بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد.
إخوتي الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حديثنا سيكون -بمشيئة الله تعالى- تكملة لقصة يوسف عليه السلام بعد قصة المُراودة التي حصلت في بيت العزيز.
تحدثنا في الجلسة الماضية أي الدرس السابق لهذا الدرس عن تلك القصة وما فيها من عبر وعظات ودروس.
بعد ذلك توقفنا عند المقطع الثاني وهو ما تكلمت به النسوة في المدينة عن هذه الحادثة.
يوسف عليه السلام ابتُلي بعدة ابتلاءات من ضمن هذه الابتلاءات اﻻبتلاء بهذه المرأة التي راودته عن نفسه، واﻹنسان ليس بمعصوم، ويوسف عليه السلام نبي ابن نبي ابن نبي ومع هذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى بهذه المرأة ولكن الله عز وجل ابتلاه ليرفعه فنجاه من كيدها وظهرت براءته بالشهادة. أحيانا بعض الناس يقول أنا ما عندي أحد، ما أحد ينصرني، ما أحد معي، معك الله سبحانه وتعالى. فشهد شاهد من أهلها قيل أنه كان يريد أن ينصُرها فأظهر الله الحق على لسانه ولم تنته القصة إلى هذا الحد. تعرفون مثل هذه القضايا ما تنتهي بسرعة.
بدأ الناس يتحدثون -وخصوصا النساء- ولذلك الله سبحانه وتعالى قال (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) وفي هذا فائدة أن هذه اﻷمور التي تقع بين الرجل والمرأة أو اﻷخطاء التي تقع في الناس وخصوصاً في الجانب اﻷسري غالبا ما يتحدث فيها النساء دون الرجال، فلا تجد الرجال كثيرا يخوضون في هذه القضايا فيقولون فلانة وامرأة فلان وحصل معها كذا، غالبا الرجال ﻻ يذكرون هذه اﻷشياء، ولكن في محيط النساء غالبا يذكُرن هذه القضايا، وهذا ليس أمرا خاصّا بالنساء في هذه اﻷمة، هذا من قديم الزمان فالقضايا هذه تدور بين النساء والحديث فيها يدور بين النساء، خصوصا إذا كانت المرأة أو القصة أو القضية التي يجري الحديث فيها لها تعلق بإنسان له مكانة -أياً كانت هذه المكانة- مشهور إما بماله أو بجاهه أو بعلمه أو بأي شيء.
يبدأ الحديث ينتشر ولذلك الله سبحانه وتعالى قال: (وَقَالَ نِسْوَةٌ) وما قال سبحانه وتعالى"وقال رجال" (وَقَالَ نِسْوَةٌ) رغم أن هؤلاء النِسوة لهم رحال وهم من اﻷقربين من العزيز ممن يعرف القصة .. ممن يعرف الخبر مع هذا ما تحدث الرجال وإنما تحدث النساء.
هذا اﻷمر وإن كنا نقوله -أي أنه واقع المرأة- ﻻ يعني أنه يسوغ للمرأة المسلمة أن تفعل ذلك، بل من المفترض في المرأة المسلمة أن نكف عن الحديث في أعراض الناس، ونحن لا نتكلم عن مرأة مسلمة هنا، نحن نتكلم عن قوم ليسوا على اﻹسلام لكن هذه طبيعة جارية في المرأة بطبيعتها، وإلا ينبغي للمرأة المسلمة أن تكُفّ عن الحديث في أعراض الناس، وكذلك الرجل يجب أن يكف عن أعراض الناس. شيء ما سئلت عنه وﻻ طُلبت للشهادة فيه لماذا تُدخِل نفسك فيه وتنقل اﻷخبار وتكشف اﻷستار وتهتِك أعراض الناس وما تدري هو صحيح وحتى لو كان صحيحا لا يجوز لك فعله فما بالك إذا كان غير صحيح، وأخطر من هذا أن ننشر ذلك على اﻹنترنت عن طريق هذه المواقع أو الرسائل أو غيرها، مصيبة. ﻷننا نشوف بعض الناس مجرد ما يقع ﻹنسان خطأ واحد، والله ما تدري هو وقع أم لم يقع أصلا، مباشرة الرسائل والكتابات ، يا جماعة ما يصلح هذا ومن طلب منا هذا أصلا، هل ترضى أنت أن يُنشر عنك مثل هذا وتقول أنا مظلوم، مهو أنت سيُفعل بك كما فعلت باﻵخرين (ومن تتبع عورة امرئ تتبع الله عورته ولو كان في عقر داره) (١) فاﻹنسان يحفظ نفسه لأجل أن يحفظه الله.
(وَقَالَ نِسْوَةٌ) "قال" فعل و "نِسوة" مجموعة نساء، والله عز وجل ما قال "وقالت نسوة" قال (وَقَالَ نِسْوَةٌ) "قال" فعل يُذكر مع الرجال "قال" أما مع النساء فتقول "قالت" ﻷنها امرأة لكن هنا قال الله عز وجل (وَقَالَ نِسْوَةٌ) وهذا مما تُجيزه لغة العرب، يصح أن تتحدث عن المجموعة من النِسوة إذا كان جمع تكسير بكلمة "قال" دون "قالت " وهذه قضية لغوية.
( نِسْوَةٌ) جمع ليست امرأة واحدة، إذا التي تكلمت بهذا الموضوع ليست امرأة واحدة، أكثر من واحدة لكن الله عز وجل ما قال "نسوان" هذا جمع تكثير، أو نساء،، قال ( نِسْوَةٌ) ونسوة جمع قلة، معناه أن العدد الذي تكلم بهذه القضية قليل وجمع القلة ما بين الثلاثة إلى التسعة، دون ذلك في هذا المحيط هذا جمع قلة، فدلت كلمة ( نِسْوَةٌ) هنا أن العدد الذي تحدث في هذه القضية ليس كثيرا والسر -والله أعلم- أنه لم ينتشر هذا الخبر إلا في المحيط الداخل ولهذا قالوا كان عددهن خمسة أو أربعة حسب ما سنذكر اﻵن:
امرأة الخباز -صاحب الطعام-، وامرأة صاحب الشراب، وامرأة سائس الدواب -المعتني بالخيل و...الخ-، وامرأة الحاجب، وأظن قائد الحرس أو شيء من هذا القبيل. هؤﻻء الخمسة ﻷنهم قريبين، ﻷنهم في محيط الملك فيعرفون اﻷخبار فتسرب الخبر إلى النساء، قد يكون من اﻷزواج -الرجل أحيانا يذكر لزوجته- لكن الزوجة ﻻ تذكر لنفسها وإنما تذكر لصويحباتها فانتشر الخبر فبدأن يتحدثن ولذلك الله سبحانه وتعالى قال (وَقَالَ نِسْوَةٌ).
(فِي الْمَدِينَةِ) أي المدينة التي حدثت فيها الحادثة.
كلمة (فِي الْمَدِينَةِ) اختلفوا فيها: هل المقصود (فِي الْمَدِينَةِ) أن القول حصل في المدينة وإلا النسوة هن من المدينة؟ وعلى هذا يختلف المعنى: فإن كان المقصود (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) يعني القول حصل في المدينة غير لما يكون المقصود أن النِسوة من المدينة، طيب فما الفرق؟
قال: الفرق يمكن أن تكون النِسوة بدويات أو عابرات أو مسافرات مررن بهذه المدينة وتكلمن في الموضوع. هذا أمر بسيط ﻷنهن سينتقلن من هذه المدينة إلى مدينة أخرى وينتهي الموضوع، لكن الله عز وجل لما قال (وَقَالَ نِسْوَةٌ) يعني نسوة موصوفات بأنهن كائنات موجودات في المدينة. هذا أخطر وأسوأ ﻷن الخبر سينتشر ويكثر ولن ينقطع بسفر أو غيره ولذلك اﻷظهر -والله أعلم- أن كلمة (فِي الْمَدِينَةِ) وصف للنساء أنهن لسن بدويات .. لسن مسافرات بل هن من أصل البلد.
وإذا قلنا بالقول الذي ذكرناه قبل قليل زوجة الخباز وصاحب الشراب والبواب ....الخ يعني هذا أنهن فعلا من أصل المُقيمات فيها.
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) أيضا فيها ملمح آخر وهو : أن الحديث مازال في المدينة ما خرج منها .. ما انتشر .. مازال في المدينة،محصور في المدينة.
/ (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) أيضا قد تكون كلمة ( نسوة ) و ( في المدينة ) أن هذا يعني أن هناك مجموعة من النساء في وسط هذه المدينة الكييرة تكلمن بالموضوع، وهذا كافٍ في إغاظة زوجة العزيز، يكفي لما تسمع أنه فيه نساء يتكلمن في عرضها هذه مشكلة.
ما الكلام الذي قيل؟ بماذا تحدثت هؤﻻء النسوة؟
قالت النِسوة في هذا الموضوع أو قال النسوة -يجوز هذا وهذا - (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ) هذا هو القول الذي صدر منهن. لو تلاحظون الكلام الذي أقوله أنا اﻵن في سطرين ، الكلام الذي صدر منهن في سطر ونصف تقريبا لكن المسألة ليست بكثرة الكلام ولا بقِلّته، المسألة بقوة الكلام، هذا الكلام رغم أنه سطر ونصف (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) كان كافيا في إغاظة امرأة العزيز هذا الغيظ كُله الذي سنعرفه اﻵن، يكفي هذه الكلمات.
قوله تعالى (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) يعني قالت النسوة امرأة العزيز هذا أول موضع نعرف فيه علاقة هذه المرأة التي سكن عندها يوسف برجل له مكانة في البلد ﻷنه كل الشيء السابق (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ) ما ندري يعني هو رجل يعني له مكانة وإلا ليس له مكانة ليس هناك شيء واضح ، التعريف اﻷول ما وضّح مكانة هذا الرجل ومنزلته، حتى الآن لم يتضح شيء وبعد ذلك جاء التعريف الثاني (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) أيضا ما فيه تعريف بمنزلة الزوج، وبعد ذلك ( مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) عرَّفت بنفسها بأنها أهل له، أيضا ليس هناك ما يدل على مكانة الزوج إلى أن جئنا إلى هذا الموقع على لسان النِساء ذكرن المكانة الخاصّة للزوج فلماذا؟
قالوا هذا جزء من المكر قصدنه هؤﻻء النسوة فإن الحديث عن أعراض ذوي اﻷخطار -يعني أصحاب المكانة- أحلى في اﻷلسنة وأقوى في التأثير. لما يكون اﻹنسان له مكانة تقول ولد فلان عمل هذا العمل غير لما تتحدث محمد بن فلان فعل كذا بدون ما تذكر مكانته اﻻجتماعية ولا منزلته. هناك فرق كبير. فتجد كثير من الناس أصحاب النيات السيئة ما يذكرون الشخص يذكرون والده -ولد فلان فعل كذا- ولد الوزير .. ولد اﻷمير .. ولد العالِم، وهذا من السوء ﻷنه ﻻ علاقة لعلمه بفعله هذا خاصّة إذا كان اﻹنسان بالغا عاقلا خلاص انتهى، هذا مفصول عنه ماله عليه إلا النُّصح مثله مثل غيره، وإذا كان هناك أوﻻد أنبياء نقول والله ولد نبي ما أسلم علشان نذم النبي، هذا غير صحيح. لكن من كيد النسوة قلن امرأة العزيز تفعل هذا!! ما تستحي يعني وهي امرأة العزيز تفعل هذا الفعل؟! فأردن إغاظتها بذكر مكانة زوجها فلم يذكرن هذه الصفة مدحا فيها بل قدحا فيها، فعرفن الآن لماذا عرّفت النسوة المرأة بمنزلة الزوج وبوظيفة الزوج من أجل هذا السبب.
/ (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) كلمة "امرأة" جاءت في هذا الموضع ولم تأت كلمة "زوجة" فما قالت النسوة زوجة العزيز أو زوج العزيز تراود فتاها عن نفسه بل قلن ( امرأة ).
والفرق بين المرأة والزوجة أو الزوج في استعمال القرآن أن الزوج -بدون تاء هي الزوجة التي نعرفها- (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) لم يأتِ في القرآن زوجته لكن هي نفس المعنى. ما تُذكر الزوجة إلا إذا اكتملت خصائص الزوجية كاملة.
متى تكتمل خصائص الزوجية كاملة؟ لأنه تزاوج والتزاوج يعني اﻻشتراك واﻻقتران فإذا اكتملت خصائص الزوجية بين الزوج والزوجة اكتملت الزوجية.
متى تكتمل الزوجية؟ قالوا: تكتمل الزوجية بشيئين :
-اتحاد المُعتقد ووجود الولد. فإذا كانت الزوجة بمعتقد والزوج بمعتقد آخر تجد أن القرآن يذكرهم بهذه الصورة ( امرأة ) امرأة لوط، امرأة نوح.
- وإذا كان بينهما إشكال في اكتمال الزوجية بسبب عدم وجود الولد تعرفون أحيانا بعض أسباب الطلاق عدم وجود الولد، وجود الولد سبب في استمرار الزوجية، فتجد الذين ليس عندهم أوﻻد يذكرهم القرآن بصفة المرأة.
على سبيل المثال: هذا الرجل الذي معنا يوجد اتحاد المعتقد ﻷن الزوج والزوجة على دين واحد لكن اﻹشكالية الموجودة عندهم عدم وجود الولد ولذلك لما أخذوا يوسف عليه السلام ماذا قالوا؟ (عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) ما عندهم ولد.
ومن أظهر ما يدل على ذلك زكريا عليه السلام فإنه قال في أول اﻷمر ( وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ) فذكر الزوجة بصفة المرأة فقال ( وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ) فلما أعطاه الله الولد قال (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) فسمّاها زوجة بعد الولد وسماها امرأة قبل الولد. هذا ملمح. (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) إذا هي ليست مكتملة الزوجية تماما مع زوجها ، هناك إشكالية بينها وبين زوجها في عدم وجود الولد.
(امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) قلنا الكيد اﻷول ( الْعَزِيزِ) بصفة مكانته اﻻجتماعية ومسؤوليته.
ثانيا: بالتعبير وترديد الحادثة نفسها والخطأ نفسه وهي (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ) فذكرن الحادثة بنفس اللفظ (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) وهنا (تُرَاوِدُ فَتَاهَا) لكن من شدة كيدهن لها أنهن ذكرن المراودة هنا بالفعل المضارع رغم أنها حادثة وانتهت. الشيء الذي يحصل وينتهي نُعبِّر عنه بالماضي فنقول حصل ومضى وانتهى وانقضى. الشيء الذي يحصل اﻵن قائم نقول يحصل .. يفعل .. يكتب اﻵن. فهُن قلن (تُرَاوِدُ) فماذا نفهم من كلمة تراود؟ أنها مازالت تفعل ذلك إلى اﻵن رغم أن الحادثة انتهت، رغم أنهاأصلا في أصل القصة في الماضي (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) يعني انتهت القصة .. انتهت المراودة لكن من شدة الغيظ ومن شدة الكيد قلن تراود. طبعا هذا قد يكون صحيحاً وقد ﻻ يكون وهذه من سوء الكلام أنك تحمل اﻹنسان ما لا يحتمل أحيانا. فقولهن (تُرَاوِدُ فَتَاهَا) شهادة منهن أن المراودة ما زالت مستمرة إلى هذه اللحظة، إلى لحظة الكلام.
/ (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ) أيضا من الكيد قولهن (فَتَاهَا) فاسندن الفتى إليها، وفي كلمة ( فتى ) أكثر من معنى:
المعنى الأول : كبيرة فعيب عليها أن تفعل هذا مع فتى يصغُرها. هذا إذا أخذنا كلمة "فتى" على أنه الشاب وهي كبيرة.
المعنى الثاني : إذا أخذنا كلمة "فتى" على أنه المملوك الذي يعمل عندها -فتى فلان يعني يشتغل عنده ويعمل عنده- فهذا عيب آخر كيف تنزل نفسها إلى من هو دونها؟! كل هذا من باب الكيد وليس الحفاظ على العِرض ﻷنهم ﻻ يهتمون بهذه القضايا، من باب الكيد وإظهار المساوئ.
اﻷمر الثالث: في كلمة ( فَتَاهَا) إسناد الفتى إليها رُغم أنه ليس فتاها في الحقيقة هو فتى الزوج ﻷنه هو الذي اشتراه لكن أيضا من باب الكيد لها يعني عيب عليها أن تفعل مثل هذا الفعل مع من يصغُرها أو هو تحت خدمتها أو هي التي تتصرف في شؤونه كيف تفعل هذا معه!!
/ (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ) هذا استرجاع لنفس الحادثة (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) اﻵن جاء التعليل.
هذا وصف الحادثة اﻵن جاء التعليل يعني لماذا فعلت هي هذا الفعل؟
لأنه يطرأ سؤال لماذا هي بهذا السوء؟
لماذا فعلت هذه المصيبة؟
لماذا نزّلت نفسها إلى هذا اﻷمر؟
لماذا أوقعت نفسها في هذه المشكلة؟
الجواب .. الجواب جاهز ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) نحن نعرف السبب، السبب أنها تحبه حبا شديدا.
معنى ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) "قد" إذا دخلت على الفعل الماضي دلت على التوكيد الشديد.
(شَغَفَهَا) يعني وصل إلى شغاف قلبها. بعض الناس يقول معقول هذا؟! نعم .. معقول.
أي إنسان يُديم النظر في الصورة وﻻ يأخذ بكلام الله في غضّ البصر قد يقعُ في مثل هذا ويذهب عقله هذا الذي يُدير به وشايف نفسه -ما شاء الله- أنه يدير اﻷمور، كل هذا يذهب ﻷن هذه قضايا شيطانية. فيه ناس ماتوا، فيه ناس تركوا دينهم، فيه ناس تركوا أموالهم وأهليهم كله بسبب العشق والسبب الصورة ولذلك أمرنا شرعا أن نغض البصر ﻷن غضك للبصر معناه حفاظ على قلبك من تأثير الصورة، والنظرة -كما قيل- سهم من سهام إبليس فإذا غضّ اﻹنسان بصره وعمِل الخيرات انجلى واتضح أمامه، أما إذا أرسل البصر ستجده بعد فترة إنسان مهموم .. مغموم .. ضائع .. تائه .. دوني المطالب ﻻ يهتم إﻻ بصغائر اﻷمور.
فهذه المرأة ﻷنها تركت هذه اﻷمور واهتمت بهذه القضية -هذا حكم النساء طبعا فيها- أنه قد شغفها حبا، وصل إلى شغاف قلبها. هذا تفسير.
التفسير الثاني : أن حبها له صار مثل الشِغاف مثل الغطاء الذي على القلب، القلب عليه مادة رقيقة تسمى شِغافا كأن حبها له أصبح مُسيطر على قلبها، أصبحت ﻻ تعرف معروفا ولا تنكر منكرا إلا بهذه الطريقة.
إذا إما أن يكون دخل إلى داخل قلبها -شغاف قلبها- أو المقصود أنه غطى قلبها فأصبحت ﻻ ترى إلا هو -عياذا بالله - حتى أنها تترك زوجها وتتبعه.
وﻻ تستغربون -يا إخواني الكرام- فيه أناس يصلون إلى الكهولة -والعياذ بالله - وهو يمشي وراء النساء ويطاردهن في الشوارع -فتنة- ولذلك فتنة البصر هذه فتنة دائمة ولذلك ورد في الحديث من الذين لا يزكيهم الله عز وجل ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم ( أُشَيمِطٌ زانٍ ) "أشيمط" يعني رجل كبير في السن، شايب .. شمطه الشيب ومع هذا هو -عياذا بالله - يفعل هذه اﻷفاعيل. ﻻ يأتي أحد فيقول لا .. لا أبدا أنا الحمد لله ماعندي مشكلة واﻷمور هذه لا أخاف منها. هذا خطر كبير.
ما أحد يستطيع أن يضمن نفسه عن مثل هذه القضايا، ﻻ أحد يستطيع. وأضرب لكم مثاﻻ بسيطا:
اﻵن اﻵباء الجالسين معنا - اﻹخوان الكرام - هل فيه واحد يأتي في مخيلته أن ولده ممكن يكفر بالله؟ أنا متأكد أنه يقول أبدا، أعوذ بالله ولدي يكفر، والله ﻻ يمكن.
طيب ممكن يعبد اﻷصنام؟ أبداً ﻻ يمكن، وﻻ عمري فكرت -يقول- أصلا في هذا الموضوع، كيف يا إخوان ما نفكر فيه وأبو اﻷنبياء داعية التوحيد اﻷول إبراهيم عليه السلام يقول ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) ثم يُعلل هذا ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) وهو نبي يقول اُجنبني أنا -وهو نبي مؤيد من الله- أني ما أعبد اﻷصنام، وكذلك يجنب بنيه وأبناؤه كلهم أنبياء. يأتي أحدهم يقول لي لا .. أنا أبداً ما عندي مشكلة ﻻ اﻻنحرافات هذه وﻻ هذه، الحمد لله. هذا غير صحيح، إذا كان النبي ﷺ أكثر دعائه ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) وهو نبي!! فاﻹنسان إذا أمِن على نفسه من هذه المداخل يُخشى عليه. ﻻ والله خاف على أوﻻدك من اﻻنحراف العقدي كما تخاف عليهم من اﻻنحراف اﻷخلاقي، كلاهما خطر.
(قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) هذا الحكم . إذا اﻷول الوصف ، الثاني التعليل، الثالث الحكم
(إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) هذا الحكم الذي أصدرنه تلك النسوة أن هذه المرأة في ضلال .. ضالة.طبعا ضلال لا تقصد به ضلال ضد الإيمان إنما ضلال عن جادة الحق الذي ينبغي أن تكون مثل هذه المرأة عليه بمكانتها الاجتماعية، يعني لا ينبغي لها أن تفعل مثل هذا الفعل. وكلمة (فِي ضَلالٍ) معناه أنها مُنغمسة في وسط الضلال (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) .
طيب .. هذا الآن الأمر الذي حدث من كلام النِسوة فكيف تصرفت هذه المرأة؟
الكلام حصل ، الموضوع انتشر التعليل، هذا أمر خطير لو انتشر بين الناس ممكن يكون مُقنع . ونحن نستفيد شيء : لو أن أحدنا سمِع مثل هذا الكلام عن شخص يعرِفه وله مكانة وله منزلة وسمِع مثل هذا الكلام يعني من مُقربين له -هذه المجموعة من النِسوة من المُقرَّبات لهذه المرأة- وسمِع كلاما مثل هذا الكلام المُنمق المُرتب المُعلل المُفسَّر كيف يتصرف؟ لا أقول أنا صاحب المشكلة ، أنا سمِعتها الآن كيف أتصرف؟
يؤسفنا أننا كثيرا ما نُسارع إلى التصديق ونقول مادام هذا من البيت نفسه أو من الجهة الإدارية الفلانية أكيد هم أعرف، أكيد هم صادقين. طريقة مقاييسنا في الخطأ والصواب ليست صحيحة. حتى لو سمعت كلاما، حتى لو نُقِل لك كلاما عن جارك وإلا عن عالِم وإلا عن داعية وإلا عن إمام مسجد وإلا عن أي أحد، لا تتسرع بالتصديق وإصدار الأحكام فهذا ليس لك ولست أصلا مطلوب منك أن تكون حاكما أو قاضيا في هذه القضية، دافع عن أخيك المسلم قل لعله ما حصل هذا، هذا أمر يخصّ أعراض المسلمين لا علاقة لنا به. بل المطلوب شرعا حتى لو علِمت أن أستر عليه لا أن أكشف ستر الله عليه، استر عليه لا أن أنشره بين الناس.
هذه المرأة لما سمِعت هذه القضية قابلت المكر بمكر آخر، مالذي يدلنا على أنه مكر؟
قولها (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) لماذا ما قالت "فلما سمعت بقولهن"؟ لأن القول الذي صدر ليس قولا عاديا إنما هو مكر يوجبه اجتماع الضرائر ، الضرائر ليس بالضرورة أن تكون عند زوج واحد، الضرائر قد تكون في الجمال، قد تكون في المنزلة، قد تكون في المكانة، هذه اسمها ضرائر، فكل واحدة تريد أن تُسقط الأخرى بأي طريقة من الطُرُق. وهذه يجب على الأخت المسلمة أن تحذر منها أشدّ الحذر فإن الجانب النفسي الموجود عندها يدفعها إلى مثل هذا، فتجد -أحيانا- زوجتك تتكلم في زوجة فلان لا تسمح لها في الحديث فيها، وإذا كان فيه أخوات يسمعننا الآن لا تتحدثن في أعراض النساء ولا تحملِ إحداكن الغيرة على أن تتحدث في عِرض أُخرى بشيء ليس فيها، وحتى لو كان فيها لا يجوز لنا أن نتحدث في أعراض الناس ولذلك قالت عائشة رضي الله تعالى عنها عن زينب بنت جحش وكانت تُساميها في الشرف وفي المنزلة وفي المكانة ماذا قالت في قصة الإفك؟ قالت: عصمها الورع. يعني ما تكلمت رُغم أنها ضرة لها، ما قالت صحيح هذه عائشة فيها شيء من هذا، يمكن يكون هذا صحيح، فرصة الآن، لكن عصمها الورع، عصمها الدين ، ما يصلح أي كلام نقوله ونفرح لما تقع مشكلة عند فلان وإلا عند فلانة .
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) نعم جزء من الكلام والقول الذي يُقال للأسف أحيانا هو ليس قولا، هو مكر، هو خُبث يُراد منه إسقاط الناس، يُراد منه إضرار الناس.
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) ماذا فعلت هذه المرأة؟ أرسلت إليهن، وهذا يدل على أنها امرأة عاقلة، جربت، كبيرة في السِن، عرفت الحياة، ليست مسألة امرأة جاهلة مسكينة، لا. والدليل على هذا حُسن الترتيب وحُسن التنظيم وحُسن التفكير والهدوء الذي هي فيه.
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أول شيء فعلته أرسلت إليهن، لماذا أرسلت إليهن؟ لتجمع هذه النِسوة المجموعات في مكان واحد فتُضيّق الخِناق على الدائرة حتى لا تتسِع إلى ما هو أكبر من ذلك، وهذا يؤيد القول بأن المراد بالنسوة في المدينة ولسن عابرات إنما نِسوة في المدينة وأيضا قليلات وأيضا معروفات لها هي.
في قوله تعالى (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) دون "لهن" يعني ما قال الله سبحانه وتعالى "أرسلت لهن" إنما قال (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) الفرق بين "اللام" و "إلى" أنه يُعبر بـ "إلى" إذا أُريد وصول الشيء إلى مُنتهاه فهي تريد أن تصل الرسالة إليهن، ولو قيل "أرسلت لهن" فالمقصود إرسال الشيء لأجلهن وصل أو ما وصل هذا لا يعنيها. أقول "هذه الهدية لك" أنا لست مسؤولا عن إيصالها، لكن لما أقول "إليك" أو "إليه" فمعناه أنه لازم تصِل، انتهاء الغاية الموجود في "إلى" ، فهي إذا اهتمت بأن الرسالة ليس مجرد أن تُوجّه إليهن لازم تصل لتتأكد أنهن سيأتين. (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) هذا الأول.
الثاني: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أول شيء رسالة، ثاني شيء جهّزت لهن وليمة، (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) ومكان فخم المتكأ هو: الشيء الذي تتكئ عليه والاتكأ هي جلسة فيها اضطجاع على إحدى الجهتين يتكئ فيه الإنسان وهي غالبا ما تدل على الرفاهية والراحة.
فقوله (مُتَّكَأً) هذا دليل على أن المجلس والدعوة التي دعت إليها دعوة مُترفة وغالبا مثل هذه الدعوات لا تخلو من طعام -يجب أن يكون فيها طعام- والدليل أن فيها طعام التقطيع الذي حصل بعد ذلك. لأنه تقطيع بدون سكاكين تُعطى السكين لأي شيء !! لازم يكون فيه شيء يُؤكل بهذه السكاكين أو يُقطّع بهذه السكاكين ولن يكون إلا أكلا سواء كان فاكهة أو لحما أو أي شيء. فدل المُتكأ على فخامة المكان والراحة وفخامة الطعام المُقدّم فيه تبعا لذلك، منزلتها الاجتماعية ومكانتها أكيد أنها جهّزت لهن حفلة كبيرة. سبحان الله طبع في النساء أنهن يُحببن في الحفلات البذخ والفخامة والزينة، ولذلك أنت الآن لو أنك دعوت مجموعة من الرجال ما تجد شيء يتغير في البيت المجلس هو المجلس وصحن طعام يُقدم لهم والسلام عليكم. لو امرأة دعت مجموعة نساء تجد ألوان وأشكال وتغيرات وأمور كثيرة جدا تحدث في البيت. هذا طبع في المرأة، الله عز وجل يقول (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف:١٨] المرأة طبيعتها أنها تحب الحِلية حتى لو كانت هذه الحلية في الطعام. ولذلك من اللطائف في هذه القضية أن زوجتك لما تصنع صعاما لضيوف عندك -مثلا- تجدها تتفنن فيه وتعمل فيه، لا تعترض على هذه الأشياء أنت ماله داعي هذا الشيء..ماله داعي، أنت لما تعترض تعترض على نفسيتها هي، مادام ما فيها حرام شجّعها، ولما تسألك كيف السُفرة اليوم؟ كيف العشاء؟ لا تقل جيد، هي لا تريد جيد ، لازم تقول الطعام جيد والحلا الموجود ممتاز والألوان المطروحة، فصّل كل ما تستطيع تفصيله فإن المرأة تفصيلية والرجُل ليس تفصيلي وهي تحب التفصيل، فصّل لها، امدح جميع الأشياء، هذا ليس عيبا أن يفعله الإنسان بل على العكس هذا من حُسن العِشرة أن يكون بين الرجل وزوجته هذا فهي تعِبت وتستحق الشُّكر على هذا الأمر وهذا مما يبقي المودة بينهما.
على كل حال ، هذا الكلام كله على كلة (متكأ). جاء في القرآن كلمة (مُتكأ) ولم يذكر لنا القرآن الطعام أبدا. ما رأيكم لو كان جاء بدل كلمة (مُتكأ) كلمة (طعام) "وأعدّت لهن طعاما" أو "وأعتدت لهن طعاما" ما كان أعطانا كلمة "طعام" غير رائحة الأكل والمطبخ والطبخ فقط لا شيء آخر لكن كلمة (متكأ) أعطتني الفخامة والراحة والتجهيزات ويتبع ذلك -قسرا- جودة الطعام الذي سيُقدم في هذا المكان. كلمة (متكأ) كلمة عظيمة جدا جمعت معاني كثيرة باختصارها وجمالها .
(وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) فهي حريصة جدا أن يصِلن إلى مرحلة الاسترخاء والوناسة ونسيان الهموم فحين يأتي يوسف عليه السلام يدخل عليهن فجأة يحصل المطلوب. فهو تخطيط مُحكَم تعرِف فيه نفسيات النساء وتعرِف فيه التأثير متى يكون. حين تريد أن تؤثر في شيء هيء له..جهّز له النفسيات قبل بعد ذلك يحصل التأثير أما بدون مُقدمات لا يحصل التأثير بالشكل الذي تريده.
(وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ) إذا هذا المُتكأ خاصّ بهن ليس مُتكأ معهودا ، ليست حفلة معهودة ، هذه مُفصّلة خصيصا على هذا النوع من النِسوة من أجل أن تكتمل الخُطة. (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) هذه القضية الثانية.
القضية الثالثة: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا) وهذه فيها عدة فوائد:
الفائدة الأولى: أنها حرِصت أن تصِل، أول شيء أن يكون معهن سكاكين، أن يكون في ضمن الخُطة في ضمن الجلسة فيه سكاكين، ما سبب وجود السكاكين هل هو الطعام..هل هو الفاكهة؟ الله أعلم ، وقد أبرز الله سبحانه وتعالى السكين ووجود السكاكين في هذه القصة لأنها لها أثر في الحادثة كلها .
الأمر الثاني: أنها حرِصت أن تأخذ كل واحدة من النساء سكينا. ففيه عدد للسكاكين، فيه حِرص أن تصِل لكل واحدة، وكلمة "آتَتْ" قد تكون هي بنفسها أعطت أو أمرت الخدم عندها أن يوصلها، المهم أنها تأكدت أن السكين وصلت ليد كل واحدة لأن السكين هي أداتها التي تُريد لأن كل ما قبلها هذا تأثيرات نفسية فقط -تجهيز- .
(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) بمعنى أنه لما تهيأت النفسيات وحصل المتكأ ومسكت النساء السكاكين ، الآن المشهد جاهز ، الزينة..المكان..الراحة..السكاكين باليد ، دخل يوسف عليه السلام.
لكن الذي ورد في القرآن أنها ما قالت له أدخل بل قالت له ( اخْرُجْ) وهذا من عجائب النظم القرآني فإن المعهود النسوة موجودات في مكان فيوسف عليه السلام يُطلب منه الآن أنه يدخل لا أن يخرج لكن الذي ورد في القرآن ( اخْرُجْ) (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فعلِمنا من اﻹضافة في كلمة "عليهن" أن الإضافة لها مدلول خاص، هي لو قالت ( اخْرُجْ) فقط أو قالت "اخرج عنهن" علِمنا أنه كان موجود عندهن ثم المطلوب منه أنه يخرج بس اﻵن ﻻ ، قالت (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فقالوا في هذا:
- إما أن يكون يوسف عليه السلام في مكان وهن في مكان فلما قالت الكلمة هذه ( اخرج ) هي قالتها بينها وبين يوسف في الغرفة الثانية..في الصالة الثانية..في الموقع الثاني لأن يوسف غير موجود، لحظة التجهيزات هذه كلها غير موجود ﻷنها كانت تعتمد على عنصر المفاجأة فدل ذلك أنه كان في مكان فكلمته قالت اخرج، ومعلوم -والله أعلم- أنه إذا خرج من هذا الباب هو دخل في الحقيقة في مكان آخر. فإذا افترضنا -مثلا- أنها صالة كبيرة وبجانب هذه الصالة باب يفتح على غرفة، هو في الغرفة الثانية يُقال له : اُخرج، في الغرفة الثانية يُقال له اُخرج، مجرد ما يفتح الباب يكون هو دخل، اﻵن على المجموعة الثانية دخل ومن الغرفة هذه خرج، هي وإياه كانوا موجودين في المكان الصغير فكانت قالت (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فلما فتح الباب هو اﻵن خرج عليهن، وكلمة ( عليهن ) دليل على المفاجأة . هذا قول.
القول الثاني: أنه كان مخبأ في نفس المكان. يعني من كيدها أنها خبأت يوسف عليه السلام في مكان في نفس الموقع فإما أنها كشفت عنه الغطاء أو أنه كان جالسا وقام أو كان مُخبأ في مكان وظهر بحيث تكون المفاجأة أشدّ. لكن كل هذا يدل -بغض النظر أين كان- هذا كله يدل على أنها أرادت عنصر المفاجأة.
فخرج يوسف عليه السلام عليهن، وكلمة ( عليهن ) حقيقة كلمة توحي بالعُلو إما لعُلو جماله عليه السلام ومكانته وشدة تأثيره أو أنه في مكان مرتفع بحيث أنه يظهر للكل ما يختفي على واحدة منهن. المهم أن هذه المرأة خططت تخطيطا كاملا واستثمرت وجود الجمال في يوسف عليه السلام استثمارا كاملا، الجمال مع الفتوة . فدخل يوسف عليه السلام عليهن.
ﻻحظوا معي ما الذي تم، (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ) هذه الفاء تدل على سرعة الرؤية بعد الدخول، معناه أن هذا الخروج كان فعلا قريبا خرج من مكان وفعلا مباشرة حصلت الرؤية. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ) إذا حصلت الرؤية بالعين، وهذا يدل على قوة تأثير المرئي على الإنسان، بعض الناس يظن أن المناظر ﻻ تؤثر في العين، كل ما تراه يؤثر فيك، فأنت قد ترى منظرا -أحيانا- يؤثر فيك طوال حياتك، وﻷجل هذا نحن نقول في اﻹعلام اﻹسلامي ﻻزم تستخدم الصورة، الصورة غير الكلام، أنا ممكن أصِف لك..أصِف لك..أصِف لك لكنك ﻻ ترى شيئا، فقط مجرد ترى صورة واحدة .. ولذلك المعارض اﻵن، المعرض الذي يقام -مثلا- عن المخدرات -على سبيل المثال- ترى هذا أقوى من ألف محاضرة، مجرد ما يشوف إنسان إنسان آخر ميت على ميتة سيئة -عياذا بالله- يخاف خوفا عظيما وتبقى هذه الصورة في ذهنه يمكن تكون واعظا له طول حياته، وكثير من الناس يا إخواني الكرام تغيرت حياتهم بسبب مشهد رأوه إما حادث سيارة أو غير ذلك يتغير تماما. الصورة غير الكلام .
/ (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ) انظروا النتيجة (أَكْبَرْنَهُ) يعني جعلنه كبيرا، يعني عظمنه تعظيما شديدا.فلما حصل هذا عظُم جدا في نفوسهن. هذا التأثير الأول تأثير قلبي يعني تأثير نفسي، فنجحت امرأة العزيز في هذا. التأثير النفسي يتبعه تأثير جسدي، فلما تأثرن بهذا انشغلن ذهنيا بهذا الجمال الذي أمامهن وبصورة يوسف عليه السلام والسكاكين في الأيدي فقطّعن أيديهن بدلا من تقطيع الفاكهة أو اللحم. هذا قول.
القول الثاني: أن السكاكين كانت موجودة فأخذن السكين، السكين لها نصل -مكان تمسك منه- ولها حدّ، فمن هول الموضوع ومن الانشغال أمسكن بالحدّ الذي يُقطع به -يعني عكست السكين- فهذا طبعا لما تُمسكه وتضغط عليه بقوة ماذا يحصل باليد؟ تقطيع، وكلما ضغطت أقوى تريد أن تقطع شيئا -هذا الفعل الآن غير إرادي- غير مقصود، الذهن مشغول وعمل اليد الآن في شيء آخر فهي تقطع في الفاكهة أو تقطع في شيء والسكين تقطع في يدها. هذا يدل على الانشغال الهائل وهذا أيضا فيه دليل على أن بعض المناظر تسحر الإنسان لدرجة أنها تسلُب لُبّه فلا يدري ماذا يقول ولا ماذا يفعل وهذه حقيقة ممكن يحصل هذا، بعض الناس الآن إذا ركّز في مشهد معين، يُنادوه الناس..يتكلمون معه..ما يسمع لأحد لأنه مشغول بل حتى الألم وهو ألم ما يشعر به فإذا أفاق من هذا الاهتمام وهذا التركيز يشعر بالألم بعد ذلك. وهذه القضايا الذي هو صرف التركيز قد تكون إرادية بعضهم يعملها بالتدريب وبعضها قد تكون غير إرادية، غير مقصودة كيف غير مقصودة؟ أحيانا -لا سمح الله- يحصل حادث وإلا يحصل شيء في بيتك وإلا يحصل حريق وإلا أمر، الأب والأم ينسون أنفسهم في هذه اللحظة في سبيل إنقاذ أولادهم فلا يدري ماذا يفعل، ممكن يطأ على نار..على مسامير..على زجاج، لا يدري عن شيء ولا يُحسّ بشيء من هذا القبيل لأنه مشغول ذهنيا بشيء آخر فإذا حصل وانقشع هذا الأمر تبدأ الآلآم يبدأ الألم يبدأ يعرف ما الذي حصل. فإذا هذا أمر موجود حتى في حياتنا. فهذه المرأة استثمرت هذا الأمر استثمارا كبيرا وهذا يدل أيضا على الجمال العظيم في يوسف عليه السلام، أن الله أعطاه جمالا عظيما. ويوسف عليه السلام مع هذا الجمال الهائل الذي أعطاه الله عز وجل ما استعمله إلا في طاعة الله ، لأن بعض النساء وبعض الرجال أيضا إذا أعطاه الله وسامة وجمال في الوجه وحُسن هِندام يصرفه في غضب الله سبحانه وتعالى، هذه نعمة اصرفها فيما أراد الله سبحانه وتعالى ، لا أن الإنسان يترفع عن الآخرين والمرأة تترفع على الأخريات ، هذه نِعمة إن شُكرت بقيت وإن كُفرت ذهبت.
/ (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) كلمة "قطّعن" بالتشديد تدل على أن التقطيع كان شديدا إما بتكراره بمعنى تقطع أكثر من مرة أو بشدته هو تقطيع واحد لكنه شديد. وسُمّي الجُرح هنا تقطيعا للتدليل على أنه جُرح عميق بليغ ومع هذا ما أحست المرأة ولا واحدة منهن بهذا الألم، ليس فقط هذا هو التأثير بل التأثير أيضا كلامي (وَقُلْنَ) ، وقوله تعالى (وَقُلْنَ) ولم يقل "وقالت واحدة" دليل على أن القول كان جماعيا والحُكم كان واحدا.
/ (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) إما أن تكون "حاش" هذه فعل وإما أن تكون حرف، فإذا كانت فعل معناها تباعد، يعني نحن نقول في اللغة تحاش هذا الشيء يعني اجتنبه وتركه، فـ "حاش" ممكن تكون فعل بمعنى ابتعد فيكون المقصود يوسف عليه السلام فيكون المقصود تباعد يوسف لأجل الله، هذا حُكم النِسوة، يعني يوسف كان عنده من المؤهلات والصفات ما يجعله يفعل ما يشاء مع امرأة العزيز لكنه ترك ذلك لله، وهذه الحقيقة فقد قالها في أول الأمر (قال معاذ الله) أنا لن أفعل ذلك معاذ الله. فهذا هو المعنى الأول أن "حاش" هنا فعل بمعنى تباعد فتكون ليوسف عليه السلام.
الثاني: وقد تكون حرف جر "حاش لله" وهي الأكثر في لغة العرب والمقصود منها تنزيه الله عز وجل ، يعني حاش لله أن يفعل هذا الفعل يوسف، فهي تنزيه لله وتُذكر غالبا في مثل هذه المواضع مواضع التعجب والاستغراب، وإذا أردت أن تنفي عن أحد شيئا تقول حاش لله أن يفعل ذلك فهو تنزيه لله سبحانه وتعالى الذي صرفه عن هذا الأمر. فهي تكون بمعنى هذا وبمعنى هذا . فإما أن تكون تنزيها لله وإما أن تكون مدحا ليوسف عليه السلام باعتماده على الله سبحانه وتعالى.
/ ( مَا هَذَا بَشَرًا) هذا حُكم ، لماذا تقول النِسوة هذا القول؟
تقول هذا ماهو بشر، وقد اعتاد الناس أنهم إذا رأوا جمالا فوق الجمال المعتاد أنهم يصفونه بالملكية أي بصفة الملائكة فيخرجونه عن البشر يقول هذا ماهو بشر ، دائما وليس بالضرورة في الجمال أي فعل أو أي وصف خارق للعادة -غير مُعتاد- يقول هذا ماهو إنسان، يعني فعل شيئا فوق فعل الناس فهو تعبير جارٍ فهن الآن قلن ماهذا بشرا -هذا ماهو بشر- بس هذه العبارة لوحدها وإن كان المقصود منها الثناء والمدح والتعظيم إلا أنه قد يُفهم منها لوحدها الذمّ، فإنه عندما يقول إنسان هذا ماهو بشر نقصد أنه قريب من الحيوان وأن هذا الفعل بهيمي وأن هذا فعل مجرم، هذا إنسان مافيه إنسانية، قد يُفهم منها العكس ولهذا ألحقنه بكلام يدل على المدح فقلن ( مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) يعني نفيهن للبشرية ليس ذما بل مدحا ولهذا أثبتن له الملَكية (إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) والملائكة دائما يرتبط بها الجمال..الصفاء، والعكس يرتبط بالشياطين، يقول هذا شيطان إما في صورته أو أفعاله أو غير ذلك، وإذا أُريد إنسان خيّر وطيب ورائع أوجميل أو جمال عظيم يذكرون الملَكِية -في الغالب- وهم الملائكة. (إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) هذا الوصف الذي خرجن به بهذا الدخول على يوسف.
الآن هذا اعتراف حصل منهن، حصلت امرأة العزيز على شيئين: ملمس مادي -كما يقولون- جروح في اليد وكلام قيل، خلاص حصل الذي تريد لاحظوا بعد ذلك ماذا قالت، مباشرة قالت لهن (فَذَلِكُنَّ) يعني هذا الذي سبب لكن كل هذا الذي لمتنني فيه، هذا الذي كنتن تتكلمن فيه وتقلن قد شغفها حبا وتقولون تراود فتاها عن نفسه، هذا الكلام حصل معكن ماهو أشد، طبعا وﻻ واحدة ستتكلم بعد وهذا من أساليب المجرمين مع بعضهم البعض وما تسمعونه من تكميم اﻷفواه، المجرم يأتي مع المجرم يوقعه في مصيبة ليسكت، أصحاب المخدرات .. أصحاب المعاصي .. أصحاب المصائب يوقعون بعضهم البعض في جرائم حتى يُسكت بعضهم بعضا. فأوقعتهم في المشكلة هذه. الآن حصل معهم جرح باللسان واﻷيدي (قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ) [سورة يوسف 32] اعتراف صريح، ما عليها من أحد اﻵن أصلا ما تستطيع وﻻ واحدة أن تتكلم بعد اليوم، هي ما حصل منها شيء ﻻ تقطيع لليد ولا غيره.
(وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) اعتراف صريح اﻵن (فَاسْتَعْصَمَ) طبعا هنا كانت تتكلم بكل صراحة يعني أنا طلبته وهو رفض لكنها ما قالت رفض قالت (فَاسْتَعْصَمَ) أي طلب الاعتصام، وهذا الذي حصل من يوسف عليه السلام فقد استعصم بالله وذلك في قوله (معاذ الله) وهذا مهم جدا -يا إخواني الكرام- لما تقع المصيبة للإنسان مباشرة يلجأ إلى الله لا يلجأ إلى الناس ولا يلجأ لحيله، الجأ إلى الله قل معاذ الله، قل أعوذ بالله .. استغفر الله .. يارب، الجأ إلى الله ستجد أن الله يسددك في القول وفي العمل.
/ ( وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) يعني في المرة اﻷولى استعصم ورفض ولكنني سأحاول معه مرة أخرى (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) وكلمة (يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) كلمتان دالتان على معاني دقيقة يفهمها كل واحد منكم يسمعها اﻵن ومع هذا هي لم تصرح بالفعل القبيح الذي تطلبه هذه المرأة وهذا من تعليم القرآن لنا كيف نتكلم عن مثل هذه اﻷشياء فإنها ما صرحت وقالت ولئن لم يفعل الزنا، لا ما له داعي أن الواحد يصرح بكل شيء حتى في عرضه للشيء (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) معروف المطلوب (مَا آمُرُهُ) معروف المطلوب، يكفي ما له داعي التفصيلات والشروح فاختصرت الكلمتان المعاني كلها بما لا يخدش الحياء، وهذا من أسلوب القرآن الرفيع ويجب أن نستفيد منه نحن.
(وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) ثم إنها أظهرت بهذا الكلام عُلو مكانتها عليه وأنه مازال تحت إمرتها، والله أعلم هل كان يوسف موجود أو أنه خرج لكن لعله خرج يعني ليس موجودا، والتبجح هذا قد لا يكون وهو موجود ﻷنها لما تكلمت عنه في المرة السابقة ردّ ودافع عن نفسه فاﻵن لو كان موجودا ربما لردّ ﻷنه ليس له هنا كلام.
(وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ) يعني بعض الذين تحدثوا عنه قالوا موجود لكنه كان موجودا في مكان يسمع ولا يستطيع أن يتدخل، ربما هو نفس المكان الذي دخل منه سابقا وكانت هي تريده أن يسمع ولا تريده أن يتكلم، تريده أن يسمع لتُخيفه أمام تلك النسوة أنها هي المسيطرة وأنها لا تخاف أحدا اﻵن، وتريد أن تُخيفه أيضا بالسجن ولذلك قالت (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) [سورة يوسف 32] تذكرون مرّ معنا في لقاء سابق أنها هددته أصلا بالسجن (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
[سورة يوسف 25] المرة هذه -لو تلاحظون- في السجن تكلمت بطريقة مختلفة قالت (لَيُسْجَنَنَّ) فأكدت الكلام بـ "لام القسم وبنون التوكيد الثقيلة " دليل على أن تهديدها له بالسجن أصبح أقوى الآن ومكانتها اﻵن أقوى واستقوائها عليه أظهر ولغتها اﻵن لغة تبجح وقوة فشددت عليه (لَيُسْجَنَنَّ) ليس فقط هذا (وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) يعني سأُذله. وهذا ما يفعله دائما الظالمون والمتجبرون، يُذلون الناس، يفعلون هذا يظنون أنهم إذا أذلوا الناس في كراماتهم أنهم سيطروا.
واللطيف هنا أنها قالت (لَيُسْجَنَنَّ) بنون التوكيد الثقيلة وعند الصغار قالت (وَلَيَكُونًا) بالخفيفة. مالفرق بينهما؟ لماذا لم تقل وليكونن؟ -هذا على القراءة التي معنا اﻵن.
قالوا السبب في ذلك: أن السجن تستطيعه هي فأكدت ما تستطيع أن تفعله بنون التوكيد الثقيلة، أما أن يكون من الصغار فهذا أمر ليس لها فإن اﻹنسان كبرياؤه في نفسه سجنته أم لم تسجنه هذا لا يعني أنك أهنته، قد تكون هذه اﻹهانة ظاهرية لكن هل هو يهين؟ لا .. بلال رضي الله عنه لما كان يضرب ويجلد وتوضع الصخرة عليه هذه إهانة -في الظاهر- لكن لما كان يقول أحد .. أحد قمة العزة، ما له علاقة، فهي تستطيع أن تسجنه لكنها لا تستطيع أن تُوجد اﻹهانة فيه ولذلك في الثانية ما استطاعت أن تؤكد، ما أكدت التأكيد لأن هذا أمر ليس ليس لها.
/ (وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)
هنا هددته بأمرين : بالسجن وعبّرت عنه بالفعل "ليسجنن" وما قالت سأذهب به إلى السجن ﻷنها أرادت الفعل وليس المكان المهم أن يُسجن. ولماذا هي قد ركزت من أول اﻷمر وتالي اﻷمر على السجن؟
قلنا في الجلسة الماضية لأن السجن يؤثر في أصحاب المكانة والكرامة ولا يؤثر في أصحاب الجرائم، لا يهم سجنته ما سجنته ولذلك يقولون السجن للرجال، ما يهمهم، لكن اﻹنسان صاحب المكانة والكرامة لو سُجن يوما واحدا بل لو صدر في حقه سجن فقط وما نُفذ سيؤثر في نفسه كثيرا، فهي تعلم تأثير السجن في نفسية يوسف عليه السلام وﻷجل هذا هي تهدده به. هذا واحد.
اﻷمر الثاني: أنها لا تريد أن يبتعد يوسف عليه السلام عنها، فلو طُرد -مثلا- أو أُبعد هذا لا يتناسب مع رغبتها هي.
اﻷمر الثالث : أنها تريده تحت رغبتها وطلبها وإمرتها فلما يكون في السجن هي المسؤولة عنه تخرجه .. تدخله.
لماذا ما طلبت أن يضرب أو يجلد؟ قالوا: هي لا تريد أن يُصيبه مكروه ﻷنها تحبه. فكل هذه اﻷشياء لو تلاحظون هي اختارت السجن خصوصا.
(وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) ما بينت ما الطريقة التي تريد أن تجعله صاغرا بها، ما وضحتها دليل على أنها لا تُريد له أن يُضرب ولا أن يُجلد ولا أن يُصيبه مكروه وإنما أرادت أن تُهدده فقط بمثل هذا اﻷمر فالصغار أمر لا يحبه أصحاب الكرامة والمكانة لا يحبونه.
ثم قولها (وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) قد يكون فيه إشارة أنها ستجعله من قيمة أو من مجموعة قوم هذه صفتهم فقد يكون عندهم أناس إما في السجن أو في مكان ما يتعرضون لكثير من المهانة وغير ذلك فتجعله من ضمنهم ولذلك هذا التهديد وهذا النمط من التهديد يقول إني سأجعلك من ضمن المجرمين هذا غير لما أقول سأسجنك فقط. ولذلك فرعون استخدم مع موسى هذا اﻷمر (.. لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)
[سورة الشعراء 29] يعني من ضمن قوم هذه صفتهم وهذا أشد في التأثير.
/ (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) بما أنها مُصِرّة على موضوع السجن وهذا يسمى أخذ الحل من الفم، هي تقترح اﻵن وتُهدد هو أخذ الحل من كلامها مادام هذا مقبول عندها فأنا سآخذه. (قَالَ رَبِّ) يدعو ربه سبحانه وتعالى وهذا من اللجؤ إلى الله سبحانه وتعالى، (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إذا كانت المسألة سجن أو مراودة هؤلاء النسوة واجتماعهن عليه، ليست واحدة اﻵن أصبحت أكثر من واحدة فالسجن أحبّ.
هل السجن محبوب ليوسف عليه السلام؟
قالوا: لا.. ولكن في مثل هذه الحالات عندما يكون أمامك أمران -كما يقولون- أحلاهما مر ففي هذه الحالة يكون هذا أحب من هذا لكن لو كان في غير هذا الظرف فكلاهما مكروه لك لكن في مثل هذا الموقع أحدهم أقلّ شرا من اﻵخر فهو أحب إليه، من هذا الباب قال كلمة "أَحَبُّ" .
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) "مِمَّا يَدْعُونَنِي" يتحدث اﻵن عن مجموعة نسوة وليس عن واحدة فعلِم أن المسألة أكبر من أن تكون امرأة العزيز اﻵن فخاف من الفتنة فإنه إن سلِم من هذه قد لا يسلم من هذه، انظروا إلى تواضعه ومعرفته بنفسه عليه الصلاة والسلام. وبعضنا اﻵن معجب بنفسه يصلي مجموعة صلوات وعنده مجموعة أموال ويرى أنه لا ينحرف أبدا. ليس صحيحا. مهما بلغت اعرف أن القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن،الله أعلم تثبت وإلا ما تثبت فهو عليه الصلاة والسلام ماذا يقول (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) يارب إذا ما صرفت عني كيدهن فأنا أخاف (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أميل، وهو نبي ومُتربي في بيت نبوة ومع هذا يخاف أن يميل إلى المرأة.
هذا فيه رد على كل من يقول إن المرأة لا تؤثر،المرأة تؤثر، إذا كان يوسف عليه السلام وقد ذكر الله عزوجل أنه قد آتاه حكما وعِلما وهذه قلنا أنها النبوة وهو ابن نبي ومتربي في بيئة؛ هذه مكانته ومع ذلك يقول يارب أنا أخاف أن أميل إلى هؤلاء النسوة.
فيه أحد اﻵن يستطيع أن يقول لا أنا لا أميل. بعض الناس اﻵن ما عنده نسوة أمامه لكن عنده نسوة في الكمبيوتر .. في النت .. في جواله، ترى المسألة واحدة، صحيح اﻷمر مختلف قليلا لكن هي في النهاية ضرر واحد. فانتبه يا أخي الكريم فتنة النساء فتنة عظيمة وخطيرة وشديدة فاﻹنسان يُعِفّ نفسه ويبتعد عن مواطنها ويغضّ بصره فيوسف عليه السلام اختار اﻷمر اﻷضر والمكان السيء خوفا من أن يقع في هذه المصيبة، على ماذا يدل هذا؟
يدل على أنه إذا كنت أنا في مكان، افرض أنا في بيئة عمل مختلطة وفيها مصائب يا أخي انقل إذا كنت ترى نفسك أنك خلاص ما عاد تصبر في هذا المكان اطلب نقل .. غير مكانك لا تبقى في مكان الفتنة وتُصِرّ عليها.
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)
في هذا فائدة : أنه قد يختار اﻹنسان أحيانا -بحسب القرار الذي يراه- المكان اﻷصعب واﻷشق في سبيل محافظته على دينه وأخلاقه وسلوكه. أحيانا أنت ساكن في حي قدرت أن سُكناك في هذا الحي فيها خطر عليك أو على أولادك لا يصلح أن اﻹنسان يستمر في هذه البيئة بل يبحث له عن بيئة، يوسف عليه السلام غيّر البيئة .. غيّر المكان ﻷن هذا المكان الذي سيذهب إليه سينقطع فيه المُؤثر الذي يخاف منه وهو وجود المرأة. فابحث لك عن مكان ما يكون فيه تأثير سلبي عليك حتى لو بتغيير المكان أو بتغيير البيئة، هذا مطلوب في اﻹنسان يا إخواني الكرام أن يفعل هذا ﻷن تغيير المكان له أثر كبير جدا -بإذن الله- في نجاح اﻹنسان فيما يريد.
/ (أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ)
في قوله تعالى "كيدهن" دلّ ذلك على أن الذي يكيد ليوسف اﻵن ليست امرأة العزيز فامرأة العزيز كيدها ظاهر أولا وآخرا،أولا في المراودة وفي الاستباق وفي تبليهاعليه وكذبها عليه (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ...) الخ وفي جمعها للنسوة هذا دليل على أنها ما تابت رُغم أن زوجها قال (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)
[سورة يوسف 29] كان المفروض تصرف ..الموضوع ينتهي لكن هي استمرت. أما النسوة ما ظهر منهن كيد يعني ما ظهر شيء في هذا لكن مدحهن ليوسف عليه السلام، ثناؤهن على يوسف عليه السلام، الانبهار بيوسف عليه السلام هذه مقدمات، فإذا كان هذا حصل منهن في رؤية مرة واحدة فماذا سيفعلن بعد ذلك!! فسمّى يوسف عليه السلام هذا اﻷمر كله كيد سواء من امرأة العزيز أو من النسوة.
/ ثم قال (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) الصبوة هي: الميل ولذلك كان كفار مكة يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صابئ وإذا أسلم واحد من الصحابة يقولون صبأ يعني مال مع محمد صلى الله عليه وسلم، والصبوة عادة تأتي في مرحلة الشباب وتعني قُربه من الانحراف والميل فهو يقصد هنا أنني حتى لا أميل إليهن (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ).
(وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ذكر الجهل هنا وهذا دليل على أن الوقوع في الذنب نوع من الجهل. وأن الجهل ليس بالضرورة هو ألا يكون اﻹنسان متعلما، فيه فرق بين أن يكون اﻹنسان مُتعلما وبين أن يكون عالما بالشيء فأنت اﻵن قد لا تعرف القراءة ولا الكتابة فأنت في حكم الناس أمي لا تعرف القراءة والكتابة لكن لا يعني هذا أنك لا تعرف الحكم هذا يجوز وهذا ما يجوز فأنت في الحُكم هذا الذي أتكلم أنا فيه عارفا به لست جاهلا به ولذلك الجهل ليس بالضرورة مرتبط بالمعلومات إنما هو مرتبط بالتصرفات واﻷعمال ولذلك يقول العربي اﻷول :
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لا يقصد أنت متعلم أو أنت غير متعلم.. لا ، يقصد لا تتصرف معنا بطيش فنتصرف بطيش أقوى وأشد. إذا هو مبني على التصرفات ولذلك قد يصدر فعل جاهل من إنسان مُتعلم، ما له علاقة. فهو يقول عن نفسه عليه السلام يقول أكون من الجاهلين لو وقعت في مثل هذا اﻷمر. بعض الناس يظن أنه إذا كان عنده علم ومعرفة وعنده شهادات أن هذه ضمانات خلاص، ولا نحكم على هذا والله ما شاء الله فلان معه كلية كذا وإلا معاه المستوى الفلاني، وإذا كان معه يعني لا يخطئ!! فتصرفه قد يكون تصرف جاهل،فالجهل له علاقة بالتصرف وليس بالضرورة يكون له علاقة بالمعرفة.
(وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هنا لجأ إلى الله سبحانه وتعالى كما لجأ له أولا، لجأ له أولا فقال (مَعَاذَ اللَّهِ) فاستنصر بالله سبحانه وتعالى أولا ثم ذكر قال (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) تذكرون هذه اﻵية؟ (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)
[سورة يوسف 23] ما معنى ربي هنا؟ العزيز نفسه ونحن رجحنا أنه العزيز وليس ربي يعني الله ورجحناها بسبب قوله (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) ﻷنه قال لها في اﻷول (أكرمي مثواه ) وهذا من حسن اﻷخلاق أنه اعتمد على الله وراعى فضل الرجل الذي أحسن إليه وقال عيب والله أخون رجل أكرمني،هذا من حسن اﻷخلاق عند يوسف عليه السلام. وعلى فكرة : سورة يوسف مليئة باﻹشارات اﻷخلاقية.
وهنا أيضا طلب من الله سبحانه وتعالى أن يصرف عنه الكيد فدل ذلك على أن اﻷسلوب اﻷول .. العمل اﻷول الذي يقوم به اﻹنسان إذا وقع في مشكلة أو مصيبة أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى وما فيه مانع بل هذا المطلوب أن يفعل الأسباب التي يستطيع فعلها. فإذا اجتمع للإنسان هذان اﻷمران: التوكل على الله بصدق، وفعل اﻷسباب الممكنة فغالبا لن يُخفق.
نعيدها مرة أخرى: المطلوب حتى لا يخفق اﻹنسان يعمل أمرين:
اﻷمر اﻷول: أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى توكلا كاملا وثقة كاملة بالله.
اﻷمر الثاني: يفعل كل ما يستطيع أن يفعله من اﻷسباب
ﻷن الخطأ الذي نعمله يا إخواني الكرام بعض الناس يدعو ربه لكنه لا يقوم باﻷسباب مثلا : يريد الولد يقول يارب ارزقني ولد صالح وهو لا يريد أن يتزوج، هل يمكن أن يأتيه ولد صالح؟ ما يمكن، مالذي يمكن أن يفعله؟ يبحث عن زوجة صالحة، يتزوج، يحاول مع ولده أول ما يٌولد بالتربية الصالحة من أول لحظة، يبذل عشرات اﻷسباب يمكن أن يكون الولد صالح ويمكن لا، ﻷنه قد يتخلف هذا ﻷمر يريده الله كما تخلف ذلك عند اﻷنبياء -وهم أنبياء- لسنا أفضل منهم في التربية ولا في المكانة ومع هذا بعض اﻷنبياء أولادهم كفار لكن المهم أنك تقوم باﻷسباب التي تستطيعها نحن نقول غالبا ينجح لكن إذا فعلت السبب الشرعي وتركت السبب المادي فغالبا تخفق وإذا اعتمدت على السبب المادي وحده ونسيت السبب الشرعي فأيضا تخفق فلذلك المسلمون في غزوة حُنين اعجبوا بالكثرة فصار الاتكال على الكثرة أكثر من الاتكال على الله فهزموا (..إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا...)
[سورة التوبة 25] لا تعتمد على السبب، السبب هو وسيلة تقدمها مع السبب الرئيس وهو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى. هذان مقياس وركيزة النجاح أيها اﻹخوة الكرام في أي عمل تقوم به، والدليل هنا أيضا أنه حصل ما حصل فيوسف عليه السلام طلب من الله -هذا هو السبب الشرعي-
اﻷمر الثاني : أنه اختار المكان أن ينتقل إلى مكان -هذا إجراء- هذا سبب مادي يستطيع أن يفعله ينتقل إلى مكان آخر، النتيجة (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ). نوح عليه السلام في آخر لحظات حياته يقول (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)
[سورة القمر 10] متى قال هذه الكلمة؟ قالها بعدما بذل جهدا يغطي تسعمائة وخمسين سنة، ليلا ونهارا .. صبحا ومساء .. إعلانا وإسرارا كل هذا بذله بعد ذلك ما رأى شيء من النتيجة: أعلى الروايات قالوا تبِعه ثمانون رجلا هذا أعلى شيء، هذه نتيجة ألف سنة إلا خمسين عاما من الدعوة فلما قال (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) خلاص اﻵن الاتكال على الله كامل مباشرة جاءه الجواب فتح الله سبحانه وتعالى أبواب السماء وفجّر اﻷرض وأغرقهم .. انتهى. فاجتمعت اﻷسباب واكتملت، ولذلك أنا يُسيئوني بعض اﻹخوة إما يشتكي من زوجته أو يشتكي من أولادهم أو يشتكي أن ولده مخفق في المدرسة لما تناقشه وتسمع منه تجده يشتكي اﻵخرين فقط، يقول يا أخي المدرسة تعبانة ..المدرسون لا يفهمون ولدي و .. و.. كل كلامه عن اﻵخرين لو بقي عشرين سنة وهو يتكلم لن يتغير شيء ﻷنه لم يُحسن كيف يحُل المشكلة.
اعتمد على الله سبحانه وتعالى، توكل على الله من ضمن اﻷسباب التي تعملها تدعو الله سبحانه وتعالى
اﻷمر الثاني: أسأل نفسك ماذا يمكن أن أفعل مع ولدي؟ ماذا يمكن أن أفعل مع زوجتي؟ أنا، ما علي من المدرس ولا من المدرسة. والله قال ممكن أُحضِر له مُدرس، ممكن أجلس معه يوميا، ممكن أعطيه وقت أكثر وخلاص انحلت المشكلة، وفعلا انحلت المشكلة. فقضية أننا أحيانا نعلق على اﻵخرين ننسى.
فهنا استجاب له ربه سبحانه وتعالى بنفس الطلب الذي طلبه (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) [سورة يوسف 34] وهذا من أعظم اﻷمر . قد يكون صرف الكيد إما : بابتعاده بجسده وتأثيرهن عليه فيبتعد عنهن فينقطع التأثير، أو بعدم قابلية كيدهن بقلبه -الله يجعله ما يقبلهن أبدا- هذا صرف أيضا للكيد فبعض الناس لا يمكن الله عزوجل عاصمه في هذا الأمر حتى وهو في وسط البيئة تجده محفوظ، فيه أناس في وسط السوء ومع هذا لا يفعلون شيئا من المُنكر ابدا، الله عاصمه .. الله حافظه .. الله صارف عنه الكيد. فقد يكون بانتقاله وقد يكون بصرف قلبه عن هذا الكيد كله.
لاحظوا معي أن يوسف عليه السلام دعا ربه هنا فقال (قال ربِ) ما قال "يا الله" ناداه باسم الرب والاستجابة أيضا (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ) دائما في مواطن المسكنة .. مواطن الحماية .. مواطن طلب الرزق .. مواطن طلب الحفظ يكثر الدعاء بـ "يارب" ﻷن الرب هو المالك المدبر الحافظ فهو مُناسب للحالة التي يدعو بها اﻹنسان.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ) أي حاميه وحافظه سبحانه وتعالى (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) "إنه" يعني ﻷنه فـ "إن" هنا تفسيرية .. تعليلية يعني صرف عنه هذا الكيد ﻷنه سبحانه وتعالى سميع عليم. وذِكر السمع والعلم هنا يتناسب مع الحادثة التي فيها يوسف عليه السلام فإنه دل ذلك على أنه سبحانه وتعالى سميع لما حصل من كلام النسوة الذي ظهر وسميع سبحانه وتعالى لكلامهن الذي خفي، نحن ما عرفنا إلا الذي قيل لكن هناك شيء قد يُقال بين اﻹنسان ونفسه فالله يعرفه. هذا ما تدل عليه كلمة "العليم" الذي ظهر من النسوة من كلام سمِعه الله سبحانه وتعالى والذي خفِي من مكنون صدورهن وكيدهن الله علِمه فهو سميع لكلامهمن وعليم بكيدهن المخفي، وهو أيضا سميع لدعاء يوسف عليه السلام الذي ظهر وعليم بمطلبه الذي يُكنه في نفسه عليه السلام. والله يا إخواني الكرام لو تعبدنا الله بأسمائه وصفاته لتغير كثير من حياتنا لكن قليل منا من يستشعر عظمة أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى،وهي موجودة في القرآن بكثرة وتجد لها في كل موطن ترد فيه سبب وعلة فاﻹنسان الذي يتعامل مع سميع وبصير سبحانه وتعالى كيف سيتعامل؟! تقول عائشة والله ما بيني وبين خولة التي كانت تجادل في زوجها إلا الجدار،تعرفون غرفة عائشة رضي الله عنها جزء منها هو جدار المسجد وجزء الغرفة يعني هي متصلة بالمسجد ما يفصلها عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا جدار من طين مع هذا تقول اسمع بعض كلامها ويخفى علي البعض اﻵخر والله عز وجل يسمعها من فوق سبع سموات (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..)
[سورة المجادلة 1] فإذا كان اﻹنسان يؤمن ويُوقن أن الله يسمعه لن ينطق كلمة فيها سوء، وإذا كان يؤمن بأن الله يعلم لن يفعل شيئا في الخفاء عن أعين الناس ﻷن الله يعلم. فالتعامل مع أسماء الله الحسنى قراءتها في القرآن، الوقوف عندها، لماذا جاء هذا الاسم العظيم في هذا الموقع ترى يزيد إيمان اﻹنسان ويجعله يتعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة.
/ (ثُمَّ بَدَا) أي ظهر ، بدا لمن؟ قال (لَهُمْ) هنا ما قال "لهن" دليل على تحول القرار (بَدَا لَهُمْ) يعني أصحاب القرار -والله أعلم- أن اﻷمر تدخلت فيه امرأة العزيز مع زوجها وزوجها له مكانة تناقشوا في اﻷمر وبدا لهم أن يسجنوه.
والحقيقة أن كلمة (بَدَا لَهُمْ) يدل على أنه لم يكن قرارا جاهزا بمعنى أنه لم يكن التوجه في اﻷصل سجن يوسف عليه السلام يعني كان التوجه في اﻷصل عدم التوجه لسجنه وهذا الذي يدل عليه الكلام اﻷول الذي هو (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا) [سورة يوسف 29] بس المطلوب منك أنك تعرض عن الموضوع فقط لا تتحدث فيه، وهذا الذي حصل من يوسف عليه السلام ما تحدث بالموضوع أبدا بعكس النسوة فلما استمرت امرأة العزيز وحصل منها الموقف الثاني هذا يبدو أنها عادت إلى زوجها وهو لا يعلم أصلا عن كل هذه المكيدة التي تحصل فغيرت فِكره وقالت ما رأيك نسجنه حتى ما ينتشر الخبر، حتى ما يذيع الموضوع حتى .. حتى .. أقنعته فبدا له يعني غير رأيه اﻷول إلى رأي جديد. وهذا البداء عقيدة موجودة عند بعض الفرق المنحرفة -عياذا بالله- وهي ما تسمى بعقيدة البداء وهم يقولون -وتعالى الله عن قولهم علوا كبيرا- أن الله يبدو له أحيانا أن يفعل شيئا غير الشيء الذي قدره أولا. هذا من عقائد بعض الفِرق المنحرفة مما يسمونه بعقيدة البداء وجزء منها موجود عند الشيعة.
(ثُمَّ بَدَالَهُمْ) إذا كان عنده قرار غيروا هذا القرار إلى قرار آخر (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ) العلامات .. اﻷدلة .. المشكلات التي حصلت قالوا اﻷفضل أن نسجنه، هل كان يوسف عليه السلام مُجرما أو مُذنبا حتى يسجن؟ طبعا لا ولكن لنعلم أن الظلم موجود في التاس موجود في البشر وأن هناك أناس يُظلمون ويُقدمون للمحاكمات وللسجون مثل كبش الفداء ليس لهم أي علاقة بالموضوع ولكن حتى ينجو غيرهم، طبعا هذا ﻷن الناس يظنون -الذين يفعلون هذا الفعل- أن القضية دنيوية وما علموا أن هناك محكمة أعلى ويوما آخر فيه عدل كبير حتى بين الحيوانات سيعدل بينها وتبعث ﻷجل العدل فقط فيقال للشاة القرناء أو للشاة الجلحاء -التي ليس لها قرون خذي حقك من الشاة القرناء التي نطحتك فإذا أخذت حقها قال الله لها كوني ترابا فما يبعثها إلا ﻷجل إقامة العدل فقط فلما يرى الكافرون هذا اﻷمر يقول الكافر (يا ليتني كنت ترابا) يا ليتني كنت مثل هذه الحيوانات حتى أكون تراب.
فإذا يوسف عليه السلام قُدِم للسجن لا ﻷنه أذنب ولكن ﻷنهم رأوا أنهم بسجنه يغطون هذه الخطيئة، ما فكروا طبعا في كرامته، ما فكروا في إنسانيته، ما فكروا أنهم ظلمة فيه أناس لا يفكرون لكن الظالم يُمهله الله عزوجل ولكن لا يهمله.
/ (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [سورة يوسف 35] كلمة (لَيَسْجُنُنَّهُ) بهذا التوكيد بـ "اللام والنون" دليل على أن القرار حاسم متفق عليه أو أنهم يهتمون به اهتماما خاصا يعني ما فيه حل إلا السجن لازم يسجن يعني لابد أن يسجن وهذا دليل على أن اﻷمر وراءه امرأة العزيز، واضح أن امرأة العزيز مُصرة على أن يسجن لماذا؟ ﻷنها تريد أن تسكت أطراف القضية. أما النسوة فقد حصل اﻹسكات بقي يوسف عليه السلام ممكن يتكلم، ممكن يقول للعزيز حصل كيت وكيت وكيت، فكيف تصرفه عن العزيز لو بقي في البيت يمكن أن يقابله ويقول له ترى في اليوم الفلاني جمعت النسوة وحصل كذا وكذا فحتى لا يقول هذا الكلام يُبعد في السجن ويُترك في السجن وهي التي تتصرف فيه.
(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ)
[سورة يوسف 35] لاحظ (حَتَّىٰ حِينٍ) الذي يظهر -والله أعلم- أن هذا القرار عليه مخايل رأي امرأة العزيز هي تريد مدة غير واضحة،ما فيه محاكمة ما فيه زمن -خله مفتوح- لما نرى أنه مناسب نخرجه ماهو مناسب يبقى (حَتَّىٰ حِينٍ).
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ... ) [سورة يوسف 36]
.
هذا المقطع الذي سنتحدث عنه في اللقاء القادم إن شاء الله. نسأل الله التوفيق للجميع .هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
--------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق