغلته ولذلك عرضها بنفسه مثلما يعرض قضايا الدولة وأمور الناس. هذه واحدة.
- الأمر الثاني: أن تعلّق الرؤيا بالملك يجعل اهتمام الناس بها على مستوى الدولة كلها مهما وهذه تهيئة وتوطئة أن يكون المُعبِّر لها هو يوسف عليه السلام فإذا تعلّق الأمر بيوسف عليه الصلاة والسلام تحدّث الناس في شأن يوسف لأنه تكلّم في شأنٍ على مستوى الملك وقضايا الملك فهنا يتحدث الناس عنه أين هو؟ لماذا سُجن؟ وتثار قضيته من جديد.
 الناس يقدرون والله عز وجل يُقدِّر فالإنسان أحيانا لا يعرف ولا يُدرك ما هو المُقدَّر له لكن الله سبحانه وتعالى أراد ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يكون بهذه المثابة وبهذه المكانة.
 الأمر الثالث: أن الله عز وجل قال : { سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ }.
في موطن آخر من القرآن {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ }[البقرة:٢٦١] وهنا { سَبْعَ سُنْبُلَات } وسنبلات جمع مؤنث سالم يعني ينتهي بالألف والتاء وجمع المؤنث السالم وجمع المذكر السالم من قبيل جموع القِلة فلماذا جاءت هنا بالقِلة وهناك بخِلافه في { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } ما قال سبع سنبلات ؟
قال : لأن ذلك خير وهذا شر هناك المُراد منه التكثير فناسبه جمع التكثير لأن المراد الزيادة في العدد، ولأن السبع الذي هناك هي في الحقيقة ليست سبعاً هي السبع في السُنبلات والسُنبلات هذه فيها من الحب الشي الكثير ولذلك جاء العدد الوفير فيها فالسياق كله للتكثير والتعظيم فناسبه جموع الكثرة التي تدل على ذلك، وهنا الحديث عن القحط وأكل السبع السُنبلات من السبع اليابسة فهنا هلاك وليس تكثير عكس المعنى تماماً فناسبه هنا جمع القلة وهناك جمع الكثرة { وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } ...إلخ ما قال الملك.
 الملك الان طلب منهم أن يفسروا له الرؤيا فماذا قالوا ؟ قالوا : { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } قولهم هذا {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} إما أن رأيهم قوي عند الملك بحيث أنهم يقولون ذلك علنا أمامه وهذا عادةً لا يُقال، يعني ما يأتي واحد من جلساء الملك ويقول هذا الكلام الذي تقوله كلام فارغ، كلام ماله قيمة، {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} لا يجرؤن أن يقولون مثل هذا الكلام في حضرته فإما أن يكونوا من القوة بمكان بحيث أنه هو صوري وسلطته ضعيفة بحيث يقولون أمامه مثل هذا الكلام بجراءة، أو أنهم قالوا هذه الكلمة في نفوسهم وأظهروا له { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } لكن الذي يظهر أنهم قالوا ذلك بوضوح يعني أمامه فإما أنه يقبل منهم، أيضاً قد يكون من تفسير هذا أو تأويل هذا أنه رجل يقبل الرأي ويستشير من حوله حتى ولو كان هذا الرأي صعباً فمثل هذا المناخ الآمن في إبداء الرأي يمكن لمثل هؤلاء الناس أن يقولوا رأيهم بصراحة فهم قالوا رأيهم بصراحة { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَام } يعني تفسيرنا أو رأينا في الرؤيا التي رأيت أنها أضغاث أحلام يعني أنها شئ ماله قيمة { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ }.
التوجيه الرابع أو الثالث أنهم أرادوا أن يُذهبوا روعة وخوف الملك فأرادوا أن يقولوا له لا تخف فهذه مجرد أضغاث أحلام فما أرادوا أن يسيؤا إلى كلامه -إلى رؤيته- بقدر ما أرادوا أن يُذهِبوا خوفه فيقولوا له هذا الذي رأيته ليس له حقيقة لا تخف مجرد أحلام، تخاليط في الأحلام يراها أي إنسان فلا خوف من ذلك وبنوا على ذلك { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } يعني رأينا ينقسم إلى قسمين:
 القسم الأول : أننا نرى أن هذا مجرد أضغاث أحلام فلا تخف من ذلك وليس له تأثير كبير.
والأمر الثاني أيضاً: اننا في الأصل ما نعرف نُأول الأحلام. ولعل هذا أقرب إلى واقعهم .
وقد يكون قولهم { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } أو قولهم { أَضْغَاثُ أَحْلَام } توطئة للاعتذار بمعنى أنهم أرادوا بدل ما يقولوا لسنا عارفين ولا نعرف ولا نُدرِك ولا نفهم تأويل الأحلام مثل ما يقول الإنسان والله هذا العنب حامض ولذلك أنا ما أشتهي العنب آكله فهم أرادوا أولا أن يقولوا أصلاً هي أضغاث أحلام وبالتالي نحن هذه التخاليط لا نفهمها، يعني ما أرادوا أن يقولوا نحن جهلة لا نفقه ولا نفهم بل أراودا أن يجعلوا سبب عدم فهمهم أنها { أَضْغَاثُ أَحْلَام } يعني لو كانت رؤيا صحيحة يمكن فسرناها وأولناها.
 إذاً هذا هو قولهم وهذا هو كلامهم { أَضْغَاثُ أَحْلَام } وقضية أضغاث -يا اخواني الكرام- هذا جزء مِما يراه الناس فبعض ما يرى الناس في مناماتهم هو من أضغاث الأحلام وخصوصا إذا كان فيه تخاليط بمعنى أن الإنسان إذا قام في الصباح أراد أن يقصّه ما يفهم ينسى شئ ويدخل شئ في شئ ويقول والله ما سمعت ما عرفت ما رأيت، هذه تخاليط، وأيضاً غالباً يكون فيها شئ مُخيف فيها قطع رؤوس، فيها دماء، فيها حرائق فيها شئ من هذا، يريد الشيطان بهذا أن يُخوِّف الإنسان ويُحزِنه هذه تخاليط -أضغاث أحلام- وقد يكون جزء من هذه أضغاث الأحلام عبارة عن أحاديث النفس فالإنسان أحيانا يُحدِّث نفسه بقضية من القضايا فيراها في المنام، هذه أيضاً مما يراه الإنسان في نومه.
 { قَالُوا وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } مما يدل على أن الملك اهتم بهذه الرؤيا أننا قلنا:
- أنه قصّها بنفسه وقالها.
- الأمر الثاني: أنه عرضها على خاصّة قومه.
- الأمر الثالث أنه أخرجها بالفعل المضارع فقال {إِنِّي أَرَىٰ} في العادة الإنسان لما يريد أن يقصّ رؤيا ما يقول إني أرى، يقول إني رأيت يقول والله البارحة رأيت، ما يقول البارحة أرى لأن (أرى) فعل مضارع الآن يعني ترى الآن، لكن لأن الرؤيا التي رآها الملك مشغلة له ومقلقة له وكأنه يراها الآن في اللحظة التي يتكلم فيها ساقها مساق المضارع الحالي الآن فقال : { إِنِّي أَرَىٰ } يعني كأني أراها الآن وللتدليل على أنها كانت واضحة في ذهنه وضوحا كبيرا كأنما يراها الآن أمامه فجاء بالأمر المضارع { إِنِّي أَرَىٰ }.
 وهذا الرد الذي جاء من جلسائه وطبعاً الساقي الذي نجى من الإثنين الذين سُجنا مع يوسف عليه السلام واحد قُتل -صُلِب وقتل- وواحد نجا، الذي نجا هو ساقي الملك فطبيعي جداً أنه يدخل إليه ويسمع الكلام لكن من المعلوم بأن لا يتدخل مثل هذا الشخص في أمور الدولة ولا في الحديث الذي يُدار في المجلس، مُهمته وعمله أن يسقي الملك لكنه يسمع الكلام فسمِع هذا الكلام الذي دار، سمع الرؤيا كاملة ورأى اهتمام الملك بها وأيضاً رأى اعتذار القوم عن التفسير لكنهم لم يُوفقوا أن يأتوا بحل آخر، الإنسان يا إخواني الكرام لا يعرف كل شي لكن كونه لا يعرف كل شي لا يعني أنه يعجز عن الحل وهذه مشكلة كثير من الناس، طيب أنا لا أعرف هل أتوقف لا، أبحث عن المُختصّ أطرق بدائل للحل، هؤلاء كلهم اعتذروا وسكتوا فكان هذا الشخص على بساطته وعلى ضعف قدرته أفضل حالا منهم تكلّم وأوجد حلا للمشكلة.
 { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }
 { وَقَالَ الَّذِي نَجَا} أي الذي نجا من الشخصين المسجونين مع يوسف عليه السلام، وهذا تذكير لنا بالحالة السابقة فإن يوسف عليه الصلاة والسلام وصّاه، وصّاه بماذا؟ {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} لاحظ الآن التعبير نفسه { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا } في التوصية قال (للذي نجا) وهنا قال : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا } تذكيرا لمن يقرأ ومن يسمع بأن هذا هو نفسه الذي وصّاه يوسف قبل تسع سنوات، الوصية طويلة ولأجل هذا الزمن الطويل ناسب أن تُذكر تلك المدة وكان يمكن أن يُقال الكلام وقال الذي نجا منهما (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) ولا يكون هناك تعرّض للمدة ولا للزمن الذي بقيه لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُعلِمنا قدر المدة التي نسي فيها الرجل الوصية فقال سبحانه وتعالى: { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } حتى ما قال (وتذكّر) لأن {ادَّكَرَ} فيها تشديد أكثر وتدل على مدة أطول.{ وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } فنُطقُها أثقل من (تذكّر) .
{ وَادَّكَرَ } ثم قال : { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي بعد زمن طويل، وكلمة "أمّة" لها معاني كثيرة من ضمنها الزمن، { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } إذا هو {ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } تذكر بعد فترة طويلة من الزمن وسبب التذكُّر هو الحادثة التي حصلت، وعلى هذا -يا اخواني الكرام- النسيان الذي يصيب الإنسان أحيانا يكون قصيرا وأحيانا يكون طويلا وقد تُنسى المعلومة ولو حاولت استحضارها لا تأتي ولكن إذا جاءت حادثة تُذَكِّر بها تتذكرها، هذا الذي حصل مع الرجل، ولذلك بعض الناس يقول أنا قرأت بعض المعلومات وبعض الدروس ولكنني الآن لا أتذكر شيئاً، قصدك لا تستحضر شيئاً أنت لا تستحضر الآن لكن هي موجودة مخزّنة بمجرد ما يأتي ما يُحرِّكها من قراءة أخرى أو من درس آخر تستحضرها مباشرة فلا تتصور أن هذا الذي تأخذه يذهب، هو موجود، ولذلك بعض الناس يقول : والله أنا قرأت .. قرأت .. قرأت والآن أنا أحس أني لم استفد شيئا فيترك ، لا .. العلم يُذكِّر بعضه بعضاً وحوادث الزمن تُذكِّر وهكذا.
 فهذا الرجل تذكّر لأنه وُجدت حادثة تذكّره بالرؤيا { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون } والحقيقة أن مثل هذا الرجل عندما يتكلم في مثل هذا الموقف في مثل هذا الأمر العظيم الذي اعتذر عنه كبراء القوم من وزراء وغيرهم هذا فيه شجاعة، وأيضاً هو رأى أن فيه إنقاذ للموقف وإلا بالعادة مثل هؤلاء حتى لو تكلّموا لا يُسمع لهم لكن ربما هو شعر بالخطأ الذي اقترفه في حق يوسف عليه السلام وأنه نسيه تسع سنوات وما تحدث بشأنه عند الملك فقال الآن فرصة مناسبة أن أتكلم بهذا وقال : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ }.
 وتكلّم عن هذا الأمر بالإنباء دون الإخبار بمعني أنه لم يقل أنا أخبركم للإشعار بأن الأمر عظيم فإن النبأ غير الخبر النبأ هو: الحدث العظيم المهم، والخبر هو ما يكون أمرا عاديا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } ما قال بخبر، بمعنى أنه إذا جاءكم خبر عادي لا تأخذ به، بعض الناس لو جاءه اتصال أو كلمة أو رسالة ورآه كبّر الموضوع إذا الشيء لا يستحق لا تُشغل نفسك به ولا تبحث حتى عن أدلة عليه لأن الله أمرك أن تتحدث عن النبأ وليس عن الخبر ، النبأ يعني الشئ العظيم المهم المُقلق أما نقل الأخبار الساذج هذا والأخبار العادية فالأفضل السكوت عنها وتجاوزها وليس البحث وراءها.
 إذاً هنا { أُنَبِّئُكُمْ } أي أنا أخبركم خبراً عظيماً مهماً ربما قال هذا -أيها الأخوة الكرام- لأنهم لا يتوقعون من مثله أن يكون عنده شيء فأراد أن يُعظِّم الأمر في نفوسهم يقول أنا على قلة حيلتي وضعف مستواي عندكم لكن أنا سأعطيكم شئ مهم { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } وهذا هو المهم الآن الملك يستمع الآن لأن هذا إنسان يتحدث عن الأمر الذي يهمه وهو تفسير الرؤيا { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ }
 والتأويل هو: الوصول إلى حقيقة.
 {بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} طبعاً كلمة { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } قد يُفهم منها أنه هو الذي سيقوم بالتفسير فحتى لا يُتبادر إلى الذهن هذا ويسأله الملك ما تفسير الرؤيا مباشرة قال : { فَأَرْسِلُونِ } يعني لست أنا الذي سأقوم بالتفسير أنا سأنقلكم أو سآتي لكم بالذي يُفسر لكن أنا الوسيط ومع هذا نسب الأمر إلى نفسه { أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي سأُنبئكم من خلال من يعرف هذا بتأويله { فَأَرْسِلُونِ } يعني أرسلوني أنا أو أرسلوا غيري ولذلك لم يظهر المفعول هنا من المُرسل لكن الذي ظهر بعد ذلك من خلال القصة بعد ذلك أنهم أرسلوه هو فيكون فأرسلوني أو { فَأَرْسِلُونِ } فاختاروه هو{ فَأَرْسِلُونِ }.
 هنا حذف لأحداث لا قيمة لها في القصة بمعنى فوافق الملك واستمع كلامه وأرسله -والسجن أكيد مكان بعيد- فأرسله من القصر إلى السجن فذهب الرجل ودخل السجن وقابل يوسف عليه السلام ثم قال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيق } وهذا الذي وصلنا عنده يوسف أول كلمة.
 كل هذه الأحداث، كل هذه الأقوال، كل هذه الجُمل، محذوفة غير موجودة وهذا ما يجب أن نتعلمه عندما نقُصّ الأخبار ما نأتي بتفاصيل تفاصيل الأحداث إذا رأيت أن في كلامك ما يكفي وأن الذي أمامك يفهم ماله داعي تدخل في التفاصيل الموغلة -فقال لي ادخل فدخلت عليه الباب- خلاص ادخل يكفي ممكن تتحدث مباشرة بما يدل على أنك دخلت، بعض التفاصيل العادية لا داعي لذكرها وإذا ذُكرت يجب أن يكون هناك مُبرر لذكرها وهو ما نسميه بالمُسلَّمات، في شئ في الكلام مُسلَّم بمعنى ذكرته أو ما ذكرته هو معروف مثل قوله تعالى:{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِم } أين السقف في هذا المسجد الآن ؟ أليس هو فوقنا ؟ في أحد يتصور أن السقف في مكان ثاني ؟ وأي سقف في الدنيا يسقط من أين سيسقط ؟ من أين يا جماعة ؟ من فوق، هذه يسمونها المسلَّمات.
 { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ } في أحد يقول بغير فمه، { وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } سيطير بأي شئ، { وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَق } وهل هناك أنبياء يُقتلون بحق ؟ كلها بغير حق. كثير هذا في القرآن. { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } ثلاثة وسبعة عشرة، مُسلَّمة، مسلَّمات يُسموها.
 فما تُذكر المُسلمات إلا إذا كان لذِكرها مغزى وهدف وحكمة ولذلك حتى في كلامك العادي أنت تقول والله قاله وقاله بفمه والله العظيم قاله بفمه، نحن نعرف أنه قال بفمه، وإلا قال بلسانه لماذا تقول هذا ؟ لأنك شعرت إما من الحدث أو من نوع القصة المنقولة أنه يمكن أن يُكذِّبك مَن أمامك فاحتجت إلى نوع من التوكيد أما الكلام العادي فلا نحتاج، فالمسلَّمات إذاً لا تُذكر إلا عند الحاجة فإذا لم يكن هناك حاجة لا تذكر هذه الأشياء، لذلك من السور التي احتوت حذفاً كثيراً لأحداث وجُمل هي قصة يوسف عليه السلام فلاحظوا كلمة {فَأَرْسِلُونِ} وكلمة (يوسف) كم من جُملة محذوفة لأن السياق لا يحتاجها ما نحتاج نذكرها.
 { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } إذاً دخل عليه وقابله والمعنى يا يوسف.
 { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } إما أن يكون حذف أداة النداء هنا للقُرب بمعنى أنه قريب لأنه قابله وجهاً لوجه فما احتاج، أو لأن دخوله على يوسف عليه الصلاة والسلام نوع من التنبيه فالإنسان عندما يلتقي بإنسان يريد أن يلتقي به بينه وبينه علاقة يكفي هذا ينتبه له، لكن لو قابلت شخص لا تعرفه قد لا ينتبه لك فتحتاج إلى أداة التنبيه "يا" حتى يعطيك انتباهه وينتبه إليك، أما الإنسان الذي بينك وبينه علاقة سابقة وأنت تنتظره مجرد ما تراه تقوم له أو تقابله أو تحظى به فما يحتاج إلى .. فقد يكون سقوط وحذف أداة النداء بسبب ذلك.
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } الثناء على يوسف عليه الصلاة والسلام بوصفُه بالصدِّيقية لأن هذا الرجل جرّب يوسف من قبل عايشه من قبل في السجن، رأى أخلاقه من قبل، وعادةً -يا اخواني الكرام- يُثنى على الإنسان بهذه الكلمة وهو الصدق ولذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أثنت عليه قريش قبل أن يُعلن البعثة وقبل أن يُعلن دعوته بالأمانة وسنذكر هذا الآن -يا اخواني الكرام- لكن لما جاء الموقف الذي يفسرون فيه هذه الأمانة وهو الصدق ما عرفوا عليه كذباً حتى لما سُئِل أبو سفيان هل عرفتم عليه كذب ؟ ما عرفوا عليه كذب ولذلك من أهم الصفات في الإنسان الصدق فإذا رأيت الإنسان صادقاً فيما يقول وفيما يعِد، من أين عرف هذا الرجل الصدق في يوسف عليه الصلاة والسلام؟ على الأقل نحن عندنا حادثة واحدة لكن يمكن من خلال السجن حصلت حوادث كثيرة، وَعَدهم أن يُفسِّر لهم الرؤيا قبل حضور الطعام وقد وفَى لهم بذلك، حتى في الأشياء الصغيرة هذه يكون الإنسان صادقاً وهذه الخُلة وهي الصدق -للأسف- كثير من الناس يتهاون بها وقد يكون إنسان فيه الخير وفيه سِيما الدين والشريعة لكنه لا يهتم بقضية الصدق فقد يعِد ولا يوفي، وقد يقول كلاما ويزيد فيه، وقد يحمله أحيانا الحسد -الحسد موجود عند كل الناس بعض الناس يظنون أن الإنسان إذا صلى وصام لا يحسد يحصل عند كل الناس فانتبه- الصدق من الصفات العالية والعظيمة ولذلك ( الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ) الطريق المُوصِل أوله صدق والكذب يُوصل إلى النار فالإنسان يحمل على الصدق، الصدق يحتاج إلى تضحية لأنك أحياناً الصدق قد يُورِدك مهالك لكن الصادق صادق ولذلك لما صدّق أبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم سُمي بالصدِّيق وذكر الله عز وجل الصدِّيقين في السياق الذي ذكر فيه الأنبياء (الصدِّيقين) فهي صفة أحياناً غائبة، وإذا رأيت الرجل صادقاً غالبا ما يكون في كل الصفات الأخرى طيب وجيد فيها ولكن قد يكون الإنسان في بعض الصفات جيد لكن الصدق عنده ضعيف فتجد عنده خلل في بعض أخلاقه الأخرى.
 فوصفه قال : { أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَان } وقد يكون أيضا ذكر هذه الصفة تمهيدا لعرض هذه المشكلة عليه{ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَان }العجيب أن هذا الرجل لم يعتذر ليوسف عليه السلام عن بطئ المدة التي فصلته بينه وبين ذكر قصته للملِك عادة عندما يخطئ إنسان في حق إنسان أول ما يقابله يخجل أن يطلب منه طلباً هذه عادة لما يكون في إنسان وصّاك وصية وأنت لم تقم بهذه الوصية ثم احتجت إلى هذا الإنسان تجدك تقدم رجل وتؤخر أخرى أكلمه .. أقابله .. أنا مستحي منه لكن هذا الرجل لم يستحِ منه لا يوجد شيء في السياق يدل على هذا بل مباشرةً عرض عليه القضية، إما أنه عاين من أخلاق يوسف عليه السلام ما جعله يثق بأن يوسف عليه السلام يتجاوز هذه القضايا لا تُهمه هذه القضايا كثيرا والذي يُهمه هو نفع الناس وتقديم المعروف إليهم وهذا الذي يظهر -والله أعلم- أنه عاين من أخلاق يوسف عليه الصلاة والسلام ما جعله يتجرأ، فتجد شخصين أحيانا يتناقشان والله نكلمه أو لا لا نكلمه فواحد منهم يعرف خُلق هذا الإنسان يقول لا عليك هذا الرجل لا يهتم بهذه القضايا، لا عليك أبداً اذهب إليه وقل قصّتك لن يسألك عن المشكلة التي بينك وبينه، فأخلاق الإنسان هي التي تجعلك تتأخر أو تتقدم، تسحي منه أو لا تستحي منه، تخاف منه أو لا تخاف منه، وبعض الناس لا والله صعب، صعب تجده لأي حادثة لا تريد أن تتكلم معه مرة أخرى فدلّ ذلك على أن سماحة يوسف عليه السلام هي التي جعلت هذا الرجل يتجرأ هكذا ومباشرة يذكر له الرؤيا دون أن يعتذر عن تأخر بلغ تسع سنوات، والله لو واحد منا تأخر بس يوم واحد بس ما استطاع أن يقابل الرجل يمكن حياءً منه، هذا الرجل مباشرة { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } ماذا تلحظون في هذا النص الذي ذكره الرجل؟
 لقد نقله نقلاً أميناً لم يزد فيه شيئاً ولم يُنقص منه شيئاًً، هذا مهم عندما يكون هناك وسيط في الاستفتاء سواء فتوى في علم أو في رؤيا ما تزيد فيها شئ من عندك ولا تُنقِص منها شئ تقول لا لعله قصد كذا، يمكن قصد كذا وتزيد من عندك شيء،لا .. كن أميناً في النقل سمعت بهذا انقله، وآفة ما نسمع اليوم -حتى من الأخيار الطيبين- أنهم عندما ينقلون الفتوى لا ينقلونها على صورتها قد يُنقصون منها شيء وقد يزيدون فيها شيئا، وقد أحيانا يجتهد بعضهم يقول يمكن ماله داعي أذكر النقطة هذه، إذا نقلت شيئاً لغيرك انقله كما هو قل قال وانقل الكلام كما هو حتى في علم البحث الآن وعلم البحث العلمي إذا نقلت من إنسان شئ تضعه بين قوسين لأنك لا تستطيع تقوله بلسانك فتدلل به بين القوسين بأن هذا النص كامل كما قاله هو وأردت أن تعترض عليه تكتب في الحاشية وقد قال هذه الكلمة لا تعدِّل فيه شئ وفي أدبيات البحث العلمي لو عدّلت شيئاً تعتبر هذه إساءة وفي بعضها سرقة علمية إذا لم تشير إلى كلامه، بعض الناس الآن ما يهتم، ينقل الكلام على عواهنه ويكون وسيطاً ويُساء للفتوى لأن صاحبها ذكرها بنص والذي نقلها بنص فوصلت المفتي بنص فأفتى على هذا النص والواقع شئ آخر.
 هذا الرجل نقل كلام الملك كما هو بدون تعديل { وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ }  هذا النص { لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُون }هذه العبارة الأخيرة { لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ } أراد أن يُوصِل  إلى يوسف عليه الصلاة والسلام أن الأمر مهم و أنه يتعلق بالناس ركزوا معي -يا إخواني الكرام- في هذا المعنى لاحظوا معي أن الرجل الذي جاء إلى يوسف عليه السلام لم يقل : يوسف أيها الصديق أفتنا في رؤيا الملك ، بعض الناس إذا أراد أن ينقل شيئاً مهماً حتى يضفي عليه أهمية فيقول هذا كلام الملك حتى يأخذ الناس هذا الكلام بقيمة لكن هذا الرجل أدرك أن هذه الكلمة لا تعني عند يوسف شيء الذي يُهم يوسف ليس كلام الملك ، الذي يُهم يوسف تعلّق مصالح الناس بهذه الرؤيا ولهذا ذكر الناس ولم يذكر الملك لاحظوا معي أنه ذكر الناس قال : { لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ } فكأنه يقول هذه الرؤيا لها تعلّق بمصالح الناس لكن من الذي رآها ؟ لم يذكر له الذي رآها وهذا دليل على أنه يمكن تفسير الرؤيا بدون العلم بصاحبها -وإن كان الأفضل- طبعاً هذه يمكن تختلف من مُعبِّر إلى مُعبِّر و إن كان الأفضل أن يُعرَف ولذلك بعض المعبرين لا يستطيع أن يعبِّر إلا إذا كان صاحب الرؤيا هو الذي يقولها ويسأله عن بعض الأحوال وبعض الأسئلة، وبعض الرؤى واضحة لا تحتاج إلى سؤال.
 { لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ } فلأنه علِم من أخلاق يوسف عليه الصلاة و السلام أنه يعتني بمصالح الناس كثيراً قدَّم له هذه العبارة، وأنا دائماً أكرر هذه النقطة -يا إخوان- من الأشياء الظاهرة في أخلاق الأنبياء العناية بأمر الناس أكثر من العناية بأمورهم الخاصة، واليوم نحن نعكس الموضوع تماماً، نحن نعتني بأمورنا الخاصة ومصالحنا الخاصة أكثر مما نعتني بأمور الناس ولذلك انظر إلى موظف على قسم المشتريات -أحياناً- يُهمه أن يأخذ من هنا أو من هنا ويكسب من هنا أو من هناك ولم يفكر في هذا المشروع هل ينفع الناس أو يسيء إلى الناس أو حتى هل أقيم على الوجه الصحيح أو غيره ، الموظف الآن في خلال وظيفته الذي يهمه راحة نفسه لكن لا يهمه أن يقضي للمراجعين عدداً كبيراً من المعاملات، هذا الأمر بدأ يغيب -يا إخواني الكرام- أحوال كثيرة عندنا أصبحنا لا نهتم فيها بأمور الناس ونهتم بأمورنا ، اقرأوا القرآن ستجدون كثير من الأحداث التي تتعلق بالأنبياء كلها لمصالح الناس وليست لمصالحهم هم وهذا واحد منها .
{ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُون } أي بحقيقة هذه الرؤيا وما تؤول إليه وكيف يتصرفون فإن الأمر يتعلق بمصالحهم .
 وقد يكون في هذا -أيها الإخوة الكرام- فهم من هذا الرجل -على ضعف مكانته عند الملِك- فهمٌ أنه هذه الرؤيا بالرغم من أنها رموز إلا أنها تتعلق بمصالح الناس ، كيف عرف أنها تتعلق بمصالح الناس؟ قد يكون فهِم فهماً أولياً منها أن هناك شيئاً سيحدث.
 لاحظوا معي يا إخواني الكرام مباشرةً جاء قوله تعالى الآن نستمع إلى كلام يوسف عليه السلام في تعبير الرؤيا
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } مباشرةً أجابه على ما أراد ، أغلب المفسرين أشاروا إلى هذه النكتة وهذه المعلومة اللطيفة أن يوسف عليه السلام لم يُجابِه هذا الرجل السائل بالتعنيف عن تأخيره في الرد عليه وعن الوصية التي وصّاه بها فإنه قد وصّاه قبل سنوات أن يذكره عند الملك والآن لما حصلت مصلحة معينة وتذكر جاء يسأل فلو كان غير يوسف عليه الصلاة والسلام، لو كان من عامة الناس وليس من أخلاق الأنبياء كان أول شيء يقول له : ما دمت صاحب مصلحة عندي أولاً أريد أن أعرف أين غبت هذه السنوات؟ أما تستحي أن تتركني سنوات عديدة وأنا في السجن و ا تذكرني إلا للمصلحة؟! لكن كل هذا لم يذكره فقالوا لم يُعنِّفه و لم يُذكِّره حتى بالوعد الذي بينهم سابقاً لم يُذكِّره بشيء. والله بعضنا يعجز عن أن يفعل شيء مثل هذا مع قريبه ومع صاحبه ومع ذوي رحِمه بل تجده إذا أراد أن يُسامح بعد طول عناء تجده يُذكِّره بكل الأشياء السابقة ولازم يعتذر له ، هذه الأشياء يجب أن نتجاوزها يا جماعة الذي يريد أن يُكرِم، يريد أن يعفو ويصفح يتجاوز هذه الأشياء، والذي يريد لا ولله لابد أن يعتذر له الناس هذا سيطول انتظاره.
 فيوسف عليه السلام رأى أن الأمر يتعلق بمصالح الناس إذاً الآن لا داعي لإدخال القضايا الشخصية لا داعي لإدخالها ، الآن الأمر يتعلق بمصالح الناس نقضيه وبعد ذلك -حتى لو كان خصمك، حتى لو كان عدوك، حتى لو كان بينك وبينه سوء تفاهم سابق- الأمر الذي يتعلق بالناس - وهذا أريد أن أذكره يا إخواني الكرام في مصالح الناس- قد يكون في مصلحة الحيّ، أحياناً قد يكون في مصلحة قبيلة أو جماعة أو فخذ مجتمعين على أمرٍ ما ، دائما عندما تفكر لا تفكر في الأمر المخالف لك وهذا ما أخذوا برأيي و رأي فلان أحسن فكّر في مصلحة الناس أين مصلحة الناس؟ في الرأي الفلاني -والله لو من طفل- خلاص في اللحظة هذه حتى لو كان هذا الرأي لك سابقاً والآن عادوا إليك لا داعي للتفاصيل، الأمور هذه نتجاوزها مثلما تجاوزها يوسف عليه السلام لم يذكر فيها شيئاً.
 { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } التفسير -يا إخواني الكرام- جاء في صورة توجيه لا في صورة تفسير عادي يعني ما قال لهم تأتيكم سنوات وضعها كذا وكذا إنما وجَّهَهُم بما ينبغي فعله تفعل كذا وكذا وكذا ، وغالباً لا نسمع هذا من المُفسرين إلا يفسرون أولاً ثم يوجهون ، مباشرةً وجّههم، ما قال لهم والله السنوات تعني كذا والبقر يعني كذا والسِّمان يعني كذا والرؤيا فيها كذا، لا.. وجّههم بما ينبغي فعله قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } هذه الحالة التي ستمرون بها { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } مستمرة خلف بعضها، ومادام فيها (تزرعون) يعني يوجد خير يوجد زرع يوجد ماء يوجد نماء هذه تُمثِّلها السبع البقرات السِّمان فإنها لا تسمَن إلا إذا وُجِد شيء تأكله ولا يمكن أن تجد شيئا تأكله إلا إذا كان هناك شيء مزروع فهناك مطر وهناك زرع، فقال هذه السنوات السبع تستمرون في الزراعة لا تنقطعون { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ } بما يدل عليه الفعل المضارع { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } مستمرة فيها تعب تتعبون من أجل أن تُنتِجوا أكبر إنتاج ممكن خلال سبع سنوات { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } يعني متواصلة { فَمَا حَصَدْتُمْ } في خلال السبع سنوات طبعاً كل سنة لوحدها السنة الأولى والسنة الثانية فإذا جاء الحصاد وحصدتم { فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } لا تخرجوه، يُسمى الدَّرس يدرسونه إما من خلال الدواب أو بأرجلهم أو بآلآت حتى تنفصل الحبة عن السنبلة هذا هو الدَّرس يُسمى الدَّرس فقال : لا تفعلوا هذا، إذا كنتم تعودتم على هذا لا تفعلوه { فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } اتركوه في سنبله { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ } الذي تريدون أن تأكلوه أخرجوه من سنبله وافعلوا به ما تفعلون سابقاً اطحنوه أو اجرشوه أو غير ذلك المهم أن الذي لا تأكلوه اتركوه.
 قوله : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } دليل على أنه وجههم لأمر لا يعرفونه فإنهم سيحصدون في أول سنة كل المحصول وسيأكلون منه جزءاً والباقي يبقى في سنبله طيب لو أخرجوه من سنبله سيبقى أيضاً ما عندهم مشكلة لأن الحب يبقى فترة من الزمن لكن إن أردته أن يبقى زمناً أطول اتركه في السنبلة فقالوا إذا لم يُتركه في السنبلة وخصوصاً في أماكن قد لا تكون جافة كثيراً لا يتجاوز سنتين لكن لو تركته في سُنبله سيبقى إلى هذا الزمن الذي ذكره فهو قد يكون علَّمهم وعرَّفهم أمراً لم يعهدوه لأنه بالعادة يأكلون ما يحصدون خلال العام نفسه وينتظرون حصاد العام القادم فلا يخزنون شيئاً فترة طويلة فلم يكن لهم معرفة بطريقة الخزن فقال لهم هذه المعلومة وهي أن يبقوه في السنبلة، وهذا الآن حتى من الاكتشافات الحديثة أنه إذا بقي في السنبل يبقى فترة طويلة لا يفسُد، والعجيب من العجائب في هذا الأمر -يا إخواني الكرام- أن حبة القمح هذه إذا أخذها النمل وأدخلها في جحره يقسمها قسمين قالوا : لماذا يقسمها قسمين ؟ قال: لأن المكان رطب في الداخل فإذا لم يقسمها تنبت لكن إذا قسمها لا تنبت وهذا من تعليم الله سبحانه وتعالى للنمل { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } هذه هداية من الله سبحانه وتعالى يعطيه كيف يعيش فالنمل يعرف كيف يخزن ، يخزنها بطريقته الخاصة يقسمها قسمين حتى لا تنمو ، فهنا علَّمهم طريقة لم يكونوا يعرفونها { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } اتركوه كما هو بسنبله اخزنوه بالسنبل { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ } فدل ذلك على أنه وجههم أن الشيء الوحيد الذي تأخذوا منه هذا القمح أو هذا الأكل الذي تأكلونه فقط هو المأكل أي شيء آخر لا ، تعطيه علف دواب أو تفعل به شيء آخر لا يوجد ، الشيء الوحيد الذي يُسمح لكم أن تأخذوا منه هو على قدر ما تأكلون فقط بمعنى أنه وجههم إلى نوع من الإقتصاد بحيث يكفيكم هذا لسنوات أخرى، وهذا مدخل جميل وأساس في حُسن التصرف حتى أنت الآن إذا تعرف -مثلا- أن عليك التزامات مالية هذا العام، من العقل ومن حسن التصرف أن المصروفات التي عندك تبدأ تغير الوضع فيها فالضروريات تصرف فيها والكماليات تتوقف عنها لأنه عندك شيء آخر ، بعض الناس ليس عنده أي تصرف المال الذي يأتي يصرفه ، عندك ديون عندك أمور ما يفكر في هذا. فهذا من حُسن التصرف هذا على مستوى ميزانيات الدول التي نتكلم عنها الآن وكذلك على مستوى الأفراد ، فهو يبين لهم أنتم كنتم تأكلون هذا الحب تصرفونه في مصارف كثيرة توقفوا عنها جميعاً، الذي يُسمَح لكم الأكل بقدر ما تبقون غير ذلك توقفوا عنه لذلك قال : { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي أقل القليل الذي يُبقي لكم الحياة تأكلوه فقط ، فدل ذلك على أن الذي سيبقى الكثير.
 { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ } لماذا تفعلون هذا، سبع سنوات وأنتم بهذه الطريقة والحصاد على الحصاد على الحصاد صارت كميات كبيرة، { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ } لو تلاحظوا هذه الكلمات تدل على الزمن إن فيه سبع سنوات فرق ولذلك جاءت كلمة "ثم" ما قال فتأتي لأن "ثم" حرف عطف يدل على التراخي يدل على الزمن الطويل فالحادثة مجيء السنوات السبع الثانية ستأتي بعد سبع سنوات فهي فترة طويلة { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِك } أيضاً يدل على بُعد الزمن. { سَبْعٌ شِدَادٌ } سبع سنوات شديدة قحط لا مطر فيها ولا زرع وهم غالباً يعتمدون على المطر ما فيها زرع.
 { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } السنوات ما تأكل لكن في الحقيقة الناس يأكلون نصيب السنوات هذه ، فنحن في هذه السنة ما زرعنا من أين سنأكل ؟ من السنة الأولى وهكذا هو نبههم من السنة الأولى حتى لا تفسُد أيضاً ، نأخذ من السنة الأولى لأنه صار عليها الآن سبع سنوات و هي مخزونة فنأكل من السنة الأولى ، والسنة الثانية الجافة نأكل من السنة الثانية فوافقت سبعة بسبعة.
 { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ } الذي فعلتموه سابقاً أنتم ووضعتموه في سنبله يأكلنه كله إلا قليل يعني معناه سيبقى منه أيضاً لا يذهب كله سيبقى منه شيء أيضاً وهذا فيه توفير أيضا يعني فيه وَفْر، صار فيه شيء زيادة ولو قليل لكن صار فيه وفْر. الآن انقضت كم ؟ سبع سنوات وسبع سنوات أربعة عشر سنة ، سبع خيِّرَة وسبع شداد.
 ثم قال بعد ذلك قال : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } بعد هذه السنوات السبع العجاف يأتي عام ويكون العام هذا مُكمل السنة الخامسة عشر يعني فترة ليست بسيطة ولذلك الناس لا يعرفون التخطيط البعيد -الاستراتيحي- كل تخطيط الناس الشهر القادم الشهرين القادمين وإن طالت سنة، لكن هذا التخطيط سبع سنوات وسبع سنوات وسنة فهو تخطيط بالسنوات ولذلك أغلب الدول الآن تعتمد الخطة الخمسية بمعني أنها تخطط لخمس سنوات، والخطة الخمسية هي خطة في مرحلة قد تكون المرحلة خمسين سنة لكن كل خمس سنوات تُراجع البرامج لهذه السنوات هل هي مناسبة أو غير مناسبة تصلح أو لا تصلح نُغير فيها أو لا نغير فيها وهكذا كل خمس سنوات، فهذه مدة طويلة لاشك وجَّه يوسف عليه الصلاة والسلام ماذا يفعلون خلال هذه السنوات.
 { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } 
{ يَُغاثُ النَّاسُ } قالوا : بالغيث يعني يُمطَرون ينزل عليهم المطر الغيث لكن لماذا لم يقل يُمطرون ؟ 
ولماذا لم يقل ثم يأتي من بعد ذلك سنة أليس الحديث عن السنوات ؟ أما كان الحديث عن { سَبْعٌ شِدَاد } يعني سنوات و قبلها {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ} الكلام عن السنين لماذا قال سنين وهنا قال عام ؟
 قال: لأن العام يُذكَر غالباً في مواطن الخير والسنة تُذكر في مواطن الجدب ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) السنة دائماً تُشعِر بالجدب والقحط  والعام يُشعِر دائماً بالخير ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام :{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} لأن فيها جُهد ومشقة فيها تعب { إِلَّا خَمْسِينَ } ما قال سنة قال : { عَاماً } ليس فيها تعب هذه ، فدائماً العام يتناسب مع الراحة يتناسب مع عدم المشقة إلى غير ذلك ، والغيث دائماً خير لا يُذكَر الغيث إلا بالخير لأجل ذلك هو خير (يُغاث) وأما المطر فقد يكون خيراً وقد يكون شراً بل كل ما ذُكر في القرآن من المطر فهو عذاب { فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ } كله شر كله عذاب فالغيث إذا ذُكِر يدل على الخير ، فلما كان هذا العام عام خيرٍ وبركة ذكر الله سبحانه وتعالى فيه كلمة العام وذكر كلمة الغيث .
{ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } ما قال يزرعون قال : { يَعْصِرُونَ } قالوا : لأنه ذكر النتيجة ، والناس إذا وصلوا إلى مرحلة العصر معناه أنهم بخير كثير ، والعصر يدخل فيه حتى اللبن والسمن وأهل البادية يعرفون أنه إذا أصبح عند الناس سمن ولبن معناه أنهم بخير وإلا لا ؟ معناه انهم بخير وربيع ، لا يحصل هذا إلا إذا كان في ربيع وخير، وأهل المدر الذين هم أهل الحاضرة يعصرون والعصر الذي يناسبهم ما هو ؟ من المزارع فقد يعصرون الزيت وقد يعصرون العصائر هذه التي تعرفون وقد يعصرون قصب السكر ويستخرجون منه السكر، كل ما يمكن أن يُعصر لا يمكن أن يأتي إلا إذا كان هناك زرع وفير وخير كثير وتنوع فهم يعصرون دل ذلك على أنهم جاءهم عام خيِّر فيه خير كثير فكلمة يعصرون اختصرت هذه المعاني كلها. هكذا قال لهم يوسف عليم السلام في تفسير هذه الرؤيا وهي كما ترون فيها توجيهات واضحة.
 لو نلاحظ في هذا التفسير الذي فسره يوسف عليه الصلاة والسلام أنه ذكر لهم أموراً في الحقيقة بعضها ذكرها على سبيل الواقع فقال يحصل لكم هذا { تَزرَعُونَ } فيكون على سبيل التوجيه وأما الذي على سبيل التوجيه وبشكل واضح قال : { فََََََذَرُوهُ } هذا توجيه لم يقل تتركونه { فََذَرُوهُ } هذا توجيه ولذلك المُعبِّر يمكن يذكر لك الشيء بمعنى أنه يقول : يحصل لك كذا ويدخل في داخله توجيه فلا تفعل كذا ، هذا (فلا تفعل) توجيه وليس تعبير مباشر هو تعبير على التوجيه ولو لم تسأله أنت ذلك.
 وفيه أيضاً -في تفسير يوسف عليه الصلاة والسلام- أيضاً إخبارٌ بما سيقع وهذا قد يكون في الرؤى يُخبرك بشيء بناءً على الرموز الموجودة حوله فذكر لهم ثلاثة أشياء : ذكرٌ للواقع الذي سيحصل، توجيه لما ينبغي فعله، وحديث عن المستقبل الذي سيحصل
 { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } على ماذا يدل هذا ؟
طبعا هنا أيضا حذف كثير، أن هذا الرجل خرج من عند يوسف عليه الصلاة السلام ذهب إلى الملك أخبر الملك بالرؤيا سُرَّ الملك بهذا الخبر وبهذا التقنين وبهذه العظَمة في تفسير هذه الرؤيا وهذا الوضوح فيها فمباشرة قال الملك: { ائْتُونِي بِه } هذا رجل غير عادي هاتوه وهنا بدأت رحلة خروج يوسف عليه السلام من السجن سبحان الله!! تسببت الرؤيا في أول حياته بحسد إخوته له وذهابه إلى البئر ودخوله السجن بع ذلك كلها سلسلة واحدة حتى دخوله السجن حسد، تحاسدت النساء عليه من هنا ومن هنا، وتسببت الرؤيا أيضا في خروجه من السجن. فأنت لا تدري ما هو السبب الذي ينفعك وما هو الذي به ضرر.
 { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ } يعني جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام قيل هو صاحبه نفسه وقيل رجل آخر لا يهمنا لأنه هنا غير واضح { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ } إلى يوسف عليه السلام { قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } لاحظوا معي أنه أول مرة جاءه الرسول الأول -صاحب الرؤيا- أجابه مباشرة بدون أي شيء وبدون أي شروط وبدون أي معاتبة أما الآن فإنه لم يجبه رغم وضوح أنه رسول من الملك وأنه طلب أنك تأتي قال : لا أنا لا آتي معك { ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ } إلى سيدك إلى الملك هذا {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيدِيَهُنَّ } رأى من المناسب الآن التذكير بهذا وبدأ يهتم بنفسه الآن لأنها قضية تخُصّه ولو بقي في السجن بعض الوقت لا يوجد مشكلة لأن المصلحة تخُصّه هو فقد جاء في البخاري : ( رحم الله يوسف لو لبثتُ ما لبِث في السجن لأجبتُ الداعي ) يعني لو كنت مكانه في السجن وبقيت كل هذا الوقت وقال لي اخرج لخرجت وبعدما أخرج سأخبره لكنه لم يفعل ذلك فصَبَر حتى تظهر براءته. فإذا وجدنا إنساناً يبحث عن براءته ويريد أن يُظهرها فهو معذور بل بالعكس، وعلى العكس يا إخواننا الكرام ينبغي للإنسان أن لا يضع نفسه مواضع التهم إذا كان يوسف عليه السلام يرفض أن يخرج من أجل أن تظهر براءته يمكنه أن يخرج ويعطيه الملك ما أعطاه لكن في نفوس الناس أنه مُتهم يوم من الأيام كان مسجون ما ظهرت براءته فأراد أن تظهر البراءة بوضوح له وللملك وللنسوة لأنه إن فعل ذلك تغير الوضع.
 { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أيضاً لو نلحظ هنا أن يوسف عليه الصلاة والسلام طلب من الرسول أن يسأل الملك عن شيء مختلف عن الذي في أذهاننا الآن هو لم يقل له : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال امرأة العزيز تراودني بل ذكر حادثة أخرى وهي قضية التقطيع:
 أولاً: لأن عليها دليل مادي وممسك مادي، واضحة ولأنها حادثة غريبة غالباً لا تُنسَى يمكن حتى خبرها وصل للملك حادثة غريبة لو حصلت في زماننا لكل الناس سمعت بها فقال :{ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أنا أريده أن يسأل فقط لماذا قطعت النسوة أيديهن لفقط، لاحظوا أنه أشار إلى قضية لا علاقة لها بالمراودة مباشرة ولم يذكر امرأة العزيز لا من قريب ولا من بعيد ، قالوا : لم يذكرها من حُسن أدبه وحيائه فهو رغم المآسي التي فعلتها به إلا أنه لم ينسَ أنها أحسنت إليه يوم من الأيام { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } وقد أكرمته ولا يوجد شيء ما يدل على أنها لم تفعل غير هذا، فهو لم ينسَ كل هذا ولم ينسَ التربية التي حصل عليها ولم ينسَ الأيام التي بقي عندهم فيها والإحسان الذي أحسنوه إليه فلم يذكرها بسوء وذكر النسوة لأنه لا علاقة له بالنسوة ولكنه يُدرِك أن الملك لو سأل هذا السؤال سيصل إلى الحقيقة .
{ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } الكلام عن النسوة، هناك مؤامرة هناك شيء اسأل وحاول أن تصل إليه وبعد ذلك أنا أخرج .
 لاحظوا معي أيها الإخوة { قَالَ مَا خَطْبُكُن } هذا كلام الملك هذا دليل على أنه أيضاً هناك أحداث حُذِفت وجُمَل فجمع النسوة ومن ضمنهن امرأة العزيز ووجه إليهن الخطاب فقال : { مَا خَطْبُكُن } الخطب: كلمة تدل على تعظيم الأمر المسؤل عنه، فالخطب هو الأمر العظيم. { مَا خَطْبُكُن } ما الشيء الذي حصل ما هو الشيء الكبير الذي فعلتموه؟ وقد حصل هذا أيضاً مع موسى عليه السلام عندما رأى المرأتين ، فيُسأل أحياناً لما ترى حادثة عجيبة أمامك لا تدري ما ورائها تسأل هكذا : ما خطبك ؟ ما هي المشكلة عندك
{ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِه } هذا دليل لاحظ  يوسف عليه السلام لم يذكر المراودة وهذا نُطق نَطَق به الملك قال : {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } ما شأنهن لم يقل اسأله عن مراودة أو غيرها لكن هذا يدل على أن القضية مشهورة وأنها وصلت للملك وأن الملك عنده إما إحساس أو معرفة أن المراودة حصلت من النساء ليوسف عليه السلام لكن يبدو أن الأمر حُوِّر وبدل من أن تكون المراودة من امرأة العزيز وُضِعت المراودة على النسوة وهذا قد يكون من كيد امرأة العزيز الخافي الذي لم يُذكر في القصة فقد تكون هذه الصورة التي وصلت إلى الملك وهذا دليل على أن مثل هؤلاء قد يعرفون أن هناك أناس مظلومون فهو يُقِرّ الآن من خلال سؤاله أن هناك مراودة حصلت فإذا كانت مراودة حصلت فمعناه أنه مظلوم لماذا لم تسأل عنه ؟ هذا يدل على أن هذه الأمور موجودة فقد يعرف أو يسمع أو عنده إحساس أو عنده معرفة أنه يوجد ظلم لكن قد لا يعنيه هذا الأمر كثيراً إلا أن يحدث شيء يجعله ينتبه لهذا.
أما في شريعة الإسلام فقد ذُكِر عن بعض الخلفاء -لا أذكر من هو الآن- لكنه كان يوصي القاضي : ليكن أول أمر تنظر فيه في القضاء هو أمر المسجونين -المحبوسين- أول شيء تنظر فيه يومياً لأن هؤلاء الناس إذا كانوا غير مسجونين بحق فمن الظلم أن يبقوا. فيوسف عليه السلام بقي تسع سنوات والملك يشعر ويعرف أو عنده خبر بوجود مراودة وكذب وأنه ليس له أي علاقة بالموضوع لكن هكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يبقى هذه الفترة وهذا الزمن.
 { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِه } فوجه إليهن أنهن مُتهمات بالمراودة { قُلْنَ } جواب { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ }واضح أن نفي الأمر عنهن غير وارد غير بَيِّن ، قال بعضهم : لا.. كلام هؤلاء النسوة ينقسم إلى قسمين:
 أولاً : { حَاشَ لِلَّهِ } يعني حاشَ لله أن نفعل ذلك فهذا نفي لتهمة المُراودة عن أنفسهن.
 الثانية : { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } هذه تبرئة لساحة يوسف عليه السلام وإن كانت ليست تبرئة كاملة يعني نحن ما علمنا عليه من سوء لكن إذا كان فعل شيئاً آخر نحن لا نعلم.
 إذاً هن نفين التُهمة التي وُجّهت إليهن -قضية المراودة- { إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِه }.
امرأة العزيز تسمع الكلام ، يقولون ليس هناك فعل بلا فاعل إذا كان المُتهم ثلاثة أو أربعة أو اثنان أو مجموعة فوُجِّهت التهمة إلى واحد فنفاها وجب عقلاً أن تثبت للثاني، فامرأة العزيز فهمت هذا الآن التُهمة وُجِّهت فنفين التهمة وأثنين على يوسف عليه السلام فلم تنتظر أن يعترفن أو يعترف يوسف عليه السلام من خلال إرسال أو من خلال ما يقوله للرسول أو غير ذلك فقالت أنا أعترف أفضل. وهذا أيضاً من حُسن التصرف -أحياناً- فمباشرة لما سمعت هذا الكلام وأُسقِط في يدها وأن الأمر اتضح قالت مباشرة : { قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ } خلاص الآن انكشف كل شيء { قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَق } {حصحص } ظهر وبان وتمكَّن {حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِه } بكل وضوح { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِه } طبعاً امرأة العزيز تدرك وتعرف أن النساء يعرِفن أنها راودته لأنها اعترفت قبل ذلك بالمراودة أمامهن في اعتراف سابق منها أمام النساء فقالت أنا أقول هذا، أقول هذا قبل أن يقوله غيري كما يقولوا : "بيدي لا بيد عمرو" { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } نعم هذه هي الحقيقة لكن بعد كم سنوات وهو مسجون وهي تسرح وتمرح !! تجد بعض الناس عندهم موت ضمير الناس يُسجنون ويعذبون بسببه وهو يعرف الحقيقة وهو جالس كيف يرتاح هذا الإنسان!!
 { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } وأكدت طبعاً قالت : { أَنَا رَاوَدْتُهُ } لم تؤكد كثيراً كلامها لأنه لا يحتاج تأكيد مادام الإنسان يعترف على نفسه لا يحتاج تأكيد ، لكنها لما تحدثت عنه قالت { وَإِنَّهُ } هذا توكيد "إنَّ"، "اللام" توكيد { لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي من جملة الصادقين الذين هذه صفتهم، مجموعة توكيدات للتدليل على أن كل ما قاله يوسف عليه السلام صدق وصحيح وأنه لُفِقَت عليه هذه التهمة وكُذِب عليه فيها عليه الصلاة والسلام.
 ثم قالت { ذَلِكَ } وكأنه نوع من التفسير والتعليل يعني لماذا أنا قلت هذا لماذا أنا اعترفت بهذا { ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } يا ترى من هو الذي يعلم زوجها أم يوسف عليه السلام؟ يعني هذا الذي قلته الآن { لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } من هو الذي لم تخنه بالغيب زوجها أو يوسف عليه السلام ؟ 
بعضهم قال زوجها وبعضهم قال يوسف ، فإن كان الزوج فليعلم أني لم أخنه بالغيب أنها مجرد مراودة يعني هذا المعنى، بمعنى أنه لم يحصل شيء غير المراودة مع أنها خيانة لكنها تشير إلى الخيانة الكبرى في حق الزوجية ما حصل شيء فأنا لم أخنه الذي حصل هو هذا راودته وليس شيء غير المراودة، وإن كان المراد بالغيب أي في حال غيبته أو في حال غيبتي أنا فقالوا : هنا بالغيب حال إما منها أو منه بمعنى أني لم أخنه بالغيب حال كوني غائبة أنا عنه يعني لا يراني أو كونه هو حاله غائب عني كلاهما صحيح.
وقد يكون المراد يوسف عليه السلام { ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } وهو غائب الآن لا يسمعني وهو في السجن الآن وهو غائب عني أنا سأقول الحقيقة وهو غائب ليعرف أنني لم أخنه يعني ما قلت شيئاً غير الحقيقة رغم أنه غائب بإمكاني أن أقول شيئاً آخر فأنا أعترفت بالحق { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين } وقد جربت من قبل كيف تكون الخيانة ورأيت نهايته ولن يهدي الله عز وجل كيد الخائنين يمكن سنوات وأيام ستنقذك لكن في النهاية ستسقط ، قيل هذا الكلام لها وهذا الذي يدل عليه السياق وهو الصحيح لأن الكلام مستمر فالكلام لها من أول وهذا لها.
 وقيل الكلام ليوسف عليه السلام من أين ؟ من قوله : { ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْب } فيكون الكلام الأول : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } من كلامها هي ثم يكون الكلام القادم هذا : { ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} نقل للكلام ليوسف عليه السلام و يكون المعنى { ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أي أنا لم أخن الزوج الذي اشتراه من قبل أنا ما خنته وهو غائب، وهو غير صحيح الذي قيل أنا بريء من ذلك { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين } .
لكن الذي يظهر -وهذ اختيار الطبري- الذي يظهر أن الكلام ما زال لها هي وهو الذي يتناسب مع سياق الكلام ومع معانيه وأيضاً يدل عليه ما بعده { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } لِمَ فعلتي ذلك؟ قالت : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } أنا مخطئة ولا أقول أني لم أخطيء لكن ما فعلت الفاحشة الكبرى { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } نعم أنا أخطأت ووقعت في خطأ { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
{ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ }هذه تحقيق لحال الإنسان ، النفس أمّارة بالسوء دائماً تأمر بالسوء، هذا نوع من النفوس وهي موجودة عند كل إنسان تأمره بالسوء إذا لم يملكها ويضبطها ستُودي به إلى المهالك { إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } في هذا الموقف -يا إخواني الكرام- امرأة العزيز وقعت في خطأ لكنها بعد ذلك تابت وآبت هذا واضح من كلامها، وهذا فيه درس لنا أي إنسان في الدنيا سيقع في خطأ في لحظة من اللحظات في زمن من الأزمنة في ظرف من الظروف تضعف نفسه ويقع وهذا عند كل الناس لكن الخطأ ألا يتوب وألا يئوب وأن لا يعود وخصوصاً إذا كان الخطأ في حقوق الناس، ومن حقوق الناس الأعراض يجب على الإنسان أن يهتم لهذا فإذا وقع في خطأ يعود إلى ربه، وقع في خطأ ثاني يعود إلى ربه حتى قالوا أن هذه المرأة عادت وآبت أوبة صادقة وهذا واضح من كلامها وأنها أقلعت عن هذا الأمر وبعد ذلك من السياقات القادمة حتى الملك قيل أنه حتى الملك دان بدين يوسف عليه السلام وأسلم وهي أيضاً، لكن هذه الأشياء ليس هناك ما يُثبتها لكنها تُذكَر في كتب التفسير .
هذه يا إخواني الكرام أحداث مهمة متعلقة بهذه الرؤيا ولعلنا نقف عند هذا الحد لأن المعنى الذي سيأتي معنىً أخر مغاير ولعلنا نتحدث عنه في اللقاء القادم إن شاء الله ، هذا وصلِّ الله وسلم على نبينا محمد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق