بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد..
أيها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
مازلنا نتحدث معكم عن هذه القصة -قصة يوسف عليه السلام- من خلال سورة يوسف عليه السلام.
بداية نريد أن نُلخِّص ما سبق في نقاط.
المتأمل في قصة يوسف عليه السلام في هذه السورة يجد أن يوسف عليه السلام استقرّ في مجموعة مقرات وهناك محطات في مسيرة حياته عليه الصلاة والسلام:
/ أول محطة كان فيها عليه الصلاة والسلام وأول مقر كان فيه هو في بيته وعند أهله وأهم اﻷحداث في تلك المرحلة: الرؤيا .. كيد اﻹخوة .. التفكير في قتله .. رميه في البئر .. اختلاق قصة قتل الذئب له وأكل الذئب له.
/ المحطة الثانية: التي انتقل فيها من بيت أهله هي مرحلة البئر وقد استقر في البئر فترة من الزمن وإن كانت ليست طويلة وأهم اﻷحداث التي حصلت فيها : إرسال السيارة وهم مجموعة من المسافرين إلى هذا البئر .. إخراج يوسف عليه السلام من البئر .. بيعه بدراهم قليلة وبثمن بخس.
لاحظوا معي هذه الانتقالات مهمة: إذا من بيته إلى البئر، بعد البئر إلى القصر هيأ الله له أن يشتريه رجل مُقتدر وصاحب نفوذ ولما رآه أعجبه وتعلّق به وقال لزوجته وامرأته أكرمي مثواه .
أهم اﻷحداث التي حصلت في ذلك البيت .. في ذلك القصر -وهو قصر العزيز- اهتمام هذا الرجل بيوسف عليه السلام والتوصية (أكرمي مثواه) .
الحدث الثاني المهم هو : قصة المراودة من امرأة العزيز ليوسف عليه السلام.
الحدث الثالث قصة خرق القميص والشاهد وأيضا قصة مكر النِّسوة وتخطيط امرأة العزيز للتخلص من ذلك المكر.
بعد هذه المراحل -أيها الإخوة الكرام- بعد هذه القضية وهذه الفترة التي قضاها يوسف عليه السلام في هذه المرحلة وهي مرحلة قصر العزيز كانت مرحلة طويلة قضى فيها جزءًا كبيرا من عمره.
بعد ذلك قال (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [سورة يوسف 33] وانتقل إلى السجن وهي المحطة التي سنتحدث عنها اليوم، وأهم اﻷحداث التي حصلت في هذه المحطة هي دخوله السجن هودخول رجلين معه لهما تعلّق وعلاقة بالملِك خبازه وساقيه.
اﻷمر الثاني : تأويل الرؤيا التي حصلت وتأويل الرؤيا هذه كانت سببا في خروج يوسف بعد ذلك.
المرحلة التي تلت هذه خروج يوسف عليه السلام من السجن ووجوده في القصر ولكن هذه المرة قصر الملك وتدبير أمور البلاد. وبهذا انتهت هذه الحادثة. وبعد ذلك تجمعت أسرته إليه وهو في المكان العالي والمنصب الكبير الذي أعلا عز وجل به شأنه.
لو لاحظتم انتقل من بيت أهله إلى بئر إلى قصر إلى سجن إلى قصر. وهكذا يفعل الله ما يشاء وما يريد سبحانه وتعالى .
اليوم نحن سنتحدث عن هذه المرحلة : مرحلة السجن.
يوسف عليه السلام لم يعمل شيئا، لم يعمل خطأ لكنه قال (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) يعني فِرارا من مكر النِّسوة وخوفا على نفسه من أن يقع في المعصية فقال السجن أهون عليّ من هذه المصيبة وإلا ما أحد يتمنى السجن ولا أحد يتمنى الضرر ولكن كما قيل بعض الشر أهون من بعض.
/ يقول الله سبحانه وتعالى (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ)
[سورة يوسف 35]
قالوا اتفق هذا الأمر بين رغبة يوسف عليه السلام حيث طلب هذا الطلب وبين توجّه موجود عندهم أصلا وهو أنهم عندما يسجنون يوسف عليه السلام يكونون بهذا قد غطوا على الفضيحة والمشكلة التي حصلت وبدأت تظهر والناس يتحدثون فيها فسجن يوسف عليه السلام يُطفئ هذه المشكلة وتُنسب المشكلة إلى شخص ما حتى ولو كان مظلوما، وهذا أمر معتاد في عالم البشر فإنهم يظلمون ويدخل في السجون ممن ليس من أهلها والعدل عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة. فهذا يحصل وهذا حصل لنبيّ اختاره الله سبحانه وتعالى ولذلك بعض الناس تحصل له بعض المشكلات البسيطة يظن أنه الوحيد في هذا العالم الذي حصل له مثل هذا وغيره كثير.
ولما نقرأ قصص القرآن نحاول نستفيد منها في حياتنا، أنت عندما تقع لك مشكلة وإلا مشكلتين وإلا تُظلم من أحد، انظر كيف تصرّف يوسف عليه السلام، لم يكن يائسا ولا في لحظة واحدة، لم يكن سيئا في خُلُقه ولو لحظة واحدة، لم يؤذِ أحدا ولا في لحظة واحدة وهو في كل المراحل هذه كان يُؤذى في بيت أهله أُوذي .. في البئر أوذي .. عندما جاء إلى امرأة العزيز وقصر العزيز أوذي .. في السجن أوذي ومع هذا ما قابل هذا كله إلا باﻹحسان -على ما سنعرف اليوم- جزء من صورة اﻹحسان ظهرت عنده في السجن عليه الصلاة والسلام.
(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ) هنا الله عز وجل يذكر لنا اللحظة التي دخل فيها يوسف عليه السلام السجن. الحقيقة تصوير اللحظة هذه في قوله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) كلمة "معه" المعية تُشعِر بأن الدخول -دخول يوسف عليه السلام ودخول هذين الرجلين- كان في لحظة واحدة أو متقاربة على اﻷقل ولعل هذا مقصود، لعل إظهار هذا الحدث مقصود حتى يُعلَم تأثير يوسف عليه السلام وعِظم إحسانه وسُرعة إيصاله المعروف حتى مع من لم يعرف وليس له علاقة سابقة، وفي مكان عادة ما يكون اﻹنسان مشغولا بنفسه لا يهتم باﻵخرين ولا بمشاكل الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يقول (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) فالمعية هنا إما مع بعضهما مباشرة التقوا في لحظة الدخول أو أن ذلك متقارب.
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) ذكر الله سبحانه وتعالى عن هذين الفتيين قصة معينة وأحداث معينة لها تعلّق بحياة يوسف عليه الصلاة والسلام بعد ذلك.
/ قال الله عز وجل (قَالَ أَحَدُهُمَا) يعني أحد هذين الفتيين تحدث مع يوسف عليه السلام وقال له -حدّثه- قال (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) والعادة يا إخواني الكرام أنه لا يمكن ﻷحد أن يجد أحدا لا يعرفه وليس بينه وبينه علاقة سابقة أنه يدخل معه مباشرة في حوار مباشر هكذا ويقول له بعض أسراره الخاصّة مثل الرؤيا، يعني لا يعقل أبدا أن تقابل شخص في شارع ﻷول مرة في حياتك وتقول له يا فلان أنا والله البارحة رأيت كذا وكذا، ما أظن هذا يفعله أحد وليس معتادا ومع هذا الذي حصل هنا الذي في اﻵيات (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) مباشرة ذكر الله عزوجل (قَالَ أَحَدُهُمَا) هذا لا يعني أن هذا الحدث وقع بالضرورة بعد الحدث اﻷول -يعني بعد الدخول مباشرة- بل لاشك أنهما ما قالا له ذلك واختاراه من بقية الناس المسجونين إلا ﻷنهما رأيا فيه تميزا وحُسن خلق لم يجدوه في غيره، ولذلك إذا أردت أن تقدم نفسك للناس فقدمه بحُسن خلق، لا بكثرة الكلام ولا بكثير من التزويق ولا بالملابس ولا بالهيئات إنما بحسن الخلق، والحمد لله أن الله لم يجعل حسن الخلق مرتبط بالمال بالضرورة ولا بالمناصب ولا بغير ذلك، فأي إنسان يستطيع أن يكون حسن الخلق، أي إنسان يستطيع أن يكون حسن الخلق المهم أن يهتم بهذا الموضوع ومن حُسن الخلق للناس اﻹحسان إليهم بقدر ما تستطيع، ونحن نستطيع أن نُحسن للناس كلٌ منا في مجاله، تصوروا يوسف عليه السلام يحسن إلى هذين الرجلين وهو في السجن، يعني تخيلوا معي هذا -يا جماعة- في السجن، إنسان يدخل السجن مهموم مشغول بنفسه مظلوم ومع هذا تدل هذه اﻵية في قوله تعالى (قَالَ أَحَدُهُمَا) تقديم هذا الحدث مباشرة بعد الدخول على أنه ظهر إحسانه من أول لحظة دخل فيها، فالمؤمن الذي يريد ما عند الله لا يهتم بذاته كثيرا وبمشاكله، أغلب الناس اليوم بس قضيته في نفسه أنا عندي مشكلات .. أنا عندي ديون، كل الناس عندهم لكن فيه ناس يفكرون للآخرين وفيه ناس يفكرون ﻷنفسهم فقط وكما يقولون:
< من عاش لنفسه عاش وحيدا -أو ضعيفا- ومات فريدا ومن عاش لغيره عاش عظيما ومات عظيما>
اﻷنبياء عليهم الصلاة والسلام تجدهم ييذلون ويعملون كله من أجل هداية الناس بينما كثير من الناس مشغول بذاته، ولذلك أنا أتمنى لما نقرأ قصص اﻷنبياء نأخذ منها عِبرا، أي واحد اﻵن يستطيع أن يفيد من حوله والله لو بكلمة .. والله لو بخِبرة .. والله لو بدلالة على عمل وظيفي أو شيء نافع له، المهم قل خيرا .. تصرف .. قل شيئا حتى ولو كان المكان الذي فيه أسوأ ما يكون ولا أظننا سنجد مكانا أسوأ من السجن، صح أو لا؟ يعني مجالسنا اﻵن، زواجتنا .. اجتماعتنا بعضنا ساكت مع إنه عنده معلومات، عنده فائدة للناس قد يعرف أنه يوجد وظائف متاحة للناس، يا أخي دلّ الناس على الخير، قد يكون فيه محاضرة في المكان الفلاني تعال يا فلان احضر معي المحاضرة، دلّ الناس .. اعمل شيئا .. قدم شيئًا لا تكن هكذا عالة لا تقدم شيئا -كما يقولون- زيادة عدد فقط، إذا عددنا الناس وجدناهم عشرين لكن ما نجد ولا واحد ... والرسول صلى الله عليه وسلم قال (الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة) يعني تجد مئة شخص ولا تعتمد إلا على واحد من عدد المئة، فهذه إشكالية ولذلك ضروري جدا أن نستفيد من اﻷنبياء عليهم الصلاة والسلام كيف كانوا يبذلون كيف كانوا يعملون.
فهنا هذا الشاب أو هذا الفتى ما تجرأ أن يتحدث مباشرة مع رجل غريب مثل يوسف عليه السلام إلا وقد رأى منه وقد قالوا ذلك، ولذلك في قوله تعالى (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف 36] بعد ذلك دليل على ما قلنا اﻵن، إذا هم لمسوا اﻹحسان حتى قال بعضهم إنه بمجرد دخوله السجن إذا رأى إنسانا مهموما، تعرف الذين في السجن هؤلاء أشكال وألوان، المهموم والمغموم وصاحب المشكلة وصاحب الديون فكان يأتي للمغموم والمهموم فيُسرِّي عنه ويحاول أن يلطف الجو وأن يبعث اﻷمل في نفسه فيتحدث مع هذا ويساعد هذا ويتبسط مع هذا، من يوم دخل، فقالوا كل المجموعة الذين يرونه: ما أحسنه أو ما أكثر إحسانه في حديثه -في كلامه- وفي فعله وفي وجهه، فذكروا ثلاثة أشياء أي واحد منا ممكن يعملها، ممكن تُحسن في وجهك بأن تكون بشوشا .. مبتسما .. طلِق الوجه لا عبوسا، وهذه ما أظن واحد يعجز عنها، المهم درِّب نفسك على هذا.
ثانيا: حديثه، صعب على الإنسان أن يقول كلاما طيبا عندما يدخل في مجلس أو يتحدث مع ناس وإلا يقول كلمة طيبة يفيد الناس فيها؟ وابتعد عن الكلام السيء.
ثالثا: في فعله، فعله يساعد هذا ويتحدث مع هذا ويشجع هذا...الخ، فإحسان اﻹنسان ممكن يظهر في أول لحظة من لحظاته. فيوسف عليه السلام أول ما دخل على هؤلاء الناس مباشرة رأى المهموم وجلس معه ، رأى إنسان يحتاج حتى قالوا لو دخل إنسان من هؤلاء المساجين وليس له مجلس وسّع له في المجلس ليجلس. تصرفات بسيطة لكنها تبعث السرور في قلب اﻹنسان ومحبة اﻹنسان فكان يُوسع له في المجلس ويساعد من يحتاج المساعدة فأحسّ الذين في السجن كلهم بإحسان يوسف عليه السلام ولذلك قال هذان الرجلان هذه المقولة ﻷنهم رأوا إحسانا أمامهم (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فرأوا أنه يمكن يساعدهم في هذه القضية التي هم فيها فبدأ اﻷول يعرض مشكلته على يوسف عليه الصلاة والسلام من أول اللحظات يا جماعة.
إذا لا يأتي واحد يقول أنا لا يمكن أن أؤثر إلا إذا بقيت سنوات وخططت لهذا الموضوع، ونجعل أمامنا في العمل الخيري عقبات لها أول وليس لها آخر، ممكن أن تكون مفيد من أول لحظة.
فاﻷول عرض عليه القضية قال (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
[سورة يوسف 36]
إذا الطلب اﻷول الذي وُجِّه ليوسف عليه الصلاة السلام تأويل رؤيا وهذا -والله أعلم- أنه من حُسن تدبير الله عزوجل ليوسف عليه السلام ﻷن الميزة التي يتميز بها يوسف عليه السلام هي هذه فهيأ الله له أن يقدمه لهؤلاء الناس من خلال اﻷمر الذي يتميز به وهذا من حُسن توفيق الله للإنسان أنه ييسر لك عمل أنت تتقنه والذين حولك يحتاجونه فإذا فعلت وأتقنت وقدمت خيرا من خلاله تعلّقوا بك وقبلوا كلامك، حتى الغريب الذي لا يعرفه الناس بمجرد ما يحسن ويكون مُحسنا حتى في إحسانه -يعني مُتقنا- يتعلق الناس به ويصدقونه ويقبلون كلامه. ولذلك من أراد أن يؤثر في الناس، من أراد أن يقدم خيرا للناس، من أراد أن يعظ الناس، من أراد أن يُوجِّه الناس ممكن أن يدخل عليهم من باب اﻹحسان ويساعدهم في قضايا معينة، ممكن اﻷشياء التي يستطيع أن يفعلها بيده وكلٌ منا يستطيع أن يعمل شيئا في مجال ما.
فاﻷول عرض عليه الرؤيا اﻷولى وهي: إني أعصر خمرا، في قوله تعالى (قَالَ أَحَدُهُمَا) دون تحديد اسم يعني من هو ﻷنه ليس هناك كبير فائدة تتعلق بتحديد من القائل ولا بتحديد اسمه، وهذه سِمة عامة في قصص القرآن أنه ليس هناك اهتمام بتحديد الأسماء ﻷن المراد ليس تعلق القصة بأصحاب القصة إنما المقصود العِظة والاتعاظ من القصة فلا يعنيك أحيانا معرفة اﻷسماء، ماهو مشكلة ولا تُتعب نفسك، لكن يظهر من خلال النظر في نوعية الرؤيا نستطيع أن نُحدد من خلالها من هو صاحب القصة أو من هو صاحب الرؤيا اﻷولى والرؤيا الثانية، فإن صاحب الرؤيا اﻷولى واضح أنه الساقي والرؤيا الثانية واضح أنه الخباز أو صاحب طعامه وبعد ذلك حين نأتي للتأويل نستطيع أن نرُد كل واحدة من هذه إلى الرؤيا الخاصة بها.
فاﻷول قال (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) الخمر هي شراب والشراب لا يُعصر، اﻵن لو عندي ماء أقول أعصر ماء؟ عندي عصير أقول أعصر عصيرا؟ العصير لا يُعصر والخمر عصير يعني شيء معصور فهو لا يُعصر إنما الذي يُعصر الشيء الذي يتكون منه هذا العصير الذي يتحول إلى خمر وأغلب ما يُذكر في هذا المجال العنب ولذلك قالوا إن المقصود أعصر عنبا لكنه ما قال أعصر عنبا وإنما قال أعصر خمرا، قالوا هذا باعتبار ما سيكون عليه اﻷمر، فهذا العنب لو عُصِر سيؤل في النهاية إلى الخمر وهذا من اﻹيجاز بما أنه يدل عليه مباشرة فلا داعي لذكر أعصر عنبا يصير خمرا، إضافة إلى أنه ليس بالضرورة أن يكون هذا الخمر مصدره عنب فممكن أن يكون لهذا الخمر له أي مصدر آخر المهم أن يكون الشئ الذي رأه هو الخمر. هذا يسمونه في علم اللغة والبلاغة اعتبار ما سيكون، ذكر الشيء بما سيؤل إليه في المستقبل، وعكسه (وابتلوا اليتامى ) (وآتوا اليتامى أموالهم) اليتيم يرفع عنه اسم اليُتم إذا بلغ، ما يسمى يتيما ولا يُعطى مالا إلا إذا بلغ أصلا وآنس منه الوصي رشدا في الحالة هذه يُعطى ماله، طيب إذا أعطيته ماله يكون قد بلغ وإذا كان قد بلغ لا يُسمى يتيما فكيف يقول الله (وآتوا اليتامى)؟ عرفنا الفكرة؟ قال هذا باعتبار ما كانوا عليه، هم كانوا يتامى، طيب لماذا يذكر اليُتم؟ قال ليستجيش في قلب الوصي الرحمة والشفقة فإن النفوس مجبولة على أنها تتعاطف مع لفظ اليُتم فذكّرهم أنه صحيح اﻵن أنهم ليسوا يتامى لكن كانوا يتامى فلا تأخذ أموالهم ولا تجحد أموالهم باعتبار ما كان، والذي معنا اعتبار ما سيكون، هذا في الماضي وهذا في المستقبل.
(إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) هذه الرؤيا التي رآها. طبعا موجزة جدا لو تلاحظون ولا علينا من التفصيلات التي تأتي في بعض الكتب ماذا رأى بالضبط وتفصيلاته لكن هنا الرؤيا مختصرة جدا وهذا واضح في كل الرؤى التي وردت في القرآن في سورة يوسف، رؤى مختصرة ليست طويلة وقصيرة وواضحة.
الثاني : (وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ) هنا سَرَد كل واحد منهما الرؤيا ثم قال الله عز وجل (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) والحديث لهما ولم يذكر الله سبحانه وتعالى من المُتحدث لكن قطعا أن المتحدث كان واحد ﻷنه لا يُعقل أن يتحدث اثنان في لحظة واحدة، وهذا موجود بكثرة في القرآن لكن المقصود أنهم لو تحدثوا مع بعضهما أو منفردين لقالوا القول نفسه أو أن الثاني -المستمع- موافق على القول دون اعتراض (نَبِّئْنَا) الكلام جمع (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) التأويل: ما يؤل إليه الشيء، أخبرنا بمقصد هذه الرؤيا، أخبرنا بحقيقة هذه الرؤيا التي رأيناها مالمقصود منها؟ ما المراد منها؟ أنا رأيت فوق رأسي خبز وأنا رأيت إني أعصر خمرا مالمراد؟ مالمقصود؟ مالمآل؟ هذا هو التأويل.
(إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) "إنا" هنا تفسيرية أي ﻷننا نراك من المحسنين، وقلنا لكم إنهم رأوا ذلك في فعله وفي قوله وفي وجهه رأوا ذلك من خلال تعامله مع المساجين فقدّم عليه الصلاة والسلام اﻹحسان في صورة عمل كسِب به قلوب الناس فعرضوا عليه هذه القضية.
(إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) دون أن يُقال نراك مُحسنا جعلوه من ضمن الذين هذا ديدنهم وهذا عملهم وهذا أكثر من لو قيل إنا نراك محسنا فإن المدح في الخير مع جملة اﻷخيار أفضل من المدح بالخير مفردا فأقول أنت من المُصلين أحسن مما أقول أنت مُصلٍ فإن العمل الخيري عندما يكون أكثر ولذلك الصلاة لما نصليها جماعة يزداد أجرها ولما نصليها منفردين تقِل درجاتها فالعمل دائما مع الجماعة له وزن آخر.
لاحظوا معي الرد -يا إخواني الكرام- حتى نتعلم أيضا كيف نستفيد من المواقف- لاحظوا الرد، أناس يعرضون قضيتهم ﻷول مرة ويوسف عليه السلام ﻷول مرة يقابلهم ويجلس معهم قال (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا..) [سورة يوسف 37] (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ) حدثهم عن قضية مختلفة عن السؤال الذي وجهوه وهذا من حُسن استدراج المُتلقي أو طارح السؤال إلى منفعة هو لم يتطرق إليها، فقد يأتيك السائل وترى أنت إما من تصرفاته أو من خلال كلامه أنه عنده مشكلة أو قضية، من الحَسن هنا ألا تقتصر على إجابة سؤاله فقط بل تنصحه في مجالات أخرى قد تفيده، وهذا حقيقة أمر غائب يعني غالبا ما تكون أسئلة وأجوبة لكن لما يكون فيها شيء آخر يكون أفضل فقد تكون حالة، قد يكون ظروفه قد يكون حكى أمورا أخرى لا تدخل في الفتوى لكنها تدخل في النصيحة العامة والتوجيه العام.
(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ) ووقّت لهما بالطعام أو تحدث معهما عن الطعام خصوصا ﻷن الطعام أمر مُعتاد موجود عند كل الناس، لكن قالوا هل كان يعلم مواعيد الطعام؟ قد يكون، إذا قلنا أنه بقي معهم فترة وعرف متى يأتي الطعام، مواعيد إعداد الطعام فإنه غالبا في السجون يكون هذا اﻷمر مؤقت بأوقات محددة، مُنظم بأوقات معينة يعرفون متى يأتي هذا الطعام ومتى يأتي الموعد الثاني ...الخ وغالبا -يقولون- إن المساجين لا يعرفون توقيتا إلا بالطعام ليس لديهم شيء آخر، الشيء الوحيد الذي يتكرر ويأتي في مواعيد معينة هو الطعام غير كذا ما فيه، زيارات ليست منظمة لا شيء منظم عندهم، الشيء الوحيد الذي يُوقِتون به حياتهم في الداخل هو الطعام ولذلك حدثهم من خلال ما يعرفون وما يألفون.
(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ) كلمة "ترزقانه" دليل على أنه طعام مُوجّه إليهم تعودوا أن يأتي إليهم في وقت محدد فهو خاص بهم وفي وقت محدد خاص بهم.
(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) وربط التأويل بقضية الطعام نوع من أنواع التشويق وأيضا نوع من أنواع الاستجابة للطلب الذي طلبوه -كأنه قال ابشروا سأُلبي لكم طلبكم وبسرعة- ولاشك أن الطعام لن يطول كثيرا مهما كان يعني الوقت لن يكون طويلا وهم يريدون تعبير هذه الرؤيا لذلك علّقه بشيء تتعلق به نفوسهم، وغالبا لا يكون أمده بعيدا، يعني ما قال لهم بعد يومين أو ثلاثة أو عندما أفرغ أو علّقه بشيء ليس له زمن محدد أنما علّق لهم التأويل بوقت محدد، استثمر هذا الوقت بين مجيء الطعام وبين تأويل الرؤيا في حثهم وحضّهم ودعوتهم إلى ما سنعرف اﻵن. وهذا أمر -الحقيقة- نحن لا نستثمره في حياتنا غالبا.
هنا اختلف أهل العلم -المفسرين- في قضية (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) تأويل ماذا؟
هل هو تأويل الطعام الذي يأتيكما بمعنى أنه قال لهم -هذا إذا كان هو لا يعرف الطعام- وإلى اﻵن هذه أول مرة يقابل فيها هؤلاء اﻷشخاص فهو لم يعتد على السجن ولم يعتد على مواعيد الطعام فيه ولا أصناف الطعام فيه، هذا إذا قلنا إن الضمير هنا يعود على الطعام، فمعناه أنه أول ما دخل وجلس معهم ورأوا إحسانه العام قالوا له هذه القضية، إلى اﻵن لم يأت الطعام فهو لا يعرف عن نظام الطعام أصلا أي شيء، بيّن لهم قدرته في معرفة هذه اﻷشياء قال أنا ساؤنبئكم بنوع الطعام الذي سيأتيكم اﻵن بعد قليل، هو لا يعرف لكنه يدري أنه لابد أن يكون عندهم -ليس من المعقول ألا يكون عندهم طعام- فساؤنبئكم بنوع الطعام وشكله وهيأته قبل أن يأتيكما، سيستغربون -طبعا- كيف تعرف هذا؟ كيف تعرف أصناف الطعام ولونه وشكله وهو ما جاءنا إلى اﻵن (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) فكأنهم استغربوا قالوا كيف؟ قال (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) هذا ليس من عندي، هذا الله عز وجل أعلمني به. فيكون بهذا قدّم نفسه بمعرفة لم يألفوها أصلا ولم يعرفوها من قبل فلما يفسر لهم الرؤيا بعد ذلك يعرفون أنهم أمام عالم بهذه القضية. هذا رأي وإن كان في نظري هو اﻷضعف.
الرأي الثاني: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) تأويل الرؤيا، وكون الضمير يعود عليها بدون الرؤيا يعني بتأويلها لا إشكال فيه، فالمقصود هنا بتأويل الرؤيا بتأويل الطلب، ممكن يعود الضمير بهذه الطريقة بتأويل الطلب الذي طلبتموه، أنتم طلبتم مني تفسير وتأويل رؤيا معينة، كل واحد منكم له طلب، تفسير هذا الطلب سيحصل لكم قبل أن يصل الطعام، الطعام إلى اﻷن ما وصل وأنا سأفسر لكم الرؤيا التي طلبتموها مني قبل أن يصل الطعام.
قالوا لماذا هذا أفضل؟ قالوا: ﻷن أولا الطلب الذي طلب من يوسف عليه السلام هو تأويل الرؤى وليس هو تصنيف طعام وأنواعه.
اﻷمر الثاني: أن تصنيف الطعام وأنواعه لا يدخل في باب الرؤى أصلا ولا في تفسيرها أصلا وليس هو من علمها في شيء فهذا ليس رؤيا، هذا شيء موجود ممكن اﻹنسان يتوقعه في باب الفراسة والتوقع وغير ذلك وقد يُلهمه الله سبحانه وتعالى إلهام لكن ليس هو رؤيا عُرضت لها رموز معينة ثم فُسِّرت ولذلك المقصود هنا -والله أعلم- هو تفسير الرؤيا، الرؤيا التي عرضوها سيفسرها عليه الصلاة والسلام قبل أن يصل الطعام وهذا دليل على تمكنه ومعرفته من هذا العلم.
وكأنهم تساءلوا واستغربوا سرعة استجابته فقالوا له وكيف ذلك؟ قال (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) يعني هذا اﻷمر مما علمني ربي، ويكفي هنا أنه علّقهم بربه فلم ينسب هذا العلم إلى نفسه. وهذه خصيصة ودقيقة جدا مهمة جدا في حياة المؤمن دائما وأبدا وتجدونها ظاهرة في خطابات اﻷنبياء والصالحين ومن يذكر الله قصصهم في القرآن وهو أنك دائما إذا نجحت أو تميّزت أو صارت عندك خصيصة معينة لا تنسبها إلى نفسك ولا تعتمد فيها على تخطيطك ولا على مهاراتك وإنما انسب ذلك إلى الله واشكر الله سبحانه وتعالى فإنك إن لم تفعل تُوشِك أن تذهب عنك تلك الخصيصة أو الميزة، ولذلك لاحظ معي مباشرة بدل أن يتعلقوا بيوسف عليه السلام -وهم أهل شرك أصلا ويتعلقون باﻷوثان وباﻷشخاص بسهولة- بدل أن يتعلقوا بيوسف عليه السلام قال لا هذا ليس من عندي، هذا من عند الله ولذلك قال (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).
وقال (رَبِّي) ﻷن كلمة (رب) كلمة شاملة لم يُحدد فيها من هو ربه لكن الرب كلمة تدل على الحماية والحياطة والخير والتربية.
هنا يقع في نفوسهم يسألون من ربك؟ وكيف عرفت؟ وهو يريد أن يسوقهم خطوة خطوة لما يريد وهذا من حُسن العرض أيضا، لا تأتي ﻹنسان كافر لا يؤمن بمبادئك تقول له أسلم، لا ينفع، هو أصلا لا يؤمن بفكرتك كاملة والشيء الذي أنت تعظمه هو لا يعظمه ولذلك من حُسن العرض كل إنسان له طريقته فهنا هم اهتموا بقضية كيف عرفت هذا؟! هذا عِلم عجيب، كيف تعلّمت هذا؟ من الذي دربك؟ من الذي علّمك فقال (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) مباشرة هذه أوصلت لهم رسالة من هو ربك الذي علّمك هذا؟ ولذلك سنأتي بعد قليل كيف أنه عرّفهم بربه.
/ (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)
[سورة يوسف 37]
هنا ربطهم بهذا العلم وأنه علّمه ربه سبحانه وتعالى، اﻷمر الثاني: أنه تحدث عن أُناس هو يعرفهم ولم يتحدث عن هؤلاء المدعوين وهذا أيضا من حُسن العرض فإن الشخص الذي أمامك ليس بالضرورة أن تقول أنت كافر .. أنت مشرك .. أنت ضائع .. أنت فاسق .. أنت .. أنت، فإن البشر لا يحبون من يجابههم ويواجههم ويحدثهم مباشرة. فالكافر -على سبيل المثال- لو قلت له أنت كافر قال أنا كافر وخمسين كافر بعد، ما عنده مشكلة، ما زدته أنت شيئا بل زدته عنادا. لكن تحدث هو عن قوم آخرين، واﻹنسان مجبول إذا حدثته عن قصة شخص آخر أنت تبدأ تقيس نفسك عليه وأنت لا تدري تقيس نفسك، أُحدثك -مثلا- عن رجل له نجاحات في الحياة وفي العلم أنت مباشرة في ذهنك تقول يا ليتني مثل هذا .. ما شاء الله كيف وصل إلى هذا؟ أنا اﻵن أوصل لك من القِيم والرسائل أحسن مما أقول لك لازم تدرس .. لازم تتعلم .. لازم تفعل. هذه الطريقة أفضل من هذه ولذلك تجدون قصص كثيرة تُعرض في القرآن من هذا الجانب.
فهو هنا قال (إِنِّي تَرَكْتُ) (تركت ) تحتمل معنيين:
- إما أن يكون المقصود كنت معهم فتركتهم
- أو اجتنبتهم في اﻷصل. وهذا هو الصحيح -الثاني-
لأنه لم يكن عليه الصلاة والسلام من جملة قوم كافرين ثم تركهم ﻷنه في بيئة مؤمنة أصلا وفي بيت مؤمن.
ومعنى (تَرَكْتُ) يعني اجتنبت من أول اﻷمر فلم أدخل معهم أصلا في قضية عدم اﻹيمان بالله. فهو قال أنا أعرف ناس اجتنبت عملهم هذا ﻷنهم لا يؤمنون بالله. وهنا عندما قال (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) عرّفهم بربه الذي ذكره قبل قليل، قال لهم (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) مازال في أذهانهم من هو ربك؟ ﻷنهم لا يعرفون من هو الرب، هل هو وثن وإلا هل هو شجر وإلا هو حجر فاﻷرباب كثيرون فيعبدون الناس أربابا كثيرة، لكن هو هنا علّقهم ثم بعد ذلك قال (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) فعرّفهم أن المقصود بربه هو الله سبحانه وتعالى.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) هذه نقطة ثانية لأنه غالبا الذين لا يؤمنون بالله عز وجل دائما عندهم إشكالية في الإيمان بالآخرة، الإيمان باليوم الآخر، اﻹيمان بالبعث فإن الذي لا يؤمن بالله تجد عنده هذه المشكلة، إذا مرتبطة بالدعوة وتوحيد الله سبحانه وتعالى وتجد قضية البعث قضية متكررة في كثير من سور القرآن لماذا؟ لأن القضية صعبة يا جماعة، إنسان يؤمن بشيء لا يراه ومُعتمد في هذا اﻹيمان على وحيّ وهذا إيمان ليس سهلا ﻷن أغلب البشر يقيسون هذه القضايا قياسا عقليا، شيء لا يراه ولا يُحسّه ولا يلمسه كيف يؤمن به، فالمؤمن إذا آمن بذلك فهذا دليل على يقينه وعلى تسليمه ولذلك كانت أول صفة للمؤمنين في القرآن (..هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
[سورة البقرة 2 - 3]
أول صفة، صفة ليست سهلة أنك تؤمن بالجنة وتشتغل اﻵن وتعمل وتدفع من أموالك وتصلي وتصوم وتحجّ كل هذا إيمان بالغيب وأنت ما رأيت ولا لمست إنما هي دلائل ويقين أن هذا هو ربك وهذا هو الرسول وهذا هو الكتاب فأنت مُوقن بهذا ولذلك تؤمن بالغيب بناء على ذلك.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) فجعل قضية عدم اﻹيمان باﻵخرة قضية أساسية مع عدم اﻹيمان بالله سبحانه وتعالى.
/ يقول بعد ذلك -لاحظوا معي- كيف استطاع عليه السلام أن يجذبهم معه في الدعوة، اﻵن هم مضطرون أن يسمعوه ﻷنهم ينتظرون الرؤيا. واحد -مثلا- جاء يسأل الشيخ عن طلاق أنا عندي مشكلة وسأطلق زوجتي، ورآه حالته حاله ومظاهر التدخين عليه ويمكن دخل في بعض الكلام وقال أنا زوجتي ﻷني أحيانا لا أصلي أو أفرط في الصلاة، ذكر قضايا معينة فهم منها المُستفتَى أن عنده مصائب كبيرة، بإمكانه مادام محتاج للفتوى أنه في خلال هذه اللحظات أن يوجه له أشياء تنفعه ﻷنه اﻵن هو مستمع. فهم مستمعون اﻵن يريدوا أن يعرفوا الرؤيا وينتظرون الطعام يأتي ليُفسر الرؤى.
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) قبل قليل عرّفهم من ربه -انظر اﻷسلوب ما أجمله- اﻵن عرّفهم بنفسه هو ما نسبه، واﻷنبياء يُعرِّفون أنفسهم (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
[سورة اﻷعراف 104] أنا فلان مرسل من رب العالمين لكذا وكذا وكذا، ولاشك أنهم عندما يسمعون هذه المعلومات سيكون تعظيمه أعظم ولكلامه وزن أكبر، فهنا قدّم نفسه هو وأنه من سلالة أنبياء هذا لاشك سيكون لكلامه وزن. فقال (وَاتَّبَعْتُ) وأتى بها بطريقة جميلة ليس فيها مظهر من مظاهر الاستعلاء أوالتكبر -وحاشاه عليه الصلاة والسلام- لأن هذه الأشياء تُبعد اﻹنسان عن اﻹنسان إنما قال (وَاتَّبَعْتُ) يعني الشيء الذي أوصلني إلى هذا أنني اتبعت (مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) فذكر السلسلة وهي من أعظم السلاسل حتى قالوا لا يوجد مثلها، النبي ﷺ قال لما سأل الصحابة رضي الله عنهم عن من هو خير الناس؟ فقالوا التقي، قال لا ما سألتكم عن هذا ثم بعد ذلك أجابهم النبي ﷺ أنه يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، ولا توجد مثل هذه السلسلة العالية إلا له عليه الصلاة والسلام. فهو اﻵن قدم هذه السلسلة من الأنبياء ليعرفوا أنه من هذه العائلة العظيمة فيقبلوا كلامه أكثر ولم يُقدِّمه من باب التفاخر والتفاضل عليهم ولذلك قال (وَاتَّبَعْتُ) ولم يقل أنا من كذا.
لاحظ أيضا (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ) هذا هو فعل هؤلاء اﻷنبياء (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) ولا يحق لنا ولا يصلح لنا أن نشرك بالله عزوجل (مِنْ شَيْءٍ) ولو شيء يسير كيف تُشرك والله عزوجل هو الذي خلقك وهو الذي أعطاك؟! كيف تُشرك معه غيره؟! هذا ظلم ولذلك (إن الشرك لظلم عظيم).
(مِنْ شَيْءٍ) حتى (مِن) الداخلة هذه تدل على تقليل هذا الشيء ولو كان صغيرا لا يصلح ولا يحسُن أن يحصل منا.
(ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) أي هذا التوحيد وإفراد الله بالعبادة وعدم اﻹشراك به هذا فضل وهذا من أعظم الفضل على اﻹنسان ﻷنك ترى إلى اليوم والناس بعقولهم وربما بتعليمهم مازال بعضهم يشرك بالله ويذهب إلى قبور أو إلى أولياء أو إلى حجر ويترك رب العالمين القادر سبحانه وتعالى وهذا -عياذا بالله- من أعظم الضلال، ليس بينك وبين الله حجاب -يا أخي- ادعو ربك مباشرة، لماذا تلجأ إلى الناس؟! الجأ إلى الله مباشرة، لا تشرك مع الله شيء، الله عزوجل غني عن الشركاء، الله عزوجل لا يغفر الشرك لكنه سبحانه وتعالى يغفر أي ذنب دون الشرك، الناس أحيانا يتساهلون ببعض القضايا وفيها نوع من الشرك ويتحمسون إلى كثير من العبادات وقد يكون الخطأ فيها مسموحا وسهلا ولذلك اهتمّ، أهم شيء علاقتك بالله سبحانه وتعالى، تعظيمك لله، صرفك للعبادة كاملة لله أما قضايا العبادات الفرعية فإن الله يسامح فيها واﻹنسان يتوب منها والله عزوجل يغفر فيها لكن المهم أن تقابل الله لا تشرك به شيئا هذا أهم شيء ولذلك ورد في الحديث القدسي أن اﻹنسان لو قابل ربه سبحانه وتعالى (بقراب اﻷرض خطايا) يعني ملئ اﻷرض خطايا هذا شيء ما يتصوره عقل يعني ملئ هذه اﻷرض التي يسكن عليها الناس خطايا شخص واحد لكنه أتى إلى ربه لا يُشرك به شيئا إلا آتاه الله عزوجل بمقابلها مغفرة أو بقرابها مغفرة. فهذا فضل الله سبحانه وتعالى.
ولذلك القضية هذه مهمة، الناس يُمتحنون في هذه القضايا أحيانا يمرض وبعد عِراك طويل يذهب إلى ساحر، أين التوحيد؟! أين اﻹيمان؟! هنا المحك انتبه!! لا تخسر في مواقف معينة لا تخسر انتبه القضايا هذه من أهم شيء حتى ورد في بعض اﻷحاديث وتعرفون قضية الذي قرب ذبابا، فقط ذباب، قال له الشيطان فقط ذباب اذبح ذباب بنية أنك تذبحه للصنم هذا ، فذبح ذبابا، ذباب يا جماعة لكنه لغير الله فاﻷمر ليس بسيطا الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن يُشرك معه أحد ولذلك تجد اﻷنبياء يتحدثون عن هذه القضية دائما .
(مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) ونقطة (لَا يَشْكُرُونَ) دعونا نركز عليها قليلا . كثير من الناس ينسى وهو يعبد الله سبحانه وتعالى فضل الله عليه وإذا أردت أن تكون على اتصال دائم بالله دائما تذكر نِعم الله عليك. لاحظوا معي السورة الوحيدة التي نكررها عشرات المرات يوميا هي سورة الفاتحة أول كلمة فيها (الحمد لله) إذا نحن نتحدث في هذه السورة عن نِعم الله (الحمد لله رب العالمين ) فأنت دائما تخيّل وتذكّر صُور النعيم التي أنعم الله بها عليك إذا فعلت ذلك عظّمت الله في قلبك وإذا عظُم الله عزوجل في قلبك عبدته ولم تعبُد سواه ولم تصرف شيئا من العبادة ولم تُقصِّر في حقه سبحانه وتعالى بقدر ما تستطيع وإلا اﻹنسان خطاء ولذلك (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) الله الذي أعطاه السمع والبصر والصحة ومع هذا هم لا يشكرون الله عزوجل .الله عزوجل يقول لقارون (وأحسن كما أحسن الله إليك) وهذه ليست خاصة بقارون فقط، أنت أحسِن أشكر الله بعمل، الله أحسن إليك بعِلم قدِّم هذا العِلم، وحين أتكلم عن العلم ليس بالضرورة العلم الشرعي، قدم شيئا للناس، بعض الناس إلى هذه اللحظة يمكن لا يتذكرعمل خيري يقوم به مع الناس، ما يتذكر، ليس عنده رصيد في هذا، يجب أن تفكّر من اليوم أن يكون لك عمل، الله أعطاك صحة اذهب إلى المستشفيات خذ لك ثلاثة أربعة واذهبوا إلى المستشفيات زوروا الناس هناك أناس لا يزورهم أحد. من اﻷشياء الجميلة قضية العيد في يوم العيد فيه ناس -ما شاء الله- شباب أخيار في يوم العيد بدلا من معايدة بعضهم البعض يذهبون إلى المستشفى بعد الصلاة مباشرة فيذهبون إلى بعض المرضى في المستشفى يعايدونهم ويسلمون عليهم ويقولون لهم كلمة طيبة ويهدونهم هدية. شيء عظيم يا جماعة، يجرب الواحد منكم أنه يمرض فقط يوم ويرى المعاناة في جلوسه في السرير لوحده ليس عنده أحد، يشعر بالمعاناة يتمنى يجلس معه أحد يتحدث معه ولذلك عيادة المريض عظيمة ولم يجمع هذه اﻷعمال العظيمة مثل عيادة المريض واتباع الجنائز والصدقة .. وهذا في يوم واحد إلا أبو بكر رضي الله عنه كما ورد في الحديث عنه وما جمعها رجل إلا دخل الجنة كما قال النبي ﷺ ، فهذا اﻹحسان مهم جدا يا إخواني الكرام.
وحتى نُدرك قضية شكر الله في النعم التي أعطانا إياها لازم نحن نقدم هذا للناس، لازم نعمل إحسان وخير للناس . وسأذكر لكم قصة ذكرها لي أحد اﻹخوة حتى ندرك أننا بأعمالنا وسلوكنا نخدم ديننا ونُقدِّم ﻷنفسنا ذكرا عظيما حتى بعد موتنا.
في إحدى البلاد العربية تولى أحد اﻹخوة الفضلاء الكرام رئاسة البلدية -إذا هو مهندس- أعني ليس مُتخصصا في العلم الشرعي ولا غيره. بعض الناس يقول لك أنا لست شيخا، من قال لك أن الدين متوقف على أنه لازم يكون هذا شكلك وهذه هيئتك، ليس صحيحا.
فهذا الشاب تولى رئاسة البلدية لكنه عمل فيها وكان المكان الذي هو فيه أغلب من فيه نصارى وعادة الذي يرأس البلدية يكون منهم لكن هذا جاء فأصبح غير مرغوب فيه، البيئة التي هو فيها أغلبهم نصارى فهو غير مرغوب فيه لكن بحسن خلقه استطاع أن يغير كل شيء ليس بحسن خلقه فقط بل باﻷداء والعمل المُتقن فيما يقوم به، اﻵن مسؤولية أمامك كن أمينا .. صادقا أعطِ كل ذي حق حقه، عمل فيها فترة ليست طويلة ثم بعد ذلك توفاه الله وهو شاب يقول اﻷخ الذي رأى جنازته يقول في ذلك اليوم لم نرَ جنازة كجنازة هذا الرجل -وهو مسلم- يقول جميع الكنائس أُغلِقت وحانات الخمور أُغلِقت ويقول الجنازة -على وصفه هو والعُهدة عليه هو- يقول كان طولها 6 كم الناس الذين يتبعون الجنازة من كثرة الذين خرجوا في جنازته. وهو ليس شيخا ولا عالما ولكنه إنسان أدى اﻷمانة التي عليه وخدم الناس فأثّر فيهم حتى في غير المسلمين. فنحن نستطيع أن نفعل شيء كثير ليس بالضرورة أن يكون من خلال مسجد وإلا من خلال محاضرة، ولذلك يوسف عليه السلام قصته من هذا النوع هو اشتغل على مصالح الناس -على ما سنعرف إن شاء الله مستقبلا- في تقسيم اﻷموال.
لاحظوا معي اﻵن في قوله عليه الصلاة والسلام (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) هذا مقطع، المقطع هذا تمثّل في تعربفه بربه، تعريفه بنفسه، بالدِيانة التي هو عليها وعدم اﻹشراك بالله انتهى هذا المقطع.
اﻵن احتاج تنبيه حتى ما يسرحوا حتى ما ينسوا (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) انتبهوا معي .. الحديث مازال لكم صحيح أني تكلمت في موضوع خارج موضوعكم لكن لازال الحديث لكم، وهذا من حسن التأثير وحسن الجذب وحسن التشويق.
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) صاحبي السجن المقصود بالصحبة هنا مجرد الالتقاء في مكان ولذلك قال بعضهم تقديرها: يا صاحبيَّ في السجن -أنتم معي في السجن- أو المقصود أن السجن جمعنا وجمعكم أنتم فأنتم أصحاب فيه وليس المقصود الصُحبة التي نعرفها.
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ) لاحظوا اﻵن انتقال كامل لمخاطبة عقولهم يسألهم اﻵن سؤال يقول (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ) وهو يعلم أنهم يعبدون أربابا كثيرين. تعرف في مصر كان هذا مُنتشرا من الفراعنة وغيرهم اﻷرباب والآلهة الكثيرة المتعددة فدائما إذا جاءت الوثنية جاء معها التعدد وأقلّها اثنان -ثنوية- يسمونها ثم بعد ذلك تتعدد الآلهة قد تصل إلى مئات، فيسألهم وهو سؤال عقلي يُجيب عليه أي إنسان في الوجود (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) وهذا عقلا -يا إخوان- لو أننا وليّنا على مدينة شخصين أو ثلاثة أو أربعة، اللي يكون العدد المهم ما يكون واحد وأعطيناهم الصلاحيات ذاتها فهذا له الحق أن يفعل ولا يفعل ويأمر وينهى ماذا تتوقعون أن يحصل في هذه المدينة؟ لن تقوم لها قائمة لأن هذا يأمر وهذا يُبطِل أمره وهذا يُصلِح وهذا يُفسِد، ما يمكن ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) دليل التمانع لا يمكن يجتمع هذا مع هذا، هو يسألهم يقول أنتم كيف تعبدون آلهة متعددة ؟! ما قال لماذا تعبدون آلهة متعددة أنتم ليس لكم عقول؟ أنتم ما تفهمون، أنتم ما تُدرِكون، لا .. سألهم سؤال عقلي (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ) كل واحد له رأي قالوا إما إن كل واحد رأي أو متفرقون أصلا في المكان لأنهم عبارة عن أصنام وإن كانوا يعقلون -من الناس يعني أو من غيرهم- فهم يتفرقون في الرأي. (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ) لاحظ الكلمة المميزة هنا (أَمِ اللَّهُ) لأنه ذكّرهم قبل قليل بالله وقال لهم أنا ربي هو الله وهو واحد. (أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) وهنا فيه إشارة لقضية الواحد أنه واحد سبحانه وتعالى وليس معه أحد آخر ينقض حكمه أو يعترض عليه أو يبدِّل فيه أو يغيره، الثاني (قهّار) أنه قوي في حكمه سبحانه وتعالى فإذا أمر أمرا حصل فهو قهّار وهو دليل على ضرورة وجود القوة، الرحمة مطلوبة لكن القوة أيضا مطلوبة .
/ ( مَا تَعْبُدُونَ) الآن لاحظوا معي أنه قبل قليل سألهم الآن وضّح بشكل أوضح وأشدّ ولكن هذه العبارة لو كانت في أول الكلام ما كانت مقبولة، لو جاءهم من أول ما قالوا له هذا الكلام قال لهم (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا) ممكن يكون بهذا أغاظهم وأغضبهم وردوا عليه وسفهوا ربه وإلهه وقد يكون يدخل في أشياء أخرى لكن هو الآن أوصلهم إلى القناعة.
بعد ذلك سألهم أو حقق لهم الحقيقة قال (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ) يعني في الحقيقة لو نظرتم، الآن تفكّرتم هل الأرباب المتفرقون أفضل أم الرب الواحد سبحانه وتعالى؟ فكروا في الموضوع فأجابهم هو قال أنتم ما تعبدون من دونه في الحقيقة إلا أسماء هذه الأسماء أنتم وضعتموها، فإذا كان هذا الإله عاجز حتى عن أن يُسمِّي نفسه أسماء أنتم وضعتموها أنتم الذين ألّهتم هذا الإله، أنتم الذين خصصتم هذا الرب كيف تعبدوه؟! كيف تصنعوه وتعبدوه (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا) والإشارة حقيقة للأسماء ليس لها من القيمة إلا اسمها وإلا ماهي حقيقة لما يقول هذا رب، الرب هو الذي يمنع وهو الذي يعطي وهو الذي يخلق أنتم ما لكم شيء من هذا، ما لكم من هذا إلا التسمية أما حقائق الأشياء ما لكم منها شيء.
(إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم) قالوا لماذا قال (وَآبَاؤُكُم) ؟ قالوا: قطعا للطريق عليهم حتى لا يقولوا وجدنا آباءنا، فإنه دائما هذه حُجّتهم المعروفة يقولون ما لنا ذنب وجدنا آباءنا، فقال أنتم وآباؤكم، أنتم سميّتم وآباؤكم من قبلكم سمّوا، لا أنتم ولا آباؤكم على حق.
(أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) لاحظ تكراركلمة (الله) حتى تطرُق أسماعهم، (مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ) إذا أردتم الحقيقة فالحكم راجع لله وحده سبحانه وتعالى ليس لغيره وإذا كان ذلك كذلك فالله الذي له الحُكم يأمركم ألا تعبدوا إلا إياه، ولذلك يسبق دائما توحيد الربوبية ويأتي توحيد الألوهية فإذا أقرّ الإنسان بأن الخالق واحد وأن المُميت والرّازق هو الله يأتي بعده إذا لا تعبد إلا هذا الخالق. (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) هذا هو الطريق المستقيم، هذا هو الدِّين الصحيح
أنا أتصور أن الذي أمامي الآن منهج في الدعوة مُنظّم مرتب لشخص تُقابله لأول مرة -لاحظ- وبعد ذلك تُعرِّفه بربك الذي تعبده، وبعد ذلك تُعرِّفه بالرسالة التي تحملِها، بعد ذلك تُخلخل معتقده الذي يعتقد به، بعد ذلك تُبيّن له الحقيقة. أنا أتصور أن هذا منهج عقلي وجدلي رائع في التأثير في الآخرين.
فيه مركز اسمه مركز ركن الحوار -في المنطقة الشرقية- ابتكر الإخوة هناك طريقة في دعوة غير المسلمين من خلال النت، فيدخلون مع غير المسلم ويحاورونه ويعملون خطوات شبيهة بهذه الخطوات التي سمعتموها الآن، حقيقة النتيجة كانت مُذهلة -أنا رأيت ما عندهم- الحقيقة مُذهلة، كنت أتصوّر أن قضية الحوار والتدخل مع خذا الشخص تأخذ وقتا طويلا وإذا هي تتم أحيانا بعضهم يُسلِّم بعد عشر دقائق من دخوله في الحوار وبعضهم أقلّ وبعضهم أكثر، يعني الناس يتعطشون لأن من يعبد آلهة متعددة أو لا يعبد ربا أصلا هو فارغ من الداخل فلما تُقدِّم له الحقيقة (ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) لاحظ النتيجة، لم يقل لهم مباشرة الإسلام هو الدين الصحيح وهذا دينكم خطأ، ما يصلح ما ينفع هذا صاحب معتقد كما أنك صاحب مُعتقد هو صاحب معتقد، وكما ترى أن معتقدك هو الأفضل هو يرى أن معتقده هو الأفضل، لكن بطريقة لطيفة وحوار لطيف ومداخل للنفوس تستطيع أن تصل إلى الآخرين وتؤثر فيهم. أتمنى أن نستخدم هذا الأسلوب ونستفيد منه في قصة يوسف عليه السلام وهو دخل مع أُناس لا يعرفهم ولا يعرف خلفياتهم ولا ثقافاتهم ومع هذا استطاع أن يؤثر فيهم .
(ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) يعني لو كانوا يعلمون لاتبعوا هذا، فالذي ينقصهم العِلم والمعرفة، والعلم والمعرفة أنت ممكن تُقدِّمها أيها المسلم بنفسك أو بشريط أو بكُتيب أو بهدايتهم بأي طريقة، المهم ألاّ ننتقص من أنفسنا في الدعوة إلى الله والتأثير في الآخرين فإن يوسف عليه السلام استثمر الوقت الذي بقاه في السجِن في دعوة هؤلاء الناس إلى الله سبحانه وتعالى.
/ ثم بعد ذلك بعدما انتهى ولاحظوا أنه قال (ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) انتهى كل شيء أوصلهم إلى الحقيقة ودعاهم إلى الإيمان بعد ذلك نبههم مرة أخرى وقال ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا) وهذا ظاهر أن الطعام إلى الآن لم يأتِ لأنه مافيه شيء قطعه، مافيه شيء دلّ على ذلك، مافيه شيء ظهر أنه فيه قطع للكلام.
( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) فانتبهوا معه، ولاحظوا أنه لم يقل لهم تغيّروا، أسلِموا، آمنوا بما قلت لكم، ما قال، أوصل لهم المعلومة وتركهم، ما نُصِر ، أحيانا نحن عندنا إصرار لا داعي له لازم الآن يتحول أمامي وإلا يتغير أمامي وإلا شغلي هذا كله لا فائدة منه، ليس هذا هو المطلوب، المطلوب أنك توصِّل له الخير فقط، قد يؤمن الآن، قد يُفكِّر، قد يتغير، قد يتغير بعد سنوات، هذا لا يعنيك إن عليك إلا البلاغ.
( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) كما وعده ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ ) هناك قال (أعصِر) وهنا قال (يسقي) واضح صاحب التفسير هذا من هو لكن من إحسان يوسف عليه السلام أنه عندما تحدّث معهم كان بإمكانه أن يقول أنت يا صاحب الرؤيا الأولى أنت يا من يرى أنه يعصِر خمرا ترى تفسير رؤياك كذا وكذا، وأنت يا من يرى أنه يحمل خبزا تفسير رؤياك كذا وكذا لكنه أتى بطريقة عامّة من أجل ألاّ يُجابه المقتول أو المصلوب بخبر لا يسُرّه وهذا أيضا من حُسن العرض.
قال تعالى ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) قلنا كان فيها حُسن عرض لهذا الأمر فإن الإنسان يُفق أحيانا حتى في الكلام وقد ذكروا عن يوسف عليه السلام أنه أحسن حتى في كلامه كما ذكرنا في أول الحديث فإنه عليه الصلاة والسلام أحسن في هذه القضية من عدة جوانب:
- أنه لم يُحدد الناجي من الهالك بشكل دقيق ومباشر أنت هالك وأنت ناجي. هذه واحدة.
- الأمر الثاني أنه عندما بدأ بتفسير الرؤيا بدأها بذِكر الناجي وهذا حسن لأن الإنسان يحب البشارة، فإذا كان عندك خبر فيه بشارة وآخر فيه نذارة أو فيه خبر سيء فدائما قدّم الطيّب ومهّد للنفوس. فهنا بدأ بالرجُل الذي سينجو فقال (أَمَّا أَحَدُكُمَا) وهو يُدرِك تماما من هو وكان يستطيع أن يقول أنت لكن من حُسن أدبه معهم وحُسن صنيعه معهم وحُسن حديثه معهم قال له هذا، قال (أَمَّا أَحَدُكُمَا) وكل واحد يفهم ما يعنيه.
(أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) و (ربه) المقصود سيده الذي يعمل عنده، والمقصود مادام أنه قال (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) معناه أنه ينجو هذا معناه لكن لاحظ أنه ما قال أحدكما ينجو ثم يعود إلى عمله فيسقي ربه خمرا لأنهم قالوا أن أصل القصة أن هذا الرجل -الذي هو الساقي- والآخر -الذي هو الخبّاز- جاءهم ناس وحاولوا فيهم ورشوهم وقالوا نريد منكم أن تضعوا سُمّا للملِك في طعامه وفي شرابه وبعد إلحاح وافقوا أنهم يضعوا السُّم في شرابه -هذا من قِبل الساقي- ويضعو السُّم في طعامه -هذا من قِبل الخبّاز- ولكن بعدما انصرفوا هؤلاء الناس خاف الساقي ولم يضع السُّم في الشراب وأما الخبّاز فوضع السُّم في الطعام فلما أراد الملك أن يأكل تكلم الساقيوقال لا تأكل، هذا طعام مسموم، فلما تكلّم تكلّم الثاني وهو الخباز وقال لا تشرب، هذا شراب مسموم، ومن عادة الملوك أنهم متعودون على هذه القضية فطلب من الساقي أن يشرب -إذا كان فيه سُم سيموت- فشرِب، الساقي شرِب لأنه ما فيه سُمّ فم يُصبه شيء، وطلب من الخباز أن يأكل من الطعام فلم يأكل، ثم أوتي ببهيمة فأكلت من الطعام فماتت فأمر بهما فسُجِنا. هذه قصة السجن في الأصل. إذا كل واحد منهما له وظيفة فيؤقصر الملك -هذا في الأصل- فلاحظوا معي في التفسير ماذا قال، قال (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) ولم يقل سينجو، سيخرج من السجن هذه قضية ما لها علاقة بالرؤيا لكنها تؤل إلى أنه سينجو ولو بعد زمن المهم أنه سيخرج لن يبقى هكذا في هذا المكان، لذلك يُقال أنه حصلت عند الملك وليمة كبيرة فاحتاج فيها إلى هذا الساقي وكان مُتمرِّسا عارفا فبحث - نسي أنه سجنه- فبحث عنه فقيل له حصل كذا وكذا فبما أنه لم يضع شيئا أمر به فأُخرج فأُفرِج عنه فعاد إلى مكانه.
قال (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) أي سيده، يسقيه خمرا وهذه من عادتهم أن يكون عنده ساقي وكانت الخمر شيء موجود وعادي جدا في مجالسهم.
(فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ) لم يحدد من هو (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) هذا الخبّاز من ثبتت عليه التُهمة وقد ورد في عرضه حتى يقول للرؤيا التي رآها أنه يحمل سلالا من الخبز قيل ثلاث سِلال فوق رأسه وتأتي سِباع الطير -ليس أي طير- سِباع الطير فتأكل منها وتنقُر منها ففسر ذلك وأوّله بأنه يُصلب وتأتي الطيور الجارحة -طبعا إذا صُلِب قُتل- فيُقتل ويُصلب فتأتي الطيور تأكل من رأسه - ميتة عياذا بالله- (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) قيل لما انتهى من كلمة لما فسّر لهم الرؤيا ورأوا ما فيها قال أحدهما -لعله هذا الذي خاف من هذه الرؤيا- قال أنا كنت قد تحلّمت أنا ما رأيت شيئا هذا فقط من عندي يعني هذه الرؤيا أنا ابتكرتها من عندي قال (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) انتهى، فهذه العبارة تعليق على قولهم أو اعتراضهم أو محاولتهم التهرّب من الرؤيا التي رأوها، وقيل بل هي تأكيد لتحقيق هذه الرؤيا التي فُسِّرت لأنه نبي فقال (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) وكلمة (تستفيان) فيها بيان أن تأويل الرؤى ليس أمرا هيّنا وهو في مقام الفتوى تستفتي، لاحظ أنه ما قال ..، تصور يأتي واحد ويقول أنا أريد أن استفتيك وتعرِض عليه رؤيا يمكن تكون غير لائقة عند كثير من الناس لكن هي في الحقيقة هكذا ليست سهلة ولذلك الناس يتساهلون في تفسير الرؤى يعرِضها على أي واحد فيقول إن شاء الله سيحصل كذا وكذا، ليست بهذه البساطة ولا يحق لأحد أن يتكلم في هذا لأنك قد تُدخل الحُزن والبؤس على الناس وأنت لا تدري وأنت تقول كلاما لا تُدرِكه أصلا ولا تعرِفه، فما يتكلّم في الرؤيا إلا من يُتقِنها وهي مثل الفتوى في العِلم (تَسْتَفْتِيَانِ) .
هنا لما فسّر يوسف عليه السلام الرؤيا ولما استقبلها في الأصل -وقلنا لكم إن يوسف عليه السلام- من حُسن حديثه يعني تجمّع فيه الحُسن من كل جانب والإحسان من كل جانب منذ دخوله وعلاقته بالناس وحُسن حديثه معهم وحُسن أفعاله معهم حتى في حُسن عرضه لتفسير الرؤيا حتى قالوا له -يعني في بعض ما ذُكر- وهذه من المُلَح والنواد واللطائف أنهم قالوا ليوسف عليه السلام والله لقد أحببناك -هذان الفتيان- قالوا له: لقد أحببناك من حُسن أخلاقك ومن حُسن أدبك معنا وحُسن خدمتك لقد أحببناك، فقال عليه الصلاة والسلام لا تحبوني فما أحبني إنسان قط إلا وقعت في بلاء، فقد أحبتني عمتي من قبل فوقعت في بلاء، وأحبني أبي فوقعت في بلاء، و أحبتني امرأة العزيز فوقعت في بلاء، هذا مما ذُكر في هذا الجانب لما قالوا له إننا نحبك.
هنا انتهى تفسير الرؤيا، تفسير الرؤيا يعني أن واحدا سيخرج والثاني سيُقتل وسيبقى يوسف عليه السلام لوحده خصوصا مع هذين الرجلين ولذلك قال الله عز وجل يقول يوسف عليه السلام (وَقَالَ) يوسف (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا) "ظن" هنا قالوا:
- إما بمعنى الظن وهو عدم اليقين وقالوا معنى ذلك أن مُفسِّر الرؤيا إنما يقول ذلك ولا يجزم به فهو من باب الظن لكن الظن العالي.
- وقال بعضهم : لا، المقصود بـ "ظنّ" أنه ممكن هو ينجو وممكن هو يخرج لكن ليس بالضرورة أن يُقابل هذا الحاكم أو الملِك أو غير ذلك فيحكي له قصة يوسف عليه السلام.
والحق -والله أعلم- أن "ظنّ" في القرآن تأتي بمعاني من ضمن المعاني التي تأتي لها اليقين كما في قوله تعالى (فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا) [الكهف:٥٣] لأنهم رأوها بالعين فأيقنوا أنهم مواقعوها فتأتي "ظن" بمعنى اليقينفي مواطن ولعل هذا منها لأنها رؤيا نبيّ فهو عرف أنه ناجٍ. (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ) أي تيقن (أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا) تحدث معه ولكن لعله تحدث معه على إنفراد لأنه لا يحسُن بمن أحسن سابقا أن يأتي له أمام صاحبه ويقول له إذا نجوت، سيكون مؤثرا في نفسية الآخر ، فتحدث معه وقال (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) يعني إذا خرجت ورجعت إلى مكانك اذكرني عند سيدك -عند الملِك- اذكر قصتي كاملة وأنك قابلتني وأنه حصل ما حصل والرؤيا وأنني مظلوم ...الخ اذكرني تحدّث عني وعن مشكلتي وعن قضيتي. وهذا رغم أنه ساقي فما الذي سيفعله، يعني بعض الناس يظن أن الخير مرتبط بأشخاص معينين، قد يُفيد هذا الساقي، وفعلا الذي كان السبب في نجاة يوسف عليه السلام هو هذا الساقي وهو رجل بسيط لكنه وجد فرصة أن يُبيّن حقا أمام الملِك وقال كلمة في لحظة من اللحظات ( أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) فنجا بسببها يوسف عليه السلام، لا يستقِل الإنسان نفسه فيقول الكلمة، فقال (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ) أنسى من؟ اختلف المفسرون في ذلك هل هو أنسى الناجي أو أنسى يوسف عليه السلام؟
بعضهم قال: (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ) يعني الشيطان أنسى يوسف عليه السلام (ذِكْرَ رَبِّهِ) فما ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام في هذه اللحظة ربه ولكنه ذكر أحدا من البشر واستعان به فيما يقدِر عليه ولذلك عوقِب -هذا على هذا القول- عُقِب بأن بقي في السجن بضع سنين وأوردوا على ذلك حديثا وهو أن النبي ﷺ قال (لولا كلمة قالها يوسف عليه السلام -وهي هذه(اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ)- لما لبِث في السِجن ما لبِث) يعني لو ما قال هذه الكلمة وفسروا هذا بأن الله هو الذي أنقذك من البئر ومن قتل إخوتِك لك ومن مشكلة العزيز وبعد هذا تستعين ببشر وتترك رب العالمين.
ولكن هذا كله غير صحيح والحديث المروي في ذلك غير صحيح، والصحيح: (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) يعني فأنسى الناجي، لماذا؟
لأن هذا الذي يدُلّ عليه السياق أصلا، الحديث كان عن ماذا؟ (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) هو يقول اذكرني (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) فالسياق واضح إنما عاد الضمير على هذا الذي نجا.
الدليل الثاني: أنه بعد ذلك، بعد زمن قال ( وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) معناه أنه كان ناسيا.
الأمر الثالث: أنه لا غضاضة في أن يستعين الإنسان بالبشر فيما يستطيعون وليست ذنبا يُوجب العقوبة ولا غير ذلك، فأنت تستعين بالله سبحانه وتعالى وتعرِف قدر رب العالمين وتستعين بشخص فيما يستطيعه تقول له بالله اخدمني في الموضوع الفلاني وإلا افعل لي كذا لا شيء فيها وليس ذنبا وأمر عادي حتى يُعاقب عليه يوسف عليه السلام بالسجن بضع سنين. إذا الضمير هنا يعود على الناجي (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) يعني الشيطان أنسى هذا الناجي الذي نجا أن يتذكر قصة يوسف عليه السلام، وهذا من تدبير الله سبحانه وتعالى. قالوا لأن الله عز وجل أراد أن يكون خروجه مرتبطا ببراءته لأنه لو خرج في هذه اللحظة ما ظهرت براءته وانتهت قضيته الأولى ومازالت التهمة مُوجهة إليه لكن أراد الله أن يُبرئه، فقدّر له سبحانه وتعالى ما يكون فيه البراءة كاملة.
ولذلك الإنسان أحيانا لا يُدرِك الفضل والخير في قضاء الله له ما يدري ففي كل محنة في ثناياها مِنحة لا تدري أنت عنها. المتصور لهذا لو أن هذا الناجي مباشرة ذكر قصة يوسف يمكن خرج وانتهى الموضوع ولكنه بقي بضع سنين (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) قال البضع من ثلاثة إلى تسعة وأقربه السبع أنه بقي سبع سنين، مدة ليست قليلة أن يبقى في السجن سبع سنين، بقي يوسف عليه الصلاة والسلام سبع سنوات في السجن لأمر أراده الله سبحانه وتعالى إما يبتعد عن الفتنة وما فيها، هذا قد يكون أمر أنت لا تُقدِّر له ولا تُخطط له، قد يكون منها أيضا حتى يعظُم تأثيره في الناس فإن هؤلاء المساجين رُغم أنهم مجرمين وعندهم أخطاء لكن صدقني هم من أقرب الناس وهي بيئة خصبة للدعوة ولذلك الناس يجفلون من السجون وهم هؤلاء أقرب الناس لأنهم جربوا كل أنواع الفساد فما بقي إلا مفتاح يسير ويعودوا عودا عظيما إلى الله سبحانه وتعالى. فأراد الله سبحانه وتعالى شيئا بحكمته سبحانه وتعالى فأخّر خروج يوسف عليه السلام هذه المدة الزمنية لا لذنب اقترفه لكن ﻷمر قدّره الله سبحانه وتعالى (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
/ ثم بعد ذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون خروج يوسف عليه السلام بشيء لا يحتاجه ساقي إنما شيء يحتاجه الملك نفسه، فتصور لما يكون الاحتياج اﻵن من الملك نفسه كيف ستكون سُمعة يوسف عليه السلام، كيف ستكون مكانة يوسف عليه السلام وهذا ما حصل -أيها الإخوة الكرام- وهو حديث طويل لا نريد أن ندخل فيه هذا اليوم لكن الذي يهمنا هي النقاط التي أشرنا إليها سابقا في قضية:
- ظهور اﻹحسان في أول لحظة، لا تؤخِّر صُور اﻹحسان التي يمكن أن تقدمها للآخرين ولو ببشاشة وجهك، إذا استطعت أن تنفع السائل الذي يسألك عن قضية ما حتى لو طبية وإلا صحية وإلا هندسية وإلا أي يكون وتستطيع أن تنفعه في مجال آخر فانفعه.
- استخدام التشويق فيما يحب الناس في قضية الطعام أو غيرها.
- تعريف وحُسن التعريف بالرب سبحانه وتعالى وبالرسول وبالرسالة ثم الدعوة واستخدام القضية العقلية واﻷسئلة العقلية (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ) كل هذه قضايا نريد أن نستفيدها.
- واﻹحسان أيضا في عرض الكلام في قضية تفسير الرؤيا من يوسف عليه السلام.
وأيضا لا مانع من أن اﻹنسان يستعين بالبشر فيما يستطيعون وفيما يقدرون هذا أمر مشروع للإنسان لا بأس فيه أنك تستعين بمتخصص في بيتك، تستعين بمتخصص في مجال صحي يخُصّك هذا أمر عادي، والناس سخّر الله بعضهم لبعض من أجل هذا فكل منهم يحتاج إلى الآخر، الله عزوجل جعلهم هكذا وركّب فيهم هذا النقص ليبقى الكمال له وحده سبحانه وتعالى.
وحديثنا في الجلسة القادمة إن شاء الله سيكون عن رؤيا الملك وتفسيرها. هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق